تاريخ النشر (التحرير): ٢٠١١/٧/٢٤
وقعت أحداث هذه القصة منذ سنوات قليلة، ولا يزال كل أبطالها على قيد الحياة ما عدا بطلا واحدا فقط.
كان رئيس مجلس الوزراء الجديد يعانى نوبات من الاكتئاب، وقد زادت هذه النوبات إلى حد كبير فى تكرارها وشدتها بعد أن فقد الرجل موقعا من المواقع المهمة، ولأنه من أسرة متعلمة، فقد كان حريصا على أن يتلقى علاجه من الاكتئاب على نحو ما يفعل الغربيون الذين يؤمنون بأن الدواء هو العلاج الأول للأمراض النفسية، ومع تقدم السنوات كان الرجل يشعر بأن بعض أجهزة جسمه قد بدأ يعانى من السنوات التى تمر، وكان إذا ذهب إلى طبيب متخصص لا يقول له إنه يشعر بالتعب، أو المرض مع تقدم السن، ولكنه كان يرجع السبب إلى ما يسميه «تقدم السنوات»، وتنبه أحد أطبائه إلى تركيزه على تقدم السنوات بدلا من تقدم السن، وأثنى له على هذه الفكرة الذكية فى التعبير الدقيق، فإذا بالطبيب يفاجأ بأن زميله طبيب الأمراض النفسية هو الذى اخترع هذه العبارة ليحل مشكلة الرجل. قال أستاذ الطب النفسى لصديقه: لكل حالة من هذه علاجها الصحيح، وعلاجها المخيف، وعليك بالعلاج المخيف مع الحرص على رجع السبب إلى الزمن الجديد، لا إلى الجسم المتهالك، قل له يا سيدى إن العشاء الثقيل عند منتصف الليل كان عادة عند الحصانيين القدماء الذين كان زمنهم يسمح لهم بمثله فى كل يوم، أما الآن فإن الزمن لم يعد قادرا على تهيئته، ولهذا يصعب أن يلجأ إليه الإنسان فى بعض الأيام، ويتركه فى أيام أخرى، فيحدث اضطراب، قال الطبيب لصديقه: ما أشد ضلالك وذكاءك.. لكن مَنْ «الحصانيون القدماء» الذين تتحدث عنهم؟ قال الطبيب النفسانى: وهل تظن أن هناك شعبا بهذا الاسم؟! إنما هى شعوب نخترعها لزوم الشغل! ولو فرضت وجود الحصانيين القدماء فأين هم الحصانيون المحدثون؟
على هذا النحو استمر النقاش بين الطبيب النفسانى وزميله طبيب أمراض الجهاز الهضمى، حتى وصل أستاذ الجهاز الهضمى إلى أن يقول لصديقه: لم أكن أعرف أن تخصصكم صعب إلى هذا الحد، ولم أكن أعرف أنك موهوب إلى هذا الحد. لم يمر أسبوع على هذا الحديث، حتى أصبح المريض رئيسًا لمجلس الوزراء، وأصبح هو محور حديث الأطباء فى حفل الدفعة الشهرى الذى جاء موعده بعد حلفه اليمين بثلاثة أيام فقط.
قال أستاذ الجهاز الهضمى موجها حديثه إلى أستاذ الطب النفسى: ها هو ذا الزمن يحل لك المعضلات، وها هى ذى السنوات التى طالما ألقيت عليها بالأوزار تخلف ظنك وتواتى مريضك بما لم يكن يتمناه.
قال أستاذ الطب النفسى: أنت مخطئ يا صديقى.. لأن حالته ستزداد سوءًا.. وسيفقد أهم خطوة فى العلاج وهى إحساسه بالمرض.
قال الجراح: أيحدث هذا وقد رزق ما لم يكن يحلم به؟ إننى أظن الرزق الواسع يغسل أمراض النفس.
قال جراح المسالك: وأحيانا يزيدها.
قال طبيب القلب: وأحيانا يفقد الإنسان كل قدرة على الشفاء.
وقالت طبيبة التخدير: لو صح هذا الذى تقولونه لصدق قول الحكيم الذى قال: «ما رأيت داء كالغنى.. ولا سرطانا كالسلطة».
ردت أستاذة المعامل: فى أى كتاب ورد هذا القول؟ ومن قائله؟
قال جراح العظام: هذه حكم لم تسجلها الكتب بعد، ولا أظنها تقدر على تسجيلها، إنما تتكلم المراجع عن إصابات الأعضاء عضوا عضوا، ويستحيل على الكتب أن تتحدث عن الحوادث على نحو ما تحدث فتقول: إن هذا صدام بوجه السيارة، وإن هذا صدام بظهرها، وإن هذا صدام فى سيارة أكبر، وهذا فى حائط، وهذا فى رصيف، وهذا فى حجرة.. هل سمعت أنت كلمة سرطان فى حكمة!
قال أستاذ الجهاز الهضمى: لكم وقتكم، لكن لا تضيعوا وقتى، ودعونى أسأل الطب النفسى، عما أفعل فى الأيام المقبلة.
قال جراح العظام: خذ نصائحى قبل أن تستمع إلى علمه، وسأقولها لك من دون أن توافق على سماعها:
(1) لا تذهب إليه فى مكتب ولا بيت حتى إذا قيل لك إنه أشرف على الموت، فالمشرفون على الموت ينقلون إلى المستشفى ولا يذهب إليهم الأطباء.
(2) لا تدخل معه فى نقاش حول حالته لأنه تحول خلال الأيام الثلاثة من بشر إلى إله لا يخطئ.
(3) إذا جاءك بنفسه فلا تذكر له اسمه فى أى حوار، وإنما خاطبه بأنه الرئيس لأنه نسى اسمه.. أو أنسى ذكره.
(4) إذا وصفت له دواء فلا تناوله الروشتة، وإنما ناولها لمرافقه!
قال أستاذ الجهاز الهضمى مقاطعا: معنى ما تقوله أننى أعالج مجنونا، ولا أعالج رئيس مجلس الوزراء.
قالت طبيبة التخدير: لا توقعه فى الخطأ، فقد أخلص لك النصح، ولا أظن أحدا يفعل ذلك بهذه الدقة التى فعلها.
قالت أستاذة المعامل التى كانت مغرمة بوقف زميلتها عند حدود الواقع: وهل تسلكين هذا السلوك لو كنت أنت تخدرينه؟
ردت أستاذة التخدير باطمئنان بارد، وقالت: ليس أمامى غير هذا، فلن أقول له إننى سأغيبك عن الوعى، وإنما سأقول إننى أغيب الوعى عنك، ولن أقول له إننى أخفف عنه الإحساس بالألم، ولكنى أقول إنه فى حاجة إلى الطاقة التى يستهلكها الألم، ولهذا فإننا سنوفر له طاقة الألم.
التفت طبيب الجهاز الهضمى إلى أستاذ الطب النفسى، وقال له فى يأس: إما أننى الوحيد الذى لا أمارس الطبى كما ينبغى، وإما أننى الوحيد الذى لا أصلح لعلاج المسؤولين، هل كلكم واعون إلى هذا الحد وأنا الوحيد المغيب؟!
قال أستاذ الطب النفسى فى حنو بالغ: يا سيدى أنت الوحيد المغيب عن الضلال، لأن تخصصك صريح فى تعبيره.
قال: ومن منقذى من الضلال؟ بالطبع لا أحد غيرك.
قال: كل ما أستطيعه هو الخطوة الأولى، وهى أن أقنع صاحبك بأن مرضه قد تحول إلى طراز آخر لم يعد متعلقا بالجهاز الهضمى وحده، وإنما أصبح مرتبطا بالإفرازات العظيمة التى تفرزها غدة العظمة التى تكون موجودة عند أمثاله فى صمت نبيل.
وجدت طبيبة المعامل التى كانت تمارس سطوتها على زميلتها أنها لا بد أن تمارس السطوة على الجميع، فقالت: وهل يعنى هذا أنه لن يلجأ إلى أطباء غيركم يعالجونه مما كنتم تعالجونه منه؟! أنتم تهربون لكن المريض لا يهرب.
قال طبيب القلب: ياسيدتي إنه لم يعد في حاجة إلي أطباء، إنه كما قال أستاذ الطب النفسي في حاجة إلي مؤرخين ومصورين وكتّاب، ولن يتركه هؤلاء للأطباء ، وإنما هم سوف يقنعونه أن إهماله حكمة،
وتباطؤه نبل،
وضعفه قدرة،
وجهله تواضع،
حتي إنه إذا أصيب بغشاوة قيل إنه يقرأ الغيب الذي لا نراه ،
وإذا أصيب بغيبوبة قيل إنه في حضرة الله جل جلاله.
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا
مشاء الله يا دكتور
لا فض الله فاك يا دكتور …
رائع …