ذكرنا في مقالنا السابق أن الشيخ الظواهري أحد أشهر مشايخ الازهر أجاد تصوير لحظات أدائه لامتحان العالمية بعين كانت منتبهة إلي ما قد يظهر من امتعاض الشيخ محمد عبده ، أو تحيزه ضده ، وكانت منتبهة أيضاً إلي رد فعله هو تجاه ما أحسه من هذا الجو .
والحق أن الشيخ الأحمدي الظواهري كان يرى فيما رواه عن طريقة الشيخ محمد عبده في امتحانه أن الأستاذ الإمام كان رجلاً قوي الرأي ، وقوي الأخلاق ، فبالرغم مما كان بينه وبين والده الشيخ إبراهيم الظواهري من خلاف معروف ، فإنه لم يغمط الإبن حقه ، ولم يرد أن يقلل من مقدار علمه ، وتدلنا قراءة مارواه الظواهري على طبيعة الامتحانات الشفوية في ذلك الوقت ، وسلوك اللجان التي تتولي هذه الامتحانات ولنواصل قراءة القصة على نحو ماذكرناها في كتابنا عن الشيخ الظواهري :
” انتهيت من تقرير البحث وانتظرت إشارة إعجاب الشيخ عبده أو على الأقل إشارة عدم امتعاضه ، لكني لم أظفر بها، بل ظل الشيخ صامتًا، ونظر إليّ كما نظر باقي أعضاء اللجنة نظرة لم أفهم كنهها ، فلا هي نظرة المبتسم فأعدها إشارة إعجاب ، ولا هي نظرة مغضبة فأعدها إشارة المشمئز ” .
” والحق أنه قد شق علي نفسي -وقد ظننت خيرًا كثيرًا بهذا الأسلوب وقدرت أنه يستحق الإعجاب- (ألا) أظفر بشيء ولو قليل من هذا الإعجاب ، وحينئذ تملكتني نزعة الثقة بنفسي وبأسلوبي ، فولدت عندي عزمًا قويا وإقدامًا شديدًا، وأصررت في نفسي أن أنتزع إعجاب الشيخ وإعجاب اللجنة انتزاعًا، فخطر لي أن أعاود الكلام في نفس البحث ولكن بأسلوب آخر وألفاظ وتشابيه مغايرة ، وبدأت ذلك بأن قلت كلمة ” والحاصل ” وهي الكلمة التي تشعر أني أريد معاودة الكلام ، فعندئذ أنطق الله لسان الشيخ بالإعجاب الذي كنت أنتظره ، فقال: لماذا تريد استئناف الكلام؟ لقد تكلمت كلاماً طيبًا جداً ، وعالجت البحث علاجًا رائعًا جدّا، والأحسن أن تنتقل للبحث الآخر” .
” كانت عبارة الشيخ هذه كأنها البلسم علي نفسي ، فاندفعت أقرر المباحث الأخري التي طلبها مني هو وأعضاء اللجنة ، وأقبلوا يناقشونني فيها، وفجأة قال الشيخ محمد عبده: ” إن ترتيبك في أبحاثك وطريقة عرضها طريقة جميلة ، وسأتخذ معك في ترتيب الأبحاث طريقًا غير الطريق العادي لأعرف مقدار علمك الحقيقي” فقلت: ” كما تريد ياسيدي ” . فأخذ يقلب أوضاع المسائل ويلوي اتجاهات الأبحاث ، وصار يخرج من علم إلي آخر ، ثم يعود إليه ثانية ، ثم يخرج إلي آخر ويعود للأول ، وأنا أسايره فيما ذهب إليه من الإفراط في محاولة إشكال البحث على توطئة لمعرفة مقدار علمي الحقيقي كما قال ” .
” وقد طالت هذه المناورات بضـع ساعــات عــلي خــلاف المألوف في الامتحــان ، ولا أكتمك أني أرهقت بها إرهاقاً عقلياً وجسمانياً،فطلبت نفسي شربة من المـاء من شــدة هذا الإجهاد ، ولكني غالبتها مخافة من الشيــخ أولاً ، وتأدباً له ثانياً ، ولكني بعـد ربع ساعة أخري فقدت زمام المغالبة ، فطلبت من الشيخ عبده أن يأمـر لي بكــوب مـاء ، فكـان طلبي هذا فاتحة خير آخر عليّ ، وكـأن الله ــ تعالى ــ أنطقنــي به خصيــصاً ليزيد في شجاعتي وفي جلدي ، فقد قال الشيخ محمد عبــده: ” أنــت تستحق شـرباتاً لا ماء.. فقد أحسنت أيما إحسان ” ، ثم أدخل الشيخ يده في جيبه وأرسل في طلـب (سطـل) من شربات (الخروب) فشربت ، وشربوا، وبعد ذلك بقليـل قال الشيـخ: ” لقـد فتـح الله عليك يا أحمــدي ، ووالله إنك لأعلم من أبيك ، ولــو كـان عنــدي أرقي مـن الدرجة الأولي لأعطيتك إياها ” ..فكانت هذه العبارة منه بعد شراب (الخروب) الـذي اشتراه لي أثناء الامتحان حديــث الناس في الأزهــر وقتئـذ ، وتناقلته الألسن بعد ذلك في كل مكان ،روكانت في الحقيقة من أسباب سعادتي بعد ذلك ” .
نٌشر بتاريخ : 2012/11/3