الرئيسية / المكتبة الصحفية / ضريبة التحرر الوطني.. سياسيون مصريون .. دفنوا في غربتهم

ضريبة التحرر الوطني.. سياسيون مصريون .. دفنوا في غربتهم

بقلم/ داود علي

فتحت وفاة السياسي والمفكر المصري الدكتور محمد الجوادي، في 9 يونيو/حزيران 2023، الباب على مآسي آلاف المصريين الذي قضوا في الغربة، جراء رفضهم الانقلاب العسكري الذي وقع في 3 يوليو/ تموز 2013، بقيادة عبد الفتاح السيسي.

وفي التاريخ المصري الحديث مئات السياسيين الذين حملوا راية التحرر الوطني، ثم ماتوا في غربتهم، على رأسهم الزعيم الوطني محمد فريد بك، الذي توفي في العاصمة الألمانية برلين عام 1919، وهو الذي طالب برحيل الاحتلال، ونيل الأمة المصرية استقلالها الكامل. 

درست الأجيال المتعاقبة سيرة محمد فريد، كرمز للكفاح، وكيف دفع الثمن بعد أن مات بعيدا في غربته، ولم يكن الوطن آنذاك بأفضل حال.

حتى إنه لما سجن قال جملته الشهيرة: “مضى علي 6 أشهر في غيابات السجن، ولم أشعر أبدا بالضيق إلا عند اقتراب خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، وهو سجن الأمة المصرية، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال”.

الجوادي نفسه كتب مقالة عن الأخير، على موقع “الجزيرة مباشر” في 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، تحت عنوان “الزعيم محمد فريد: العطاء الذي لم يتوقف”. 

ومما قاله فيها: “كان محمد فريد صاحب وظيفة محترمة تدر عليه دخلا كريما، وتتيح له موقعا ممتازا فلما ترك هذا كله من أجل الوطنية مات شريدا غريبا”. 

ومن العجائب أن الجوادي نفسه مات نفس الميتة غريبا بعيدا عن أرض الوطن، هو وغيره من السياسيين الذين ناهضوا حكم عبد الفتاح السيسي. 

من الجوادي؟ 

ولد محمد محمد الجوادي الملقب بـ “أبو التاريخ” في 9 يونيو 1954، وللمفارقة كان ذلك اليوم هو يوم رحيله أيضا، وكان محل ميلاده في مدينة فارسكور بمحافظة دمياط. 

وفارسكور مدينة لها خصوصيتها في التاريخ المصري، حيث استطاع المصريون هزيمة الحملة الصليبية السابعة (1250 ميلاديا)، وأسر قائدها الفرنسي لويس التاسع، فلا شك أنها ببعدها التاريخي، أسهمت في تكوين شخصية محمد الجوادي. 

وقد عرف التفوق والنبوغ منذ صغره، حيث التحق بمدرسة المتفوقين الثانوية بعين شمس.

ويقول عنه محمود الجيلاني: “محمد الجوادي (دفعة 1975)، صاحب أشهر تصحيح في تاريخ الثانوية العامة، حيث جاء في امتحان الثانوية، سؤال في النحو على الصيغة التالية، استبدل (كان) بـ (إن) في الجملة التالية، وغير ما يلزم: كان العاملون مجتهدين”.   

وأضاف: “فكتب الطالب محمد الجوادي في ورقة الإجابة: هذا السؤال خطأ! لأن الباء (تدخل على المتروك)، وكان من الواجب أن يكتب السؤال على الصيغة التالية: استبدل (إن) بـ (كان)، وغير ما يلزم”. 

واختتم: “بالفعل وجدوا في الكونترول أن هذا الطالب من مدرسة المتفوقين بعين شمس، فكان الأساتذة بمدرستنا يفتخرون بذلك”. 

واصل الجوادي تفوقه حتى صار أستاذا بكلية الطب في جامعة الزقازيق، بعد أن حصل على درجة ماجستير أمراض القلب عام 1985.

ثم حصل على شهادة دكتوراه أمراض القلب والأوعية الدموية عام 1990، وبعدها أصبح زميلا زائرا في أمراض القلب والأوعية الدموية، في كليفلاند كلينيك أوهايو، بالولايات المتحدة الأميركية، التي تعد من أفضل ثلاثة مستشفيات هناك.

موقف ورحيل

لكن بالتوازي مع تفوقه في الطب، كان الجوادي عالما موسوعيا، جمع بين الأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي.

وقد حقق على مدار تاريخه إنجازات متفردة جعلته أصغر مصري على الإطلاق يحصل على عدة تكريمات رفيعة المستوى.

فهو أصغر من نال عضوية مجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين) عام 2003، وعضو المجمع العلمي المصري عام 2008 وعضو اتحاد كتاب مصر عام 1979.

وفي عام 2004 حصل على جائزة الدولة التقديرية، وكان قد حصل عام 1982 على جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة مجمع اللغة العربية عام 1978، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1985.

وألف أكثر من 100 كتاب في التاريخ والفكر السياسي، وكان آخر كتاب ألفه عن “المتشابهات فى القرآن الكريم”. 

أما عن موقفه السياسي فقد رفض الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، واضطر للخروج من مصر، وإعلان رفضه للحكم العسكري، وأصبح من كبار المنظرين للثورة المصرية، وفضح ممارسات العسكر والسيسي ضد النخبة الوطنية. 

وعاش على مدار 10 سنوات متمسكا بهذا الموقف، الذي دفع ثمنه غربة طويلة، حتى رحل ودفن في دولة قطر.

وكتب عنه الصحفي جمال سلطان: “أخيرا تمت الرحلة يا محمد الجوادي؟ أخيرا وصل المهاجر إلى مأمنه؟”

وإن كان الجوادي آخر الراحلين حتى الآن، فقد سبقه العديد من رموز الحركة الوطنية والعمل السياسي المصري. 

جمعة أمين 

ومن الذين رحلوا في باكورة المحنة المصرية الأخيرة، منذ انقلاب 2013، كان الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز، أحد كبار مفكري ومؤرخي جماعة الإخوان المسلمين، ونائب المرشد العام للجماعة. 

ولد الراحل عام 1934 في محافظة بني سويف بصعيد مصر، وفي عام 1961 حصل على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف. 

التحق بجماعة الإخوان مبكرا في مطلع الخمسينيات، وقبض عليه في القضية التي عرفت بتنظيم 65 خلال عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. 

وخرج من السجن عام 1971 ليبدأ رحلته الدعوية، وقد صب جهده على الاهتمام بالتعليم والتربية، وقال عن ذلك: “عليكم بالمدارس، فقد كانت هدفا لتخريب عقولنا، وغزونا حتى العقيدة في هذه المرحلة قد جمدوها”.

وقدم عبد العزيز العشرات من المؤلفات الفكرية والدعوية، منها “في ظلال الأصول العشرين، ومنهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام، والتغيير على منهاج النبوة، والتربية الإيمانية والدعوية للمرأة المسلمة”. 

شارك جمعة أمين في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وكان في طليعة الرافضين لخطابات الرئيس المخلوع حسني مبارك خلال أيام الثورة، وكتب بيانات تدحض مضمونها. 

وقبل الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، سافر إلى العاصمة البريطانية لندن للعلاج، ولم يستطع العودة إلى وطنه مرة أخرى، جراء تنكيل السلطة الجديدة التي قادها السيسي.

ورحل أمين مغتربا في 24 يناير 2015، عن عمر يناهز 81 عاما، ودفن في لندن، بعيدا عن أرض مصر. 

طارق الجوهري

ومن الذين مضوا على نفس السبيل، العميد طارق الجوهري، الذي كان من ضباط الشرطة المصرية القلائل المتمردين على أسلوب وزارة الداخلية مع المواطنين.

بدأ عمله كضابط بقوات الأمن المركزى منذ تخرجه سنة 1983، إلى أن صدر قرار من وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي بإحالته للتقاعد بتهمة مخالطته بعض الأشخاص دون المستوى، وفقا للقرار الذي أصدره.

وبعد ثورة 25 يناير 2011 أعلن الجوهري أن السبب الحقيقي لإحالته للمعاش المبكر طلبه الاعتكاف بأحد المساجد فى شهر رمضان.

وقد حصل على حكم نهائي من محكمة القضاء الإداري بالعودة إلى العمل عام 2009، إلا أن العادلي رفض تنفيذ الحكم، إلى أن حدثت الثورة وجرى القبض على وزير الداخلية، وعاد الجوهري إلى وظيفته.

ومن المفارقات التي يرويها الجوهري، أنه جرى تكليفه بتأمين القاعة التي كان يحاكم فيها الوزير حبيب العادلي الذي ظلمه.

كان الجوهري أحد أفراد طاقم حراسة الفريق أحمد شفيق خلال الانتخابات الرئاسية عام 2012، وجرى نقله إلى منزل رئيس الجمهورية الراحل محمد مرسى ليلة إعلان النتيجة ليعمل معه في ظل فترة صعبة.

وتطرق في تصريحات إعلامية إلى ما جرى في 5 ديسمبر/كانون الأول 2012 والمعروف باسم “أحداث الاتحادية”.

وقال إن مجموعة من الضباط وأفراد الداخلية المكلفين بحماية القصر الرئاسي، وأثناء قيادتي لحراسة منزل الرئيس مرسي بالتجمع الخامس، عملت على شحن الجمهور وتقديم الوعود لهم بمساعدتهم على اقتحام بيته في حال اقتحام المتظاهرين الآخرين قصر الاتحادية.

وأكد الجوهري أن خطة الشرطة كانت الانسحاب الكامل من أمام منزل الرئيس، ثم تسهيل إلقاء القبض عليه. 

وجرت إحالة الجوهري للمعاش وسافر إلى قطر بعد الانقلاب العسكري عام 2013، وخرج في القنوات الإعلامية يتحدث عن سلوك ضباط الداخلية والأجهزة الأمنية ضد الرئيس والمتظاهرين المعارضين للانقلاب. 

لكن وافته المنية في 2 مايو/أيار 2015، في مستشفى الوكرة في الدوحة، ووري الثرى هناك بعيدا عن وطنه. 

أيمن عبد الغني 

ومن ضمن الذين مضوا في صفوف الراحلين خلال غربتهم القسرية، المهندس أيمن عبد الغني، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، وأمين شباب حزب الحرية والعدالة. 

ولد عبد الغني في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1964 بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وتلقى تعليمه الأولي هناك.

والتحق بكلية الهندسة جامعة الزقازيق ويتخرج فيها عام 1986 بقسم الهندسة المدنية، بعدها عمل في شركة المقاولين العرب.

وعبد الغني كان خلال فترة دراسته من رموز الحركة الطلابية المصرية، بصفته رئيسا لاتحاد طلاب كلية الهندسة. 

وقد اعتقل عدة مرات خلال حكم مبارك، أولها في عام 1986 عندما خرج في مظاهرات داعمة للجندي المصري سليمان خاطر، الذي قتل 7 جنود إسرائيليين على الحدود. 

وقدم للمحاكمات العسكرية عام 2006 في القضية المعروفة آنذاك بـ “أحداث الأزهر” وحكم عليه بالسجن 3 سنوات. 

وعرف عن عبد الغني اهتمامه بالشباب، وكان نائب مسؤول قسم الطلبة بجماعة الإخوان المسلمين. 

وبعد الانقلاب العسكري والتنكيل بجميع التيارات السياسية المعارضة، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، استطاع عبد الغني الإفلات من قبضة أجهزة الأمن، والوصول إلى قطر.

بعدها استقر في تركيا، ومارس نشاطه الدعوي والتربوي مع الشباب إلى أن توفي بإسطنبول، متأثرا بمضاعفات فيروس كورونا في 11 ديسمبر 2020.

ودفن عبد الغني في إسطنبول ليظل قبره شاهدا على رموز الحركة الإسلامية والوطنية الذين هاجروا وماتوا في غربتهم. 

محمد أبو الغيط

ومن الشباب الذين ماتوا في الغربة وتركوا أثرا عميقا، الطبيب المصري محمد أبو الغيط، الذي رحل بعد صراع مع المرض في 5 ديسمبر 2022، بالعاصمة البريطانية لندن، عن عمر ناهز 34 عاما.

أبو الغيط، من الصحفيين الاستقصائيين، الذين حصلوا على جوائز محلية ودولية عديدة من أبرز المؤسسات الصحفية في العالم، نظرا لأعماله التوثيقية المهمة، وامتلاكه أسلوبا فريدا وآسرا في الكتابة.

ويمثل الصحفي المصري طليعة شباب جيل ثورة 25 يناير، حيث شارك فيها ونظر لها، شهد جذوتها وأفولها، وتذوق حلاوة انتصاراتها، وتجرع مرارة هزائمها.

وقد أسهم خلال مسيرته بتحقيقات استقصائية جماعية عدة، أهمها تحقيق مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد مع 163 صحفيا حول العالم لجمع وتعريب وتحرير ونشر التسريبات السويسرية “Swiss Leaks” التي كشفت تفاصيل الحسابات الخارجية لشخصيات بارزة، بينهم رؤساء وملوك.

وفي عام 2020، حصل على جائزة “فستوف” الأولى عن فئة المساهمة في صناعة السلام، مع الصحفيين نيك دونوفان وريتشارد كنت، عن تحقيقهم التمويل السري لـ”قوات الدعم السريع” السودانية (مليشيات الجنجويد).

وفي عام 2021، حصل على جائزة “مؤسسة هيكل للصحافة العربية”، عن تحقيقاته حول قضايا اليمن وسوريا.

وجاء تكريمه الأخير قبل وفاته بأيام، من “منتدى مصر للإعلام”، الذي يعقد سنويا في القاهرة للبحث في التنمية والتطوير الإعلامي، وقد عده أبو الغيط “تكريما خاصا” لأنه جاء من بلده وزملائه.

وكان أبو الغيط قد قرر مغادرة مصر سيرا على نهج كثير من رواد مهنة الصحافة، عقب الانقلاب العسكري لعبد الفتاح السيسي، بسبب التضييق على الحقوق والحريات والعمل الصحفي الرافض للانقلاب.

فذهب أبو الغيط في غربته إلى لندن وبدأ يلمع بقوة كصحفي بارز خلف كثير من القصص المهنية والإنسانية، حتى أصيب بمرض السرطان ورحل بعد أشهر من المعاناة وثقها في كتابه الأخير “أنا قادم أيها الضوء”.

ليضيف اسمه إلى القائمة الطويلة من الشخصيات البارزة وآخرين رحلوا بعيدا عن وطنهم خلال 10 سنوات أطلق عليها “العشرية السوداء” لحكم العسكر وعبد الفتاح السيسي في مصر. 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

الفارق بين زعامتين :  عبد الناصر والبغدادي

كان البغدادي يمتاز عن كل زملائه من رجال الثورة جميعا بالقدرة الفذة ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com