الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (الخاتمة)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (الخاتمة)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الخاتمة

الخاتمة

(1)

كان النحاس باشا مفعما بروح الثورة منذ شبابه الباكر، وكان حريصًا علي العلم والتفوق فيه وخدمة وطنه به، كما كان حريصًا علي كرامته، وكرامة زملائه، وقد عُرضت عليه مبكرًا فكرة اختياره طالبا بالمدرسة الحربية ليتخرج ضابطا بعد فترة قصيرة، فرفض قبول الفكرة لأنها كانت تحول بينه وبين استكمال الدراسة الثانوية وما يليها.

وبعد أن أتم النحاس دراسته الحقوقية التحق بسلك القضاء، وظهر ميله إلي مبادئ الحزب الوطني (حزب مصطفي كامل ومحمد فريد) بعض الوقت، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولي كان النحاس أحد أعضاء الوفد الذي تشكل للمطالبة باستقلال مصر عن بريطانيا والتوجه من أجل ذلك إلي العاصمة الفرنسية باريس، حيث انعقد مؤتمر الصلح، وبعد رفض بريطانيا السماح لأعضاء الوفد بالسفر وقبضها علي سعد زغلول ورفاقه، اندلعت ثورة 1919 التي اشترك فيها النحاس، وما لبث أن أصبح من أبرز أنصار سعد، وفي عام 1921 نفي مع سعد إلي «سيشل»، ثم عاد إلي مصر في عام 1923 بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي منح مصر استقلالا مع أربعة تحفظات، وحين أجريت الانتخابات البرلمانية طبقا لدستور 1923 رشح النحاس نفسه عن دائرة سمنود مسقط رأسه، ففاز بعضوية البرلمان، واختاره سعد وزيرًا للمواصلات في وزارته (يناير 1924).

(2)

وكما وقف الإنجليز ضد تشكيل سعد زغلول للوزارة الائتلافية في 1926، فإنهم وقفوا ضد اختيار النحاس وزيرا في تلك الوزارة، وهكذا أصبح النحاس وكيلا للبرلمان الثالث الذي رأسه سعد زغلول.

وبذا كان النحاس عند وفاة الزعيم سعد زغلول هو الرجل الثاني في الوفد بعد سعد زغلول، فهو وكيل البرلمان الذي رأسه سعد زغلول، وقد خلفه في رياسة البرلمان بالفعل، وهو السكرتير العام للوفد، وهو المنصب الثاني في الوفد في ذلك الوقت.

وفي أول تصريح صحفي أدلي به النحاس بعد توليه زعامة الوفد، أكد أن الاستقلال التام هو غايتنا، والعمل له هو موضوع جهادنا، وهو الذي أكدنا عليه عهدنا.

(3)

كان الوفد هو حزب الأغلبية الساحقة، أو حزب الأمة، ولما كانت الأمة هي مصدر السلطات كما تنص علي ذلك الأدبيات الدستورية، فقد كانت طبيعة الأشياء تقضي بأن يتولي الوفد بزعامة مصطفي النحاس الحكم في مصر لسنوات طويلة، ولكن واقع الأمر أنه علي امتداد ثمانية وعشرين عاما من ١٩٢٤ إلي ١٩٥٢ لم يتول الوفد الحكم منفردا أكثر من ثماني سنوات، أي أن الأمة لم تحصل إلا علي ما يوازي ربع حقوقها الديمقراطية في حكم نفسها بنفسها، ومن العجيب أن الذي نعوا علي حقبة الليبرالية هذا الظلم لم ينتبهوا إلي أن هذا الوضع كان أفضل إذا ما قورن بما حدث بعد الثورة حين لم تنل الأمة هذا الحق.

علي أن هذا الإبعاد المتعمد عن مواقع المسئولية لم يمنع الوفد (والنحاس باشا) علي رأسه من ممارسة سلطته الشعبية في مواجهة القصر وفي مواجهة الإنجليز، سواء أكان هذا من خلال الصحافة أم عن طريق اجتماعات الشيوخ والنواب خارج البرلمان، وقد ظلت شعلة الكفاح الوطني متأججة بفضل زعامة النحاس حتي قيل إن «الوفد كان خارج البرلمان أقوي منه داخله»، ويرجع جزء كبير من الفضل في هذا إلي النحاس باشا وشخصيته وزعامته.

لم يعبأ النحاس باتهامه المبكر بالتطرف، ويروي أنه في نفس اليوم الذي أعلن فيه رسميا اختياره زعيما للوفد، ألقي خطابا ملتهبا معاهدا الأمة علي «أن نسير في طريقنا المرسوم حتي تنال البلاد غايتها من الاستقلال التام الصحيح، والحرية الكاملة».

(4)

في مارس 1928 تولي النحاس رئاسة الوزارة لفترة قصيرة ما لبث الملك فــؤاد أن أقاله بعدها، وخلال عهد وزارة محمد محمود «الحديدية» أمكن للنحاس أن يحافظ علي ولاء حزب الوفد برغم بدء ظهور ما يمكن أن يطلق عليه تحفظات الجناح المعتدل.

وفي أوائل عام 1930 تولي النحاس رئاسة الوزارة من جديد (بعد فوز الوفد في الانتخابات) وأجري مفاوضات جادة مع الإنجليز ما لبثت أن فشلت علي صخرة السودان، وحينئذ قال النحاس قولته المشهورة: «خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز». ثم أقيل النحاس للمرة الثانية، وجاءت وزارة إسماعيل صدقي التي ألغت دستور 1923، وحينئذ اشترك الوفد مع حزب الأحرار الدستوريين والقوي السياسية الآخري في التصدي لوزارة صدقي بكل الوسائل المتاحة إلي أن اختفي صدقي عن المسرح في عام 1933، وحينئذ نشط النحاس والوفد في المطالبة بإعادة دستور 1923، وهو ما تم في أواخر عام 1935، وفي العام التالي حصل الوفد علي أغلبية كبيرة في الانتخابات، وترأس النحاس الجبهة الوطنية التي ضمت كل الأحزاب وتفاوضت مع بريطانيا حول عقد معاهدة بين الطرفين نصت علي الاستقلال، وحددت علاقة مصر ببريطانيا (وهي معاهدة 1936).

(5)

وقد واصل النحاس جهاده الوطني بعد توقيع معاهدة 1936، ورد النحاس في بلاغة وحكمة علي ما كانت تشيعه أحزاب الأقلية في أثناء مفاوضات معاهدة 1936 وبعدها من أن مهمة الوفد تنتهي بإبرام المعاهدة، وذلك استنادا إلي ما تصرح به المادة الرابعة من قانون الوفد التي تقضي بأن الوفد يقوم ما دام العمل الذي انتدب لأجله قائما، وينفض بانفضاضه، وقد عبر الأستاذ فكري أباظة عن هذه الفكرة بعد المعاهدة علي صدر مجلة «المصور» بصورة كاريكاتورية تمثل النحاس باشا وهو يقدم لمصر المعاهدة قائلا: «ها قد أمضيت المعاهدة، وانتهت مهمتي، فاقبلي منا هذه الهدية».

واستمر النحاس يمارس زعامته، كما تولي رئاسة الوزراء في بداية عهد فاروق (36 ـ 1937) ووسطه (42 ـ 1944)، ونهايته (1950 ـ 1952).

(6)

ورغم ما سجله كثير من المؤرخين من بعض مآخذ علي النحاس وممارسته للحكم، فإن معظم هؤلاء يعترفون بأنه وفر للبلاد زعامة كان لها وزنها في سياسة البلاد، ولهذا فإنه احتل المكانة المتقدمة اللائقة به في قائمة الزعماء الوطنيين الذين كافحوا في سبيل الاستقلال والديمقراطية.

(7)

وقد أفرط كثير من المؤرخين والكتاب في الحديث عن خطورة الانشقاقات التي حدثت للوفد في عهد النحاس في 1932 و1937 و1942، والواقع أن هذه الانشقاقات تمثل أمرا طبيعيا في كل الأحزاب السياسة في العالم كله، لكن عقلية المصريين في تصور الإجماع الساحق ونسبة الـ 99٪ هي التي زادت من قيمة هذه الانشقاقات، وجعلتها أمرا مثيرا لاهتمام الكتاب والمؤرخين.

ومن الطريف أن انشقاقين من هذه الانشقاقات وهما 1937 بقيادة أحمد ماهر والنقراشي، و1942 بقيادة مكرم عبيد، قد وقعا في أثناء وجود الوفد في الحكم، ورئاسة النحاس للوزارة، وهو أمر يحسب للنحاس الذي مكن خصومه من الانشقاق عليه بينما كانت السلطة في يده!!

ومع أن ماهر والنقراشي كانا أقرب إلي التعقل في انشقاقهما، فإن مكرم عبيد مضي في خصومته إلي الحد غير المعقول، ولم يكن يدري أنه أصبح ألعوبة في يد القصر، وما لبث أن ندم بعد ذلك وحاول بشتي الطرق أن يسترجع مكانته السابقة دون جدوي، كما أن النحاس لم يصفح عنه أبدا.

(8)

ويكفي النحاس باشا ما شهد له به معارضوه، فأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي لم يكن من أتباعه يومًا من الأيام وصف إلغاء المعاهدة في ١٩٥١ بأنه عمل جليل وخطير، وقال لأحد مندوبي الصحف الذي سأله عن رأيه في إلغاء المعاهدة:

«ماذا تريد من رأي في عمل جليل وخطير انعقد الإجماع عليه ولبث ينتظر الخطوة الجريئة لإنفاذه حتي خطت الوزارة الحاضرة هذه الخطوة الموفقة بإذن الله. أما بالنسبة للآثار المترتبة علي الإلغاء فلم تترك الوزارة شيئا في هذا السبيل، لقد قدرت للأمر خطورته فدبرت له من التدابير ما يغني عن كل رأي في هذا السبيل».

وكذلك كان رأي المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، وهو أكثر المؤرخين عداء للوفد، فيما يتعلق برأيه في إلغاء المعاهدة (١٩٥١) حيث قال:

«إن إلغاء معاهدة سنة 1936 في ذاته عمل جدير بالتنويه والتقدير ويشرف الحكومة التي أقدمت عليه، ولقد كانت له نتائجه المهمة في بعث الكفاح الوطني، وتقوية الروح المعنوية، وتردد صداه في مصر والشرق وفي أنحاء العالم كافة، وهو أهم وأعظم عمل قامت به وزارة الوفد».

(9)

ليس من الإنصاف لتاريخنا أن نقول ما قال به كثيرون من أن النحاس كان سيئ الحظ في بعض الذين اصطفاهم من الرجال الثواني في الوفد، ذلك أننا لو أحصينا الذين خرجوا علي النحاس والذين بقوا معه لوجدنا كفة الذين خرجوا لا تكاد تذكر بجانب مَنْ بقوا.

والواقع أن الرجال الثواني الذين ابتعدوا عن النحاس قد ظلموا أنفسهم ظلمًا كبيرًا، ومن العجيب أن حقائق التاريخ لا تكاد تذكر أن الوفد قد خسر بابتعادهم شيئا يذكر، بل لا يكاد التاريخ يذكر أيضًا أن الوفد قد خسر من جراء عداوتهم للوفد شيئا يذكر، بل ربما تأكد بخروجهم ومعاداتهم للوفد أن الحركة السياسية كلها تدور حول الوفد والوفد وحده، سواء من بقي فيه ومن خرج عنه.

(10)

وكان النحاس باشا حريصًا علي الوفاء لذكري كل الذين عملوا معه في الوفد المصري والحكومة وغيرها، وليس أدل علي هذا من موقفه من أمين عثمان الذي أريقت علي سمعته كثير من الاتهامات التي لا تزال تغذي.

وفي مذكرات النحاس فقرة رائعه الإنصاف كتبها زعيم الأمة في حق أمين عثمان عقب اغتياله:

«وللحق وللواقع أقرر أن أمين عثمان، وقد أصبح الآن في جوار ربه، لم يكن خائنًا ولا مبغضًا لبلاده ولا متعصبًا لإنجلترا ولكنه كان يؤمن بأن بريطانيا بلد قوية بأساطيلها وعدتها وعتادها، وإن من مصلحة مصر أن تكون صديقة لها حتي تقوي وكان يعمل جهده علي هذا، وقد سبق لبعض أبنائنا وإخواننا أن ظنوا فيه هذا الظن، فلما عاشروه عرفوا إنه يتكلم عن اقتناع، ولو قدر لأمين أن يعيش حتي يري عنت إنجلترا وتمسكها باستعمارها وعدم جلائها عن بلاده لكان له موقف غير هذا الموقف، ولقد كانت فجيعتي فيه كبيرة، لا لأنه كما يدعي المغرضون كان همزة وصل بيني وبين الإنجليز، ولكن لأنه كان رجلًا فيه كثير من الصفات الطيبة والأخلاق الكريمة، يرحمه الله ويتجاوز عن سيئاته».

(11)

ومن الإنصاف للتاريخ ولأنفسنا أن نشير إلي أن زعامة النحاس كانت من النوع القادر علي توسيع دائرة مظلتها لتشمل كثيرًا من الزعماء الشبان، وليس أدل علي هذا من وجود أسماء كثيرة عاشت ونشطت وأثمرت في ظل النحاس، وظل عطاء بعضها ممتدا حتي ما بعد وفاته بسنوات طويلة، وقد كان من هؤلاء عثمان محرم، وعبد الفتاح الطويل، ويوسف الجندي، وعلي زكي العرابي، وعبد السلام فهمي جمعة، ومحمد صبري أبو علم، ومحمود سليمان غنام، ومحمود بسيوني، ومحمد صلاح الدين، وإبراهيم فرج، وفــؤاد سراج الدين، فضلا عن شبان من طبقة الدكتور عزيز فهمي، والدكتور محمد مندور.

وهذا فضلا أيضًا عن الزعماء الذين تولوا زعامة الانشقاقات المتتالية من قبيل علي الشمسي، ومحمد نجيب الغرابلي، وفخري عبد النور، ومحمد فتح الله بركات، ومحمد بهيّ الدين بركات، ثم أحمد ماهر، والنقراشي، وإبراهيم عبد الهادي، ومحمود غالب، ونجيب إسكندر، ثم مكرم عبيد، ثم أحمد نجيب الهلالي، وعبد الحميد عبد الحق، والدكتور أحمد حسين.

هذا فضلًا أيضًا عن رجال ذي وزن من طبقة طه حسين، وأحمد حسين، وحامد زكي، وزكي عبد المتعال.

(12)

ومن الصدف الطريفة في حياة النحاس القضائية علاقته بثلاثة من أسلافه رؤساء الوزارة في مصر، فهو قد عين قاضيا بناء علي قرار واختيار عبد الخالق ثروت باشا، كما أنه حين وقعت قضية محمد محب باشا في دائرته وطلب المندوب السامي من رئيس الوزراء رشدي باشا أن يتحدث مع مصطفي النحاس في هذا الموضوع، فإن رشدي باشا رفض أن يقوم بهذا الدور لأنه أعلم بشخصية مصطفي النحاس، وظل رشدي باشا علي إصراره في ألا يتحدث في هذا الموضوع بتاتا، كما رفض أن يطلب من رئيس المحكمة نقل القضية إلي قاض آخر بدلًا من مصطفي النحاس. وقد صرح رشدي بهذا للنحاس في أثناء نظر قضية الأمير سيف الدين، الذي كان مصطفي النحاس وكيلا عنه، وكان رشدي باشا رئيسا لمجلس البلاط الملكي بالنيابة عن الأمير محمد علي ولي العهد لغيابه. أما سعد زغلول فقد كان هو وزير العدل سنة 1909 حين وقع الخلاف الشهير بين النحاس وصالح حقي باشا، وكان هذا الخلاف بداية معرفة الزعيمين.

وكانت رئاسة النحاس للوزارات واسعة الأفق ولم يكن من الذين يبخسون قدر غيره من السياسيين، وفي عهد وزارته الثانية (1930) عُين سلفه عدلي يكن باشا رئيسًا لمجلس الشيوخ، وهو الذي أجري الانتخابات التي جاءت بالوفد للحكم، كما انتخب زميله ويصا واصف رئيسًا لمجلس النواب.. وهكذا.. وهكذا..

(13)

ومن الواضح أن النحاس كان شأن البشر الطبيعيين يحس بالراحة النفسية حين يتخلي عن الحكم، وكان يرضي نفسه بأنه أجبر علي أن يترك المسئولية بيد غيره لا بيده، وربما كان النحاس في أربع مرات من المرات الخمس التي ترك فيها رئاسة الوزارة أسعد حالا حين ترك الحكم من الذين تولوه خلفا له، أما في المرة الأولي فقد كان النحاس لا يزال يحسن الظن بالناس ولم يكن بعد قد عرف حجم المكائد والألاعيب الصغيرة، ولم يكن يعرف علي وجه التحديد الدقيق من أين تأتيه المؤامرات التي أنهت حياة وزارته الأولي وأنهت معها حياة الائتلاف بطريقة لا تمت للأخلاق بأية صلة.. وقد شعر النحاس ـ في ظني ـ يومئذ بمرارة شديدة، لكنه لحسن الحظ تخلي عن الشعور بالمرارة بعد هذا في كل مرة كان يخرج فيها.

وحتي نعرف قدر النحاس في نفوس معاصريه فيكفينا ـ علي سبيل المثال ـ أن نعرف مَنْ هم الذين خلفوه في كل انقلاب دستوري تم لإخراجه من الحكم، وقبل أن نعرف هؤلاء ينبغي أن نتأمل مغزي القصة الشائعة والقريبة من الحقيقة التي تقول إن أحمد نجيب الهلالي اعتذر عن تولي الحكم خلفا للنحاس مباشرة في ١٩٥٢، وطلب أن يأتي علي ماهر أولا ليمهد الجو!

أإلي هذا الحد كانت مكانة النحاس حتي في نفوس مخالفيه؟

ونتأمل بعد هذا الذين خلفوا النحاس:

جاء محمد محمود نفسه وهو أحد أقوي «اللانحاسيين» خلفا للنحاس في مرتين من المرات الخمس (الأولي والثالثة).

وجاء إسماعيل صدقي وهو ثاني أقوي اللانحاسيين (أو هو الأول مكرر) في المرة الثانية.

 ومع هذا فقد قبل هذان الرجلان الكبيران فيما بعد أن يعملا تحت رئاسة النحاس في هيئة المفاوضات التي تمكنت من الوصول إلي توقيع معاهدة ١٩٣٦.

وجاء أحمد ماهر في المرة الرابعة وهو يومئذ أقوي اللانحاسيين، وكان يمهد له منذ ١٩٣٧ وطيلة هذه الفترة.

وأخيرا في 1952 جاء علي ماهر بكل حنكته وماضيه.

وهكذا كان من حق الهلالي أن يفكر ألف مرة قبل أن يخلف النحاس مباشرة حين عرض عليه هذا المنصب في يناير 1952!!

(14)

وقد تحمل النحاس كما رأينا، علي مدي صفحات هذا الكتاب، ما تنوء به الجبال من حقد الآخرين وغدر المقربين، وفي الوجدان المصري كثير من الصور التي احتفظت بها الجماهير للدلالة علي هذا، وقد بقيت قضية سيف الدين بمثابة أبرز مثل للحقد المكثف الذي تقود إليه الكراهية ويقود إلي الضلال علي الرغم من علم أعداء النحاس ببراءة موقفه وسلامة تصرفاته، ولكنها كانت في نظرهم محاولة جريئة تستحق الطبل والزمر وإطالة الخصومة حتي لو أنها في النهاية ـ وكما حدث بالفعل ـ باءت بما تستحق من فشل!!

وكي ندرك نموذجًا لما استخدم ضد النحاس باشا في هذه المعركة من أسلحة دعائية وألفاظ ومفتريات، يكفي أن نذكر أن اللدد وصل بأحمد شرف الدين رئيس نيابة الإسكندرية إلي أن يقول في مرافعته ضد النحاس باشا: «إنه وصل إلي ما وصل إليه في غفلة من الزمن».

(15)

ويتصل بموقف النحاس من كبار الساسة المعاصرين له ما يرويه هو نفسه عن موقف طريف حين خرج من بيته يودع عدوه اللدود إسماعيل صدقي باشا بعد انضمامه إلي الجبهة الوطنية التي أنيط بها عقد معاهدة 1936:

«… عند انتهاء الاجتماع خرجت أودع الأعضاء إلي باب الدار وقد شاهدني بعض الزائرين وأنا أودع صدقي باشا حتي سيارته فابتسموا وتقدم إليّ واحد منهم وقال أليس من سخرية القدر أن تودع إلي باب الدار رجلًا دبر لقتلك أكثر من مرة وأساء إليك وإلي أغلبية الأمة أكبر إساءة، ومنع سعد من أن يدفن في القبر الذي أعد له وفضل عليه مومياوات قدماء المصريين. فابتسمت وقلت له يرحم الله سعدًا لقد قال: إن الوطن غفور رحيم ، وأنا أقول من أجل مصلحة البلاد تهون كل التضحيات وتنسي جميع الإساءات».

(16)

وفي مذكرات النحاس باشا فقرة طريفة يعجب فيها من أن يكون سري رئيسًا للوزراء في 1941، وأن يتولي حضور الحفل بذكري توقيع معاهدة 1936، وهو الذي لم يكن له أي شأن أو ذكر فيها:

«وافق اليوم ذكري توقيع معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا التي وقعناها في مثل هذا اليوم في لندن في قاعة لوكارنو بوزارة الخارجية البريطانية، وقد أعلنت الحكومة أن هذا اليوم عطلة، جريًا علي ما سار عليه العمل منذ توقيع المعاهدة إلي الآن، وقد أقامت الحكومة حفلة شاي في سراي الزعفران احتفالً بهذه الذكري حضرها رئيس الوزراء والوزراء، ليت شعري ماذا كان شعور سري باشا وهو يستقبل المهنئين وماذا قال لهم بهذه المناسبة وهو لا يعلم عنها لا قليلًا ولا كثيرًا»،

(17)

ومن الطريف أن الأحزاب عندما جاءت لتأتلف في أكتوبر ١٩٤٤، شكلت وزارة ائتلافية كبيرة، وقد خصصت أربعة مقاعد في هذه الوزارة لأربعة وزراء من السعديين كان ثلاثة منهم قد عملوا بالفعل وزراء في وزارات الوفد وتحت رئاسة النحاس، بينما لم يكن الرابع قد وصل إلي هذا المجد بعد، وإن كانت شخصيته تسمح له، وقد سمحت له بالفعل بهذا في مرحلة تالية، وقل مثل هذا عن باقي الوزراء، فقد كانت هناك أربعة مقاعد للكتلة، وكان زعيم الكتلة نفسه سكرتيرا للوفد، وكانت هناك أربعة مقاعد للأحرار الدستوريين، وقد بدءوا نشاطهم في الوفد نفسه، وكان هناك مقعدان لاثنين من أعضاء الحزب الوطني، وكان النحاس أسبق منهما بكثير في مكانته في الحزب الوطني. وهنا ربما نتساءل سؤالا تقريريا: هل كانت الوزارات التي تلت الحرب العالمية الثانية إذًا مجرد وزارة «لا نحاسية» فحسب، ألهذا الحد وصل حضور هذا الرجل وهذا الزعيم في الحكم، وفي المعارضة علي حد سواء.

(18)

ومن الطرائف التي تدل علي أن النحاس باشا كان رجل سلام ووفاق، أنه لما حدث الخلاف المبكر بينه وبين الملك فاروق حول تعيين رئيس الديوان ورفض الملك تعيين عبد الفتاح الطويل، أخذ النحاس يعرض أسماء أخري، وهنا تكمن الطرافة، وهي أن هذه الأسماء بالذات أصبحت فيما بعد هي الأسماء المفضلة عند الملك فاروق في نهاية عهده، حتي إن أولهم شغل منصب رئيس الديوان، وثانيهم شغل منصب رئيس الوزارة!! وكان النحاس قد اقترح تعيين الدكتور حافظ عفيفي الذي كان يشغل منصب سفير مصر في لندن حينذاك، ولم يكن وفديا وإنما كان مستقلا، ثم أحمد نجيب الهلالي الذي كان مستقلا وأصبح وفديا، ثم أمين يوسف الذي كان يشغل منصب وزير مصر المفوض في واشنطن، ولكن فاروق رفض هذه الأسماء كلها وأعلن بصريح العبارة أنه «سوف يعين مَنْ يشاء، في أي وقت يشاء، وهو ما حدث بالفعل بتعيين علي ماهر باشا رئيسا للديوان الملكي، اعتبارا من يوم 20 أكتوبر ١٩٣٧».

تواريخ مهمة في حياة النحاس باشا

15 يونيـو    1879       ميلاده

            1891           حصوله علي الابتدائية

            ١٨٩٦           حصوله علي الثانوية

            ١٩٠٠           تخرجه في مدرسة الحقوق

23 نوڤمبر   1918       التصديق علي قانون الوفد (النظام الداخلي)

8 مـارس    1919                     اعتقال سعد وثلاثة من رفاقه ونفيهم إلي مالطا

     11 إبـريـل  1919               سفره مع أعضاء الوفد المصري إلي بورسعيد ومنها إلي مالطا للقاء سعد زغلول والسفر إلي باريس لحضور مؤتمر الصلح

       2 يونيــو  1919               محمد سعيد باشا يقرر فصل النحاس من القضاء لسفره مع أعضاء الوفد دون إجازة، ويتقرر له معاش 15 جنيهًا شهريًا

23 ديسمبر 1921                    اعتقاله مع سعد زغلول وآخرين ونفيهم إلي سيشل

      1 يونيــو    1923              الافراج عن مصطفي النحاس وزملائه المعتقلين في جزيرة سيشل، وقد عادوا إلي مصر فاستقبلهم الشعب بترحاب شديد

19 سبتمبر ١٩٢٧                     رئيسا للوفد المصري

24 سبتمبر ١٩٢٧                     أول اجتماع للوفد المصري برئاسته

17 نوڤمبر ١٩٢٧                     رئيسا لمجلس النواب خلفًا لسعد زغلول

16 مـارس ١٩٢٨                     وزارته الأولي

25 يونيــو ١٩٢٨                     إقالته من وزارته الأولي

١ ينايــر     ١٩٣٠                    تشكيل وزارته الثانية

17 يونيـو ١٩٣٠                      استقالته من وزارته الثانية

8 يوليــو 1930                       محاولة اغتياله في المنصورة

10 يونيو 1934                       زواجه

9 و 10 يناير 1935      عقد أول مؤتمر عام للوفد المصري

٩ مايـو         ١٩٣٦     وزارته الثالثة (في عهد مجلس الوصاية)

26 أغسطس 1936       توقيع معاهدة 1936

31 يوليــو  1937         وزارته الرابعة (بعد تولي فاروق)

28 نـوڤمبر 1937         محاولة اغتياله برصاص عز الدين عبد القادر

30 ديسمبر ١٩٣٧                    إقالة وزارته الرابعة

٤ فبرايـر    ١٩٤٢                    تشكيله وزارته الخامسة

26 مايـو   1942                     استقالة وزارته الخامسة وتشكيل وزارته السادسة

10 يوليـو 1943                      إصدار قانون استقلال القضاء

14 نوڤمبر 1943                     احتفال الوفد بعيده الفضي برياسة النحاس

           نوڤمبر ١٩٤٣              أعلن انضمام مصر إلي مبادئ ميثاق الأطلنطي.

       25 سبتمبر 1944                اجتماع اللجنة التحضيرية للجامعة العربية برياسته وحضرهامندوبون عن سوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن

7 أكتوبـر     1944      توقيع بروتوكول جامعة الدول العربية بالإسكندرية

٨ أكتوبـر    ١٩٤٤                   إقالته من وزارته السادسة

12 ينايـر   ١٩٥٠                     تشكيله وزارته السابعة والأخيرة

21 ديسمبر 1950                      إغلاق مضيقي تيران في وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية

15 أكتوبـر 1951                    موافقة البرلمان علي إلغاء معاهدة 1936

27 ينايـر    ١٩٥٢                    إقالة وزارته الأخيرة

16 ينايـر   1956                     الثورة تقرر إلغاء الأحزاب

24 أغسطس 1965       وفاته

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com