لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ومع أنني لم أكن محسوبا على أية جبهة من جبهات منظمة التحرير؛ فإن من سمعوا رأيي في حماس اندهشوا أن يصدر مثل هذا الرأي عني، وأنا المعروف -قبل ذلك الوقت- بدفاعي عن سياسات الرئيس السادات واقتناعاته، بل عن آراء كآراء إسماعيل صدقي باشا، وازداد العجب حين كنت أقول إن طريق تحرير الأرض قد بدأ، وباختصار شديد؛ كان أغلب المثقفين المصريين يعتقدون أن قضية التحرير ينبغي أن تسبق قضية الأسلمة، وكنت أقول ما لم يكن الإسلاميون أنفسهم يقولونه؛ وهو أن الأسلمة كفيلة بالتحرير، أو بالإسراع به على نحو ما، لأن الهوية تجلب ذلك، ولم يكن هذا المنطق مقبولا جدليا على أي مستوى، ووصل الحال بأستاذ اجتماع صديقي لي أن جابهني في جلسة شبه عامة بقوله إنني بهذا التفكير أضع العربة قبل الحصان، لكنني رددت عليه ردا أثار إعجاب الحاضرين مع أنهم لم يستوعبوا مضمونه تماما؛ حيث قلت له إن ما يسميه “العربة قبل الحصان” يسمونه في ميكانيكا السيارات “الجر الخلفي” وهو أفضل بكثير وأقل -في مشكلاته- من الجر الأمامي.
ومن ناحية أخرى، فإنه في حين كان من تعودوا النقد واللجوء إلى آليات اليأس وشعارات العدمية يرون في كثير من الاتفاقات -التي من قبيل أوسلو ووادي عربة- معوقا للتحرير وإجهاضا للمقاومة؛ فقد كنت أقول إن الإسلاميين هم أكثر من سيفيدون من مثل هذه الاتفاقات بطريقة مباشرة وأخرى غير مباشرة، وكنت أتعرض للانتقاد وللاتهام بالتناقض، لكنني كنت ألجأ في دفاعي عن رؤيتي إلى المثل الطبي المتمثل في الأنسولين والكورتيزون اللذين يعملان بآليتين متناقضتين، لكن أحدهما لا يلغي الآخر ولا يغني عنه.
الفلسطينيون ينتصرون أخيرا
في عام 2002 شرفت بأن واكبت الانتفاضة والحراك الفلسطيني بمقالات شبه يومية جمعتها بعد شهور في كتابي “الفلسطينيون ينتصرون أخيرا”، ولم أجد حرجا بثناياها في أن أوجه كثيرا من الانتقادات لمسار الكفاح؛ أي كفاحٍ حين يغفل عن قراءة متأخرة للتاريخ .
وبعد 10 سنوات في عام 2012 منحتني إذاعة القاهرة الشرف في أن أكون في الصباح الباكر أول المعلقين على أحداث غزة، وكانت أمور كثيرة قد تغيرت في مصلحة الفلسطينيين وحماس على حد سواء، ومع هذا فإن كل الصحافة القاهرية والعربية ظلت تعزف “مارشات” زاعقة تسفه وتشوه اللحن الذي قمت وحدي بعزفه في الصباح الباكر، إلى حد أن قال أكثر من معلق إنهم لا يعرفون مصدرا لتفاؤلي، ومن الإنصاف أن نقول إن تصرف الرئيس مرسي سرعان ما جاء مصدقا وموافقا لما تنبأت به من نجاح الوساطة المصرية بسبب خصائصها الثلاث -في ذلك اليوم- النزيهة والسريعة والمباشرة، وهي عناصر كانت قد بدأت تتناقص في الأداء المصري في الشهور السابقة على انتخاب الرئيس مرسي.
نصر استثنائي وصمود أسطوري
فيما بعد، فإن أحداث 2014 جاءت لتثبت لغزة ما حققته -بنجاح ساحق- من نصر استثنائي وصمود أسطوري، وقد كنت ألفت النظر إلى حقيقة أن يكون النصر الاستثنائي نتيجة حتمية للصمود الأسطوري وإلى حقيقة أهم منها؛ وهي أن حرب غزة 2014 أثبتت أن العكس أيضا صحيح، فقد أدى الانتصار الاستثنائي المفاجئ -الذي حققته كتائب القسام وأخواتها وأبناؤها- إلى الصمود ذي المعنى؛ أي الصمود الذي يساعد على استكمال النصر وتتويجه، وقلت -في ذلك الوقت كثيرا وبكثافة على الشاشات وفي الصحافة- إنها ملحمة طويلة وعميقة لا يمكن أبدا اختصارها في مقال ولا في كتاب؛ لأنها ملحمة شعب، لكن هناك عوامل حاسمة عجلت بهذا النصر الطبيعي الذي لا بد منه، وقد كان أول هذه العوامل هو مواجهة الحقيقة المرة، فقد عاش شعب فلسطين ثلثي قرن يثق بإخوانه العرب دون جدوى، حيث كان العرب في مجموعهم يفكرون في أزماتهم قبل أن يفكروا في الحالة الراهنة حتى لو كانوا مسؤولين عنها، كما هو الحال في مسؤولية الرئيس عبد الناصر المباشرة والوحيدة عن حرب 1967 وهزيمتها المروعة التي سنظل ندفع ثمنها سنوات طويلة. وقلت إن هؤلاء العرب أوجدوا لأنفسهم عذرين قبيحين كانوا يعودون من آن لآخر للعزف عليهما بكل قوة.
وكان العذر الأول الذي لا يخجل من يرددونه من سخافته وسخافتهم هو أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم، وكان من السهل على أي إنسان يتمتع بأدنى درجات الذكاء والمنطق أن يسألهم وماذا عن الأغلبية الساحقة التي لم تبع أرضها حتى الآن رغم احتلال هذه الأرض؟ ومن حسن حظ الفلسطينيين أن الله -سبحانه وتعالى- أنصفهم، وأصبح الإسرائيليون الآن على وشك أن يبيعوا مغتصباتهم -التي سموها ممتلكات- من أرض فلسطين المحتلة.
وكان العذر الثاني الذي كانت مجموعة الضباط الأحرار في مصر يرددونه لجنودهم وضباطهم في محيط ضيق هو اكتشافهم أن نسبة الخيانة عالية بين الفلسطينيين، وقد أثبتت الأيام مدى التجني في هذا الحكم السخيف، كما أثبتت عكسه تماما على أرض الواقع، وثبت للعالم أجمع أن الخيانة هي خطيئة إنسانية حتمية الوجود وواردة وأكثر تحققا في قيادات جيوش أخرى غير الجيوش الفلسطينية الحقيقية.
ومن حسن حظ فلسطين أن حماس قدمت نموذجا تجنّبَ القابلية للاتهام بالتستر على هذين الاتهامين؛ وهو ما اتضح في كشف 43 متخابرا مع العدو والإعلان عن هذا وسط المعركة من دون تستر، ومع هذا فإن المتخاذلين من العرب لا يزالون يستمتعون بتخاذلهم وإن كان بعضهم قد تمادى فحول التخاذل إلى تأمر.
نشر على موقع الجزيرة بتاريخ 27/5/2021