الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (19)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (19)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر

العروبة وقضية فلسطين

(1)

في تاريخ النحاس علامات بارزة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها حتي مع كل التجاهل والتحامل الذي أريق علي تاريخ النحاس وتاريخ الوفد، وفي مقدمة هذه العلامات أربعة أدوار مهمة: دور النحاس باشا في إنشاء الجامعة العربية، وفي دعم استقلال الدول العربية، وفي تشجيع حركات التحرر الوطني، وفي مساندة قضية فلسطين.

(2)

ونبدأ بالإشارة إلي أن التوقيع علي ميثاق جامعة الدول العربية وما تطلبه هذا التوقيع من إجراءات قد تم في عهد وزارة النحاس، وقد تم التوقيع في ٧ أكتوبر ١٩٤٤ في الإسكندرية بحضور وفود مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن، وقد كان من حسن حظ النحاس أن كان هذا العمل هو خاتمة المسك لأعمال وزارته، فقد أقيل في اليوم التالي، ومن الطريف أن نشير إلي أن الملك فاروق نفسه رغم ما عرف عنه بعد ذلك من رعونة كان في ذلك الوقت من الحصافة بحيث تريث في إقالة النحاس حتي يتم توقيع الميثاق.

وهكذا توجت جهود النحاس باشا والوفد بإعلان هذا البروتوكول الذي صار فيما بعد أساسا استمدت منه مواد ميثاق جامعة الدول العربية، إلا أن حديث إبراهيم فرج في مذكراته انشغل ـ بدون داع ملح ـ بالرد علي المزاعم الشخصية التي حاولت تقليل قيمة جهد النحاس والوفد في القضايا العربية، ونسبة الفضل في قيام الجامعة إلي الإنجليز:

«وقعت الدول العربية السبع المستقلة وقتها علي بروتوكول الإسكندرية في ٧ أكتوبر (تشرين أول) عام ١٩٤٤.. والذي بني عليه ميثاق الجامعة العربية في العام التالي، وإن كان البروتوكول أوسع مدي من الميثاق وأشمل منه بسبب إلغاء بعض مواده، فالبروتوكول كان به مادة تنص علي أن الدول العربية المتخاصمة التي تطرح خلافاتها علي الجامعة لكي تفصل فيها.. ينبغي أن تخضع لرأي الأغلبية في حلها بوصفها هيئة تحكيم».

«هذا النص سبق النصوص المثيلة في ميثاق الأمم المتحدة.. لكن للأسف ألغي من الميثاق.. وهكذا فإذا كان البعض يردد أن إنشاء الجامعة العربية كان فكرة إنجليزية.. فهو يجهل ما عرضه من الكتاب الأزرق (يشير إلي الكتاب المنسوب إلي إيدن بشأن إنشاء الجامعة العربية) وصدور تصريح إيدن بناء عليه.. ربما كان هناك توافق زمني».

«وما فعله النحاس باشا لم يرق للإنجليز.. ولم يرق للملك فاروق أيضًا لأنه كان يريد تزعم هذا التجمع العربي.. وظن أن النحاس باشا ينافسه علي ذلك.. وكان متضايقا جدا من الثقة الكبيرة التي يلقاها النحاس باشا من زعماء الدول العربية ولا يريد له أن يحظي بهذه المكانة.. والإنجليز لم يكونوا يريدون هذا التوسع في الجامعة.. وهكذا التقت مصلحة الملك والإنجليز علي ضرورة التخلص من النحاس باشا.. فأطلقوا يده ليقيله في ٨ أكتوبر (تشرين أول) في عام ١٩٤٤ جزاء له علي ما صنع».

(3)

وقد روت مذكرات النحاس باشا بعض ما صادفه من صعوبات في أثناء عمله من أجل إنشاء الجامعة العربية:

«وبدأت العقبات التي وضعها رؤساء الوزارات، فتارة يعترض توفيق أبو الهدي رئيس وزراء الأردن علي شكليات لا تقدم ولا تؤخر، وتارة يتكلم نوري السعيد حول عدم إغضاب الإنجليز واستشارتهم في أمور الجامعة، وثالثة يقول الشيخ حسين الكبسي: إن الإمام يحيي أوفده ليستمع ولا يبدي أي رأي أو يشترك في أي قرار إلا إذا رجع إلي مولاه».

«وهكذا دخلنا في متاهات وبدأنا نخلق بأيدينا العقبات، وتقريرًا للحقيقة وإنصافًا للتاريخ أقرر أن سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا كان رجلًاواضحًا صريحًا يقول ما يعتقد ولا يظهر ما لا يبطن، وكان رياض الصلح رئيس وزراء لبنان لولبيًا مرنًا تارة يؤيد نوري السعيد وأخري يجامل رئيس وزراء سوريا، وعقدا عدة اجتماعات لم ننته فيها إلي النتيجة الحاسمة التي أريدها وهي أن تظهر إلي الوجود جامعة الدول العربية وتصبح حقيقة ملموسة، وتركت اللجان تداوم اجتماعاتها وعاد رؤساء الحكومات إلي بلادهم علي أن أدعوهم عند انتهاء الأعمال التحضيرية».

(4)

وهذه فقرة ثانية من مذكرات النحاس تلخص رؤيته الثاقبة لضروب آخري من المعاناة وتعكس قدرته الفائقة علي تجاوزها:

«… كنت قد صممت علي أن يتضمن ميثاق الجامعة العربية مادة خاصة تنص علي أنه إذا اعتدي علي بلد عربي من أي جهة كانت أو أي دولة أن تقوم الجيوش العربية كلها مجتمعة بالدخول مع المعتدي عليها لصد الاعتداء عليها ومحاربة من يحاربها، كما أصرت علي أن تكون الجامعة مستقلة لا سلطان لأحد عليها ولها أن تستورد أسلحتها ومعداتها التي تحتاج إليها من أي مكان تشاء إلي آخر ما جاء في الميثاق.

«وضايق هذا إنجلترا ومستر إيدن وزير خارجيتها بالذات فأوعز إلي سفيره في مصر أن يحاول منع هذا النص فرفضت رفضًا باتًا واستعانوا بالأردن والعراق وعارضا في هذا النص ولكنني استطعت باتصالات متعددة ومجهودات شاقة أن أحملهما علي الموافقة وإلا لو حذف بند الدفاع المشترك لأصبحت الجامعة هيئة تابعة للإنجليز كسواها ولا قيمة لها ولا فائدة للبلاد العربية من ورائها».

«وكانت مشاورات ومفاوضات وتنقلات بين عمان وبغداد ومصر وصنعاء والسعودية وتركتهم حتي يعودوا موافقين متفقين، واقتضي الأمر أن أوفد إلي السعودية سكرتير عام مجلس الوزراء علي كمال جيشة وحملته رسالة إلي الملك عبد العزيز آل سعود وشرحت له الغرض من هذا النص فوافق بعد أن اقتنع».

(5)

وهذه فقرة ثالثة في المذكرات تدل علي حرص النحاس علي إتمام جهوده بدأب وصدق نية من دون أن تجهضها الدعاية أو الإعلان:

«وحلّ صيف جديد وانتقلت الوزارة إلي الإسكندرية ودعوت اللجنة التأسيسية للجامعة العربية إلي الاجتماع وخصصنا لها قصرًا في محطة «استانلي باي» وخصصنا للجنة الصياغة إدارة جامعة فاروق بمحطة الشاطبي وطلبت من الجميع بذل أقصي الجهد في إنجاز ميثاق الجامعة لأني متأكد من المؤامرات التي تحاك للوزارة من الإنجليز ومن القصر. وبذل الموظفون المختصون من جهتهم مجهودًا مشكورًا في وفرة الإنتاج، كما استطعنا بعد جهد شاق أن نقنع الأردن والعراق بقبول ميثاق الدفاع المشترك بعد اتصالات بعاهل الأردن تارة والوصي علي عرش العراق تارة أخري، وكتب لنا التوفيق ولم يبق إلا صياغة ميثاق الجامعة الصياغة النهائية وإعلانه للعالم».

«وكانت الرسل والتقارير ترد إليّ تباعًا وبكثرة عن أن الملك يسعي حثيثًا لدي الإنجليز ليمكنوه من إقالة الوزارة وهم بدورهم يمهلونه حتي تتبين نتيجة الحرب، وكأن أخر تقرير وصل إليّ أن إنجلترا سمحت لفاروق بإقالة الوزارة إذ علم أنها ستعلن نبأ ظهو الجامعة العربية إلي الوجود، فنبهت علي الذين يضعون اللمسات الأخيرة للميثاق أن يلتزموا جانب الحذر الشديد وألا يذيعوا أو يصرحوا بأي شيء يشتم منه أن الجامعة ستظهر، وبالغوا هم في الحذر فأوصدوا عليهم الأبواب وواصلوا الليل بالنهار حتي إذا ما كان مساء أكتوبر 1944 تأكد لي أن فاروق أعد كتاب الإقالة وأنه ينتظر من الإنجليز أمرًا بإرساله، فذهبت إلي حيث يجتمع المكلفون بإعداد ميثاق جامعة الدول العربية ونبهت عليهم ألا يناموا ولا يتحركوا من أمكنتهم إلا إذا أعدوا الصياغة النهائية وأرسلوها إلي محطة الإذاعة لإذاعتها في نشره الصباح في الصحف لنشرها».

«ونفذوا ما طلبته بدقة وسرية لم يعلم بها أحد وفوجئت البلاد في الساعة السابعة من صباح يوم 8 أكتوبر 1944 بإذاعة ميثاق جامعة الدول العربية كاملًا غير منقوص، وأصبحت الجامعة حقيقة واقعة وخرجت الصحف وفيها نص الميثاق بأحرف كبري وفي أوائل الصحف».

(6)

وقد تحدث النحاس بأسف (في مذكراته المروية) عما قامت به وزارة أحمد ماهر من تعديل لميثاق جامعة الدول العربية فيقول:

«وكان أول عمل بدأته وزارة أحمد ماهر لتكسب رضا الإنجليز إعلان مصر دخول الحرب رسميًا، مما هز الأوساط المصرية جميعًا وأثار سخطها وغضبها، ثم ثني أن نفذ للإنجليز مطلبًا آخر يهمهم تنفيذه وهو تعديل ميثاق جامعة الدول العربية».

«وكانت إنجلترا من ناحيتها قد أعدت للأمر برمته فأوعزت إلي أصدقائها من البلاد المشتركة في الجامعة بأن تخرج جميع رؤساء الوزارات التي وقعت ميثاق الجامعة، فلم نلبث أن رأينا نوري السعيد رئيس وزراء العراق يستقيل ومن بعده توفيق أبو الهدي رئيس وزراء الأردن، كما أعلنت استقالة سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا بعد أن أرغمه رئيس الجمهورية علي ذلك، وكذلك استقال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان».

«وعاد ممثلو الجامعة العربية الجدد إلي اجتماع يعقد في مصر بالطاقم الجديد فحضروا وعرض عليهم تعديل الميثاق وحذف النص الخاص بالدفاع المشترك فوافقوا عليه بالإجماع وأصبحت جامعة الدول العربية كما أرادها «أيدن» وزير خارجية بريطانيا تمامًا».

(7)

وقد أشارت مذكرات حسن يوسف بإنصاف شديد إلي دور النحاس باشا، ودور الوفد في العناية بالعلاقات السياسية لمصر تجاه المشرق العربي والإسلامي، وإلي اقتداء الأحزاب المصرية الأخري بالوفد في العمل في هذا الخط، وهو يلخص المواقف بطريقة تتابعية ذكية تحفظ لأحزابنا السياسية جميعًا شرف المشاركة السياسية الجادة والوعي العميق والوطنية الحقة فيقول:

«… في هذه المرحلة بدأت تظهر ملامح سياسة خارجية مستقلة، كان أهم مظاهرها ما يمكن تسميته بسياسة الانفتاح علي الشرق، تمثل ذلك في بداية اهتمام مصر بقضية فلسطين، بدأ ذلك في سنة ١٩٣٧ عندما أثار واصف غالي باشا وزير الخارجية المشكلة في عصبة الأمم، ثم تطورت عندما دعت إنجلترا إلي عقد مؤتمر المائدة المستديرة بلندن، واستقبل محمد محمود باشا رئيس الوزارة في ١٩٣٨ عددا من وفود البلاد العربية لمناقشة المسألة، ثم الاشتراك بعد ذلك في المؤتمر، وتمثلت تلك السياسة أيضًا في التقارب الذي بدأ ينمو بين مصر وتركيا، إذ تبادل وزيرا الخارجية الزيارة الرسمية في ١٩٣٩، وأذكر أن تركيا كانت مهتمة بالجيش المصري ووجوب تعزيزه، وقد حكي لي عبد الرحمن عزام باشا أن الوزير التركي سأله عن حجم القوات المسلحة في مصر، فلما علم أنها لا تزيد علي ثلاثين ألفًا، أبدي استياءه من أن يكون هذا فقط هو حجم جيش بلد عظيم كمصر».

«وتمثلت سياسة الانفتاح علي الشرق أيضًا في أن مصر دعيت للانضمام إلي حلف سعد أباد الذي أبرم للدفاع المشترك بين تركيا وإيران والعراق وأفغانستان، وقد نوقش الموضوع في مجلس الوزراء (وزارة محمد محمود) وانقسم المجلس إلي فريقين مؤيد ومعارض، وأرجئ اتخاذ القرار، وكانت حجة المعارضين أن بلدان الحلف بعيدة عن حدودنا، بحيث يصعب إدراك وجود صلة أمن عسكري بينهم وبين مصر».

«وفي تلك الفترة أيضًا جرت مباحثات بين مصر والعراق لعقد معاهدة صداقة وتحالف بين البلدين، فلما علم الإنجليز بذلك أبدوا استياءهم من أن تجري تلك المباحثات دون أخذ رأيهم أو إحاطتهم علما بها».

(8)

ويذكر كثيرون للنحاس أنه في أثناء الحرب العالمية لم يدخر وسعا في الاعتراف بلبنان دولة مستقلة ذات سيادة، بل إنه عمل بصدق وإخلاص ودأب علي إنشاء مفوضية مصرية في بيروت، وذلك علي الرغم من أن ظروف الحرب كانت تمنحه الفرصة لتأجيل مثل هذه الخطوة التي كانت كافية لأن تثير فرنسا، التي كانت واحدة من أبرز الدول اللاعبة علي الساحة الدولية في ذلك الوقت.

كذلك ظل الوفد يقدم المساعدات المالية للحركات والمناضلين العرب اللاجئين في القاهرة، وكان يقدم هذه المساعدات كذلك وهو خارج الحكم من ميزانيته الخاصة بقدر ما يستطيع.

(9)

وفيما بعد هذا حاول الملك فاروق أن ينافس النحاس في هذه المكانة المتألقة بين الدول العربية، وهكذا عقد مؤتمر الملوك والرؤساء العرب في أنشاص 1946 برعاية فاروق، ولكن جاءت هذه الخطوة تالية لخطوة النحاس السابقة.

ومن الإنصاف لأنفسنا وزعامتنا الوطنية أن نشير بكل الفخر إلي ما يشهد به واحد من رجال الملك فاروق وهو كريم ثابت من أن الخطوات التي خطاها الملك فاروق في اتجاه الوحدة العربية لم تكن إلا محاولة منه للحاق بركب العظمة الذي قاده النحاس وحقق فيه ما سبق به الملك بخطوات واثقة في هذا المجال، ويعترف أنه ـ هو نفسه ـ لعب عند الملك علي وتر كراهية فاروق للنحاس باشا، وأنه استطاع من خلال هذا الوتر أن يحمس الملك لتحقيق توجيه عروبي عنده:

«… كنت أعرف يومئذ كرهه (أي الملك فاروق) لمصطفي النحاس ونقمته عليه، وكان النحاس قد أمضي بروتوكول الجامعة العربية المعروف ببروتوكول الإسكندرية، وأمضاه معه السيد نوري السعيد، وكان رئيسا للوزارة العراقية. في اليوم الذي رأيت الفرصة ملائمة لاستفزازه قلت له: لا شك أن النحاس اكتسب مقاما جديدا في البلدان العربية بسياسة الجامعة العربية وإمضاء بروتوكول الإسكندرية، فلماذا لا تنتزع هذه المكانة منه «بتبني» سياسة الجامعة العربية، فيعزي إليك كل فضل في المستقبل، وتصبح جلالتك زعيم هذه الحركة في نظر العرب جميعا!».

«فأطرق مفكرا، فأيقنت أن كلامي يشق طريقه إلي قلبه».

(10)

وللأستاذ حسنين كروم كتاب مهم سجل بعنوانه نصرا حقيقيا علي الذين لا يقصرون في محاولة تزوير التاريخ من أجل رؤية ضيقة، وقد جعل عنوانه «عروبة مصر قبل عبد الناصر» (١٩٤٢١٩٥٢)، وقد سجل في هذا الكتاب جهود النحاس الذكية والحثيثة في المجال العربي، وهي جهود تفوق بكثير كل الجهود اللاحقة، وفضلا عن هذا فإنها كانت بريئة تماما من نزعات الاستعلاء والزعامة التي تورطت فيها الثورة أو التي رغب فيها الملك فاروق هو الآخر من قبل. كما أنها كانت خالية تماما من الممارسات المخابراتية وانعكاسات بعض تصرفات العقلية الأمنية الضيقة.. وقد دفعنا نحن الشعب في العصور التالية ثمن بعض هذه الأخطاء.

ولهذا السبب فإننا نجد كثيرًا من الشعوب العربية والمناضلين العرب يرفعون مكانة النحاس إلي حيث لا يرفعون غيره من زعمائنا، ولست من أنصار تأديب الديماجوجيين بكثير من الأمثلة، ولكن تكفيني الإشارة إلي أن الشارع الرئيسي في أكثر من مدينة عربية كبيرة حمل اسم الزعيم الكبير مصطفي النحاس.

وفي أدبيات السياسة العربية أكثر من واقعة تثبت لنا بعض العون الصادق والغزير والكرم الذي كان النحاس يقدمه لحركات التحرير العربية والإسلامية قبل قيام الثورة.

(11)

وقد بدأ اهتمام النحاس بالشرق العربي في التكثيف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية التي واكبت بلورة الكيانات السياسية في هذه الدول، ونحن نعرف أن العراق شهدت في أثناء الحرب العالمية الثانية محاولة ثورية هي التي عرفت بثورة «رشيد عالي الكيلاني»، كما نعرف أن المد الوطني والثوري قد وصل أشده في سوريا ولبنان في تلك الفترة، ونعرف أيضًا بالطبع أن القضية الفلسطينية قد بدأت ملامحها في التشكل القوي والطرح علي بساط الحل الدولي.

وانطلاقا من المنطق نفسه فإن النحاس باشا والوفد كانوا لا يبخلون علي أشقائنا العرب في شمال أفريقيا بأي عون مادي أو دبلوماسي، وكانت مواقفهم في هذا الصدد واضحة ومشرفة، ولنقرأ بعض فقرات إبراهيم فرج التي تصور لنا طبيعة توجهات الوفد التحررية:

«… فلما توليت وزارة الخارجية عندما سافر محمد صلاح الدين للخارج.. قال لي:

«إن قادة حركات التحرير في شمال أفريقيا لا يرد لهم أي طلب».

«لكنه طلب مني أن أعود إلي السيد الحبيب بورقيبة إذا اختلط عليّ أي أمر وأنا كنت أعرفه وزارني بمكتبي مرات.. المهم.. بعد سفر صلاح الدين للخارج زارني بورقيبة في وزارة الخارجية وقال لي:

«علال الفاسي عايز خمسة آلاف جنيه».

«فقلت له: حاضر».

«فقال لي: ولا تسألني لماذا؟».

«فقلت: خلاص.. لن أسألك ما دمت طلبت ذلك».

«فقال: ما تسألنيش ليه؟».

«قلت: والله من الجائز أن يثار الموضوع إذا جاءني السفير وأنا لا أحب أن أكذب.. وأنا كنت أعلم عن طريق آخر أن علال الفاسي يريد هذا المبلغ لشراء أسلحة من مخلفات جيوش الحلفاء في الصحراء الغربية لإرسالها للمغرب للنضال ضد فرنسا، وقلت لبورقيبة:

«أرسله لي بعد يومين.. أكون قد أعددت له المبلغ».

«وجاءني علال الفاسي رحمة الله عليه… وكان رئيس حزب الاستقلال المغربي.. وبسيطا ومهذبا جدا.. وأعطيته الخمسة آلاف جنيه فقال لي: أنت عارف السبب؟».

«فقلت له: لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه».

ويسأل حسنين كروم: «هل أدي تأييد الوفد للمغرب إلي أزمة مع فرنسا؟».

ويجيب إبراهيم فرج: «نعم.. فالفرنسيون علموا بوسائلهم أننا نعطيهم مساعدات.. فجاءني السفير الفرنسي وكان وقتها كوف دي مورفيل.. وكان يقول إنه صديقي.. وأخذ يلف ويدور ويمكر عليّ وأنا ألف عليه وأمكر.. فقلت له:

«أنت بتلف وبتدور علي إيه؟ بتتكلم عن بورقيبة وعلال الفاسي ومصالي الحاج.. مالهم؟ إنهم أناس وطنيون وأنتم ظلمتموهم ظلم الحسن والحسين. نعم نحن نعاونهم.. لأننا زعماء حركة وطنية.. فهل تريدون أن نتركهم يموتون جوعا».

«ولما حاول الاسترسال في محاولته.. طلبت منه أن يكف عن هذه المحاولة ورجوته ألا يسألني أسئلة من هذا النوع.. لأنها لا تدخل في اختصاصه أو في اختصاصي.. المهم كنا نعاونهم جميعا.. وكانوا يجتمعون في مكتبي في بعض الأحيان».

«وكنا نساعد إسماعيل الأزهري كما كنا نساعد الوطنيين الإندونيسيين في القاهرة».

(12)

وقد وقف النحاس إلي جانب شعب لبنان وحكومته ضد فرنسا عندما قامت القوات الفرنسية في لبنان (نوفمبر ١٩٤٣) بتصرفات غاشمة، فأعلنت الأحكام العرفية وعطلت مجلس النواب، واعتقلت رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الوزراء رياض الصلح، ومعظم الوزراء والنواب، وعزلت رئيس الجمهورية وعينت أميل إدة رئيسا للجمهورية بدلًا منه، وقد كان رد فعل النحاس عنيفا حيث هدد فرنسا باعتقال الرعايا الفرنسيين في مصر، وقطع العلاقات معها، واجتاحت المظاهرات القاهرة وعددا كبيرا من المدن.

ويذكر التاريخ أن النحاس في هذه الفترة ألقي خطابا تعرض للعدوان الفرنسي علي لبنان، وقال: «لن أصبر كثيرا علي هذا الظلم النازل بأشقائنا الأعزاء، ولن يهدأ لي بال حتي ترفع القوة يدها ويعود رئيس الجمهورية الشرعي، ومجلس النواب الشرعي، والحكومة الشرعية سيرتها الأولي كراما أحرارا يعملون للمواطن اللبناني المستقبل».

وانتهت الأزمة بعودة الأوضاع إلي ما كانت عليه في لبنان بفضل يقظة النحاس، وسرعة تصرفه وقوة هذا التصرف، وقد بعث بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية برقية إلي النحاس يشكره علي جهده وعلي موقفه، وقال في ختامها: «ستذكر لبنان لكم وقوفكم إلي جانبه في كفاحه لكرامته واستقلاله ذكرا جميلا مخلدا».

ولا شك في أن هذا الموقف الحاسم الذي وقفه النحاس قد دعم توجه الاتجاه العربي الوحدوي في لبنان الذي كان الرئيس بشارة الخوري يتزعمه، بالتعاون مع رئيس الوزراء رياض الصلح، كما أنه واجه النزعة الإقليمية التي كان يتزعمها أميل إدة بمساعدة فرنسا.

ويذكر التاريخ أن النحاس باشا بذل جهدا ناجحا في إزالة مخاوف المسيحيين في لبنان من تحقيق الوحدة العربية.

وكما هو معروف فإن الفرنسيين كانوا في غاية الضيق من موقف الوفديين لأنهم أيدوا السلطان محمد الخامس وقاطعوا صنيعتهم جلاوي.. الذي جاء لزيارة مصر، ولكن النحاس باشا أمر إبراهيم فرج (وكان وزيرًا للخارجية بالنيابة) أن يقاطعه ولا يقابله أبدا، وكان موجودا في فندق سان استيفانو بمدينة الإسكندرية.. وقلت (الضمير لإبراهيم فرج) للنحاس باشا:

«إنني أري الرجل.. وسفير فرنسا موجود وأنا أتعامل مع السفير.. فهل تسمح لي أن أقابله وأعرف منه ماذا يريد؟».

«فقال لي: «اوعي تكلمه أو تقابله أو تضع يدك في يده».

(13)

وكانت للنحاس عناية خاصة بالجانب الوجداني أو الروحي في العلاقات العربية والإسلامية، ونحن نري وزارة الوفد وهي تبادر علي نحو رائع بالقيام بدور مهم في حماية الحرم النبوي وصيانته، وعلي سبيل المثال فإن حسن يوسف يروي أنه لما وردت في فبراير ١٩٥١ أنباء عن تصدع 16 عمودا من أعمدة الحرم النبوي الشريف، اجتمع مجلس الوزراء وقرر معاونة السعودية ووجه النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء نداء بفتح باب التبرعات لإصلاح تلك الأعمدة وبدأت الصحف المحلية تنشر أسماء المتبرعين والمبالغ المتبرع بها.

«وإنني لفي مكتبي ذات يوم إذ طلبني الأمير فيصل وكان وقتها وزيرا للخارجية السعودية، وكان في مصر في طريقه إلي الولايات المتحدة الأمريكية، وسأل متلطفا عن موعد يشرفني فيه بالحضور إلي الديوان، فقلت إني قادم إلي الفندق الذي يقيم فيه توفيرا لمشقة الانتقال، وفي هذا اللقاء أخبرني سموه أن «الوالد» ـ يقصد الملك عبد العزيز ـ مع تقديره لمشاعر المصريين وأريحيتهم وحرصهم علي إصلاح أعمدة الحرم النبوي الشريف، فإن جلالته لا يستسيغ جمع تبرعات لتغطية نفقات هذا الإصلاح. وأضاف الأمير فيصل أن السعودية ترحب بخبرة المهندسين المصريين في هذا السبيل علي أن تتحمل خزانة المملكة السعودية جميع النفقات».

«عرضت الأمر علي مسامع الملك فأشار بالاستجابة إلي رغبات الملك عبد العزيز، والكف عن جمع التبرعات وإيفاد مهندسين من مصر إلي المدينة المنورة للقيام بعملية الإصلاح».

«اتصلت فورا بالنحاس باشا فأمر بإلغاء قراره السابق ورد التبرعات إلي أصحابها، وألف عثمان محرم باشا وزير الأشغال لجنة فنية برئاسة مصطفي فهمي باشا وزير الأشغال السابق الذي كان كبيرا لمهندسي القصور الملكية، وهو أستاذ الجيل من المهندسين المعماريين، وتوجهت اللجنة إلي السعودية واستغرقت أعمال الإصلاحات بضع سنين».

(14)

ويتصل بهذا حرص النحاس باشا علي توفير المعلمين للكويت وليبيا علي الرغم من تحفظ وزيرالمعارف الدكتور طه حسين، وهو ما ترويه المذكرات المنسوبة إليه:

«جاء إلي مصر مندوب الشقيقة الكويت كما حضر مندوب من الشقيقة ليبيا واجتمعا مصادفة في دار رياسة مجلس الوزراء وطلب مندوب الكويت عبد العزيز حسين من حكومة مصر خمسة وعشرين مدرسًا ليقوموا بالتدريس في بلاده، كما طلب عبد المولي.. مندوب حكومة ليبيا خمسة عشر مدرسًا للعمل في مدارسها، وكلفت سكرتيري الخاص بالاتصال بطه حسين وزير المعارف لتدبير العدد الذي طلبته الحكومتان الشقيقتان».

«وذهب المندوبان إلي وزارة المعارف وقابلا الوزير وعادا متضايقان يشكوان من أن الوزير لم يجبهم إلي ما يطلبون ولم يوافق إلا علي الأقل من العدد اللازم، فاتصلت بطه شخصيًا وسألته عن السبب فأجاب إنه لم يجد عددًا كافيًا يرضي بالسفر إلي البلدين لأن الراتب الذي ندفعه لهم ضعيف ـ وكانت حكومة مصر هي التي تدفع مرتبات مبعوثيها إلي الشقيقات ـ فأمرت بأن يجند العدد المطلوب بلا نقصان وأن تزاد لهم المرتبات وأن يسافروا في أقرب فرصة ممكنة».

(15)

ونأتي إلي موقف النحاس من قضية فلسطين..

والحق أن  موقف مصطفي النحاس من قضية فلسطين كان موقفا مشرفا إلي أبعد الحدود، وليس هذا هو موطن العبرة في الموقف، ولكن الموطن الحقيقي للعبرة هو قدر الوعي والذكاء اللذين تميزت بهما معالجة النحاس للقضية الفلسطينية.

فمن الثابت يقينًا أن النحاس كان منذ مرحلة مبكرة واعيا لخطر نشأة الدولة العبرية علي أرض فلسطين، وقد نبه إلي هذا الخطر، كما عبر عن هذا المعني صراحة حين التقي بالمسئولين البريطانيين، وقد فعل النحاس هذا في الوقت الذي كان غيره لا يزال يظن الأمر أبسط من أن يستدعي مثل هذا الوعي أو الإحساس بالخطورة.

(16)

وعلي سبيل الإجمال يمكن لنا أن نشير إلي هذه النقاط المضيئة في تاريخ النحاس وقضية فلسطين:

تمكن النحاس في مشاوراته مع توفيق أبو الهدي رئيس وزراء شرق الأردن  من تذليل الصعاب، والحد من رغبة الأمير عبد الله في إقامة دولة سوريا الكبري التي كان متصورا أن تضم شرق الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان تحت قيادة شرق الأردن، وعدلت الأردن عن هذه الفكرة.

نجح النحاس في مشاوراته مع سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا أن يذلل كل العقبات وأن يحد من أطماع سوريا المعلنة التي كانت تطالب بتحقيق مشروع سوريا الكبري علي أن تكون دمشق عاصمتها، وأقنع سوريا بالعدول عن تأييدها للمشروع.

اقترح النحاس علي اللجنة التحضيرية لجامعة الدول العربية (1944) حين انعقدت برياسته قبول موسي العلمي ممثل الأحزاب العربية في فلسطين وعضو مؤتمر لندن (١٩٣٩) للاشتراك في أعمال اللجنة، وتمت الموافقة علي حضوره.

في ٢٩ يناير ١٩٥٠ دار حديث بين النحاس وبيفن وزير الخارجية البريطانية طلب فيه بيفين من النحاس السماح بمرور ناقلات البترول المتجهة إلي معامل تكرير البترول البريطانية في حيفا، فرد النحاس بأنه يستحيل أن يمر أي بترول عبر قناة السويس إلي أي معمل من معامل التكرير في بلد يسيطر عليه يهود فلسطين، ومحال أن يسمح بإرسال شيء قد يستفيد منه اليهود عبر الأراضي المصرية، وأنه لا يقبل مرور البترول عبر قناة السويس ليذهب إلي إسرائيل، لا في الحال، ولا في الاستقبال.

ولم يمنع النحاس من اتخاذ هذا الموقف الحاسم أن القوات البريطانية كانت لا تزال تحتل قناة السويس، ولا أن حكومة الوفد كانت تستعد لإجراء مفاوضات مع بريطانيا لجلاء هذه القوات، بل إن حكومة الوفد وزعت منشورا علي شركات الملاحة والقنصليات الأجنبية بمنع السفن الإسرائيلية ـ حربية أو تجارية ـ من المرور في المضيق، وضرورة تفتيش السفن الحربية والتجارية الأجنبية المحايدة قبل دخول خليج العقبة، وحددت لمياهها الإقليمية ستة أميال.

في 6 فبراير ١٩٥٠ صدر مرسوم بشئون إجراءات تفتيش السفن والطائرات وضبط الغنائم المتعلقة بحرب فلسطين.

وعندما تردد الحديث عن مفاوضات أردنية ـ إسرائيلية لعقد اتفاقية صلح منفرد بينهما، تقدم النحاس بتاريخ ٢٩ مارس ١٩٥٠ إلي مجلس الجامعة باقتراح نصه كالآتي:

«بالنظر لما للقضية الفلسطينية من الأهمية الحيوية لجميع دول الجامعة العربية، ولما كانت هذه الدول قد عملت مجتمعة في تطورات هذه القضية، ونظرا للخطر المشترك الذي تعرضت وتتعرض له دول الجامعة دفاعا عن فلسطين وعن نفسها، قرر مجلس الجامعة بإجماع آراء الحاضرين: أنه لا يجوز لأية دولة من دول الجامعة العربية أن تتفاوض في عقد صلح منفرد أو أي اتفاق سياسي عسكري أو اقتصادي مع إسرائيل، أو تعقد فعلا مثل هذا الصلح أو الاتفاق، وإن الدولة التي تقدم علي ذلك تعتبر علي الفور منفصلة عن الجامعة العربية طبقا للمادة الثامنة عشرة من ميثاقها.

في ٢٨ يونيو ١٩٥٠ قرر مجلس الوزراء حظر تموين السفن المحايدة المتعاونة مع إسرائيل.

(17)

أما الذكاء الاستراتيجي الذي عالج به النحاس القضية الفلسطينية وتعقيداتها فيتمثل في موقفه غير المسبوق من إصابة الكيان اليهودي بالشلل والحصار نتيجة لموقفه من إيلات، وقد نجح النحاس في أن يحاصر إسرائيل من هذه الناحية مستغلًا التطبيق الذكي لقواعد القانون الدولي والفهم العميق لجيواستراتيجية المنطقة التي يدور حولها النزاع، وقد كانت النتيجة النهائية لتصرف النحاس باشا والحكومة الوفدية الأخيرة أن فقدت إسرائيل كل آمالها في النفاذ إلي البحر الأحمر رغم كل استراتيجيتها لكسر هذا الطوق.

ولو أن السياسات المصرية بنت علي ما أسسه النحاس في هذا المجال، وتمثلت مثل سلوكه في المنافذ الأخري لإسرائيل لكانت قد وصلت من خلال سياسة طويلة النفس إلي فرض حصار مميت علي الكيان الصهيوني الذي قام في غفلة من العرب علي أرض فلسطين.

وهنا تتجلي لنا قدرات النحاس الاستراتيجية التي لم يتحدث عنها أحد بالقدر الكافي، فهذا رجل دولة ذكي تمكن من خلال قواعد القانون الدولي ومن خلال استثمار معطيات متاحة أمامه من أن ينشيء أوضاعًا استراتيجية تصب في مصلحة الجانب العربي في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وقد حقق من خلال موقعه كرئيس للوزراء إنجازًا عجزت الحكومات التالية عن أن تنجزه علي الرغم من مميزات نسبية تحققت لهذه الحكومات بغياب الملك، وبخروج البريطانيين من أرض الوطن.

(18)

ولا تزال عظمة النحاس فيما يتعلق بقضية فلسطين بحاجة إلي التأمل في موقفه من كثير من الأحداث التي توالت في هذه الفترة، ولعلنا نضرب المثل علي هذا بتفصيل بعض ما أشرنا إليه من قبل، وذلك بقراءة  ما يرويه إبراهيم فرج عن موقف النحاس من الملك عبد الله ملك شرق الأردن حين قرر ضم الضفة الغربية لنهر الأردن إلي بلاده، وهو موقف ينطق بالإخلاص للعروبة ولقضية فلسطين وبالوعي للآثار السياسية الناشئة عن قرارات ضيقة الرؤية. وفضلا عن هذا كله فإنه يدل علي استقامة النحاس ونزاهته وشجاعته التي لم يكن لها حدود..

يقول إبراهيم فرج:

«النحاس باشا كان أمينا علي قضية فلسطين كل الأمانة، فعلا وقولا وسياسة، ولم تكن شقشقة لسان. ففي عام ١٩٥٠ فوجئنا بأن عبد الله أمير شرق الأردن أعلن ضم الضفة الغربية إلي مملكة شرق الأردن وأعلن نفسه ملكا عليها. اعترض النحاس باشا ودعا إلي عقد مجلس الجامعة العربية وطلب طرد الأردن من الجامعة».

«واجتمعت الجامعة وكانت الرئاسة في هذه الدورة للأمير فيصل وزير الخارجية السعودي ـ الملك فيصل فيما بعد ـ وكان النحاس باشا مصرا إصرارا شديدا علي طرد الأردن، لكن فيصل بطريقته اللبقة المتأنية أخذ يعالج الأمر داخل ردهات الجامعة وفي اجتماعات جانبية كنت أحضر بعضها.. وانتهي إلي إقناع الأردن بأن يعلن أن هذا الضم مؤقت وأن الضفة أمانة لديه يعيدها لأهل فلسطين كما يريد النحاس باشا. وقد قال فيصل للنحاس إنه مسئول عن تنفيذ هذه التوصية، وانتهي الإشكال علي هذا النحو».

«أقيم بعدها حفل لأعضاء الوفود حضره النحاس باشا في قصر الزعفران في الغالب، وعلي الباب كان يقف سفير لبنان في القاهرة، وكان به بعض الشبه بمندوب الأردن.. وعندما وصل النحاس باشا مد يده ليصافحه.. وظن النحاس باشا أنه ممثل الأردن فلم يمد يده إليه وقال له: «ابعد عني».

ثم وجه النحاس باشا كلامه إليّ قائلا:

«كيف تدعو هذا الرجل الذي يخون القضية العربية؟ أنتم مش عارفين إن القضية الفلسطينية هي لب القضية العربية؟ وهي الجامعة العربية والوحدة العربية لها قيمة من غير فلسطين».

«وأخذ يهاجم سياسة الأردن وأنا لا أستطيع وقفه عن الاستمرار في الكلام.. إلي أن قلت له:

«إنه سفير لبنان.. أنت فاكر إنه ممثل الأردن؟».

«فقال النحاس باشا: ياه.. ده شبهه.. واحتضنه وقبله».

«وهل صافح سفير الأردن؟».

«إبراهيم فرج: لا.. لأن سفير الأردن عندما لاحظ من بعيد ما حدث خرج من الحفل».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ربما جاز لنا أن نمارس بعض الدهاء فنقول إن النحاس كان يقصد ما انتهي إليه تصرفه من إحراج سفير الأردن في الحفل، وقد نفذ فكرته علي هذا النحو الذي استغل فيه ما عُرف عنه من عفوية وحماس.

(19)

وقد أشارت مذكرات عبد الفتاح حسن بدقة إلي موقف الوفد من قضية فلسطين وتبعاتها، وكيف تمكنت حكومة الوفد من تأسيس (أو خلق) شرعية مبكرة لمنع مرور السفن الإسرائيلية في قناة السويس، وهو الموقف الذي ظل بمثابة مكسب في الصراع العربي ـ الإسرائيلي حتي أضاعته نتيجة حرب 1956، وهي حقيقة من حقائق التاريخ التي حجبت بقصد عن الشعب.

وتضيف مذكرات عبد الفتاح حسن إلي معلوماتنا التاريخية حقيقة مهمة وهي أن النحاس باشا تعمد تشديد إحدي عبارات الرد الذي أعده الدكتور وحيد رأفت علي احتجاج السفارة البريطانية في يوليو 1951 علي إيقاف السفينة الإنجليزية «إمبايرروش».

ومع أن عبد الفتاح حسن كوزير دولة ثم كوزير للشئون الاجتماعية لم يكن فيما يظهر للرائي معنيا بهذا الأمر بصورة مباشرة، إلا أن حقيقة الأمر أن مبدأي المسئولية الوزارية والمشاركة السياسية كانا منتعشين في ذلك العهد، كما أنه بالإضافة إلي هذا كان في ذلك الوقت وقبله وكيلا برلمانيا مع وزارة الوفد، وعضوًا في البرلمان، فكان علي علم تام بكثير من مجريات الأمور، ولسنا نعرف إن كان هو أم غيره الذي كان وزيرا للحربية بالإنابة في فترة سفر وزيرها الأصلي مصطفي نصرت للخارج التي أشار إليها فيما نقرؤه من مذكراته، وهو الأمر الذي فاته أن يثبته قبل أن يتطرق في مذكراته إلي تفاصيل هذا الموضوع حيث يقول:

«وحدث أن مجلس الأمن كان قد أصدر قرارا بالسماح للبواخر الإسرائيلية بالمرور في القناة فأريد أن تكون هناك حجة لا تدحض لرفض تنفيذ القرار، وتم الاتفاق مع المملكة السعودية علي أن تتخلي عن إحدي جزرها إلي مصر بحيث تكون سيادة الدولة علي مياهها في حدود المسافة المعترف بها دوليا، وتذرعنا بأن الهدنة لا تنهي حالة الحرب، ومن حقنا أن نسيطر علي مياهنا الإقليمة، وإذ كان ميناء إيلات علي مسافة أقل من المسافة المقررة دوليا من الجزيرة المشار إليها، فمن حقنا أن نمنع المرور في تلك المياه».

«وإيضاحا للمسألة أنقل (الضمير لعبد الفتاح حسن) عن كتاب القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان أستاذ ورئيس قسم القانون الدولي العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة، طبعة ثانية، يناير سنة 1965 ما يلي:

«كانت وزارة الحربية والبحرية (مصلحة المواني والمنائر) قد أعلنت في 21 ديسمبر 1950 أن منطقة المياه الساحلية الواقعة غرب الخط الموصل بين رأس محمد ورأس نصراني منطقة ممنوعة لا تجوز الملاحة فيها، وأرسلت المنشور رقم 39 لسنة 1950 لجميع شركات الملاحة وللقنصليات الأجنبية في مصر، وحاصل ما ورد بالمنشور المذكور:

«(أ) منع السفن الحربية الإسرائيلية بالقوة، بإطلاق النار عليها إذا لم تذعن للأمر الصادر إليها بعدم المرور في المنطقة المبينة في المنشور المذكور».

«(ب) تضبط السفن الإسرائيلية التجارية وتحجز إذا حاولت المرور في المياه الإقليمية المصرية بما في ذلك مدخل خليج العقبة».

«(جـ) يتحقق من حالة ووضع السفن الحربية والتجارية الأجنبية المحايدة قبل السماح لها بالمرور بمدخل خليج العقبة، وللسفن الحربية المصرية اتخاذ الإجراءات اللازمة في هذا الشأن».

«وحدث في 1 يوليو 1951 أن خالفت السفينة الإنجليزية «إمباير روش» التعليمات المشار إليها فأوقفت السلطات المصرية السفينة وحجزتها أربعًا وعشرين ساعة، ووضعت حرسا عسكريا علي ظهرها، واحتجت السفارة البريطانية في 11 يوليو 1951».

«وعهدت وزارة الخارجية المصرية إلي مستشارها الدكتور وحيد رأفت بإعداد رد علي الاحتجاج فأتم ذلك بكفاءته الممتازة ودعي للحضور إلي مجلس الوزراء لتلاوة مشروع الرد علي المجلس أثناء انعقاده، ولم يعقب أحد من الوزراء علي مشروع الرد إلا مصطفي النحاس رئيس الوزراء إذ رأي تشديد إحدي العبارات إلي ما هو أكثر عنفا، وتم ذلك فعلا، ومن العجيب أن تصدر إحدي الصحف في اليوم التالي متضمنة الزعم بأن الرد الذي عرض علي مجلس الوزراء خفف مصطفي النحاس رئيس الوزراء من لهجته».

(20)

وقد تناول الدكتور عبد العظيم رمضان موقف النحاس باشا من القضية الفلسطينية تناولا بديعا في كتابه «القضية الفلسطينية بين النحاس وعبد الناصر»، وليس في وسعنا أن ننقل كل ما أشار إليه الدكتور عبد العظيم رمضان من جوانب التفوق النحاسي في هذا المجال، وإن كنا من واجبنا بالطبع أن ننقل بعض النقاط المهمة وبعض الفقرات الكفيلة بتصوير هذا الموقف.

١ ـ يشير الدكتور عبد العظيم رمضان إلي الدور الذي لعبته معاهدة ١٩٣٦ في زيادة قدرة مصر علي التحرك من أجل القضية الفلسطينية فيقول:

«وقد كانت معاهدة ١٩٣٦ نقطة تحول خطيرة في ربط القضية الفلسطينية بالحركة الوطنية المصرية، وكان مصطفي النحاس هو الذي أعلن هذا التحول. ففي أثناء المفاوضات لعقد معاهدة ١٩٣٦، صارح مصطفي النحاس «السير مايلز لامبسون» بأنه لن يستطيع أن ينام مطمئنا إذا كانت علي حدود مصر الشرقية دولة إسرائيلية!!».

٢ ـ ويشير إلي وعي النحاس بالعلاقة بين قضية فلسطين والأمن القومي المصري فيقول:

«وقد نظر مصطفي النحاس لقضية فلسطين من منظور الأمن القومي المصري، وفي حديثه مع السير مايلز لامبسون يوم 24 يوليو ١٩٣٧ أبدي خشيته من أن تدّعي إسرائيل لنفسها حقًّا في سيناء فيما بعد! وكان نص كلامه: «ما الذي سوف يمنع اليهود من أن يدّعوا لأنفسهم حقًّا حتي في سيناء فيما بعد!».

٣ ـ ويشير إلي حقيقة أخري مهمة وهي أن أول ممارسة لسيادة مصر الخارجية بعد معاهدة ١٩٣٦، كانت هي الدفاع عن القضية الفلسطينية في عصبة الأمم!

٤ ـ ويشير إلي نجاح حكومة الوفد في حصار إسرائيل من خلال الاستيلاء علي مضيق تيران:

«… ولكن عودة الوفد إلي الحكم في عام 1950 أعادت مصر إلي دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ففي ذلك الحين لم تكن جزيرة تيران أرضا مصرية، إنما كانت أرضا سعودية، ولكن حكومة الوفد اتفقت مع الحكومة السعودية علي ضم تيران إلي أرض مصر، واستخدمت هذا الحق في منع مرور إسرائيل في مضيق تيران، وفرض الحصار عليها في خليج العقبة والبحر الأحمر».

٥ ـ ويشير إلي المعني السياسي والأمن القومي لهذا التصرف الوفدي الذي أقحم مصر في قضية الأمن القومي فيقول:

«… ولأن الوفد اعتبر القضية الفلسطينية شأنا مصريا خالصا، فقد أقحم مصر في قضية الأمن القومي، فقد كان في وسع إسرائيل من قبل أن تمر من شرم الشيخ دون أن يمس مرورها بالأمن القومي المصري، لو ظلت جزيرة تيران ملكا للمملكة العربية السعودية، لكن الوفد نقل ملكية جزيرة تيران إلي مصر بالاتفاق مع المملكة السعودية، لكي يتيح لمصر الفرصة لمنع إسرائيل من المرور في مضيق تيران، فنقل الصراع مع إسرائيل من مجرد أنه صراع عربي ـ إسرائيلي، إلي أن أصبح صراعا مصريا ـ إسرائيليا! وأصبح مرور إسرائيل في البحر الأحمر شأنا مصريا تتحكم فيه مصر بسيطرتها علي مضيق تيران!!».

وفي موضع آخر يزيد هذه النقطة إيضاحًا فيقول:

«… نقل الوفد مصر إلي دائرة الصراع المباشر مع إسرائيل بعمل عبقري هو الاتفاق مع الحكومة السعودية في أعقاب احتلال إسرائيل قرية «أم الرشراش» ووصولها إلي خليج العقبة، علي أن تحتل القوات المصرية جزيرتي تيران وصنافير اللتين تتحكمان في الخليج».

٦ ـ ويجيد الدكتور رمضان تصوير الوضع الاستراتيجي الذي حدا بحكومة الوفد إلي اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي الذكي، مشيرا إلي تراكم الأخطاء العربية التي قادت إلي نشأة ذلك الموقف الذي وجدت مصر نفسها فيه:

«… ففي العام السابق كانت إسرائيل قد احتلت منطقة الساحل الفلسطيني من العقبة، وفي ٣ إبريل ١٩٤٩ عقدت اتفاقية الهدنة بين الأردن وإسرائيل، وورد فيها أنه «في القطاع الممتد من منطقة علي البحر الميت إلي أقصي نقطة في جنوب فلسطين يحدد خط الهدنة بالمواقع العسكرية الحالية كما أثبتها مراقبو الأمم المتحدة في مارس ١٩٤٩، وسلم الوفد الأردني بحق اليهود في النقب اليهودي حتي الخليج، ولم يبق للأردن موضع قدم في جنوب فلسطين!».

«وبذلك تكون إسرائيل قد فصلت باحتلال قرية «أم الرشراش» ما بين مصر والأردن، وقسمت العالم العربي إلي قسمين لأول مرة في التاريخ العربي والإسلامي الطويل».

«وقد بادرت حكومة الوفد فور توليها الحكم إلي سلب إسرائيل ميزة احتلالها أم الرشراش (إيلات) عن طريق إغلاق البحر الأحمر في وجهها كطريق اتصال بين إسرائيل وإفريقيا الشرقية والهند والشرق الأقصي، وكانت وسيلتها لذلك الاتفاق مع الحكومة السعودية علي أن تحتل القوات المصرية جزيرتي تيران وصنافير اللتين تتحكمان في الخليج، ثم نصبت المدافع الساحلية في رأس نصراني للسيطرة علي مدخل الخليج».

«وقد برر وزير الحربية الوفدي مصطفي نصرت هذا الاحتلال في مذكرة مرفوعة إلي مجلس الوزراء بأنه «لتوكيد سيادتنا عليها»، أي أنه يؤكد أن الجزيرة كانت ملكا لمصر، وبرر عدم وجود قوات مصرية في الجزيرة قبل ذلك بأنه «لم يكن لها من الأهمية ما يستدعي احتلالها، لكن تزايد نشاط إسرائيل علي ساحل إيلات قد اضطرنا إلي تدعيم قواتنا المصرية في مدخل خليج العقبة!».

«علي أن ملكية مصر لجزيرتي تيران وصنافير كانت موضع جدل ونقاش في الحكومة البريطانية، وموضع المراسلات في عامي ١٩٣٨ و 1947، وقد ظهر منها أن وضع الجزيرتين لم يكن قد تحدد بعد، وأن المملكة العربية السعودية يمكن أن تطالب بالسيادة علي الجزيرتين، وقد رأت الخارجية البريطانية أنه من الأفضل عدم إثارة مسألة ملكية الجزيرتين، لأنه مما يناسب إنجلترا أن تبقي الجزيرتان خاليتين!».

«فلما احتلت حكومة الوفد الجزيرتين رأت الحكومة البريطانية أنه ما دامت السعودية قد وافقت علي هذا الاحتلال، فإنه لا يوجد أي مبرر للمطالبة بإخلاء الجزيرتين من القوات المصرية».

«علي أن هذا الاحتلال أثار قلق إسرائيل التي طلبت في يوم 14 يناير 1950 من سفير الولايات المتحدة في تل أبيب إخبارها بالأسباب التي دعت الحكومة المصرية إلي احتلال الجزيرتين؟ وكان رد حكومة الوفد غاية في الدهاء، فلم تشر من قريب أو بعيد إلي عزمها إغلاق مضيقي تيران في ذلك الحين، وإنما أجابت علي السفير الأمريكي بأنها اتخذت هذا الإجراء لمجرد تعزيز حقها، وكذلك أي حق محتمل للمملكة العربية السعودية فيما يتعلق بالجزيرتين اللتين تحدد وضعهما الجغرافي علي بعد ثلاثة أميال بحرية علي الأقل من الشاطئ المصري في سيناء، وأربعة أميال تقريبا من الجانب المواجه للسعودية، لقطع خط الرجعة علي أية محاولة للاعتداء علي حقوق مصر!».

«ولكي تزيد حكومة الوفد في طمأنة الولايات المتحدة أكدت في مذكرتها أن احتلالها لجزيرتي تيران وصنافير ليس معناه الرغبة في عرقلة مرور السفن «البريء» في الممر البحري الذي يفصل هاتين الجزيرتين عن ساحل سيناء، وستظل هذه الملاحة في هذا الممر المائي حرة كما كان عليه الحال في الماضي! نظرا لأن ذلك يتفق مع مبادئ القانون الدولي المعترف به، والتقاليد الدولية!».

«علي أن حكومة الوفد كانت بذلك تخفي نواياها في إغلاق مضيقي تيران في وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية، وهو ما تم في 21 ديسمبر 1950!».

«كانت إشارة حكومة الوفد إلي ضمان حرية الملاحة «كما كان عليه الحال في الماضي» ووفقا للقانون الدولي، مقصودا! فمن المعروف أن الملاحة في الماضي في مضيق تيران كانت: إما لنقل الحجاج إلي الجزيرة العربية، وإما ـ عقب إنشاء إمارة شرق الأردن ـ لمرور السفن إلي ميناء العقبة وهو الجزء الوحيد الذي يصل الأردن بالبحر الأحمر، ولم تكن «أم الرشراش» قد تحولت إلي ميناء إيلات في ذلك الحين، إذ لم يتم ذلك إلا بعد عامين ونصف عام تقريبا في 25 يونية ١٩٥٢».

«كذلك فإن وعد حكومة الوفد بعدم اتخاذ «ما يعرقل الملاحة» البريئة، وفقا للقانون الدولي، كان يختص بوقت السلم، وليس بوقت الحرب!».

«وقد كان بعد هذا الرد القانوني الذي أرسله وزير الخارجية الوفدي إلي السفير الأمريكي جيفرسون كافري يوم 28 يناير 1950، أن أخذت حكومة الوفد في اتخاذ إجراءات فرض الحصار علي إسرائيل، وهو ما تم في ديسمبر 1950».

٧ ـ وفي مقابل هذا النجاح الوفدي يصور الدكتور عبد العظيم رمضان انقلاب الأوضاع في الصراع العربي ـ الإسرائيلي بسبب سياسات عبد الناصر:

«… نقطة البداية في انتقال ميزان القوي من يد مصر إلي يد إسرائيل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تتمثل في القرار الفردي الذي اتخذه عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، دون التحقق لأي استعداد من جانب مصر لمواجهة ردود فعل كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لهذا القرار».

ويلخص الدكتور عبد العظيم رمضان في فصول طويلة حافلة بالدراسات التاريخية التطور الذي أصاب القضية الفلسطينية ومصر بسبب سياسة عبد الناصر، وهو ما أفادت منه إسرائيل إفادات قصوي علي حين أنها كانت قد حُرمت علي يد النحاس باشا من منفذ استراتيجي:

«علي نحو أتاح لها ليس فقط احتلال شرم الشيخ والمرور في خليج العقبة إلي البحر الأحمر، بل أتاح لها قلب الأوضاع، وحرمان مصر من المرور في خليج العقبة!».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

هكذا حرم النحاس إسرائيل من المرور في خليج العقبة باستيلائه الذكي علي جزيرتي تيران وصنافير ووضعه الأسلحة في رأس نصراني، وكان كل أمل إسرائيل أن تتمتع بالمرور في خليج العقبة كما تمر مصر، فلما تطورت الأمور علي يد الرئيس عبد الناصر وتمكنت إسرائيل من إحراز مكاسب عسكرية واستراتيجية في حرب 1956، وضعف موقف مصر انقلبت الآية واحتلت إسرائيل شرم الشيخ منذ 1956، وانقلبت الأوضاع وأصبحت مصر هي المحرومة من المرور في خليج العقبة.

(21)

ومع هذا فمن الإنصاف لتاريخنا أن نذكر أن الوفد بقيادة النحاس باشا قد عارض في دخول جيش مصر حرب فلسطين، وقد لخص الأستاذ محمود سليمان غنام هذه الأسباب، وأثر الأستاذ محمد كامل البنا في مذكرات النحاس أن ينقل عنه هذه الأسباب:

1 – ليس من مصلحة أهالي فلسطين المقيمين فيها فعلًا هذه الحرب، لأن هذا سيزيد من هجرة اليهود إليها، ويجعل أمريكا تعتمد علي هذه الحرب، فتمد اليهود وتشجعهم بالأسلحة والذخيرة حتي يوطدوا أقدامهم في فلسطين.

2 – الجيش العربي الذي سيحارب في فلسطين إما أن ينتصر ويتغلب علي اليهود، فعندئذ سوف يوعز (جلوب) حاكم الأردن الحقيقي إلي الأمير عبد الله بوقف القتال، وإما أن ينهزم وهنا ستكون الكارثة لأن جيش مصر الذي تعود من قديم الزمان، قبل أن يتخذ إدارة للحفلات والموالد، تعود علي أن لا يخوض معركة إلا خرج منها منتصرًا سيفقد ثقته بنفسه ويعود ونفسيته محطمة، فضلًا عن هذا فإنه سيدخل المعركة غير مستعد لها، لأن الأسلحة التي يملكها لا تضارع أسلحة الخصوم الذين تسلحهم بريطانيا وأمريكا بأحدث الأسلحة.

3 – ما دامت القيادة ليست لمصر بل في أيدي صنيعة من صنائع الإنجليز ذي مطامع شخصية، فلا أمل في النصر.

«وانتهي القرار إلي أنه ليس من مصلحة فلسطين ولا مصلحة العرب الدخول في هذه الحرب ولم يكتف الوفد بهذا القرار، بل بادر زعيم المعارضة فؤاد سراج الدين، عضو الشيوخ، فقدم استجوابًا لرئيس الوزراء لمناقشة هذه المسألة ووجه للنقراشي سؤالًا محددًا: هل قدرت موقف الإنجليز ووعد بلفور للصهيونيين بأن تكون فلسطين لهم وطنًا قوميًا منذ عام 1917 عقب الحرب العالمية الأولي، وهل وضعت في اعتبارك أن إنجلترا ستطعن جيشنا من الخلف؟ فكان رد النقراشي عليه: إنني متفائل وإننا نعرف قوة اليهود تمامًا، أما من ناحية الإنجليز فأطمئنك علي أنهم هم الذين شجعوني علي دخول الجيش الحرب ضد اليهود، وشارك في المعارضة صدقي باشا رئيس الوزارة المستقيلة التي خلفتها وزارة النقراشي، فقال: إني أعارض دخول جيش مصر الحرب في فلسطين لأنه غير مستعد ولم يُعد الإعداد الكافي لخوض هذه المعركة.. ورد عليه رئيس الوزراء لا تقلق ولا تشغل بالك فإن الجيش المصري يعد هذه المعركة نزهة له».

*    *    *

وتعلق مذكرات النحاس علي هذا كله بأن تنحو باللائمة علي الملك والوزارة القائمة في ذلك الوقت:

«كان وراء هذا كله فاروق الطامع في أن ينتصر جيش مصر ويعلن نفسه كما قلت خليفة للمسلمين، ومن أجل هذا أصدر الأمر لحيدر باشا بتحريك الجيش دون علم رئيس الوزارة، وابتلع النقراشي هذه الإهانة وكذب وضلل علي مجلس الشيوخ حين استجوبته المعارضة وأشاد بكفاءة الجيش وقدرته واستعداده».

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com