زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
النحاس وثورة يوليو 1952
(1)
ليس في إمكان العقل البشري أن يتصور موقفا لزعيم وطني من ثورة عسكرية أفضل ولا أنبل ولا أرقّ من موقف النحاس من ثورة 23 يوليو ١٩٥٢.
فقد أدي الرجل كل ما عليه من واجب وبروتوكول لهذه الثورة، قام بنفسه بزيارة ضباطها في مقر قيادتهم، ولم يمانع في الاستجابة للإجراءات الأولي التي طالبوا بها، وترك الثورة تمارس شهوة الانتقام منه ومن زعامته، دون أن يسمح لنفسه بأن تنفعل بهذا الذي تمارسه الثورة، وأبدي إعجابه ببعض نواحي الحسم والقدرة في أداء الثورة، كما أبدي سعادته بإتمام اتفاقية الجلاء في 1954، وأبدي وطنية فائقة في 1956 دون أن يصيبه ما أصاب غيره من انهيار، ولا ما أصاب بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة نفسه من رغبة في التسليم (!!) أو الانتحار.
(2)
يروي الرئيس محمد نجيب نفسه في مذكراته موقف النحاس من المحاولة المبكرة لثورة يوليو التي استهدفت تقليص دوره وجحود قيمته:
«أصدر النحاس بيانا إلي الشعب ذكر فيه أنه: يعد نفسه دائما ملكا للشعب، وأن ثقته في الشعب، وثقة الشعب في شخصه طوال حياته السياسية، كانتا عونه علي الشدائد وظهيره في العيش، وأنه سيظل ما بقي من عمره ملكا لهذا الشعب الوفي، ولن تستطيع قوة أن تنحيه عن هذه المكانة بعد الله جلت قدرته إلا الشعب دون سواه».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
وقد أثر هذا البيان في محمد نجيب تأثيرا شديدا عبر عنه في مذكراته بقوله:
«من الذي يملك انتزاع هذا الرجل من مكانه في رئاسة الوفد؟ وهل اعتراض سليمان حافظ علي رئاسته للوفد سيؤدي إلي انتزاعه من قلوب الناس؟ لقد تبينت أننا نكاد نقبل علي طريق غير طريق الديمقراطية».
هكذا قال محمد نجيب نفسه بعد فوات الأوان.
(3)
وقد نبه إبراهيم فرج إلي بعد نظر النحاس فيما يتعلق بموقفه من الثورة عند قيامها، وكيف أن النحاس ـ علي نحو ما عرف ـ لم يكن متفائلا بوصول العسكريين إلي السلطة، وذلك علي الرغم من أن معاونيه ومنهم إبراهيم فرج نفسه لم يكونوا ينظرون إلي الأمور نظرة التحفظ التي أبداها النحاس منذ اليوم الأول.. وسننقل للقارئ مقتطفات مما أورده إبراهيم فرج في هذه المذكرات:
«لما عدنا إلي بيت النحاس باشا من مقابلة مجلس قيادة الثورة يوم 26 يوليو، كان الليل قد انتصف وقال لنا:
«لست آمل خيرا في هذا الانقلاب. فالحقيقة أن الدستور والديمقراطية في مصر يهددهما أبلغ الأخطار. ثم أخذت الأمور تتكشف شيئا فشيئا. من تقارب وتباعد، وتصريحات متعارضة منقولة من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.. إلي أن طلب أحمد أبو الفتح من النحاس باشا أن يقوم بعملية تقارب لبحث الموقف معهم.. فقال له النحاس باشا: إنه يوافق عندما تبدو لنا أمارات تدل علي أنهم سائرون في الخط الذي رسمناه للديمقراطية في مصر.. أما إذا ذهبت إليهم دون أن تبدو دلائل تدل علي أنهم سيحترمون الدستور والديمقراطية فهذا عبث.. لأنني سأبدو وكأنني أؤيد نظاما عسكريا دكتاتوريا».
(4)
وربما كان من المفيد أن ننتقل في تصوير علاقة النحاس برجال الثورة إلي ما روته المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا عن آخر حوار سياسي وثقته هذه المذكرات، وهو حوار النحاس باشا مع الدكتور طه حسين فيما بعد الانفصال بقرابة عام في أغسطس 1962، وقد وقع الانفصال في سبتمبر 1961، ونحن نري نفسية النحاس في هذا الحوار المروي غير قادرة علي تجاوز الغضب من سلوك الرئيس جمال عبد الناصر تجاهه، ومن العجيب أن المذكرات التي نشرتها دار العصور الجديدة (بتقديم أحمد عز الدين) لم تشر إلي ما أشار إليه المستشار طارق البشري بكل وضوح من أن المذكرات التي عرضت عليه وقرأها روت أن النحاس باشا طرد طه حسين:
تقول المذكرات:
«… ورأي عبد الناصر أنه في حاجة إلي تأييدي له بعد إخفاقه في الوحدة مع سوريا، ودعا طه حسين ولا يدري أحد ماذا قال له حتي إذا كان ذات يوم في شهر أغسطس سنة 1962 كنت في مصيفي بالإسكندرية، زارني علي غير موعد طه حسين ومعه سكرتيره فريد شحاته الذي كان يقرأ له ويقوده، واستقبلته ورحبت به وسألته عن السبب الذي حدا به إلي هذه الزيارة وهل هي زيارة مجاملة أم يقصد من ورائها أمرًا من الأمور لأن طه حسين منذ أن خرجت من منزلي بعد انتهاء تحديد إقامتي لم يتصل بي ولم يزرني».
«فقال طه: في الحقيقة إنها زيارة وتجارة، فضحكت وقلت: أما الزيارة فشكرًا لك عليها، وأما التجارة فما هي وما المراد منها، قال طه: إني أحمل إليك رسالة ورجاء، أما الرسالة فهي من الرئيس عبد الناصر ومضمونها أنه لم يسئ إليك ولم يحدد إقامتك إلا فترة تركك بعدها حرًا طليقًا وسحب الحراسة التي كانت علي منزلك ولم يحاكمك كما كان يريد بعض أعضاء القيادة فلماذا أنت معرض عنه، وأنا أضم صوتي إلي صوته وأرجو أن تعلن تأييدك أنت وزملائك الباقون من أعضاء الوفد إلي الثورة لأن مبادئها التي أعلنت ونفذت معظمها وهي شارعة في تنفيذ الباقي تتفق مع مبادئ الوفد واشتراكيتها التي تنادي بها هي في مجموعها نفس الاشتراكية التي دعت إليها ومجانية التعليم بجميع مراحله التي نفذها الوفد وقرر أن التعليم لازم للجميع كالماء والهواء.. كل هذه الأشياء لا تختلف في شيء مع مبادئ الثورة، فماذا يمنع من تأييدك لعبد الناصر».
«انتظرت عليه حتي انتهي من كلامه ثم قلت له: أفرغت من حديثك؟ اسمع يا سيدي ما تقوله أو ما يقوله عبد الناصر من أنه لم يسئ إليّ فهو غير صحيح لأن تحديد الإقامة والمراقبة ومنع الزيارة وتحريم الصحف من ذكر اسمي حتي في نعي الأموات إذ أنه منع الصحافة من أن تذكر اسمي في نعي أفراد أسرتي، أشقائي وشقيقتي، وأما إنه لم يحاكمني فليته قد فعل ولم يتعرض لزوجتي التي تحمل اسمي ويقدمها للمحاكمة بتهم واهية وأدلة كاذبة وجعل الجلسة سرية ولم يسمح للمحامين بحضورها وحتي المحامي أحمد رشدي الذي سمح له بالدفاع عنها منع من أن ينشر كلمة عن مرافعته أو ينقل محضرًا من محاضر التحقيق أو يشير من بعيد أو من قريب إلي هذه المحاكمة بخير أو بشر».
«فهل هذه الأعمال كانت تكريمًا لي وبعدًا عن النيل مني أم أنها أعمال صبيانية وتصرفات غير أخلاقية لم تتعفف الثورة بعلم عبد الناصر وبأمر منه أن تحاول إلصاقها إلي سيدة مهيضة الجناح ويحاكمونها ويحكمون عليها دون دليل ولا برهان إلا الشائعات وأشياء اقتبسوها من خصومي وأعدائي ونقلوها عنهم بلا تصرف ولا تعقل ولا مراعاة لكرامة ولا لخلق».
(5)
وتدلنا المذكرات التي رواها الأستاذ محمد كامل البنا عن النحاس باشا علي أن الزعيم الوطني الكبير كان علي وعي كامل برد الفعل الصائب الذي ينبغي عليه أن يتصرف به تجاه استفزازات عهد الثورة المتتالية، وقد مكنته زعامته وثقافته وحنكته أن يفعل كل الصواب حتي لو كان كريهًا (كالتخلي عن أموال الوفد) وأن يتجنب كل الخطأ حتي ولو كان مبررًا:
«لما صدر قانون إلغاء الأحزاب وإيداع ما لديها من أموال في خزينة الحكومة، كان لدي الوفد أكبر مبلغ من المال لأنه الحزب الكبير والمنظم، فاستجبت بادئ ذي بدء لهذا القرار وأمرت إبراهيم فرج أمين صندوق الوفد بسحب جميع الأموال المودعة لحسابه في البنوك ويسلمها للحكومة، وجاء بعض الأعضاء واقترحوا عليّ أن أسلم جزءًا ويبقي الآخر فرفضت وقلت: «لا أحب الغش ولا الكذب ولا اللف ولا الدوران، قانون صدر يجب أن ننفذه بحذافيره وطلب إيداع ما لدينا من مال فليودع كله».
«ونفذ إبراهيم فرج وأودع مبلغ تسعين ألف جنيه لخزينة الحكومة في حين أن أكبر حزب أودع ألوفًا تعد علي الأصابع».
«وكان الرئيس نجيب وهو علي رأس الوزارة لا يزال يتصل بي من وقت إلي أخر ويؤكد لي أن من مبادئ الثورة عودة الحياة النيابية نظيفة من كل شائبة، وكان سليمان حافظ وهو وزير الداخلية كان يري غير هذا، كان يري أن يلغي الدستور وتلغي الحياة النيابية ويوضع دستور جديد يتناسب مع الثورة الجديدة، وأعد فعلًا قانونًا بهذا الخصوص وقع عليه خلاف بين أعضاء الثورة أنفسهم ففريق يري أنه لم يحن الأوان بعد لمثل هذا القانون، وفريق يري أنه لا بد منه، وتغلب الفريق الثاني لأن سليمان حافظ ألقي في روعهم أن هذا هو الصواب».
«وعلقت علي هذا القانون بأن هذا العمل بداية انحراف للثورة عن مقاصدها وتورطها في ارتكاب أشياء لا تتفق مع المبادئ التي أعلنتها».
(6)
وفي مذكرات النحاس التي رواها محمد كامل البنا ما يدلنا علي أن النحاس باشا لم يغفر لسليمان حافظ سلوكه الفظ في معاملته في بداية عهد الثورة، ومع أنه يعرف أن سليمان حافظ لم يكن في النهاية إلا أداة لغيره، حتي وإن استلذ بما يفعل، فإنه لم يمانع في مناقشة الرئيس نجيب ونائبه الرئيس عبد الناصر في المشكلات التي أنشأتها مشورات سليمان حافظ الفاسدة ورغبات رجال الثورة في الاستيلاء السريع علي مقدرات الحياة السياسية في مصر:
«وقد أحس نجيب كما أحس عبد الناصر أن سليمان حافظ يتعمد الإطاحة بي وإبعادي عن كل عمل سياسي فرأيا أن يزوراني وفوجئت بهما يطلبان زيارتي واستقبلتهما مرحبًا، وقال نجيب إننا قصدنا من وراء هذه الزيارة أن نطمئنك علي أننا غير راضيين عن تصرفات سليمان حافظ وعن تحديه لك بالذات، وقال عبد الناصر إننا نخشي أن يدفعك تصرف سليمان حافظ الدال علي التشفي والانتقام إلي أن ينضم الوفد إن سرًا أو جهرًا إلي الشيوعية التي نحاربها ولا نثق بها، ونريد أن يظل الوفد علي تأييده للثورة التي لا تزال تصمم علي إعادة الحياة النيابية وتطهير الأحزاب وتشكيلها من جديد بأشخاص لا شبهة فيهم ولا اعتراض عليهم».
«وقد رددت عليهم شاكرًا لهما زيارتهما وقلت لنجيب أما وإنكما غير راضيين عن تصرفات سليمان حافظ وتحديه لي فكان من الواجب أن توقفوه عند حده وأن تقولوا له إنه لا يليق به أن يجعل الخلافات الشخصية والحزازات القديمة تسيطر علي تصرفاته لأنه إنما يقنن لثورة بلد بأسرها ولا يضع القوانين لينتقم بها، وأظن أنكم يا جنرال أو بعضكم راض عن هذه التصرفات وإلا لما أبقيتموه معكم حتي الآن وزيرًا للداخلية وهو في كل يوم يخلق لكم مشكلة جديدة!!».
(7)
وقبل هذا فإن مذكرات النحاس باشا التي سجلها محمد كامل البنا تقدم لقطات معبرة عن مدي العنت الذي لقيه هذا الزعيم علي يد الثورة، ومع أن المذكرات أرجعت بعض السبب في هذه المعاناة إلي مشورة سليمان حافظ، وأحمد نجيب الهلالي وغيرهما فإن القارئ المعاصر يستطيع أن يدرك بكل وضوح أن الثورة لم تكن في حاجة إلي مثل هؤلاء كي تمضي في خطواتها الميكافييلية في الانتقاص من شعبية الوفد ومكانته، وإن كانت لم تحقق نجاحًا يذكر في هذا المجال بسبب ما كان قد ترسب في وجدان الجماهير عن زعامة النحاس والوفد وما تمتعت به هذه الزعامة من مزايا نادرة.
وهذه فقرة من فقرات المذكرات التي سجلها الأستاذ البنا، تتحدث عن المعاناة المادية للنحاس، وهي المعاناة التي لم تعالجها الثورة إلا بعد الاتصال التليفوني الشهير الذي صممت فيه السيدة زينب الوكيل علي مواجهة الرئيس جمال عبد الناصر نفسه بالواقع المرير. وقد وردت روايات مشابهة عن هذه الواقعة في مصادر أخري منها مذكرات صلاح الشاهد:
«… واستمعت الثورة أو علي وجه التحديد، استمع عبد الناصر إلي نصيحة مستشاره الجديد نجيب الهلالي وقدم زينب الوكيل حرمي إلي المحاكمة بتهمة الإثراء الفاحش من طريق استغلال النفوذ وطلب الحكم عليها بمصادرة أملاكها وتجريدها من كل عقار أو مال تجمع لديها، وقدمت زينب للمحاكمة وطلبوا إليها أن تحضر إلي المحكمة فرفضت وتقدم المحامي أحمد رشدي ـ وهو من أكفأ رجال القانون في مصر ـ تقدم للدفاع عنها وفند التهم المنسوبة إليها تهمة تهمة واتخذت المحاكمة عدة أيام اكتفت فيها بمصادرة أملاكها وعدم تمكينها من أي شيء واكتفت بهذا وجردتها من كل ما تملك وحددوا إقامتها كذلك في المنزل وجاءني عثمان محرم وأحمد حمزة وفؤاد سراج الدين وبدأ فؤاد الحديث قائلًا أنت تعلم أن عبد الناصر قد استولي علي جميع ما تملك السيدة حرمك وأن المعاش لا يكفيك ولا يفي بمطالبك الضرورية ونحن والحمد لله لا يزال لدينا زائد عن حاجتنا ولطالما غمرت المحتاجين منا ومن أعضاء الهيئة الوفدية وأنصار الوفد بعطفك وفضلك كعهدنا بك كما عودتنا أن تنزل عند رأي الجماعة وقد قررنا أن نساهم معك في بعض النفقات ونرجو ألا ترفض طلبنا».
«فغضبت ورفضت أن أقبل منهم أي مال علي أية صورة، ولكن عثمان محرم وأحمد حمزة قالا لي إننا سندفع ما ندفع كسلفة نقرضها لك كما فعل بنك مصر الذي سبق لك أن اقترضت منه مبلغًا أودعه طلعت حرب في حسابك حين خفض صدقي معاشك، وما دام التاريخ يعيد نفسه وما دمنا لا نستطيع أن نحمل القائمين علي أمر بنك مصر الآن علي أن يقرضوك فقد قررنا أن نحل محلهم ونرجو ونلح أن تنزل كما عودتنا علي رأي الأغلبية وليس يضيرك أو يمس من كرامتك».
«وسكت ولم أتكلم فاستأذنوا، وجمعوا مبلغًا وصل إلي ثلاثة آلاف جنيه وأودعوه في حسابي ببنك مصر وقالوا لحرمي اسحبي منه ما يكفي لمصاريف المنزل حتي إذا ما أوشك علي النفاد دفعنا غيره».
«وظلوا علي هذه الحال إلي أن فرض عبد الناصر عليهم جميعًا الحراسة وأخذ أموالهم ولم يترك لأي واحد منهم ما يستطيع أن يعيش به عيش الكفاف حتي أن فؤاد سراج الدين اضطر إلي قبول عرض عرضه عليه أحد تجار المجوهرات المسمي (لياكيم) ليثمن له ما يعرض عليه من الأحجار الثمينة لقاء عمولة يدفعها له ليغطي بها مصاريفه، وظل في حياته علي مظهره الخارجي أمام الناس لم يغير منه شيئًا».
«وتلفتت السيدة حرمي حولها فرأت أنها لا تستطيع أن تواجه مطالب الحياة وهي المسئولة عن تدبير وسائل الراحة والهدوء لرجل جاوز الثمانين من عمره وقدم لوطنه ولأمته العربية ما لم يقدمه أحد فهداها تفكيرها إلي أن تتصل بعبد الناصر تطلب إليه أن يدفع إليها مبلغًا من إيراد أملاكها التي صودرت يُمكنها من مواجهة مطالب الحياة والمحافظة عليّ في شيخوختي، فطلبت عبد الناصر في التليفون فرد عليها سامي شرف أحد الأدوات التي كانت مُسخرة للتنكيل بالمواطنين لحساب الثورة وكان من أقرب المقربين إلي عبد الناصر وسألها سامي شرف ماذا تريد من الرئيس فقالت أريده في أمر شخصي خاص فتركها علي التليفون وغاب مدة طويلة ولم يرد عليها، فطلبت محمد أحمد وهو أحد سكرتارية عبد الناصر فاستحي أن يعمل ما عمل زميله واستمهلها حتي يوصل التليفون ـ يعني حتي يستأذن ـ وبعد قليل رد عليها عبد الناصر فجري بينهما الحديث التالي:
هي: أنا زينب الوكيل حرم الرئيس السابق مصطفي النحاس.
هو: أهلًا وسهلًا، قالها بنبرات بطيئة، ثم أعقبها: فيه حاجة؟
هي: تعلم أن كل ما أملك قد صودر وأصبحت لا أجد ما أستطيع أن أواجه به مطالب الحياة، وأنا مسئولة عن زوجي الذي مهما كان رأيكم فيه فلا ينكر أحد أنه ظل يخدم الوطن أكثر من ثلاثين عامًا وقدم له ولغيره من الأوطان العربية ما قدم، فهل ترضي أن يهان في أخريات أيامه وألا يجد ثمن الدواء الذي يعالج به؟
هو: لا، لست أرضي بهذا ولا أقبله فماذا تطلبين؟
هي: أطلب أن تأمر بصرف مبلغ لي من إيراد أموالي التي تحت يد الحكومة لأنفقه علي مطالب الحياة حتي لا أمد يدي إلي أحد من الناس.
هو: سأفعل وسأمر المختصين بأن يصرفوا لك مبلغًا يكفي لنفقات مصطفي النحاس الذي لا ننكر أنه تولي زعامة مصر أكثر من خمسة وعشرين عامًا فلم يستغل ولم يسرق ولم يختلس.
هي: شكرًا لك».
«وانتهت المحادثة علي هذا النحو وبعد يومين اتصل بها محمد أحمد مدير مكتب عبد الناصر، قال لها إن سيادة الرئيس أمر بأن يصرف لكم مبلغ ثلاثمائة جنيه شهريًا للإنفاق منها علي مطالب الرئيس السابق مصطفي النحاس، وشكرته علي هذا الحديث».
«ولما علمت بهذا الصنيع وكان يجلس معي بعض زواري قال أحدهم في معرض الكلام عن عبد الناصر إنه ما فعل شيئًا فهذه بضاعتنا ردت إلينا، وقال ثان (من دقنه وافتله) ولكني علقت علي هذا بقولي إنه وإن كان المبلغ الذي قرره ليس من خزينة الحكومة بل من مالنا فهو علي أية حال يشكر إذ كان يمكنه أن يقول لحرمي للأسف لا أستطيع أن أفعل شيئًا، أما وقد استجاب وأمر بأن يدفع مبلغ قليل، فهو يحمد علي صنيعه لأننا قوم لا يضيع عندنا المعروف ولا ننسي الجميل».
«ويلاحظ أن عبد الناصر ركز في إجابة حرمي أنه سيصرف لي شخصيًا وليس لها كما أن مدير مكتبه حين اتصل بها كرر هذا المعني، وقال لقد أمر الرئيس بأن يصرف للرئيس السابق وليس لك».
(8)
وقبل هذا فإن بعض فصائل الثورة لم تجد ما يمنعها من أن تفكر، فيما بعد قيام الثورة، في اغتيال النحاس باشا ومع أن تفصيلات هذه النوايا والاتجاهات لا تزال بحاجة إلي تفصيل فإن ما أوردته المذكرات التي سجلها محمد كامل البنا يعطينا فكرة عن مدي التخبط الفكري والسياسي الذي سيطر علي موقف بعض فصائل ضباط الثورة من زعامة النحاس وهو تخبط معذور أيضًا، ومع أن الروح الوطنية كانت كفيلة بحماية الضباط الشبان من أمثال هذا التصرف فإن جذور الفكر الفاشي الذي فتح كثير منهم أعينهم عليه كانت دافعة لهم لأن يمضوا في مثل هذه التخبطات.. وفي المقابل فقد كان موقف النحاس باشا من التعامل مع هؤلاء جميعًا متسمًا بالصدق واحترام الذات والثبات علي المبدأ:
«… جاء ابن شقيقي واسمه محمد محمد النحاس وهو ضابط في الجيش المصري بعلم من القيادة لأنها زيارة عائلية وقص عليّ تفصيلات قصة محاولة قتلي وأن عبد الناصر هو الذي منع الضباط المتهورين من ارتكاب جريمتهم فقلت له: أولًا يشكر لعبد الناصر إذ اقتنع أخيرًا بأني لست بطل 4 فبراير، وثانيًا لماذا يفكر هؤلاء المساكين في اغتيالي ألم يعلموا أن زميلهم عضو الثورة معهم (أنور السادات) هم بقتلي هو وزميله المسمي عبد الرؤوف وحسين توفيق قاتل أمين عثمان لحساب الملك؟».
«ألم يعلموا أن زميلهم السادات وزملائهم وغيرهم كانوا أعضاء في الحرس الحديدي الذي أنشأه فاروق لقتل مصطفي النحاس والتخلص منه؟ فلما لم ينجحوا في هذا عمدوا بعد أن ضموا إليهم أحمد عبد العزيز الضابط ونسفوا داري وقتلوا البواب وزوجته. ألم يكن هذا التدبير لصالح الملك وحاشيته؟ فلماذا يقتلون النحاس؟ لأنه وقف في وجه الإنجليز أكثر من ربع قرن من الزمان يعارضهم ويصمم علي أن تأخذ مصر حقوقها كاملة وحريتها صحيحة، أن لأنه ألغي المعاهدة لما رأي مماطلة الإنجليز، إنهم في هذا كانوا غير موفقين لا وطنيين ولا يسعون إلي مصلحة عامة أو نفع للبلاد، ومع ذلك فالحافظ هو الله والمنجي هو الله ولن تموت نفس إلا إذا استوفت أجلها وانتهي في الحياة مقامها».
«لما قبضت الثورة علي نجيب الهلالي التي قامت وهو علي رأس الوزارة نصح لهم سليمان حافظ، وكان لا يزال صاحب رأي لديهم، أن يطلقوا سراح الهلالي فيتخذوه مستشارًا في بعض المسائل القانونية والسياسية فعملوا بالنصيحة وأخذوا يستشيرونه في عديد من الأشياء».
«ولما عدلوا عن اغتيالي فكروا في محاكمتي أمام محكمة الثورة التي أنشئوها لمحاكمة المستغلين والأثرياء الذين أفسدوا الحياة النيابية والسياسية وعرضت علي عبد الناصر فكرة تقديمي إلي المحاكمة كما قدم عثمان محرم وفؤاد سراج الدين ومحمود غنام ،إبراهيم فرج وغيرهم من أعضاء الوفد، وبعث عبد الناصر في طلب نجيب الهلالي يستشيره في تقديمي للمحاكمة فقال له: إن من رأيي ألا تحاكموه وتحاكموا بدلًا منه زوجته، وذلك لأن محاكمة النحاس أحد أمرين إما أن تحكموا بإدانته فيكسب عطف الرأي العام ويشتد حب الناس له، وإما أن تصدروا عليه حكمًا بالبراءة وذلك يقوي مكانته عند الجماهير ويجعلهم يزدادون له حبًا ويلتفون حوله أكثر من ذي قبل، أما محاكمة زوجته فتصادف هوي في نفوس المواطنين».
«وعمل عبد الناصر بالنصيحة وجاء حسن سرور نقيب محامي الإسكندرية إليّ فأخبرني بأن نصيحة الهلالي دلت علي إنصافه وتوخي العدالة، وعلقت علي هذا بأن الهلالي خدم الثورة بهذه النصيحة أجل خدمة وأحسن إليها أيما إحسان لأن محاكمتي كانت ستكشف عن أسرار ليست في مصلحة الثورة ولا تنال من ورائها شيئًا، وليتهم قدموني للمحاكمة إذًا لانكشف الكثير من تصرفاتهم للرأي العام ولعلموا أنهم يسيرون علي غير هدي ويعملون علي إنقاذ من عاداهم وسيان عندهم من أخلص الجهاد لبلده ونفي في سبيلها إلي سيشيل وطورد أكثر من ثلاث سنوات».
«ولما أشار عليّ بعض أعضاء الوفد والهيئة الوفدية أن أشكر عبد الناصر بأي ناحية من نواحي الشكر قلت: أشكره علي ماذا؟ أشكره علي أنه اعتقلني وحدد إقامتي ومنع الزوار من الدخول عليّ، أم أشكره علي أنه حرم علي الصحف الإشارة إلي اسمي من قريب أو من بعيد».
«قال الزائرون: تشكره علي أنه منع محاكمتك ومحاولة اغتيالك، فقلت لهم: لم يمنع اغتيالي ولا عدل عن محاكمتي إلا لحاجة في نفس يعقوب، ولو علم أن اعتقالي فيه مصلحة لفعل وأن محاكمتي تنفعه لما تردد».
«ولقد كرر عليّ عبد اللطيف محمود القول في أن أعلن شكري لعبد الناصر علي عدم محاكمته فقلت له: والله لا أحد يستحق المحاكمة أكثر منك، وإني لأعجب كيف يتركونك مع أنهم يعرفون عنك، كما يعرف غيرهم، أنك لست فوق مستوي الشبهات».
(9)
وفي مواضع كثيرة من مذكراته يكرر إبراهيم فرج الاعتراف بأن النحاس كان منذ البداية متيقنا من أن الثورة لن تتعاون مع الوفد، ولأن حسنين كروم كان يتمتع بالولاء للوفد وللثورة علي حد سواء فإنه يحاول أن يلتمس صورة للتعاون أو لإمكانية التعاون، وذلك بعد فوات الأوان بالطبع، ولكن إبراهيم فرج يصارحه بقوله:
«كانت هناك مساع لتحقيق هذا الهدف الذي تتحدث عنه، والذي لا تزال تؤمن به، وهذه سذاجة منك، ولا مؤاخذة، كلنا كنا نصدق، وسعي الكثيرون لتحقيقه كالدكتور طه حسين، وعبد السلام جمعة باشا، إلا شخصا واحدا لم يصدقه وهو النحاس باشا».
«كان يقول: لا يمكن أن تأتي ثورة عسكرية وتنتظروا منها مهادنة الزعماء السياسيين أبدا».
«وكل ما جري بعد ذلك أثبت صحة هذه النظرية».
(10)
وقد روي إبراهيم فرج لحسنين كروم ما لخص به وجهة نظر كل من طه حسين وعبد السلام فهمي جمعة بصفة خاصة:
«كان طه حسين ـ رحمه الله ـ يسعي للتوفيق بين الوفد والثورة، الله وحده الذي يعلم هل كان يفعل ذلك لخدمة نفسه أم كان مؤمنا به، إنما هو كان كثير الالتقاء بزعماء الثورة، وبخاصة جمال عبد الناصر، وكان ينقل إلينا أنهم يقدرون جهاد الوفد وجهاد النحاس باشا، ولكن يجب أن نلاحظ أنهم شبان، ويجب أن نتمشي قليلا مع أهدافهم ونجري حركة التطهير في الذين عليهم مأخذ أو مسائل تمس النزاهة.. فكان النحاس باشا يضحك ويقول لطه حسين لا تصدق. وقال عبارته المشهورة التي نقلت عنه:
«تعرف البولدوزر؟ أهم دول بلدوزر».. ومع ذلك كان النحاس باشا يتماشي مع هذه المحاولات في حدود الكرامة.
(11)
ونري في مذكرات إبراهيم فرج شبه تعريض خفي بعبد السلام فهمي جمعة باشا رئيس النواب، وكيف أنه انخدع لعرض أو عروض من رجال الثورة علي حين ظل النحاس علي يقينه من طبيعة موقف الحركة من الوفد:
«وعبد السلام فهمي جمعة كانت تلعب برأسه فكرة أنه الرجل الثاني في الوفد لأنه كان رئيس مجلس النواب الذي يلي رئيس الوزارة في البروتوكول، وأدخلها في روعه بعض رجال الثورة الذين كانوا يترددون عليه (ويقنعونه) أنه رجل الساعة والرجل المطلوب، وعليه أن يعاونهم حتي لا يفلت الموقف وينتهي الأمر بأن الوفد يبتعد ابتعادا تاما عن زعامة الأمة وقيادتها، فكان يصدق مثل هذا الكلام ويأتي ليذكره بكل بساطة، فكان النحاس باشا يحاول إقناعه بكل هدوء بخطأ هذا، وعندما كان يضيق به كان يقول له:
«روح يا شيخ.. أنت اللي جاي تطهرنا؟ لا تصدق هذه المناورات».
«المهم أن النحاس باشا لم يثق يوما من الأيام أن هذه الثورة يمكن أن تتفاهم مع الوفد أبدا وأظنك تعرف الآن أن الأيام أثبتت صحة هذا الرأي، فحتي هذه اللحظة الوفد لا يطاق، لا قديما ولا حديثا، فماذا تريد إذًا؟ وحتي محمد نجيب الذي قالوا إنه اتصل بالنحاس باشا، وللأسف فهو في كتابه «كلمتي للتاريخ».. لم يذكر المكالمة التليفونية بينه وبين النحاس باشا وماذا قال له.. محمد نجيب اتصل بالنحاس باشا ليسأل عن صحته».
«فقال له النحاس: تسألني عن الصحة أهلا وسهلا.. صحتي كويسة وأنا متشكر.. وإن شاء الله تكون أنت كذلك.. لكن كلام في أعمال سياسية أنا أرفض أن أبدي حتي نصيحة».
(12)
وقد لخص إبراهيم فرج بعض المتاعب المبكرة للنحاس والوفد في أثناء الفترة الأولي من حكم الثورة حين كانت لا تزال هناك فرصة للأخذ والرد والتفكير في إجراءات الثورة، والاعتراض علي بعضها، ويروي إبراهيم فرج بأسي كيف أن سليمان حافظ اعترض علي اسم النحاس ووصفه بأنه فاسد هو وعبد الفتاح الطويل، وكيف تصدي الوفد بثلاثة من كبار المحامين لمؤامرة سليمان حافظ، ومن المؤسف أن يصل الأمر بالعهد الجديد إلي أن يفتري هذا الافتراء علي النحاس باشا، بل من المؤسف أن القضية نفسها لم تسقط إلا بإلغاء الأحزاب:
«لقد كان النحاس باشا بعيد النظر وكان يري أن كل هذا عبث، خاصة عندما طالبوا بتطهير الأحزاب، إلي آخر الطلبات الأخري، ويشاء الله أن يقع سليمان حافظ في شر أعماله. قام بوضع قانون اسمه قانون الأحزاب، به شروط معينة في العضوية والرئاسة تطبق علي الأحزاب الموجودة، وعلي الأحزاب أن تضع أموالها في البنك، وقد تقدمنا بطلب لاعتماد الحزب إلي وزارة الداخلية وبه الأسماء، فاعترض سليمان حافظ لأن القانون الذي وضعه يخول له الاعتراض، فاعترض علي اسم النحاس باشا وعبد الفتاح الطويل باشا».
«والقانون كان يعطي الحق في نظر الطعن علي اعتراض وزير الداخلية إلي محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ونظر الطعن، وكانت فرصة عظيمة جدا، اجتمع كبار المحامين الوفديين، وحيد رأفت ومحمد صلاح الدين وأنا.. وتوليت الدفاع عن النحاس باشا.. وحيد عن النظرية الدستورية وصلاح دافع عن عبد الفتاح الطويل، وكانت مظاهرة شعبية وقانونية لا مثيل لها. كنت تري طلاب الحقوق وقتها يتركون كلياتهم ويحضرون لدرجة أن مجلس الدولة بقاعاته وفنائه كان يزدحم بهم».
«وترافعنا وبينا ما هي البواعث الخفية التي دفعت بمثل سليمان حافظ إلي تقديم مثل هذا الاعتراض علي مثل هؤلاء الأشخاص الأفاضل الكرام، وأوضحنا مَنْ هو النحاس باشا ومَنْ هو عبد الفتاح الطويل. أما المستشار الذي انتدبوه للترافع فوقع في مأزق ولم يعرف ماذا يقول.. وحجز الطعن للحكم إلي جلسة 18 يناير سنة 1953.. وفي يوم 16 يناير سنة 1953 صدر قرار مجلس قيادة الثورة بإلغاء الأحزاب، وسقطت القضية لأن الحكم كان سيصدر لصالحنا».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
هكذا يلجأ إبراهيم فرج إلي مثل هذا التنبؤ ـ ببساطة وتلقائية ـ مع أن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ بالأحكام علي هذا النحو القاطع حتي لو كانت أحكام القضاء الإداري التي يكون وجه الحق فيها ظاهرا من خلال تقارير المفوضين.
(13)
وقد روي إبراهيم فرج أيضًا أن رجال العهد الجديد بعد عزل الملك فاروق بدءوا البحث في اختيار أعضاء مجلس الوصاية علي الملك الطفل أحمد فـؤاد.. وكان علي ماهر في ذلك الوقت هو الذي تولي بحث هذا الموضوع، وكان رئيسا للوزارة أيضًا وطلب إلي الوفديين أن يبدوا رأيهم. وقد كلف النحاس باشا علي زكي العرابي ومحمد صلاح الدين وإبراهيم فرج ليسافروا إلي الإسكندرية للتحدث مع علي ماهر فيما يختص بأعضاء مجلس الوصاية وقال: إن من الضروري خدمة البلد، وأن تقولوا لعلي ماهر أن يحافظ علي الدستور وينفذ ما به في هذا الشأن بالذات.. وكان من رأي النحاس باشا ألا يتم اختيار أحد من الأسرة المالكة في مجلس الوصاية، واقترح النحاس باشا علي الشمسي باشا، وبهي الدين بركات باشا، وحسين سري باشا.
وسافر الثلاثة إلي الإسكندرية.. ويروي أحدهم وهو إبراهيم فرج أنهم قابلوا علي ماهر عدة مرات، «وإذا به يطلب منا أن نطمئن وينصحنا بالسكوت ويقول إنه «متفاهم مع الضباط».. وقالها بنوع من القرف عدة مرات».
(14)
ويبلور إبراهيم فرج رواية ما انتهت إليه مساعي الوفد وقياداته في الالتقاء المبكر بالثورة ورجالها فيقول:
«المهم أن مساعي تحقيق اللقاء مع رجال الثورة تتابعت، وانتهت بموافقة النحاس باشا علي اللقاء بشرط أن يفرجوا عن المعتقلين الوفديين لأنهم كانوا قد اعتقلوا فريقا منهم، قبل أي لقاء».
«وبعد عدة أيام جاء أحمد أبو الفتح وأبلغ النحاس باشا أنهم وافقوا علي الإفراج عن جميع المعتقلين من مختلف الأحزاب وليس عن الوفديين فقط.. فوافق النحاس باشا.. وفي اليوم التالي ذهب النحاس باشا وكنت معه لمقابلة أعضاء مجلس قيادة الثورة».
(15)
كذلك فقد روي إبراهيم فرج قصة استقبال محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة للنحاس، وكيف كان النحاس كعادته صريحا قاطعا فواجه علي ماهر بأنه ادعي أقوالا لم يقل بها النحاس حول اعتراضه علي وجود أحد الضباط في هيئة الوصاية، وكيف حذر النحاس من إلغاء الأحزاب والوفد، وبين للضباط قيمة الوفد وكيف أنه الحصن المنجي للجميع والمنجي من التطرف.. وحذرهم من أن يقعوا في الخطأ الذي يقع فيه العسكريون دائما، ولنقرأ النص الكامل لهذه الرواية التي يستحضرها إبراهيم فرج من ذاكرته:
«واستقبلنا محمد نجيب وكان معه بعض الضباط وأخذ يتحدث عن النحاس باشا ويثني عليه وأسرف في هذا إسرافا كبيرا.. فقال له النحاس باشا: «أنا بلغني أن علي ماهر قال لكم إنني أعترض علي وجود ضباط من الجيش في مجلس الوصاية.. أنا لم أعترض.. ولم أذكر له شيئا في هذا الموضوع.. وإنما كل الذي قلته إنه لا داعي لأن نضع بين أعضاء مجلس الوصاية أحدا من أمراء البيت المالك المعزول.. أما ما عدا ذلك فلم أقل له شيئا».
«وأنا أعتقد أن علي ماهر هذا من طبيعته الوقيعة.. وأنا أقولها، وهو (أي علي ماهر) موجود… أنا ما يهمنيش.. إنما جاي أحذركم من شيء (وأشار بيده علي كل الموجودين) وهو إلغاء الأحزاب وإلغاء الوفد بالذات.. لأن هذا سيثير عليكم عاصفة من الاستياء إذا لم تظهر آثاره حالا فستظهر آثاره فيما بعد.. واعلموا أن الوفد ليس حزبا سياسيا.. إنما هو يمثل كافة التيارات في مصر».
«وطوال عهود الوفد لم يظهر أي خلاف طائفي أو فئوي كالإخوان المسلمين والشيوعيين.. وكان هؤلاء جميعا يستظلون بالوفد.. لهذا كان الوفد بمثابة الحصن الذي يأوي إليه الجميع.. منجاة من كل تطرف يميني أو يساري. وهذه نصيحة أقدمها لكم لوجه الله باسم تجاربي كلها.. وأنا لا أطمع في حكم أو شيء من هذا.. وأتمني لكم التوفيق… بس أحذركم من هذا الخطأ الذي يلجأ إليه العسكريون دائما».
(16)
وقد ذكر إبراهيم فرج أن الوفد وافق علي تطبيق سياسة الإصلاح الزراعي عندما شرعت الثورة في الأخذ بهذا المبدأ، وأن الوفد صرح لرجال الثورة بهذه الموافقة، بل إن إبراهيم فرج يروي ما هو أبلغ من هذا عن فترة سابقة شهدت موافقة واضحة للوفد علي دعوة النائب محمد خطاب المبكرة إلي الأخذ بسياسة الإصلاح الزراعي.
ويبدو لنا مرة ثانية أن سياسات الوفد لم يكن ينقصها إلا قدر هائل من التسميع والتلميع الإعلامي وإخفات أصوات الآخرين نهائيا حتي يحقق الوفد بعض ما حققته الثورة التي استحوذت لنفسها في الأذهان علي مجمل الإنجازات الاجتماعية الاشتراكية.
ونحن لا ننحاز للوفد ضد الثورة لكننا نرصد أثر روايات إبراهيم فرج في نفوسنا، ولعل كاتب المذكرات الأستاذ حسنين كروم نفسه كان يحس بنفس الإحساس حتي إنه كان حريصا علي أن يبدي ـ علي الدوام ـ عجبه من أن الثورة نفسها لم تتعاون مع الوفد علي نحو ما كان ينبغي.. ولنقرأ ما يرويه إبراهيم فرج:
«النحاس باشا كان بحكم ديموقراطيته يتيح الفرصة لأعضاء الوفد لمناقشة كل شيء.. وكان موافقا هو وفــؤاد سراج الدين علي الإصلاح الزراعي.. أما غالبية قيادات الوفد فكانت تري أن يتم الإصلاح الزراعي بواسطة الضرائب التصاعدية واعتمادا علي الزمن عن طريق الميراث.. فإذا كانت الثورة تريد تحديد الملكية بمائتي فدان فيمكن لها أن تحسب إيرادها السنوي ثم تفرض ضريبة علي مَنْ يملكون أراضي زراعية أعلي من هذا الحد بحيث لا تزيد دخولهم علي إيراد المائتي فدان.. وهذا مال المجتمع يوجه للأغراض التي تريد الدولة النهوض بها».
«وبالإضافة إلي هذا فكانوا يعتقدون (يقصد قيادات الوفد) أن الإقطاع بمفهومه الذي كان موجودا في أوروبا لا وجود له في مصر. فكل ما استولي عليه الإصلاح الزراعي بالقانون رقم 178 لسنة ١٩٥٢ هو ستمائة ألف فدان، ولم يستفد به إلا بضع عشرات من الألوف.. وهي كما تري مساحة يملكها إقطاعي واحد في أوروبا».
«ومع ذلك انتهوا (يقصد أعضاء الوفد) إلي الموافقة علي قانون الإصلاح الزراعي طالما أن الثورة مصممة عليه لاعتبارات سياسية.. وأوفدوا فــؤاد سراج الدين باشا ليبلغ رجال الثورة بما انتهي إليه رأي الوفد واجتمع بهم ـ وكان جمال عبد الناصر حاضرا ـ ساعات طويلة.. وقالوا له إنهم سيدرسون الموقف من الناحية الفنية ويردون عليه غدا.. فقال لهم: إنه مهما كانت الظروف فالوفد يوافق تماما علي قانون الإصلاح الزراعي».
«وخرج من الاجتماع وذهب إلي جريدة «المصري» ونشر بيانا بموافقة الوفد علي الإصلاح الزراعي.. لكن بعض الصحف نشرت كذبا أن سراج الدين صرح بعد اجتماعه بأعضاء مجلس قيادة الثورة أنه وضعهم في جيبه».
(17)
وعلي الرغم مما نعرفه عن توتر علاقة عبد الفتاح حسن بالثورة واعتقاله في عهدها وسجنه أكثر من مرة، فإننا نراه في مذكراته حريصًا علي أن يشير إلي حقيقة موقفه المبكر من حركة الضباط في 23 يوليو 1952، وعلي أن يقارن هذا الموقف بمواقف الآخرين من الزعماء (يذكرهم بالاسم) الذين لم يظهروا حماسًا كحماسه، ولم يخاطروا بمثل ما خاطر به من تأييد، وهو علي سبيل المثال يقول:
«… وفي مساء يوم 25 يوليو 1952 قابلني المهندس مصطفي موسي، وكان من قبل نائبا وفديا في البرلمان (يقصد البرلمان الوفدي 1950 ـ 1952) ولم أكن أعلم أنه صهر الضابط إسماعيل فريد سكرتير القائد العام (محافظ الدقهلية فيما بعد) ونقل إليّ أن بعض رجال الثورة موجودون بثكنات مصطفي باشا، واقترح أن أتوجه ومحمد صلاح الدين لمقابلتهم، فاتصلت بصلاح الدين تليفونيا، وتوجهت معه إلي ثكنات مصطفي باشا حيث وجدت محمد نجيب، ومحمد أنور السادات، ويوسف صديق منصور… وغيرهم، ولم يكن جمال عبد الناصر من بينهم أثناء الزيارة.. وإنما كان بالقاهرة».
«وفي اليوم التالي (26 يوليو 1952) أذيعت وثيقة نزول الملك عن العرش ثم رحيله علي الباخرة «المحروسة» في المساء إلي إيطاليا».
«وفي يوم 27 يوليو 1952 نشرت الصحف بيانا بالعنوان التالي: «بيان من القيادة العامة للقوات المسلحة» عن زيارتي وصلاح الدين للقيادة مساء 25 يوليو 1952:
«بيان من القيادة العامة للقوات المسلحة: في مساء الجمعة 25 يوليو 1952 حضر إلي القيادة العامة للقوات المسلحة بالإسكندرية سعادة الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وعبد الفتاح حسن باشا، معبرين عن شكرهما للحركة المباركة التي قام بها رجال الجيش متمنين لهم التوفيق التام».
«وفي الساعة الواحدة بعد ظهر يوم السبت 26 يوليو توجه أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، وأحمد خشبة باشا، ورشوان محفوظ باشا، وبهي الدين بركات باشا، وأحمد عبد الغفار باشا، وإبراهيم الدسوقي أباظة باشا، وعبد السلام الشاذلي باشا، وأحمد علوبة باشا، وطه السباعي باشا، ومحمود محمد محمود بك، إلي مقر القيادة، حيث قابلهم صاحب السعادة الفريق محمد نجيب بك القائد العام للقوات المسلحة، وقد أعرب معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا نيابة عن زعماء الأحزاب عن شعورهم الطيب نحو الحركة المباركة، وشكرهم للضباط والجنود الذين أدوا واجبهم بأمانة لتطهير البلاد، وقد رد سعادة الفريق محمد نجيب بك شاكرا لهم شعورهم الطيب».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
علي هذا النحو يورد عبد الفتاح حسن نص بيان الجيش متضمنا أسماء السياسيين الذين لحقوا به وبصلاح الدين باشا في تأييد الثورة، وبالطبع فقد كان هناك سياسيون آخرون لم يذهبوا حتي يوم السبت السادس والعشرين ولا بعده، لكن عبد الفتاح حسن سرعان ما يلفت نظرنا إلي حقيقة المعني الذي قصده من نص البيان كاملا فيقول:
«وقابلني المهندس مصطفي موسي إثر نشر البيان في الصحف وقال: ألم يستوقفك شيء في البيان؟ ولم يترك لي فرصة للجواب، وقال: إنه أريد بالفقرة الخاصة بصلاح الدين باشا وبشخصك تسجيل أنكما حضرتما للتهنئة في مساء 25 يوليو 1952، أي قبل أن يعرف أحد غير رجال الحركة أن الملك سوف يعزل من عرشه في اليوم التالي، والتنبيه إلي أن الثورة إن فشلت، وأطيحت بعض الرءوس فإن رقبة كل منكما لم تكن لتعفي».
(18)
وقد أورد عبد الفتاح حسن بعض الإشارات المهمة التي نفهم منها أنه كان مرشحا للعمل كوزير مع الثورة أو في العهد الجديد، لكنه آثر الابتعاد، ولو كان ما يرويه عبد الفتاح حسن عن مثل هذه الوقائع معبرًا عن رغبة حقيقية عند رجال الثورة، فإننا نأسف علي حالة التشرذم التي سرعان ما فرضت نفسها علي القوي الوطنية وحالت دون إتمام مثل هذا التعاون مع رجال ممتازين من أجل الوطن.
ومن الغريب أننا نجد في مذكرات عبد الفتاح حسن إشارة إلي موقف إيجابي لسليمان حافظ تجاهه هو بالذات، علي الرغم مما هو معروف من عداء سليمان حافظ للوفد، لكننا نستطيع أن نتوقع أو أن نحدس أن عمل الرجلين (سليمان حافظ وعبد الفتاح حسن) في مجلس الدولة كان مما ساعد علي توثيق علاقتهما واحترامهما لبعضهما، علي حين كان التنافس بين سليمان حافظ وعبد الفتاح الطويل مدعاة لحقد الأول علي الثاني.
(19)
أما نصوص رجال الثورة عن علاقتهم بالوفد فتكاد لا تتخطي فكرة واحدة هي أنهم كانوا حريصين منذ الأيام الأولي علي ألا يفرطوا فيما حصلوا عليه من مكاسب نتيجة حركتهم التي استولوا بها علي مقدرات الأمور، وأنهم كانوا حريصين علي ألا يعيدوا الأمانة للأمة أو الوفد، نحن نراهم وهم يتحدثون بكل وضوح عن جفاء معاملتهم للنحاس والقيادات الوفدية، وعن حرصهم علي خلق الخلافات معهم وإعلانها، بل عن حرصهم علي شق الوفد (وغيره) من الداخل، وعن عدم قبولهم من الأساس بفكرة الأحزاب وال ديمقراطية والليبرالية.. إلخ.
وليس هذا المقام مجالا لاستعراض ما روته الأدبيات المرتبطة برجال الثورة، وتحليل عباراتها المتتالية الدالة علي هذه الفكرة، لكننا مع هذا نجتزئ من هذه الكتابات فقرات مطولة عبر فيها صلاح نصر نفسه عن طبيعة نظرة رجال الثورة إلي النحاس والوفد:
«… ذكرت أنه كان هناك اقتراح بتشكيل وزارة وفدية في بداية الثورة، كما شرحت عرض أحمد الألفي عطية عضو الوفد بإدماج الثورة في حزب الوفد بعد تطهير صفوفه.. ولكن كلا المشروعين رفضهما عبد الناصر، علي الرغم من أن الوفد كان يمثل حزب الأغلبية.. فقد كان عبد الناصر واضحًا في خطه، وهو إبعاد الثورة عن أية وصاية من خارج الثورة، أو ذوبانها في أي هيئة سياسية من العهد السالف».
(20)
علي هذا النحو الواضح والقاطع يرسم صلاح نصر بقدر واضح من الاعتزاز الغرّ ملامح فكر عبد الناصر الحاسم الذي قرر من قبل البداية إبعاد الثورة عن أية وصاية من خارجها.
ثم يحاول صلاح نصر أن يصور النحاس وكأنه كان ينتظر «الثمرة» ويخشي الملك فاروق، وهو تصور يليق بعقلية صلاح نصر وأدائه، وإن لم يكن أحد من الذين يعرفون النحاس وشخصيته يتصور أن يكون هذا هو الفكر الحاكم لهذا الزعيم الحقيقي الذي قضي في موقع الزعامة ربع قرن حتي ذلك الوقت.. فإذا بصلاح نصر يفاجئنا بأن يحكم عليه بما يحكم به علي موظفي الدرجة السابعة أو الدرجة الثامنة.
«وقامت الثورة في الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952، وطرد فاروق في السادس والعشرين منه.. وكان مصطفي النحاس رئيس الوفد، وفؤاد سراج الدين سكرتير عام الحزب يقيمان في أوربا عند قيام الثورة للراحة والاستجمام، ولم يحضر النحاس فورا بعد إعلان قيام الثورة، بل انتظر حتي مغادرة الملك فاروق أرض الوطن في السادس والعشرين منه».
«وفي غالب ظني أن النحاس انتظر حتي يثق من أن الوضع أصبح مهيئًا له لاستلام السلطة بصفته زعيما لحزب الأغلبية، وقد نسي أن هناك ثورة قامت لتقضي علي العهد السالف، وتطبيق مبادئها الجديدة التي تتناقض كلية مع أسلوب مناورات الأحزاب».
«وقطع النحاس رحلته في الخارج، وحضر إلي القاهرة وبرفقته سراج الدين وتوجها فورا من المطار إلي مبني القيادة العامة في كوبري القبة لمقابلة أعضاء مجلس الثورة».
(21)
ونأتي إلي تعسفات صلاح نصر في تصوير اللقاء فنري تعبيرًا قاسيًا عن طبقية أو عنصرية يحس بها صلاح نصر تجاه ضابط لم يكن من الضباط الأحرار، ومن ثم فإن صلاح نصر يري حديث النحاس إليه قد وقع في محظور الظن، بينما النحاس العظيم عامل الضابط علي أنه واحد من جيش الشعب الذي قام بما قام به.
ولعمري.. هل كان صلاح نصر يريد من النحاس أن يسأل الضابط عن بطاقة عضويته في التنظيم الذي قام بالثورة قبل أن يحييه بمثل هذه التحية الواجبة؟
«فما إن ولج مدخل المبني حتي استقبله اليوزباشي محمد فؤاد نصر أركان حرب القيادة، وظن النحاس أنه من رجال الثورة فبادره بقوله:
«إن مصر تفخر بما قمتم به، وقد أديتم رسالتكم، وعلينا أن نكمل المشوار».
«وصعد النحاس وزميله فؤاد سراج الدين إلي الطابق العلوي لمقابلة أعضاء مجلس القيادة… كان الإرهاق يبدو علي وجوه كل من كان في مبني القيادة سواء من أعضاء مجلس القيادة أو من الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة منذ الثالث والعشرين من يوليو.. لم يكونوا قد ذاقوا طعم النوم عدة أيام، ولم يسكنوا إلي الراحة.. فكسا الإنهاك والتعب وجوه كل الضباط، وبدت علي وجوههم غلالة من الفتور ظن النحاس أنها مبيته، ولهذا لم تكن المقابلة دافئة».
(22)
ومع أن صلاح نصر سرعان ما يعترف بقيمة مساندة الوفد للثورة فإنه يسارع إلي الشاطئ الآخر من نكران الجميل ليتحدث عن أن هذه المساندة لم تحقق للوفد استلام الحكم.
وهو يلقي الضوء مرة ثانية علي نوايا عبد الناصر مدللًا علي الأهداف الحقيقية لهذه النوايا التي بدت بريئة للوهلة الأولي.
«وأبدي النحاس ترحيبه لأعضاء مجلس القيادة، وأعلن تأييده للثورة ومساندتها، والواقع أن هذا التأييد كان مساندة كبيرة للثورة، فقد التفت القاعدة العريضة من أعضاء حزب الأغلبية تؤيد الثورة التي باركها الزعيم».
«ولكن مع ذلك لم تحقق هذه المساندة نوايا الوفد في استلام الحكم، إذ كان عبد الناصر مصرا علي ضرورة أن تقوم الأحزاب القديمة بتطهير صفوفها، وهذا يعني حدوث انشقاق داخل الأحزاب، فضلا عن أن عبد الناصر كان يهدف من وراء ذلك تعرية الأحزاب أمام الشعب لما ارتكبته من مفاسد سياسية، وانحراف عن الخط الوطني، ومن ثم تضعف شوكة الأحزاب، ويفقد الناس الثقة فيها».
«وهكذا لم يمرأسبوع واحد علي الثورة، حتي طلب مجلس القيادة من الأحزاب السياسية القديمة في الحادي والثلاثين من يوليو 1952، أن تعلن برامج جديدة واضحة للشعب، وأن تقوم بتطهير صفوفها قبل أن يسمح للأحزاب بممارسة الحكم، وقيام الحياة النيابية».
(23)
ويكرر صلاح نصر هذا الاعتراف الواضح بأن دعوة التطهير لم تكن إلا طُعمًا.. وأن الوفد ابتلع هذا الطعم، وهو يبدي سعادة وحبورًا بنجاح خطة الضباط الأحرار في إحداث الإنقسام داخل الوفد.
«وكانت دعوة التطهير طعما ابتلعه حزب الوفد كغيره من الأحزاب، فقد اجتمعت هيئة الوفد وقررت إجراء التطهير داخل الحزب تقربًا من الثورة، وظنا أن الحزب بعد قيامه بحركة التطهير سوف يصبح الحزب المؤهل لتولي السلطة.. وتحقق ما كان يبغيه عبد الناصر، إذ حدث انشقاق داخل الحزب، وقام فؤاد سراج الدين يعارض فكرة التطهير، وساندته قلة من الحزب، ونادي بأن تقوم به سلطة قضائية.. ولكن الوفد قرر بالأغلبية إجراء عملية التطهير، وأصدر في الرابع من أغسطس سنة 1952 قائمة بأسماء الذين قرر الوفد طردهم وعددهم أربعة عشر عضوًا».
«وأعلن الوفد أن التطهير الذي قام به إما لأسباب تتصل بنزاهة الحكم، وإما نتيجة عدم الانضباط الحزبي. وذكر الوفد أن أعضاء البرلمان الذين فصلوا من الهيئة الوفدية، يرجع ذلك إلي استغلال عضويتهم في صفقات تجارية».
«وقد أدت حركة التطهير إلي انقسامات خطيرة داخل حزب الوفد، وأصبح يضم الحزب عدة شيع، ومجلس الثورة يراقب ما يجري، ويدعم الانقسام بأن يعلن بين حين وآخر أن الأحزاب لم تستجب للثورة، ولم تقم بتطهير صفوفها كما ينبغي».
«فمثلًا أعلن اللواء محمد نجيب في التاسع من أغسطس سنة 1952 علي صفحات جريدة المصري: بأنه غير راض عن الطريقة التي اتبعها الوفد في تطهير صفوفه، كما نوه بأنه غير راض عن الطريقه التي استجابت بها الأحزاب لتطهير صفوفها من عناصر الفساد الذي يعد شرطًا حيويا للعودة إلي حكومة برلمانية قديرة وأمينة علي مصر».
(24)
وينتقل صلاح نصر إلي الخطوة السريعة التي عبرت بها الثورة عن رغبتها الأكيدة في السيطرة التامة علي مقدرات الحياة الحزبية تمهيدًا للخلاص تمامًا من هذه الحياة.. ومن العجيب أن صلاح يروي فيما يرويه ما يدل علي مدي ما كان الوفد يتمتع به من طواعية واحترام للنظام، بما لا يتعارض مع حفاظه علي أبنائه وعلي انتماءهم له:
«… علي أنه بصدور قانون تنظيم الأحزاب في التاسع من سبتمبر 1952، أصبحت الأحزاب ملزمة بإيداع أموالها في المصارف، وقد نص القانون علي أن تقوم الأحزاب بتقديم إخطار عن تكوين الحزب إلي وزارة الداخلية، مشفوعا ببيان عن نظام الحزب وأعضائه والمؤسسين له وموارده المالية.. وقد أعطي القانون وزير الداخلية حق الاعتراض علي تكوين الحزب، ويعرض في هذه الحالة علي القضاء الإداري.. وقام الوفد بإيداع أمواله في أحد البنوك، وبذلك أصبح مصدر تمويله تحت رقابة الثورة».
«وصدر تشكيل الوفد الجديد وقد خلا من أسماء معروفة علي رأسها فؤاد سراج الدين، ومحمود سليمان غنام، وكانت الثورة قد اعتقلتهم، ومن ثم رؤي التريث في ضمهم حتي يتبين ما سوف يسفر عنه الاعتقال، ولقد وافق النحاس علي هذا الإجراء رغم أنفه، محافظة علي تماسك حزب الوفد، وحينما أرسل فؤاد سراج الدين استقالته للحزب بعد صدور التشكيل الجديد، رفض النحاس والهيئة الوفدية البرلمانية قبول استقالته».
(25)
ويتحدث صلاح نصر عن موقف الوفد من قانون الإصلاح الزراعي بطريقة ملتوية، تحقق ما روجته الثورة عن نفسها عن موقفها «الفذ» من هذه القضية، وهو ترويج بعيد عن الحقيقة وعن الجوهر، وهو ما أشرنا إليه في فقرة سابقة من هذا الفصل (الفقرة 16):
«… كان مجلس الثورة قد أعلن في بدء قيام الثورة أنه سيعمل علي إعادة الحياة النيابية في ظل الدستور، وكان النحاس يأمل أن يستلم السلطة من الثورة. فلما مرت الأيام وأحس النحاس أن الثورة تتلكأ في تسليم السلطة، وبدا منها أنها تعد نفسها لممارسة الحكم. حاول النحاس أن يذكر الثورة بوعودها، فكلف فؤاد سراج الدين أن يتصل بالواء محمد نجيب ليذكره بوعود الثورة».
«وكان اليوزباشي عيسي سراج الدين أحد أقارب فؤاد سراج الدين ومن الضباط الأحرار هو حلقة الاتصال بين مجلس الثورة وفؤاد سراج الدين، وعن طريق هذا الضابط تم لقاء بين أعضاء مجلس الثورة وفؤاد سراج الدين في منزل اليوزباشي عيسي سراج الدين.. وكان هذا الأسلوب متبعا في أوائل الثورة، بأن تتم لقاءات سياسية في منازل الضباط الأحرار».
«وفي هذا الاجتماع حضر من مجلس الثورة كل من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، كما حضره أيضًا القائمقام أحمد شوقي الذي كان يطمع في الانضمام إلي مجلس الثورة، بعد اشتراكه في الثورة ليلة قيامها، وكان يمت بصلة قرابة لعلي ماهر».
«وفي هذا اللقاء تمت بعض مناقشات كان أهمها مشروع قانون الإصلاح الزراعي.. وكان فؤاد سراج الدين قد أبدي في هذا الاجتماع بعض الملاحظات عن تعيين أقارب بعض رجال السلطة الذين طهروا من مناصبهم ثم عينوا في مناصب أخري حساسة، وضرب بذلك مثلا اللواء أحمد طلعت حكمدار الإسكندرية الذي طهر من الشرطة، وعين مراقبا لوزارة التموين لقرابته لعلي ماهر وأحمد شوقي».
«وأبدي فؤاد سراج الدين بعض التحفظات علي مشروع قانون الإصلاح الزراعي، فقال: إن تنفيذ المشروع سوف يؤدي إلي تدهور بالثروة الزراعية، لأن تفتيت الملكيات سوف لا يبيح للمالك الصغير ما يتاح للمالك الكبير من إمكانيات تربية الأعداد الكبيرة من الماشية، كما أن رتب القطن سوف تتدهور نتيجة ضعف إمكانات الفلاح الصغير».
«ودار نقاش داخل حزب الوفد، فكان هناك من يؤيد المشروع، وقد أخذ النحاس هذا الجانب، وكان هناك من يعارضه وقد أخذ فؤاد سراج هذا الجانب».
«وفي يوم الخامس من سبتمبر، كانت الغالبية في هيئة الوفد تؤيد المشروع وأعلن الوفد موافقته عليه، مع إبداء ملاحظات وتعديلات يسيرة تقرر إبلاغها إلي المسئولين».
(26)
هكذا نري صلاح نصر في نهاية الفقرة السابقة يقر بالحقيقة، وهي أن الوفد أيد مشروع الإصلاح الزراعي وأعلن موافقته عليه.. ومع هذا فإن صلاح نصر يقفز علي هذا الموقف الوطني المخلص والمتعاون مع الثورة ليبدأ حديث الشماتة في الوفد، وهو حديث مغلوط ومخلوط بالرغبة في إظهار فوز الثورة بالباطل.. وانظر إليه وهو يروي الأحداث مجترئًا علي الحق وعلي التاريخ وعلي إرادة الشعب.. لكن الحقيقة أنه ليس لنا أن نتوقع غير هذا الذي يرويه علي هذا النحو الفظيع:
«علي أن من الملاحظ أن حزب الوفد الذي شهد له ـ تاريخه الطويل ـ مواقف عديدة تعبر عن صموده أمام الضغوط وإصراره علي قبول التحديات، كان ينحني أمام ضغوط الثورة ويرضي بتنازلات متتالية.. فقد تنازل أول مرة حينما قام بتطهير بعض أعضاء الهيئة الوفدية استجابة لإرضاء الثورة، ثم قدم تنازلا آخر بسكوته عن اعتقال بعض أعضاءه البارزين وعلي رأسهم فؤاد سراج الدين، وها هو يستعد للتنازل مرة ثالثة لطرد النحاس رئيس الحزب، لولا تطور الأحداث.. ذلك أن سليمان حافظ نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، انتهز فرصة ما يتمتع به من سلطان، لإشباع رغبته في ضرب حزب الوفد ـ عدوه اللدود ـ في شخص زعيم الحزب، فقام بإبلاغ الدكتور محمد صلاح الدين بأنه أصبح لا مفر من استبعاد مصطفي النحاس من كل تنظمات الوفد الجديدة».
«وساد حزب الوفد هرج ومرج في جميع أنحاد البلاد، وأثيرت مناقشات حادة حول بقاء النحاس زعيمًا للوفد، وصل الأمر إلي حد تشبث لجان الوفد بالنحاس حتي لو أدي ذلك إلي حل الحزب».
«ولم يكن هذا التأييد وحده هو الذي دعم مركز النحاس كرئيس للوفد، بل جاءت الرياح من الجنوب تحمل معارضة الحزب الوطني الاتحادي من السودان، لإبعاد النحاس عن زعامة الوفد. ومعني ذلك احتمال تصدع العلاقات بين مصر والسودان في فترة من أحرج الفترات التاريخية».
«وظن الوفد أنه سوف يحرج مجلس الثورة نتيجة هذا التأييد، سواء في الداخل أو الخارج، فقرر أن يتحدي الثورة تحديا سافرا. ففي يوم السابع عشر من سبتمبر سنة 1952 دعا الوفد إلي عقد اجتماع، وقرر عدم تقديم إخطار إلي وزير الداخلية».
«وقام بالتوقيع علي هذا القرار كل من مصطفي النحاس، وعبد السلام فهمي جمعه، وعلي زكي العرابي، وعبد الفتاح الطويل، وأحمد حمزة، ومحمد محمد الوكيل.. وكان قد اعتذر ثلاثة من أعضاء الوفد عن حضور الاجتماع لمرضهم، ولما تم الاتصال بهم تليفونيا وافقوا علي القرار».
(27)
وانظر إلي تصوير صلاح نصر لاجتراء الثورة علي مشاعر الشعب وروحه وعلي الأغلبية وآرائها.. وهي تتعامل مع كل هذا باستخفاف، يصفه صلاح نصر نفسه بشعور يجمع بطريقة فجة وقاسية بين الاعتراف (!!) والانتشاء (!!) وتصوير النصر الأجوف (!!):
«ولكن هل امتثلت الثورة لهذا القرار؟ وهل عملت حسابا للوفد وهو يمثل حزب الأغلبية؟ لقد قرر مجلس الثورة أن يتصدي لهذا التحدي في إصرار، فنشر بلسان المجلس تصريحا يندد بمسلك الوفد وبمناوراته الحزبية، ووصف ما حدث بأنه تهليل أجوف، لا يهدف إلا تحقيق رغبة لاستثناء رئيس الوفد وبعض أعضائه من تطبيق قانون الأحزاب الذي وافق عليه الوفد من قبل.. وفي إصرار أعلن المجلس: «إن مصر لا تعرف الاستثناء ولن تعرفه».
«ولم يكتف المجلس بذلك، بل قرر أن يتحدي النحاس في شعبيته، فقام محمد نجيب بعدة رحلات إلي الأقاليم أُستقبل فيها استقبالا رائعا، وفي «سمنود» مسقط رأس النحاس، كان استقبال نجيب استقبالا تاريخيا، مما جعله يصرح بأن الأحزاب السياسية القديمة قد لفظت أنفاسها، وأن الجماهير تتوق إلي رؤية مصر وقد تخلصت من هذه الأحزاب».
«ولم يستطع الوفد أن يجابه تيار الثورة، فتراجع عن قراره السابق، وقام في السادس من أكتوبر بتقديم إخطاره إلي وزير الداخلية، وعين مصطفي النحاس رئيسا فخريا مدي الحياة، وأصبحت الهيئة التأسيسية للوفد تتكون من عبد السلام فهمي جمعه رئيسا، وعضوية كل من عبد الفتاح الطويل وزكي العرابي ومحمد الوكيل وأحمد حمزة».
(28)
ثم ها هو صلاح نصر شأنه شأن المنتمين للديكتاتوريات يسخر (بكل وضوح وصراحة) من القانون ومن روح القانون ويصف كل هذا بأنه عقلية ما قبل الثورة!!
ومن الطريف أن صلاح نصر أثبت لإبراهيم فرج شجاعة وجسارة لم يتاجر بهما، لكن المؤسف أن يتصور صلاح نصر أن الوفد ذهب في ذمة التاريخ، بينما عاد الوفد إلي الوجود بعد أن ذهب صلاح نصر نفسه إلي ذمة التاريخ.. وهذه هي حكمة التاريخ.
«علي أن الوفد الذي كان يفكر بعقلية ما قبل الثورة، دفع بعدم دستورية القانون رقم 179 لسنة 1952 الخاص بتنظيم الأحزاب السياسية وأمام القضاء الإداري بدا واضحا سفور الصراع بين مجلس الثورة والوفد، وقام فحول فقهاء الوفد بتفنيد عدم دستورية القانون.. لقد كان الوفد يعيش بعقلية ما قبل ثورة 23 يوليو، وكأنه لم تقم ثورة، فقررت الثورة ممارسة الحكم بنفسها».
«وفي أثناء عرض قضية الخلاف علي قانون الأحزاب، قام محامي الحكومة وقال في دفاعه: «إذا حل حزب الوفد فهو كشخصية معنوية تؤول أمواله…» فما كان من إبراهيم فرج الوزير الوفدي إلا أن قاطعه محتدا وقال: «الوفد لن يحل، ولا تستطيع أنت ولا سليمان حافظ حله.. الوفد تحله الأمة وتبقيه الأمة!».
«واستمر صراع الوفد مع الثورة سافرًا، حتي قامت الثورة بحل الأحزاب في السادس عشر من يناير سنة 1953، فذهب الوفد مع باقي الأحزاب في ذمة التاريخ».
(29)
وفي مقابل هذه التصويرات الفظة لصلاح نصر فإن الرئيس محمد نجيب يصور في مذكراته ما يوحي بأنه اتخذ موقفا عادلا أو نبيلا من النحاس باشا حين طلب عبد الناصر تحديد إقامته ضمن المعتقلين، لكن الرئيس نجيب بحكمته ـ حسب روايته ـ لم يوافق علي مثل هذا الاقتراح:
«… قدم جمال عبد الناصر لمجلس الثورة، بصفته وزيرًا للداخلية، كشفًا بأسماء بعض الزعماء السياسيين، الذين رأي أنهم خطر علي النظام، ورأي أن من الضروري اعتقالهم. وكان من بينهم مصطفي النحاس، الذي طلب تحديد إقامته.. ورفضت.. ووافقني المجلس علي رفضي.. وشطب اسمه من الكشف.. ووقعت الكشف.. لكني فوجئت بأنهم أعادوه للكشف بعد توقيعي.. واعتبرت ذلك تزويرًا لا يمكن السكوت عليه.. وطلبت شطب النحاس من جديد.. فقال جمال عبد الناصر:
«إن شطب اسم النحاس بعد أن نشر الكشف في الصحف يزيد الموقف بلبلة».
«وتعجبت من تصرف عبد الناصر، وتعجبت من موقفه من النحاس، الذي سبق أن قال لي عنه:
«إنه رجل طيب واللي يتعرض له ما يشوفش خير».
«ومرة أخري اعتكفت في بيتي».
«كان ذلك في 12 أكتوبر، وصدرت نشرة طبية أخري تقول:
«أنني اعتكفت في بيتي، بسبب انحراف مفاجئ ألم بصحتي في الصباح، لم يمكنني من الذهاب إلي القصر الجمهوري بعابدين، وتأجلت جميع مقابلاتي الرسمية، وكان منها مقابلة سفير العراق، ووزير استراليا المفوض».
(30)
وتأتي جنازة النحاس لتكون ختاما متسق الطبيعة مع المعاناة التي عاناها النحاس باشا في العهد الجديد، ولست بمستطيع أن أنقل ما يرويه إبراهيم فرج من اضطرار قيادات الوفد وأصدقاء النحاس لتدبير نفقات حياته في أخريات هذه الحياة، وهو أمر مؤسف فضلا عن تصور وقوعه، ومن ناحية أخري فإنه يمثل صورة من صور الفخر «الوفدي» بلا شك، ومع أن الرئيس عبد الناصر قد أمر بنفسه بصرف مبلغ شهري للنحاس كما يروي إبراهيم فرج، إلا أن هذا المبلغ كان أقل مما تتطلبه حياة النحاس وعلاجه، وقد حدث هذا مع أن روح النحاس من الثورة ومن عبد الناصر ومن إنجازات الجلاء وتأميم القناة كانت روحا رائعة وأبوية ومنصفة، علي نحو ما نقرأ التفاصيل في كثير من فقرات مذكرات صلاح الشاهد «بين عهدين».
ومع هذا فإن معاناة النحاس لم تنته بالطبع بوفاته، وقد كان الرئيس السادات علي سبيل المثال بدون مبرر لائق لا يمانع في أن يبدو متحاملا أشد التحامل على النحاس حتي بعد وفاته، وقبل هذا فقد كانت جنازة النحاس نفسها مؤشرا لهذه المعاناة من ناحية ولحب الشعب له من ناحية أخري:
«… وفي اليوم التالي وحتي الساعة الحادية عشرة صباحا، لم يكن أحد قد حضر في السرادق المقام بميدان التحرير، واتصلنا بعلي صبري، وكان رئيسا للوزارة وقتها وطلبنا منه أن يوافق علي أن ندفنه في ضريح سعد زغلول، لكنه لم يشأ أن يبت في الأمر بسرعة، وفجأة انشقت الأرض عن مئات الألوف من الناس تدافعوا لميدان التحرير، أكثر من نصف مليون أغلبهم من الشباب الذين لم يروا النحاس باشا، وساروا في الجنازة وهي ظاهرة عجيبة تحتاج إلي تحليل علمي وتاريخي وإلي دراسة لأنها ظاهرة فريدة حقًّا».
«المهم أن الجنازة انطلقت كالقنبلة وعجزنا، فـؤاد باشا وأنا عن مواصلة السير فيها، فاتجهنا إلي المقبرة بمدافن البساتين لننتظر وصول الجثمان.. في المقبرة؟ لا شاهد.. ولا مبني.. إنما أرض فضاء كعامة الناس، وهو كان يحب الناس، وكان مفروضا أن تدفن الجثة الساعة الحادية عشرة صباحا، وانتظرنا حتي الثالثة والرابعة بعد الظهر دون أن يصل الناس بها، وكان خلفنا سيارة بوليس بها لاسلكي وسمعنا الضابط يقول: قنابل مسيلة للدموع، طلقات رصاص، فسراج الدين باشا قال له: «هم فين دلوقت» فقال الضابط«أخذوه من سيدنا الحسين، ومتجهين إلي ضريح سعد زغلول ليكسروا بابه ويدفنوا النحاس فيه»، فقال له فــؤاد سراج الدين باشا: الحق أحسن يفتكروا أننا موافقون علي هذا، أعطهم أمرا باللاسلكي وقل لهم، فــؤاد سراج الدين بيقول لكم اخطفوا الجثة وأحضروها حالا، مش معقول الجثة تظل في الشوارع سبع ساعات».
«كان الناس يحملونها وكلما دخلوا مسجدا بها يتساءلون: «ماذا كان يحب النحاس؟ فيقول البعض، كان يحب سيدنا الحسين، فيتجهون به إلي مسجد الحسين وهكذا.. المهم جاءوا به حوالي الساعة الرابعة مساء.. ولم تكن هناك مقبرة.. والرئيس عبد الناصر قال لنا عن طريق صلاح الشاهد.. اطمئنوا أننا سنبني مقبرة للنحاس.. فلا تكلفوا أنفسكم شيئا، لكن يبدو أن الظروف لم تسعفه.. وبنينا نحن المقبرة أما كيف بنيت.. فهذه قصة لا بد أن تروي.. كان للنحاس باشا في سمنود بقايا أرض فضاء ورثها عن أبيه.. وقدرت تكاليف المقبرة بحوالي أربعة آلاف جنيه، وذهبت إلي سمنود لأبيع الأرض وقلت للناس، نريد أن نبيع الأرض لنبني مقبرة للنحاس فسألوني: «المقبرة تتكلف كام؟».
«فقلت «أربعة آلاف جنيه» فإذا بأحدهم يتقدم ويدفع الأربعة آلاف جنيه في الأرض التي لا تساوي نصف هذا المبلغ في ذلك الحين، لكن يشاء ربك أن يؤجرها المشترون الآن بأربعمائة جنيه في الشهر لأحد البنوك، أو شركات القطاع العام، هكذا رد الله له الفضل مضاعفا، لكن تكاليف المقبرة زادت عن ذلك كثيرًا والزيادة سددها فــؤاد سراج الدين باشا.. هذا هو النحاس».
(31)
ويروي علي سلامة وهو أحد مَنْ اعتقلوا بسبب جنازة النحاس أنهم فقدوا حريتهم لمدة تزيد علي 25 شهرا:
«قضيناها في معتقلات القلعة وطرة في المدة من 25 أغسطس 1965 ـ 14 نوڤمبر 1967، والقراران الجمهوريان رقمي 3432 مكرر لسنة 1965، و2026 لسنة 1967 خير شاهدين علي ذلك».
(32)
وإذا كان من ختام لهذا الفصل فإني أنقل عن الأستاذ خالد محمد خالد ما قاله معلقا عما تركته الجنازة من انطباعات في نفسه:
«لقد رأيت مصطفي النحاس خطيبا.. ولكني لم أره أخطب منه في مثل هذا اليوم العظيم».