تاريخ النشر : ٢٠١٢/٢/٢٠
في أعقاب الثورات تتاح الفرصة لتنفيذ بعض الأفكار التي لم تجد حظها في عصر سابق، وهذا باختصار هو جوهر الحديث (الحالي) عن مشروع جامعة الدكتور زويل، وعادة فإن المتعقلين والمخلصين من رجال الدولة والحكم يحرصون علي التعرف علي أسباب عدم قبول المشروع في الماضي، أما السياسيون الانتهازيون الذين يهمهم أن يظهروا بمظهر القادر علي التغيير أو المروج له أو المرحب به فإنهم يحرصون علي تنحية العقل جانبا حين يفكرون في استدعاء المرفوض أو المتحفظ عليه.. ويبدو أن هذا هو جوهر السلوك (الحالي) في مشروع جامعة الدكتور زويل. فنحن حتي هذه اللحظة لانري من هذا المشروع الذي ينتسب إلي هذا العالم الجليل إلا الأراضي المخصصة والمباني المصادرة لصالح الجامعة بل إن الأمر قد وصل إلي أن يوضع ماكيت جامعة أخري أمام العالم الجليل ليشرح عليه فكرته لخمسة وزراء ورئيسهم لم يسأل أحدهم سؤالا مفيداً أو غير مفيد ، ليس هذا فحسب بل إننا نري حديثاً كثيرا علي شاشات التليفزيون المفتوحة لهذه اللقاءات العالية دون أن يحدثنا أحد عن جوهر هذا الذي يحدث ، ودون أن تتكرم علينا الوزارة العصامية ( نسبة إلي صاحبها ) بأي قدر من الإيضاح لهذا الذي شرعت فيه أو شرعت في تشجيعه.
ومن العجيب أننا جميعا نعرف أن صديقنا العزيز وزير الاعلام السابق كان في عهد مبارك بمثابة الصحفي الذي يتولي مهمة المقدم الأول لزويل من خلال صالونات الاوبرا الثقافية وقد بذل جهداً فائقاً في التعريف بالرجل وتقريبه من الشباب، ومن الإنصاف للوزير أن نقول إن دور الصالون في الترويج لزويل قد فاق دور أي صالون آخر بما في ذلك الصالونات التي اجتهدت في الترويج للرئيس أو الوريث. كذلك فإننا نعرف أن صديقنا الكريم رئيس الوزراء السابق كان رئيسا لجمعية عصر العلم التي كانت تتخذ من زويل أيقونة لها، وقد نجح رئيس الوزراء في أن يضيف إلي أيقونة زويل قدراً لا بأس به من التقديس ، التقديس الذي قابلة زويل بما لايمكن الحديث عنه علي صفحات الصحف مهما كان عظيماً ، وهكذا فإن علاقة الرجلين ( أي رئيس الوزراء ووزير الإعلام السابق ) بزويل كان من المفروض أن تكفل لهما أن يرشدا المجتمع المصري المعاصر إلي مدي ما يمكن أن يتحقق لمصر من مشروع زويل ومن جامعة زويل ومن زويل نفسه …. لكن هذا لم يحدث حتي الآن اكتفاء بمونولوج طويل أداه الدكتور زويل وبكلام عام وعائم كرره المسئولون الوزراء ولا نقول : الوزراء المسئولون .
ومن الإنصاف مرة أخري أن نذكر أن المسئولين السابقين (رئيس الوزراء ووزير الاعلام ) لم يورطا نفسهما حتي هذه اللحظة في التبشير بشئ، وكأنهما آثرا أن يكونا من دراويش زويل علي أن يكونا من دراويش الوطن، وكأنهما آثرا مرة أخري أن يكونا من نجوم حفل زويلي بدلا من أن يكونا أصحاب دعوة الحفل الذي تكفلت مصر بنفقاته من أصولها ومن مواردها المحدودة ومن لحمها الحي ، ولا نزال وسوف نظل نغطي تكاليف هذا الحفل الترفي الذي لا نعرف له هدفاً محدداً. ربما كان من المفيد أن نتساءل : هل يتحمل المجتمع المصري المعاصر أن يكون ضحية حفلات ترفع شعار العلم بينما هي حفلات ذاتية جداً تقوم علي نجم مدعو ، ونجوم داعية، وجمهور ممول فحسب ؟، هل يليق بمصر أن تكرر تجربة إنشاء مدن علمية متوازية بينما هي لم تشغل المدن التي بحوزتها علي نحو يكفل الإفادة من الموارد البشرية المكدسة فيها؟. وقد قيل فيما مضي إن تأسيس مدينة مبارك العلمية كان تكراراً لا ضرورة له للمركز القومي للبحوث، وتكرر هذا همسا خوفاِ من اسم مبارك الذي رفع علي المدينة . وسرعان ما أثبتت الأيام أن الذين قالوا هذا لم يكونوا مدعين ولا ظالمين.هل ياتري نكرر الأمر مع زويل ونحذف اسمه بعد سنوات ؟
ونعود لنسأل أنفسنا ( لأن أحداً لن يجيبنا ) ماهي جدوي المسارعة إلي إنشاء كيانات بحثية جديدة تستنزف الموارد المفترض توجيهها للمؤسسات القائمة حتي تؤدي وظيفتها، ماهي جدوي إنشاء مركز بحوث وانفاق مليار علي مبانيه بينما لن يتعدي تمويل الموازانات الازمة للبحوث المفترض اجراؤها فيه مبلغاً يكاد يقترب من المليون كما حدث من قبل . ماهي الجدوي التي يمكن تصورها من الحديث عن إنشاء معهد جديد حتي لو كان صورة طبق الأصل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ( كالتك) الذي يعمل فيه عالمنا الكبير زويل وعشرون آخرون من الحاصلين علي نوبل ؟ ما جدوي هذا حتي لو كان في يد الساحر عصام شرف تريليون دولار ( أي ألف مليار أو مليون مليون ) بينما لا تستطيع موازانات الوطن المتوقعة أن توفر لبحوث مثل هذا المعهد الجديد أكثر من مائة مليون جنيه في العام؟ أذكر في هذا المقام أني طالبت منذ منتصف الثمانينات بالتوقف عن بناء مستشفيات جديدة والتوجه نحو إعادة تأهيل المستشفيات القائمة بما يكفل للموجود والقائم دوراً حقيقيا في الخدمة الطبية، وها نحن اليوم نعاني من كثرة هذه المباني التي أصر المسئولون علي بنائها لما تجلبه لهم من أرباح خاصة إذا كانت تحاكي “ الأهرام “ في صفاتها المعمارية بينما هي عاجزة عن تقديم أي علاج لأي مريض بسبب نقص الموازانات والاعتمادات المخصصة لها. هل لابد لنا أن نكرر هذا السلوك حتي يكون عندنا هرم لزويل كما أن عندنا أهراماً لخوفو وزوسر وخفرع ومنقرع . هل سأل رئيس الوزراء نفسه سؤالا يقول : ماهو المشروع المحدد الذي ينتوي عالمنا الكبير أن يقدم خبراته فيه؟ ولماذا لا يمكن أن تتم هذه الخبرات إلا من خلال مبني جديد ومؤسسة جديدة وإنفاق جديد وحملة جديدة للتبرعات والتمويل… ألخ). ولماذا أيضا يتم الاستيلاء علي أصول جامعة النيل وتشريد طلابها؟. وقد عرضت هذه القضية بالتفصيل في جريدة الأهرام لكن أحداً لم يهتم ولو لدقيقة واحدة ، وكأن الوزراء الحاليين ينتظرون مصير أسلافهم.
ثم نأتي إلي الأهم من هذا ، وهو لماذا هذا التسرع الصاروخي في إفتتاح مدارس للعلوم والرياضات للمتفوقين ( في إطار هذا المشروع ) كي تقوم للأسف الشديد بدور المزرعة التي ينتقي منها عالمنا زويل ما يريده من بذور؟ ألا يعني هذا بلغة البيولوجيا نوعاً من الاخصاء أو التعقيم لغدة الموهبة في الوطن. أرجو أن يدلني أي منصف في هذا الوطن ( أو خارجه ) علي أي دولة في العالم تقبل علي نفسها أن تنساق إلي الاستجابة لمثل هذا التوجه الشخصي لرئيس وزراء مؤقت (حتي وإن كان يعد نفسه لرياسة الجمهورية ) ولوزير إعلام مؤقت (حتي وإن كان يعد نفسه لرياسة الوزارة)، وهو لايعدو أن يكون توجهاً مظهرياً بحتاً قادتهما إليه الظروف من غير ترتيب. أرجو أن يدلني أي منصف في هذا الوطن ( أو خارجه ) علي عالم دولي قبل علي نفسه أن يحرم وطنه من تدفق نهر العلم فيه علي هذا النحو الذي تؤدي إليه مثل هذه السياسات التي بدأ الدكتور زويل يشجعها ويتبناها بكل حسن نية …. بينما هي لاتقود إلا إلي ماهو ضد مصلحة الوطن.
أذكر أني أشرت من قبل في مقالات منشورة إلي أن ثورة 25 يناير قد أتاحت للجماهير أن تناقش الحديث عن حقيقة موقف نظام مبارك مما سمي جامعة زويل وهو الموقف الذي بدأ بترحيب سرعان ما انقلب إلي فتور وإن لم يبلغ الأمر مرحلة العداء. وكان أهم ما يحدد قبول الموضوع والفتور تجاهه هو مدي تداخل نظام مبارك وإفادته من علاقة العالم المصري الكبير بالولايات المتحدة وبخاصة أنه كما نعرف مواطن أمريكي كامل المواطنة وكامل الأهلية بل إنه عين في عهد أوباما مستشاراً لرئيس الولايات المتحدة الامريكية ، ويرتبط بهذا علاقته الوثيقة باسرائيل ، وهي دولة تحظي في وجدان المصريين بمشاعر معروفة حتي وان كانت مرتبطة مع مصر رسميا بمعاهدة سلام لاتكف هي عن انتهاكها من خلال الجواسيس الكبار المؤمنين ومن خلال إساءة معاملة العرب … كما لايكف بعض الاقطاب الفاسدون في النظام المصري السابق بأن ينسبوا إلي هذه المعاهدة بعض إجرامهم بينما المعاهدة بريئة من هذه الاجرام ( قضية الغاز نموذجا) كذلك لايكف الحاقدون علي انتصار مصر في السبعينات أن ينسبوا إلي المعاهدة بعض مشكلات مصر مع أن مثل هذه المشكلات لم ولن تنشأ عن معاهدة سلام. ومن أعجب ما يمكن أن موضوع الدكتور احمد زويل يمثل تجسيداً لموضوع العلاقة مع اسرائيل. فالذين يتحفظون علي زويل ، وعندهم حق بالطبع في التحفظ ، يذكرون ( دون أن يرد عليهم أحد ) أنه أقام في اسرائيل وساعدها في مشروعها الذي استهدف تحطيم القوي الدفاعية التي كانت تحمي العرب المجاهدين من سطوة طيران اسرائيل وهكذا فإن زويل في نظر هؤلاء ( الذين لا يتحدثون الآن كثيراً بسبب تحالفات لا يعلم حدودها وطبيعتها ونتيجتها إلا الله ) ينبغي أن ينظر اليه علي أنه جزء مشتبك إلي حد كبير بطبيعة علاقاتنا مع العدو ، ومن هم وراء العدو !! ،ولكن بعض رجال الصف الأول في مجلس الوزراء المصري الحالي يودون لو وجدوا من يضمن لهم قبولا اسرائيليا مؤكداً حتي يمكنهم الوصول إلي ما يحلمون به من رياسة مصر.
ومع إدراكي لما لا يمكن التصريح به في هذا الموضوع فاني أري أن من واجبنا أن نفكر أولا في الافادة بتجربة ذلك العدو المرتبط معنا بمعاهدة سلام حين أراد أن يتعاون مع نفس العالم الكبير أي الدكتور زويل. وهنا أقترح علي أكبر المصريين من محبي زويل أن يكون تعاون عالمنا الجليل مع مصر علي نفس نمط التعاون الذي تم مع اسرائيل ، أي أن يتولي حل مشكلة ضخمة بالوسائل العلمية من خلال مؤسسة قائمة في وقت محدد أو مفتوح ، وبالطبع فان العلم متصل الحلقات والفروع حتي إن زويل قادر بالعلم علي أن يحل مشكلة انتشار مرض الكبد في مصر أو انتاجية القمح أو اللحوم أو الطاقة المتجددة . وبالطبع فان زويل سوف يكون قادراً علي هذا بحكم علاقاته وإمكاناته ونمط تفكيره العلمي. أما أن تختزل القضية في انشاء جامعة جديدة تضاف إلي الجامعات القائمة أو الكيانات “ البحوثية “ المتواجدة فإن الأمر يمثل إهداراً للطاقة “ الزويلية “ والبشرية والمصرية مع تقليل أكيد من قيمة العالم والعلم والتعاون العلمي ذلك أن الجامعات كائنات حية لابد لها أن تأخذ حقها من النمو الطبيعي في البيئة التي تنشأ فيها بعيداً عن دواعي السياسة والإعلام والإعلان والطاقات الإعلامية التي لا حدود لها. بالطبع نحن نحتاج إلي جامعة عظيمة لكن الحق الذي لامراء فيه أن الجامعة العظيمة لاتستورد ، ولا تتكرس بزيارات مكوكية ، ولا تدار من بعد بالريموت. وبالطبع اكثر فاننا نعاني من مشكلات كبيرة يقدر الدكتور زويل علي تقديم الحلول الذكية لها بل يقدر علي حلها خلال شهور قليلة.
يشهد الله أني أحب زويل العالم حبا لامثيل له ، وأني أحب كل من هم حوله ممن يحبهم من طراز وطبقة مصطفي سليمان و فاروق جويدة وإبراهيم المعلم وأحمد المسلماني… الخ ) لكني أحب مصر أيضاً ، وأحب ابنائها المتفوقين أيضاً. وهذا هو الحق الذي يخلو من التزويق ، والله سبحانه وتعالي اعلم.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
بارك الله فيك يا اساذنا