بقلم/سامي كمال الدين:
الآن آنَ للقلب المُتعب أن يستريحَ، وللروح المُعذبة على فراق وطنها أن تسكنَ، وللجسد الذي عانى سنواتٍ طوالًا أن يتخلصَ من الألم، مات الدكتور محمد الجوادي (١٩٥٨-٢٠٢٣).
عرفت الدكتور محمد الجوادي في العام ٢٠٠٦، وقتذاك كنت مُديرًا لمكتب مجلة الدوحة في القاهرة وطلبت منه أن يكتبَ مقالًا للمجلة، بالطبع كنت أعرفه قبلها ككاتب له عدد كبير من المؤلفات في التاريخ والأدب، وكان أول مؤلف له وقع في يدي كتابه عن مُذكرات الضباط الأحرار، حيث كنت أعدّ لسلسلة أحاديث صحفية مع أبناء الضباط الأحرار لنشرها في الأهرام، وقد نشرت بالفعل عام ٢٠٠٣.
وفي العام ٢٠١٣ عرفته أكثر في الدوحة وظللنا عدة أشهر نلتقي كل يوم صباحًا ومساءً ونتجادل ونتناقش بالساعات، كنا ضيوفًا على قناة الجزيرة، ونُقيم في مكان واحد، سواء من كان مُؤيدًا لأحداث ٢٠١٣ في مصر أو من كان رافضًا لها، واستمرت علاقتي بالدكتور الجوادي حتى رحيله، وقد كان صاحب موقف عاش به ولأجله وآمن بموقفه، سواء اتفقت معه أو اختلفت معه لا تملك إلا أن تقول إنه كان صاحب موقف، والإنسان موقف، كما أن الدول مواقف، وقد أكرمت دولة قطر وفادته وكانت له بمثابة كعبة المضيوم بالفعل، فلقي كل تعامل طيب من الشعب القطري، وكان يُرحَّب به أينما حلَّ ونزل، وكثيرًا ما كنا نلتف حوله، مجموعة من السياسيين والإعلاميين والصحفيين نستمع إليه وهو يواصل لساعات سرده قصصًا شيقة من التاريخ ويُقارن بين الماضي والحاضر ويربط الحاضر بالمُستقبل، عبر ذاكرة حديدية لا تصدأ، فلديه معلومات في شتى مجالات العلوم، وهو أستاذ وطبيب أمراض القلب، لكنه يفهم في الفلسفة والأدب والتاريخ والنقد والشعر والفن، بل ويعرف نسب العائلات في مصر، قال لي إنه كان يقرأ يوميًا صفحة الوفيات في الأهرام، ومنها عرف تسلسل العائلات وترابطاتها السياسية والمالية في مصر.
عرف عوام الجمهور محمد الجوادي من خلال البرامج التلفزيونية، ولم يعرف البعض أن الرجل حقق نجاحات كبيرة في حياته خلاف البرامج السياسية التي كان يظهر ضيفًا فيها، فهو حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام ٢٠٠٤، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم عام ١٩٨٣، وله عدد كبير من المؤلفات في السير والتراجم عن حياة مُفكرين وأدباء وعلماء، منهم محمد كامل حسين مؤلف رواية قرية ظالمة، علي مصطفى مشرفة، أحمد زكي، أحمد مستجير، محمد عبده، محمد الخضر حسين، الظواهري، علي ماهر، مصطفى النحاس، إضافة إلى ما يزيد على ال ١٠٠ كتاب في مُختلف مجالات العلوم والآداب، لذا حين كنت أجلس إليه تدور بيننا نقاشات مُطولة سواء عن الماضي أو الحاضر في السياسة والأدب، وكان ذهنه حاضرًا في كافة النقاشات، خاصة ما حدث في الثورة العرابية وما قام به سعد زغلول لصالح الأمة المصرية، وخلافات عائلة محمد علي باشا في حكم مصر وصراعات الملك فؤاد والبرنسيس في قصور الحكم والكلوب الخديوي، أما الضباط الأحرار ومرحلة جمال عبد الناصر فله فيها مؤلفات وكتب وكتابات وحكايات طويلة عن الصراع بين الضباط الأحرار وعبد الناصر مع الرئيس محمد نجيب وأزمة مارس ١٩٥٤، ولم يكن يعجبه مني إعجابي بمحمد حسنين هيكل وفكره، وكان يُفنّد أمامي كتابات هيكل وينقدها برؤية القارئ لها وللأحداث السياسية التي كتب عنها هيكل، فانتقادات الجوادي اتفقت أو اختلفت معها تأتي من قارئ جيد ومُحلل سياسي يربط الأحداث السياسية عبر التاريخ، وإن بلغ به الشطط أحيانًا أو بالغ في بعضها إلا أن هذا كان موقفه وهذا كان رأيه، وهذا تحليله السياسي، يغزله بالشعر والأدب والسخرية، وكثيرًا ما انتقدت مواقفه هذه وكثيرًا ما تناقشنا، لكنه كان يستمع ويقرأ ويُتابع كل شيء يكتب عنه، في أوقات يرد، وأوقات أكثر لا يرد.
مات د. محمد الجوادي ودُفن في الدوحة في مقابر مسيمير وأبو هامور بعيدًا عن وطنه، مات في قطر التي قضى فيها آخر سنوات حياته منذ عام ٢٠١٣ وحتى رحيله هذا الأسبوع، وله فيها صحبة وأهل وأتباع كانوا يزورونه ويستمعون إليه ويُحبونه، نسأل الله له الرحمة والمغفرة.
إعلامي مصري