بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
فجر يوم الجمعة 20 من ذي القعدة 1444هـ الموافق 9 يونيو/حزيران 2023 م تلقيت بحزن كبير خبر وفاة العالم الجليل الدكتور محمد الجوادي عن 65 عاما، حيث ألقى عصا التسيار وأسلم الروح إلى بارئها في مهجره بالدوحة في قطر بعد معاناة كبيرة وشاقة مع مرض السرطان الذي برى جسده وأنهك قواه وأجهز على عافيته.
عرفت الدكتور الجوادي، فرأيت فيه الإنسان النبيل، والعالم الكبير، والمؤرخ الأمين، واللغوي المبين، والمفكر السياسي النابغة، والأديب الناقد البصير، الذي جمع إلى ذلك أستاذيته في علم الطب تخصص القلب والأوعية الدموية، وكان له اطلاع واسع على الفلسفة والحضارة والفقه والتشريع والقوانين والدساتير والأدب نثرا وشعرا، وبرع من الأواخر في فن التراجم للأعلام كما برع الإمام الذهبي في الأوائل؛ فكان موسوعة علمية تاريخية حضارية متحركة على الأرض.
نال شهادة دكتوراه في أمراض القلب والأوعية الدموية، برسالة عن “تقييم أبعاد ووظائف القلب في المسنين”
المولد والنشأة
ولد محمد محمد الجوادي عام 1958 في مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط بجمهورية مصر العربية، وهي مدينة من مدن التاريخ المصري القديم؛ تحوي معالم أثرية، منها جامع الحديدي، وفي عام 1975 حصل الجوادي على شهادة الثانوية العامة من مدرسة المتفوقين الثانوية في عين شمس بالقاهرة، في عام 1985، ثم حصل على درجة ماجستير في أمراض القلب، برسالة عن “مذيبات التخثر كمذيبات للاحتشاء القلبي الحاد”، وفي عام 1990 نال شهادة الدكتوراه في أمراض القلب والأوعية الدموية، برسالة عن “تقييم أبعاد ووظائف القلب في المسنين”، وهو زميل زائر في أمراض القلب والأوعية الدموية، كليفلاند كلينيك، أوهايو بالولايات المتحدة منذ عام 1991؛ حيث تعد مؤسسة كليفلاند كلينيك من أفضل 3 مستشفيات في الولايات المتحدة الأميركية، ويحتل مركز القلب بمؤسسة كليفلاند كلينيك المرتبة الأولى على امتداد 11 سنة متتالية كأفضل مركز لجراحة القلب في المستشفيات الأميركية.
نبوغ مبكر
الطالب محمد الجوادى (دفعة 1975)، هو صاحب أشهر تصحيح في تاريخ الثانوية العامة، حيث جاء في امتحان الثانوية سنة 1975 سؤال في النحو على الصيغة التالية: استبدل “كان” بــ “إن” في الجملة التالية، وغير ما يلزم: كان العاملون مجتهدين.
فكتب الطالب محمد الجوادى في ورقة الإجابة: هذا السؤال خطأ!!، لأن الباء “تدخل على المتروك”، وكان من الواجب أن يُكتب السؤال على الصيغة التالية: استبدل “إن” بــ “كان”، وغير ما يلزم !! ووجدوا فى الكونترول أن هذا الطالب من مدرسة المتفوقين بعين شمس، فكان الأساتذة في هذه المدرسة يفخرون بذلك!!
شغل منصب مدير مركز الإعلام والنشر الطبي بجمعية الأطباء الشبان وأسهم في قيادة القوافل العلاجية لجامعة الزقازيق
عضوياته في الجمعيات والمجامع واللجان
حاز الجوادي لنبوغه المبكر عضويات في مجامع وجمعيات كثيرة، ومن ذلك:
مجمع اللغة العربية بالقاهرة “مجمع الخالدين”، وهو أصغر من نال عضويته، والمجمع العلمي المصري، واتحاد كتاب مصر، والمجمع المصري للثقافة العلمية، ومجلس الثقافة العلمية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ولجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، وجمعيات تاريخ العلوم، وإحياء التراث العربي الإسلامي، وجمعية أطباء القلب المصرية، وعضو مجلس إدارة المكتب العربي للشباب والبيئة، وهو عضو مجلس إدارة مؤسس لدار جامعة الزقازيق للنشر (1989-1994)، ومجلس إدارة مطبعة جامعة الزقازيق (1988-1994) كما شغل منصب مدير مركز الإعلام والنشر الطبي بجمعية الأطباء الشبان.(1985-1990)، وأسهم في قيادة القوافل العلاجية لجامعة الزقازيق (1980-1981) وكان رئيساً مؤسساً لنادي جامعة الزقازيق للشباب والعلوم والبيئة (الزوكي) ثم تولى الإشراف عليه (1980-1985). بالإضافة إلى عشرات الميداليات والدروع والفخريات التي حصل عليها لنشاطه الدائم والمستمر في مجالات العلم والمعرفة.
حصل الجوادي على جائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم سنة 1983 عن كتابه “مشرفة بين الذرة والذروة”
تكريمات غير مسبوقة
حصل الدكتور الجوادي على أنواع من التكريمات والدروع والميداليات والألقاب والكؤوس والعضويات الفخرية بلغت 44 تكريما وجائزة، نذكر منها فقط:
جائزة محافظة دمياط 1970-1973، وجائزة محافظة القاهرة 1975 في التفوق في القرآن الكريم 1975، وجائزة جامعة القاهرة للمقال 1977، وجائزة مجمع اللغة العربية سنة 1978 عن كتابه “الدكتور محمد كامل حسين: عالماً ومفكراً وأديباً”، وجائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم سنة 1983 عن كتابه “مشرفة بين الذرة والذروة”، ووسام العلوم والفنون، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2004.
أسهم في أنشطة علمية دولية من أهمها عضويته في الجمعية الأوروبية لأمراض القلب، وفي لجنة مجلس البيئة البريطاني لصياغة تقرير مستقبل البيئة وفي منتدى سالزبورغ
إسهامات كبيرة وواسعة
استطاع الجوادي أن يسهم في كل هذه الحقول المعرفية التي تمكن من معرفتها، وكأنه متخصص في كل حقل منها، فأسهم في الإشراف على برنامج للتعليم الطبي والتعريب في مؤسسة أكسفورد للموارد التعليمية، وتدريس مقرر الصحافة المدرسية، وتأسيس قسم الإعلام التربوي بكلية الآداب جامعة الزقازيق، وترجمة المقالات الطبية لمجلة “العلوم”: الترجمة العربية لمجلة “ساينتيفك أميركان”. (1988-1996).
كما أسهم في أنشطة علمية دولية من أهمها عضويته في الجمعية الأوروبية لأمراض القلب، وفي لجنة مجلس البيئة البريطاني لصياغة تقرير مستقبل البيئة وفي منتدى سالزبورغ، وهو أيضاً مقرر لجنة التلوث بالضوضاء في المنظمة الدولية للشباب “آي واي إف” (IYF)، وله مشاركات واسعة في أعمال علمية ثقيلة الوزن، مثل: موسوعة أعلام الفكر الإسلامي عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (2002-2004)، وموسوعة الشخصيات المصرية عن الهيئة العامة للاستعلامات (1985-1993)، وموسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين، عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقاموس الأدب العربي عن الجامعة الأميركية، وموسوعة الكويت العلمية للأطفال، ومعجم المصطلحات التاريخية الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 2011، والموسوعة الإسلامية العامة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وموسوعة الحضارة الإسلامية عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وموسوعة الشروق، وموسوعة المفاهيم الإسلامية، وموسوعة آل البيت عن مؤسسة آل البيت، وموسوعة أعلام المصريين في القرنين 19و20 مع مكتبة الأسكندرية (2004-2011).
أما المجلات الطبية والعلمية التي رأس تحريرها وأسهم في الإشراف عليها، فهي كثيرة ومتنوعة، منها: المجلة الطبية لجامعة الزقازيق، ومجلة الجمعية المصرية لأمراض القلب، والمجلة المصرية للعلوم التطبيقية، والمجلة البيئية لجامعة الزقازيق، ومجلة الجراحة المصرية، والمجلة الأفريقية لأمراض الجلد، ومجلة معهد الأورام القومي، ومجلة اللغة والحضارة، المركز الدولي للغة والحضارة، ومجلة البيئة والمجتمع، جامعة الزقازيق، وأسهم في تحرير مجلات ثقافية كثيرة، كما شارك في ندوات ومؤتمرات ودوريات ثقافية وعلمية.
ألف الدكتور الجوادي كتبا وبحوثا في مجالات متنوعة، تجاوزت 140 مؤلفا
مؤلفات الجوادي
كتب الدكتور محمد الجوادي كتبا وبحوثا في مجالات متنوعة، تجاوزت هذه المؤلفات 140 مؤلفا في مجالات وحقول معرفية متنوعة بلغت 10 مجالات:
أولا: في تاريخ العلماء وتراجمهم وتاريخ العلم، ألف 13 كتابا. ثانيا: في تاريخ الفكر الإسلامي، ألف 11 كتابا. ثالثا: في تاريخ الحقبة الليبرالية، ألف 19 كتابا، رابعا: في تاريخ العسكرية والأمن وحقبة 1952، ألف 24 كتابا، خامسا: في التاريخ العربي والحوار الإسلامي الغربي، ألف 11 كتابا، سادسا: في تأريخ الحكومة ومناهج المؤرخين، ألف 14 كتابا، سابعا: الربيع العربي والثورة المضادة، ألف 11 كتابا، ثامنا: في تاريخ الأدب واللغة والثقافة والصحافة، ألف 18 كتابا، تاسعا: في الفكر التربوي والتنموي، ألف 15 كتابا، عاشرا: الوجدانيات والرحلات، ألف 6 كتب.
فضلا عن عشرات المقالات في الصحف والمواقع والدوريات المختلفة، وكان من أواخر ما أصدر كتابه: “المحققون المتحققون” الذي ضمنه ما كتبه عن أعلام وصفهم بهذا العنوان، ومنهم: محمود الطناحي، السيد أحمد صقر، مصطفى حجازي، محمد شوقي أمين، عبد الكريم العزباوي، عبد الستار فراج، عبد السلام هارون، وآخرون، وكتب إهداء مطبوعا على هذا المؤلف قال فيه: “إلى الصديق الكريم الدكتور وصفي عاشور أبو زيد”. وأرسل لي الكتاب بصيغة “بي دي إف” (PDF)، وقال في رسالة قبله: “أستاذنا الحبيب، هذا الكتاب مهدى بحروف المطبعة لفضيلتكم، وهذا شرف لنا، فأرجو أن تتقبلوه، مع خالص التقدير”.
وكان آخر كتاب ألفه عن “المتشابهات فى القرآن الكريم”، وهو موضوع لا يتقن الحديث فيه إلا من عاش مع القرآن بعمق، اختار منه مختارات لمنشورات كان يتابع نشرها على قناته بالتليغرام.
كان أول لقاء بيننا في ملتقى أصحاب القرضاوي وتلاميذه عام 2015 بالدوحة في قطر، فلما وقعت عينه علي قال: “لنا حديث مطول عن المقاصد” وابتسم ابتسامته الواثقة ومضى
علاقتي بالجوادي
ترجع علاقتي بالعالم الموسوعي والمجاهد المناضل الأستاذ الدكتور الجوادي إلى ما قبل الثورة المصرية فقد كنت أسمع اسمه يتردد في الأوساط العلمية والثقافية المختلفة إلى أن قامت ثورة يناير/كانون الثاني المصرية 2011، وتصدره للإعلام والقنوات الفضائية؛ فبرز اسمُه وعلا نجمه، ثم وقع الانقلاب العسكري عام 2013، فأصبح الضيف الدائم على قناة الجزيرة، يكشف الحقيقة ويبرهن عليها بالتاريخ والوقائع والأحداث والأشخاص، وفي مواجهته ضيوف الجزيرة من المؤيدين لما يجري من تغيرات قسرية؛ عملا بسياسة “الرأي والرأي الآخر” وكانوا يلقون بكلام يخيل إلينا من سحرهم أنها آراء حقيقية، وكان الجوادي يلقي عصاه فتلقف ما يأفكون فيحصحص الحق، وتظهر الحقائق، وتتجلى المسائل بحجته الساطعة وبراهينة الدامغة، وكان له جمهوره الكبير ومتابعوه الذين يتضاعفون يوما بعد يوم.
ثم كان أول لقاء بيننا في ملتقى أصحاب القرضاوي وتلاميذه عام 2015 بالدوحة في قطر، فلما وقعت عينه علي قال: “لنا حديث مطول عن المقاصد” وابتسم ابتسامته الواثقة ومضى، إلى أن التقينا في بيت شيخنا الإمام القرضاوي في ختام هذه الدورة من دورات التلاميذ والأصحاب التي كانت تجمعنا -نحن تلاميذ وأصحاب الشيخ- مرة في العام غالبا، وألقى الجوادي كلمة عن الشيخ الإمام بهرت العقول وأخذت بالألباب لما فيها من لغة متدفقة كالسيل، وما فيها من بيان هادر كالموج، وما فيها من حفظ للأحداث من كتاب: “ابن القرية والكتاب” سيرة القرضاوي ومسيرته تكاد تكون مطابقة لما في الكتاب، وهو ما جعل إمامنا القرضاوي بعد الكلمة يقول: هل سجلتم هذه الكلمة؟ أرجو أن ترسلوها لي إذا كنتم سجلتموها”.
ثم بعد ذلك تواصلنا عبر الهاتف وعبر “الماسنجر” فكنا نقضي في المكالمة الواحدة نصف ساعة أو ساعة إلا ربعا، وأحيانا تكون ساعة وساعة ونصفا، وقد تصل المكالمة الواحدة إلى ساعتين بلا مبالغة، كانت طاقته العلمية والتاريخية والمعرفية الموسوعية تتجسد أمامي في هذه المكالمات، وكنت أقول لنفسي: إن الجوادي لم يستثمر حق الاستثمار، وكنت أرجو المزيد من التعلم منه والإفادة به، وأنا الآن نادم على عدم تمكني من ذلك، وعلى عدم كتابتي خلفه كل ما كان يقول، وأتمنى لو عاد بي الزمان لأقول له: زدنا من علمك، خذ ما شئت من وقت، افتح علينا وزودنا بما زودك الله به، ليته يكون، وهل ينفع شيئا ليتُ؟!”.
وأصيب الجوادي في آخر حياته بالسرطان، وكانت منشوراته التي يكتبها يطلب فيها الدعاء، ويجأر فيها إلى الله: يطلب العفو والرحمة والمغفرة، ويختمها بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ طمعا في إجابة الأدعية، وكان من أواخر ما كتب على حسابه في موقع تويتر: “أستحلفكم بالله ألا تكفوا عن الدعاء لي بالشفاء بكل ما ترجون من أمل في رحمة الله وفضله وجوده، فقد أضناني الألم. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم صل وسلم على النبي”. وأرجو أن يكون دعاؤنا له موصولا بعد رحيله.
رحل هذا العالم الموسوعي وترك غصة في الحلق، وحزنا في القلب، وصمتا مستمرا لذهول قلوبنا ونفوسنا برحيله، لكن عزاءنا أنه ترك تراثه وعلمه وفضله وكتبه التي تحتاج لاهتمام، ودراسة وتأمل، وهو تجربة -على كل حال- فريدة في بابها لما ارتادته من مجالات، وبذلت فيها من جهود، وأعطت فيها من عطاءات، وأنتجت فيها من إنتاج لا يتوفر إلا لأولي العزم من علماء الرجال وقليل ما هم.
لم يشأ الجوادي أن يبيع دينه بدنياه؛ فضلا عن أن يبيعه بدنيا غيره كما فعل غيره من المتطلعين للمناصب أو المؤثرين للصمت أو الخائفين من الطغيان، لكن الجوادي ضرب المثال وأقام الحجة والقدوة، وضم إلى هذه الموسوعية العمل والجهاد بالكلمة، وكان بوسعه أن يصل لأعلى المناصب التي وصل إليها من هم دونه بكثير، ولكنه آثر ضميره، واشترى مبادئه ولم يساوم عليها، واتسق مع ما أنتجه من علم ومعرفة، فاقتدى بآثار من كتب عنهم سيرا ومسيرا، فهُديَ إلى ما هُدوا إليه، هُدي إلى الرشد وإلى طريق مستقيم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
رحم الله العلامة الأديب اللغوي الطبيب الناقد المؤرخ السياسي المفكر الجوادي، وجعل هجرته وحرمانه من وطنه الذي كان يحبه وينتمي إليه، ومرضه الذي برى جسده، في ميزان حسناته، وجعل له في الجنة مثل ما بين مهجره ومسقط رأسه كما بشر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وصبّر أهله وذويه على فراقه، وأخلف الأمة فيه خيرا، ونفع بعلمه العالمين.. إنا لله وإنا إليه راجعون.