كان البغدادي يمتاز عن كل زملائه من رجال الثورة جميعا بالقدرة الفذة على الإنجاز، وقد كان بمثابة الوحيد منهم الذي جمع ما نسميه في الأدب والفكر بالقدرة على الحلم وعلي وضع الخطط الكفيلة بتنفيذ حلمه ثم علي متابعة هذا التنفيذ. و كان الفارق بينه وبين زملائه جميعا في هذه القدرة كبير جداً فعلي الرغم من قدرة السادات الخيالية واللامحدودة على الحلم، وعلى الرغم من قدرة عبد الناصر الرائعة على استثارة الحماس وتوجيهه، وعلي الرغم من إخلاص كمال الدين حسين وتفانيه في تنفيذ كل ما بدأه، وعلي الرغم من تفاني زكريا محيي الدين لما يعمل وأدائه المتواصل في صمت، إلا أن البغدادي يفوق هؤلاء الأربعة في القدرة على الحلم وتحقيق الحلم في كيان متميز ومتكامل بتكلفة أقل وفي وقت أسرع وبجودة أرفع. ولم يكن هناك من اقترب من البغدادي في هذه القدرة إلا جمال سالم الذي هو لمن لا يعرف صاحب الفضل الأول في الإصلاح الزراعي والسد العالي .
ولا يخفي علي أحد أن عبد اللطيف البغدادي كان يحتل مرتبة سامقة بين زملائه الضباط في وجدان الجماهير، فقد كان اسمه مرتبطاً بالإنجاز الحقيقي والسريع، ومنذ أيام عبداللطيف البغدادي لم يتكرر صنو له من بين الضباط كي ينفذ ما استطاعه البغدادي بهمة واقتدار وفي لمح البصر، ولاشك أن إنجازاته ذاتها قد تعرضت للتضخيم الفولكلوري حتي وصلت إلي حدود لم يكن هو ليتصورها، ولكن الجمهور معذور في ذلك، فإن هذا الجمهور لم يشهد في حياته قبل البغدادي ولا بعده مَنْ قام بما قام به البغدادي في فترات وجيزة. وقد سمعت أنا شخصياً من بعض الناس أن البغدادي كان يمر علي الطريق الترابي في الصباح فيأمر بأن يرصف الطريق في ذات اليوم ويعود ليمر عليه في المساء وهو مرصوف.. ومع استحالة وقوع مثل هذا فإن هذه الأقوال تعطينا فكرة عن مدي الإنجاز وسرعته وإن لم تكن حقيقية تماماً..
وربما لا يعرف القراء أن البغدادي كان هو صاحب أطول فترة في موقع الرجل الثاني في عهد الرئيس عبد الناصر (علي عكس ما هو شائع)،ومنذ اللحظات الأولي التي أخذت فيها الثورة بمبدأ الأقدمية كانت الأمور تسير في صالح قيام البغدادي بدور بارز ( وكان ترتيبه في كشف الجيش يعطيه دوراً متقدماً جداً؛ إذ كان الثاني مباشرة بعد جمال سالم ) ،ولكن لا جمال عبد الناصر ولا البغدادي استطاعا أن يقودا التفاعل بين رأييهما لمصلحتيهما أو لمصلحة مصر.
ومنذ ١٩٥٦ أصبح من المفهوم والمعروف والمتفق عليه أن البغدادي هو الرجل الثاني في الدولة بعد عبد الناصر، وذلك بعد خروج جمال سالم من السلطة بعد أن خرج شقيقه صلاح سالم، وقد ظل البغدادي يحتفظ بهذا الوضع عمليا ثم شكليا حتي استقالته النهائية في مارس ١٩٦٤ ،وقد تولي رئاسة الجمهورية بالنيابة عدة مرات في أثناء غياب الرئيس جمال عبد الناصر في الخارج.
ومعظم المراقبين لتلك الأيام يقررون أن عبد اللطيف البغدادي قد أضير بسبب فكره المنظم وآرائه الواضحة وحرم من موقعه المتقدم بسبب معارضته لعبد الناصر، ولكني علي خلافهم جميعا أزعم أن خسارة الرئيس جمال عبد الناصر بابتعاد عبد اللطيف البغدادي كانت أكبر بكثير من خسارة البغدادي بالابتعاد، فلربما خسر البغدادي بعض المناصب وبعض الأضواء ولكن عبد الناصر خسر صديقا حقيقياً، ووطنيا مخلصاً، ورأيا سديداً، ومشاركة واعية، ولو كان للموتى أن يتكلموا لقال الرئيس عبد الناصرـ الآن ـ مثل ما أقول .
لعلي أريد أن أقول إن البغدادي كان منضبط الفكر إلي حد بعيد، ولعلي أريد أن أقول أيضا إنه كان منضبط السلوك أيضا إلى حد بعيد، وقد كان هذا الالتزام أو الانضباط مكلفاً كما نعرف، فهو عبء علي الأعصاب وعلي البدن، كما أنه ليس بإمكان الكثيرين أن يكونوا كذلك.
الدستور2012/10/21
د. محمد الجوادي