بقلم:قطب العربي
حين اندلعت ثورة 25 يناير 2011 انحاز عدد كبير من رموز النخبة المصرية إليها، لكن انحياز المؤرخ الراحل الدكتور محمد الجوادي كان مفاجأة ذلك أنه كان أحد وجوه تلك النخبة التي بدت أكثر ارتباطًا بنظام مبارك الذي قامت ضده الثورة، الأكثر حضورًا في مؤسساتها ومنابرها الإعلامية، فهو عضو مجمع اللغة العربية والمجمع العلمي المصري والمجمع المصري للثقافة العلمية واتحاد كتاب مصر، وهو الحائز على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية ووسام العلوم والفنون، وهو الكاتب في الصحف الحكومية خاصة الأهرام، وهو الضيف على قنوات التلفزيون الرسمي والقنوات الخاصة، وهو المحاضر في المنتديات الرسمية بل أنه خصص فصلًا في كتابه (النخبة السياسية الحاكمة 1952-2000) مدحًا لعهد مبارك ورفض أن يسحبه بعد الثورة أو الانقلاب كونه نتاج مرحلة من مراحل تطوره السياسي، وإن عوض ذلك بعد الثورة بكتاب (العصف المأكول) الذي تعرض فيه لفساد الثلث الأخير من عهد مبارك الذي تسبب في إطاحته (من حسن حظه أن كتابه الأول لم يتعرض للثلث الأخير من عهد مبارك)، وكان المتوقع من شخص بهذه المواصفات أن يدافع عن نظام مبارك كونه مستفيدًا منه، أو على الأقل يلتزم الحياد، لكنه اختار الانحياز للثورة من أول يوم.
انحياز لسنن التاريخ
كان انحياز الجوادي للثورة منطلقًا من فهمه العميق لفقه المآلات، وسنن التاريخ الذي هضمه، وتضلع فيه حتى وصف نفسه بـ(أبو التاريخ)، لقد أدرك من خلال متابعته لمآلات نظم شبيهة سابقة أن نظام مبارك شاخ بما فيه الكفاية، وأن نهايته حلت، وهو بذلك التقى مع غريمه الراحل محمد حسنين هيكل الذي وصف نظام مبارك أيضًا بـ(سلطة شاخت في مقاعدها)، ومن هنا انحاز الجوادي إلى سنن التاريخ.
حين احتدم الجدل السياسي والاستقطاب عقب ثورة يناير وقف الجوادي في مواجهة غالبية النخب الثقافية التي عادت الرئيس الراحل محمد مرسي سرًا أو علنًا، لقد كان مؤمنًا أن مصر أمام فرصة تاريخية ينبغي العض عليها بالنواجذ، ولذا أيقن أن موقف النخب العلمانية هو موقف صبياني مراهق يخالف القيم العلمانية بالأساس، كما يقطع الطريق مبكرًا على الثورة لاستكمال وعودها، وجني ثمارها.
دافع الرجل عن الطريق الذي رآه صحيحًا للتقدم بالثورة إلى الأمام عبر دستور جديد يعبّر عنها، وانتخابات تنافسية حرة، برلمانية ورئاسية حتى تنتج قيادة جديدة تضع مطالب الثورة ومبادئها موضع التنفيذ، وخاض الرجل نقاشات معمقة مع أقرانه دفاعًا عن الثورة ومواجهة للمراهقة الفكرية لبعض أبنائها.
زاملته في عضوية المجلس الأعلى للصحافة، فكان نعم المجتهد للتعبير عن العهد الجديد الذي أرسته الثورة، تصدى لبعض رؤوس الفتنة مبكرًا، وألجمهم بقوة منطقه، ومنهم ضياء رشوان الذي أراد ممارسة حالة استعراضية للتشويش على أعمال المجلس في أول حضور له، فكان تصدي الجوادي له هو (حقنة التخدير) القوية التي ألزمته الصمت بقية الجلسة.
ضد الانقلاب
حين وقع الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013 فاجأنا الجوادي مجددًا بانحيازه إلى الشرعية، ورفضه للانقلاب رغم أن غالبية النخب الثقافية والإعلامية والفنية كانت داعمة بل محرضة على ذلك الانقلاب، وإذا كان الجوادي في موقفه الأول الداعم للثورة محاطًا بعدد كبير من الرموز الثقافية والأدبية والأكاديمية، فإنه في موقفه تجاه الانقلاب وجد نفسه مع قلة قليلة من تلك النخب في مواجهته، ولا نبالغ حين نقول إنه كان النجم الأبرز بينهم، كان بمثابة مدفعية ثقيلة في مواجهة الأصوات الداعمة للانقلاب على شاشة قناة الجزيرة.
كم كنا نستمتع بمجالسة الجوادي في منفاه بدولة قطر، حيث كنا نحرص أن يكون الحديث في التاريخ الذي يمتلك الرجل ناصيته، فيسهب في ذكر وقائع وتفاصيل بعض الأحداث التاريخية محل النقاش، ويرفض أن يقاطعه أحد حتى انتهاء كلامه الذي لا ينتهي فعلًا إلا بتدخل أحدنا باستفسار جديد أو تنبيه لتأخر الوقت…إلخ.
كان الدكتور الجوادي يعاني العديد من الأمراض وهو الطبيب الحاذق أستاذ القلب الشهير، كان يصاب بالغيبوبة بين حين وآخر لذا كان يترك باب غرفته في الفندق الذي أقام فيه مفتوحًا دومًا، منبهًا العاملين في الفندق لضرورة المرور والاطمئنان عليه باستمرار، ناهيك من زيارة أحبابه التي لم تنقطع.
إنتاج رغم المرض
لم تمنعه أمراضه من مواصلة العطاء، فأنتج في منفاه أكثر من 10 كتب جديدة، ولم يتوقف عن الإنتاج إلا حين غلبه السرطان اللعين الذي ظل يقاومه بإيمان وثبات ويطلب من أحبائه الدعاء له حتى وافته المنية.
لم يكن الجوادي هو الوحيد من الرموز المناهضة للانقلاب الذي وافته المنية في منفاه، سبقه إلى هذا المصير آخرون تمسكوا بمبادئهم ومواقفهم التي كلفتهم كثيرًا في حياتهم وانتهت بوفاتهم، نتذكر هنا العميد طارق الجوهري ضابط الشرطة المكلف بحراسة منزل الرئيس الراحل محمد مرسي (توفي في مايو/أيار 2015 في أحد مستشفيات الدوحة أيضًا) ، والخبير العسكري اللواء عبد الحميد عمران الذي توفي في ديسمبر/كانون الأول 2020، (وقد كان ينتمي لدفعة المشير حسين طنطاوي في الكلية الحربية، وسبق أن شارك في حروب 1956، و1967، و1973)، ومن المدنيين الذين وافتهم المنية في مهجرهم أيضًا نتذكر النائب البرلماني ونقيب الفلاحين السابق عبد الرحمن شكري، والمهندس أيمن عبد الغني، والناشط محمد الجبة وغيرهم، رحم الله الجوادي وكل من سبقوه على الطريق.
المصدر : الجزيرة مباشر