الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (17)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (17)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل السابع عشر

الباب الخامس

النحاس وقضايا وطنه

الفصل السابع عشر

قضية الاستقلال الوطني

(1)

كان دور النحاس وإنجازاته فيما يتعلق بالقضية الكبري، قضية الاستقلال الوطني، بمثابة أعظم أدواره التاريخية، ونحن نعرف بالطبع أنه هو صاحب الفضل في إنجاز معاهدة ١٩٣٦ التي نصت علي نشدان الصداقة والتفاهم وحس العلاقة، وعلي انتهاء الاحتلال الإنجليزي لمصر، وعلي تمثيل كل من البلدين لدي الآخر، وعلي تأييد بريطانيا لدخول مصر عصبة الأمم.

*    *    *

وسوف نلقي الضوء في هذا الباب علي الدور الذي قام به النحاس باشا في مفاوضاته المتعددة مع البريطانيين من أجل استقلال التراب الوطني، والإرادة المصرية، وسوف نكتشف بكل وضوح أن النحاس كان واعيا للتفصيلات الدقيقة للخطوط العريضة في المفاوضات بقدر ما كان واعيا للخطوط العريضة، وأنه كان حريصا علي هذه وتلك علي حد سواء، وقد كان للنجاح النسبي الذي حققه النحاس في المفاوضات التي أجراها أسباب كثيرة من أهمها أنه لم يظهر أي قدر من التلهف علي إتمام معاهدة أو مشروع معاهدة، ولم يبد أية محاولة لتحقيق مكاسب شخصية من وراء إتمام هذه المعاهدة أو تلك، وبالطبع فإننا نقصد بالمكاسب الشخصية معني أبعد مما قد يتبادر إلي الذهن لأول وهلة، وإنما نعني مفردات من قبيل: مجد إنجاز المعاهدة، وحمل المعاهدة لاسمه، وإيمان الطرف الآخر بقدرته علي الإنجاز، أو الاتفاق، أو التقارب، أو حرصه علي العلاقات المشتركة أو المصالح.. إلخ.

كذلك فقد كان من أسباب نجاح النحاس في المفاوضات التي أدارها أو التي تمت في عهده حرصه علي الإفادة من كل جهد مصري، وكل كفاءة وطنية، وهو ما تجلي بوضوح في تكوين هيئة المفاوضة التي فاوضت من أجل معاهدة ١٩٣٦، كما تجلي أيضًا في تكليف عبد الحميد بدوي باشا (وهو قيادة وخبرة غير وفدية) بالعمل الجاد الذي أنجزه في اتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية، وهناك بالطبع أمثلة أخري علي مثل هذا الإنجاز.

(2)

والشاهد أن النحاس كان ضيق الصدر بوجود الاحتلال حتي في الأحوال التي كان يبدو تدخل الاحتلال فيها متقاطعًا مع مصالح الوفد، وكان يعبر عن ضيق صدره في هذه الأحوال بصوت عال ربما تعارض مع حكمة السياسة وحنكتها.

وقد كان النحاس باشا في مفاوضاته المستمرة مع البريطانيين يدرك حقيقة نواياهم وطبيعة ممارساتهم، وكان كلما مضي الزمن يزداد خبرة بأساليبهم في التعامل والتفاوض والتصريح، وفي المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا عن النحاس باشا فقرة كاشفة عن لقاء بين أمين عثمان وزعيم الوفد، وفيها يقدم النحاس باشا جوهر رؤيته الثاقبة لطبيعة الإنجليز ورؤيتهم السياسية، وهي فقرات تدل علي مدي ما كان يتمتع به النحاس باشا من نفاذ البصيرة.

«زارني أمين عثمان وأخبرني أن السفير البريطاني قلق جدًا من الحالة في مصر وأنه لا يريد أن يضغط علي الملك بأن يرجع إلي الأغلبية إلا عند الضرورة القصوي فقلت له وما للسفير البريطاني والمسائل الداخلية في مصر؟ وهل انضمت مصر إلي بريطانيا وأصبحت إحدي مستعمراتها حتي يقول مثل هذا الحديث؟ فأجاب أنه يري أن مصر مهمة جدًا لبريطانيا في الحرب ومن رأي السير مايلز أنه لو ضمن استقرار مصر لكان هذا عاملًا كبيرًا في اطمئنان إنجلترا وضمان أنه لو جاء الألمان والطليان وحاولوا احتلالها فستكون الجبهة الداخلية درعًا للإنجليز».

«فقلت له وماذا يفيد مصر من هذا، إن إنجلترا تحتلها، أو أن الألمان أو أن الطليان سيحتلونها فنخرج من مصيبة ومن استعمار إلي استعمار… لا يا أمين بلغ السفير عني إنه لو كان جادًا فيما يقول لما خضع لإرادة الملك، وتركه يتصرف حسب طيشه وهواه معتمدًا علي حراب الإنجليز وعلي تأييدهم له، وهل أنت متصور أن فاروق ومن قبله فؤاد كان واحدًا منهما يستطيع أن يتصرف إلا بأمر الاستعمار وبإشارة الإنجليز».

«إن المصيبة كلها تكمن في هذا لأنه لو كان الدستور محترمًا والحياة النيابة مصونة كما هي في البلاد المستقلة الأخري علي الخصوص كما هي في إنجلترا لما أستطاع فاروق ولا غيره أن يعبث بأصحاب الأغلبية الذين يثق بهم الشعب في تصريف الأمور».

«فقال: «إنهم يحترمون نصوص المعاهدة»، فسخرت من هذ القول وأجبت يحترمون نصوص المعاهدة متي كان هذا الاحترام في صالحهم ويعبثون بها متي رأوا غير ذلك، إني أعتقد أنه ما دام جيش الاحتلال في مصر فلن تستقر البلاد، ولن يستقيم الأمر سواء كان ذلك في السلم أو في الحرب، وقل لي أن الوفد منذ أن أنشأه المغفور له سعد زغلول باشا عام 1919 تولي الحكم في هذه المدة التي تزيد علي عشرين عامًا كم من الوقت؟ إن مدة حكمه لها سواء كان سعد أو كنت أنا أو كان الائتلاف لم تتم أربع سنوات أو خمسًا علي الأكثر من عشرين عامًا والسبب في ذلك يرجع إلي التدخل السافر من الإنجليز وشعور الملك أنه هو وأبيه وجده مدينون للإنجليز، ولو أن البلاد مستقلة حقًا لكان الأمر غير ذلك ولعرفت كيف تدير أمورها وتخطو خطوات فسيحة إلي الأمام حتي تتمشي مع البلاد الحرة المستقلة».

«فقال أمين: ما كنت أتصور أنك ثائر إلي هذا الحد وأنك ساخط علي الإنجليز كل هذا السخط مع أنهم دائمًا في دار السفارة يتحدثون بأنك صاحب الأغلبية وأنك الرجل الوحيد الذي تستطيع أن تسير الأمور، فابتسمت وأجبت: إنهم يقولون ما لا يفعلون ويظهرون ما لا يبطنون وهم يدورون حول مصالح بلادهم وتوسيع رقعة أملاكهم وأنا لا أثق بوعودهم ولا أطمئن إليهم، وإذا كنت فاوضتهم بالأمس مرة أو مرتين فإني أعرف لفهم ودورانهم ولكني مضطر أن أجلس معهم علي مائدة واحدة متي رأيت في هذا مصلحة للبلاد وأحب أن يعرف السفير ورجال الحكومة الإنجليزية أن مصر الحرة المستقلة أنفع لهم من مصر المحتلة المغلوبة علي أمرها».

(3)

ومن الحقائق التي ترقي إلي درجة الإجماع بين المؤرخين والوطنيين أنه لولا معاهدة ١٩٣٦ التي وقعها النحاس ما توسعت الكلية الحربية ولا دخلها أبناء الشعب ولا قامت ثورة ١٩٥٢ بالتالي.

*    *    *

كذلك فإن النحاس بإبرامه معاهدة 1936 وبنائه عليها كان هو صاحب الفضل الأول في إبرام معاهدة بين مصر والدول صاحبة الامتياز لإلغاء تلك الامتيازات، وتنظيم ولاية القضاء في الفترة التي تلي الإلغاء، وذلك بمدينة مونترو بسويسرا.

وبمقتضي هذه المعاهدة أيضًا فقد انضمت مصر إلي عصبة الأمم في 26 مايو ١٩٣٧.

(4)

وقد التفت الدكتور عبد العظيم رمضان إلي أن مطالبة الوفد بإلغاء الامتيازات الأجنبية قبل توقيع معاهدة 1936 سجلت تقدما عن موقف الوفد في عام 1930 أثناء مفاوضات النحاس ـ هندرسون، فقد كانت جهود الوفد في أثناء هذه المفاوضات قاصرة علي أن تتعهد الحكومة البريطانية ببذل نفوذها لدي الدول المختلفة للوصول إلي نقل اختصاصات المحاكم القنصلية إلي المحاكم المختلطة، وتطبيق التشريع المصري علي الأجانب، وكان الوفد يقصد من ذلك، كما ورد علي لسان النحاس باشا للمستر هندرسون، أن يكون هذا بمثابة «حالة وقتية»، أما الحالة النهائية فهي إلغاء الامتيازات.

(5)

ومن العجيب أن تدخل البريطانيين في شئون مصر كان قد وصل إلي أقصاه علي يد الملك فؤاد، حتي أصاب الملك فؤاد نفسه، وهو ما يرويه النحاس باشا بتأمل في أثناء حديثه عن مرض الملك فؤاد:

«بعث إليّ الدكتور حامد محمود يقول إن السير إدوارد صديق الملك فؤاد الشخصي يسعي لدي الحكومة البريطانية في أن توافق علي استدعاء طبيب ألماني لعلاج الملك، ولكن الوزارة تشير بإرسال طبيب إنجليزي ينضم إلي الأطباء المصريين المعالجين، وقد عجبت لهذا التصرف من جانب الإنجليز، حتي العلاج الطبي يتدخلون فيه، ولا يمكن لرجل يحمل لقب صاحب الجلالة أن يختار الطبيب الذي يحتاج إليه، ولكن هذا هو الاستعمار وهذه هي أساليبه، فهل يريدون أن نترامي علي أعتاب الإنجليز».

(6)

وقد كان الإنجاز الأكبر للنحاس في أعقاب توقيع معاهدة 1936، هو توقيع اتفاقية مونترو بإلغاء الامتيازات الأجنبية، وقد جرت الأمور علي نحو ما لخصها الأستاذ الرافعي حيث قال:

«دعت الحكومة المصرية الدول صاحبة الامتيازات (وهي اثنتا عشرة دولة) إلي الاشتراك في مؤتمر يعقد في مدينة مونترو بسويسرا، وحدد له يوم 12 أبريل سنة 1937 للمفاوضة في إلغاء هذه الامتيازات، ووجهت الدعوة إلي تلك الدول بخطاب مؤرخ في 16 يناير 1937، وهذه الدول هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبلچيكا، وبريطانيا،وأيرلندا، والأملاك البريطانية فيما وراء البحار، والدنمارك، وأسبانيا، وفرنسا، واليونان، وإيطاليا، والنرويج، وهولندا، والبرتغال، والسويد».

«استجابت الدول إلي هذه الدعوة، وتألف وفد رسمي لتمثيل مصر في هذا المؤتمر برياسة مصطفي النحاس رئيس الوزارة، وعضوية كل من أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف بطرس غالي وزير الخارجية، ومكرم عبيد وزير المالية، وعثمان محرم وزير الأشغال، وعبد الحميد بدوي رئيس أقلام قضايا الحكومة».

«واجتمع المؤتمر في مونترو وبدأ أعماله في 12 أبريل سنة 1937 وانتهت يوم 8 مايو سنة 1937، إذ وقع مندوبو مصر والدول المشتركة في المؤتمر علي الاتفاقية التي أسفرت عنها مباحثاتهم، وعرفت باتفاقية مونترو، وقد تضمنت إعلان الدول المتعاقدة إلغاء الامتيازات الأجنبية في القطر المصري إلغاءًا تامًا، وخضوع الأجانب للتشريع المصري في المواد الجنائية والمدنية والتجارية والإدارية والمالية وغيرها، مع مراعاة مبادئ القانون الدولي، وتعهدت مصر بأن التشريع الذي يسري علي الأجانب لن يتنافي مع المبادئ المعمول بها علي وجه العموم في التشريع الحديث، ولن يتضمن في المسائل المالية تمييزًا مجحفا بالأجانب أو الشركات المؤسسة وفقًا للقانون المصري والتي يكون فيها للأجانب مصالح جدية، ونصت الاتفاقية علي بقاء المحاكم المختلطة لغاية 14 أكتوبر سنة 1949 أي مدة اثنتي عشرة سنة من يوم توقيع الاتفاقية، وهي المدة التي سميت «فترة الانتقال»، وبانتهائها ألغيت هذه المحاكم وصار الاختصاص كله للقضاء الوطني».

«واقترنت هذه الاتفاقية بلائحة جديدة للتنظيم القضائي للمحاكم المختلطة اتفق عليها مندوبو الدول المشتركة في المؤتمر ليعمل بها في فترة الانتقال».

«وقد أقر البرلمان هذه الاتفاقية في يوليو سنة 1937».

«وإذ تقرر في اتفاق مونترو نقل اختصاص المحاكم القنصلية إلي المحاكم المختلطة، واختصاص الحكومة المصرية بسن التشريعات التي تسري علي الأجانب في المواد الجنائية والمدنية والتجارية فقد وضعت الوزارة قانونًا للعقوبات يسري أمام المحاكم الوطنية والمختلطة وقانونا لتحقيق الجنايات أمام المحاكم المختلطة وقد أقرهما البرلمان في يولية سنة 1937».

«وتُعد اتفاقية مونترو فوزا كبيرا لمصر، إذ زالت بها الامتيازات الأجنبية، وانقرض بها نظام المحاكم المختلطة، وحققت مصر رسميًا سيادتها في التشريع والإدارة والقضاء، وهذا ولا شك كسب عظيم وفوز كبير للقومية المصرية ولسيادة مصر التشريعية والقضائية والمالية».

(7)

وحتي نفهم طبيعة الدور الذي بذله النحاس باشا في إلغاء الامتيازات الأجنبية يتبقي لنا أن نشير إلي حقيقتين:

الحقيقة الأولي هي أن هذه الامتيازات كانت من حق اثني عشر دولة، لست أجد مانعًا من تكرار ذكر أسمائها مع الإشارة إلي الدول الكبري (أو التاريخية) التي لم يكن لها امتيازات!! هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإسبانيا (وإذًا فلم يكن لألمانيا ولا لإيطاليا امتيازات أجنبية ولا لروسيا كذلك)، وبلچيكا، وأيرلندا الشمالية، والدنمارك، واليونان، والنرويج، والسويد، وهولندا، والبرتغال، فضلًا عن خمس دول كانت تعد بمثابة الممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وهي: أستراليا، جنوب إفريقيا، والهند، وأيرلندا، ونيوزيلندا.

والحقيقة الثانية يرويها النحاس باشا بنفسه حيث يشير في مذكراته إلي مدي ما كان يشعر به زملاؤه المفاوضون من ضعف الأمل في إلغاء الامتيازات الأجنبية:

«اتصلت بأعضاء الجبهة الذين اشتركوا في توقيع المعاهدة فتنصلوا واحدًا في إثر واحد واعتذروا جميعًا بأعذار واهية وأشاعوا في مجلسهم أن هذا مؤتمر مقضي عليه بالفشل فإن الدول التي لها امتيازات في مصر لن تسلم بالتنازل عن امتيازاتها ولن توافق علي إلغاء المحاكم المختلطة والمحاكم القنصلية وإحلال الوطنية محلها».

وهو في موضع آخر من مذكراته يقول:

«اجتمع مجلس النواب وأخذ في نظر وثائق إلغاء الامتيازات التي أودعتها سكرتاريته بمجرد إعدادها وطلبت إليه أن ينظرها علي وجه السرعة».

«وقد تكلم كثير من الأعضاء مؤيدين، وأخذت المعارضة تمشيًا مع خطتها تنتقد المشروع ويقول بعض أعضائها إن فترة الانتقال طويلة وإن الموظفين الأجانب في المحاكم المختلطة يكافأون بسخاء إلي غير ذلك من الانتقادات التافهة التي لا تمس صميم المشروع، وأجل رئيس المجلس الجلسة لاستكمال بقية المناقشات».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«وافق مجلس النواب بأغلبية ساحقة علي مشروع إلغاء الامتيازات وهنأ الوزارة والوفد الذي وافقني علي ما بذلوه من مجهود وسجل في مضبطته تقديرًا خاصًا لي بالشكر والعرفان».

(8)

وعلي يد النحاس باشا أيضًا تمكنت مصر بنجاح بارز من إنهاء قصة صندوق الدين، والواقع أن قصة صندوق الدين كانت بمثابة سُبة أصابت الوطنية المصرية في صميمها منذ أواخر عهد الخديو إسماعيل، ونحن نري هذه المشاعر واضحة فيما يرويه النحاس نفسه عن دوره في إنهاء هذه القصة:

«… تذكرت أننا في جميع المفاوضات مع الإنجليز لاستخلاص استقلال البلاد نصطدم بعقبات حماية الأقليات، وقد استطعنا أن نجتاز هذه العقبة بعد أن حضرنا مؤتمر إلغاء الامتيازات في مونترية في عام 1937، وبقي أمامنا دين مصر وصندوق الدين الذي يطل من ميدان الأوبرا ويراه الرائح والغادي، ففكرت في أن أدعو المواطنين الأثرياء والشركات والمؤسسات إلي قرض وطني تدفع لهم الحكومة عنه فوائد مجزية وتقدم لهم سندات ليحلوا محل الأجانب ونسدد لهم هذا الدين، ونشرت الحكومة نداء في الصحف واستجاب المواطنون استجابة فوق ما كنت أنتظر إلي حد أن سكرتارية المجلس وإدارة الصحافة وباقي الإدارات تفرغت كلها لاستقبال الراغبين في شراء الأسهم. وما هي إلا بضعة أيام حتي سُدد الدين كله وألغي صندوق الدين وكان هذا عملًا وطنيًا مجيدًا، وقد خصصنا إدارة في بنك مصر سميناها إدارة القرض الوطني، ولا يزال المواطنون يتقاضون أرباح ما دفعوه إلي الآن مع المحافظة علي أصل أموالهم».

(9)

وعلي الرغم من أن النحاس باشا كان يعبر دوما عن أقصي درجات المطالبة بالحقوق الوطنية في المفاوضات المصرية ـ البريطانية، فإنه عاني في بعض الأحيان من مزايدات زعماء الأحزاب، وعلي سبيل المثال فإن المفاوضات التي سبقت توقيع معاهدة 1936 شهدت بعض هذه المزايدات، وكان صاحب السبق المعلي في هذه المزايدات هو محمد محمود باشا الذي طالما وُصف (عن فخر!!) بأنه رمز للاعتدال في المطالبات المصرية.

وقد حدث هذا عندما أرادت إنجلترا إضافة النص علي معاونة مصر في حالة قيام حالة دولية مفاجئة يخشي خطرها، وقد دفعه هذا التحمس الطارئ (!!) إلي المناداة بقطع المفاوضات، ومن أجل هذا سافر من الإسكندرية إلي القاهرة (علي ما رواه الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته) ليجتمع بعدد من زعماء حزبه، كان منهم عبد العزيز فهمي باشا، ومحمود عبد الرازق باشا، والدكتور محمد حسين هيكل نفسه، ليشرح لهم الحالة ويشكو لهم من أن المفاوضين الآخرين لا يتحمسون حماسته لقطع المفاوضات، وقد استقر الأمر بعد التشاور علي الأخذ باقتراح لعبد العزيز فهمي بأن يتمسك محمد محمود باشا في مسألة الامتيازات بإلغائها الإلغاء التام (!!) وبضرورة النص في صلب المعاهدة علي معاونة إنجلترا لمصر علي هذا الإلغاء، فإذا رفضت إنجلترا هذا الطلب انسحب محمد محمود باشا من هيئة المفاوضة، وعندئذ يكون له العذر في تصرفاته.

(10)

كان النحاس واعيا لما يجب أن يحصل عليه ولما يمكن له أن يؤجل الحصول عليه إلي حين.

وفيما بعد سنوات وقف النحاس موقفا صلبا تجاه محاولات الاندفاع إلي إتمام أي اتفاق مع البريطانيين لا يلبي الحقوق الثابتة والأماني المشروعة لأبناء وطنه. وعلي الرغم مما هو مشهور من أن هيئة المفوضين 1946 قد انفجرت من داخلها فإننا نري النحاس باشا فيما روي من مذكرات حريصا علي الفخر بأنه أحسن صنعًا حين أهاب بأعضاء وفد المفاوضة برئاسة صدقي ألا يوقعوا معاهدة صدقي ـ بيفن، وهو يري أنه ـ وليس سواه ـ كان هو السبب في انفراط هيئة المفاوضة تلك:

«وحلّ عيد الجهاد الوطني في 13 نوڤمبر سنة 1946 والبلاد تغلي كالبركان والمظاهرات تتجدد كل يوم في كل مكان وأقام الوفد احتفاله كعادته بذكري عيد 13 نوڤمبر، وألقيت خطابي التاريخي في هذه الذكري فذكرت الأحداث بترتيبها والجرائم التي وقعت، رحمةُ الله علي الشهداء الذين سقطوا قتلي وطلبت رحمة الرحيم علي أولئكم الجرحي الذين خضبت بدمائهم أرض الوطن العزيز، وحملت حملة شعواء علي مشروع صدقي ـ بيفن، وكشفت أكاذيبه وتضليله واتهمته صراحة بأنه المسئول عن الدماء التي تراق في الشوارع والجرائم التي ترتكب ضد المواطنين».

«وكان الخطاب حماسيًا عنيفًا قوبل بصيحات استنكار مشروع صدقي والسخط علي جرائمه، وبخاصة عدما اتهمت صدقي حقًا بأنه يطأطئ هامته خضوعًا لبريطانيا التي تحاول أن تفرض علي مصر محالفة أبدية، هي الحماية بعينها والاستعمار بأشنع صورة».

«وأهبت بأعضاء وفد المفاوضة الذي شكله وفيهم أناس كان رأي الأمة فيهم حسنًا أن يفيقوا من سباتهم ويحاولوا إنقاذ ما بقي لهم من سمعة إن كان لديهم وطنية أو في نفوسهم حب لمصر التي غذتهم وأنبتتهم وجعلت منهم رجالًا معروفين».

«وعلي إثر نشر الخطاب تقدم سبعة من أعضاء هيئة المفاوضات فنشروا في الصحف بيانًا شديد اللهجة هاجموا فيه المشروع وأعلنوا عدم موافقتهم عليه فكان رد صدقي عليه أن حل هيئة المفاوضات وبقي وحده وجهًا لوجه مع الشعب بجميع طبقاته».

«وزاد الطين بلة أن أصدر الحاكم العام الإنجليزي للسودان تصريحات تناقض ما صرح به صدقي وكذبه في كل ما قاله بشأن السودان، واشتدت المظاهرات وظهر غضب الشعب في كل ناحية من البلاد».

(11)

ونأتي إلي التأمل في معاهدة 1936، وربما كان أفضل مقاربة لهذا التأمل أن نروي ما حدث حين تصدي الدكتور عبد العظيم رمضان لأحمد حسين حين زعم (في مقالات له نشرها في عهد الثورة) أن معاهدة ١٩٣٦ لم تكن أفضل المعاهدات، فقد ناقش الدكتور رمضان كل الجزئيات التي تثبت بوضوح أفضلية معاهدة ١٩٣٦، وأنهي حواره الشهير معه بالحديث عن النقطة الوحيدة التي يتفوق فيها مشروع معاهدة ١٩٣٠ علي معاهدة ١٩٣٦ فاعترف بهذه الأفضلية، لكنه نبه إلي حقيقة أن مصر حصلت في المقابل ما عوض تنازلها عن هذه الجزئية:

«… بقي أن الأستاذ أحمد حسين يري أن مشروع 1930 هو أفضل من معاهدة 1936، ولعله يشير في ذلك إلي أن المفاوضين المصريين في سنة 1936 قد قبلوا التنازل في النصوص العسكرية عما وصلوا إليه في سنة 1930، فوافقوا علي إضافة حالة جديدة تلتزم فيها مصر بتقديم معونتها وتسهيلاتها لإنجلترا «عند قيام حالة دولية مفاجئة يخشي خطرها»، وكان مشروع 1930 يشتمل علي حالتين فقط هما حالة الحرب، وحالة خطر الحرب، كما أنهم سمحوا بزيادة عدد القوات البريطانية إلي عشرة آلاف بدلًا من ثمانية آلاف، بما اقتضته هذه الزيادة من توسيع المنطقة التي تعسكر فيها القوات البريطانية».

«علي أنه من المعروف أن الجانب المصري قد عوض عن هذا التنازل من جانبه بتنازل مقابله من الجانب البريطاني، وهو إلغاء الامتيازات الأجنبية، وهو تنازل أهم. الامتيازات الأجنبية، كما يعرف الأستاذ أحمد حسين جيدا، كانت عقبة في سبيل تقدم البلاد، وعدوانا محسوسا علي سيادة الدولة، وكرامة الأمة، وقد أوجدت في البلاد تفرقة عنصرية بين الأجانب والمصريين كتلك التي توجد في جنوب أفريقيا، وبإلغائها تحررت مصر من القيود التي كانت تحول بينها وبين حق التشريع المالي وغير المالي الذي يسري علي جميع المقيمين في مصر، وأصبح في إمكانها وضع ميزانيتها علي قواعد مالية صالحة، وتوزيع الضرائب بطريقة عادلة، كما حققت المساواة بين المصريين والأجانب لأول مرة منذ القرن التاسع عشر».

«وعلي ذلك فإن معاهدة 1936 أفضل بكثير من أي مشروع معاهدة سابق (هكذا يقول الدكتور عبد العظيم رمضان)، وقد أتاحت لمصر، إلي جانب إلغاء الامتيازات الأجنبية، سحب جميع العسكريين البريطانيين من الجيش المصري، وإلغاء إدارة الأمن العام الأوروبية، وخروج العنصر الأوروبي من البوليس، والاستغناء عن المستشارين الإنجليزيين القضائي والمالي، اللذين كانا يسيطران علي وزارات العدل، والداخلية، والمالية، وأصبحت المسئولية عن أرواح الأجانب في مصر من وظائف الحكومة المصرية دون سواها، بعد أن كانت إنجلترا تنتحل لنفسها هذه المسئولية لتتذرع بها للتدخل في شئون البلاد، كما هيأت المعاهدة لمصر التمتع باستقلالها الخارجي إلي الحد الذي سمح لها باتخاذ موقف الحياد في حرب كوريا سنة 1950، فكانت الدولة الوحيدة من خارج المعسكر الشيوعي التي تتخذ فيه هذا الموقف، وتبعتها في ذلك الهند!».

(12)

وقد أجاد مصطفي النحاس باشا نفسه تصوير الظروف التي وقعت فيها معاهدة ١٩٣٦ في مستهل خطابه الشهير الذي قدم به لأعضاء مجلس الشيوخ (1951) قراره الصائب بإلغاء المعاهدة، وهو يشير إلي ظروف توقيع هذه المعاهدة فيقول:

«عندما عقدت معاهدة التحالف بين مصر وبريطانيا العظمي في 26 أغسطس سنة 1936، وكان خطر الحرب العالمية الثانية يسرع الخطي، وكان الخلاف يستفحل يوما بعد يوم، بين دول المحور وبين بريطانيا العظمي وحليفاتها، وكان الاستعمار البريطاني من جهة أخري جاثما علي صدر مصر يماري في استقلالها وسيادتها، ويزعم لنفسه حق حماية الأجانب فيها، ويفرض سلطانه علي أهم شئونها الخارجية والداخلية والمالية، فيعرقل نهضة البلاد وسيرها الحثيث لاستكمال استقلالها، وتبوء المركز اللائق لها في المجتمع الدولي».

«وكانت الامتيازات الأجنبية من جهة ثالثة تعبث بسيادة مصر المالية والقضائية والإدارية، وتهدر كرامة المصريين، وتعوق تقدمهم في كل ناحية من نواحي النشاط الوطني».

«وكان الإنجليز من جهة رابعة قد استغلوا فرصة مقتل السردار في سنة ١٩٢٤ فقطعوا كل علاقة عملية بين مصر والسودان بإخراج الجيش المصري من أرضه، والموظفين المصريين من إدارته».

«وكان جيش مصر من جهة خامسة في أمسّ الحاجة إلي التحرر من إشراف الإنجليز والحصول علي ما يلزمه من تدريب وتجهيز للنهوض بمهمته الجليلة الشأن في الدفاع عن حياض الوطن».

«في هذه الظروف، وتحت ضغط هذه العوامل المادية والأدبية اضطرت مصر إلي توقيع معاهدة 26 أغسطس سنة ١٩٣٦ لتعالج أخطار الحرب العالمية الثانية وشرورها، ولتواجه نتائجها كدولة مستقلة معترف بسيادتها، وتتخلص من عار الامتيازات الأجنبية، ومن آثارها المهلكة، ولتعيد علاقتها من الناحية العملية بالسودان، وهو شطر الوطن الجنوبي، وتشرع علي الفور في إعداد الجيش المصري وتدريبه، وتزويده بالأسلحة والمهمات وفقا لتعهدات الحكومة البريطانية في المعاهدة ليصبح هذا الجيش في أقرب وقت ممكن قادرا علي الحلول محل العدد المحدود من القوات البريطانية الذي سمحت المعاهدة لبريطانيا بوضعه في منطقة قناة السويس، وبذلك تتخلص مصر نهائيا من كل أثر للاحتلال البريطاني».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وهكذا فإنه لم يكن من سبيل من وجهة نظر النحاس، وفي ظل توازن القوي الموجودة علي الساحة الدولية سوي عقد تسوية مع الإنجليز تكسب فيها مصر شيئا، وتسد الطريق في ذات الوقت أمام المد الفاشي.

(13)

أما هيئة المفاوضة التي تولت المفاوضات مع البريطانيين من أجل ما عُرف بعد ذلك بمعاهدة 1936 فقد كانت علي النحو التالي:

«مصطفي النحاس رئيسًا، محمد محمود، إسماعيل صدقي، عبد الفتاح يحيي، واصف بطرس غالي، الدكتور أحمد ماهر، علي الشمسي، عثمان محرم، محمد حلمي عيسي، مكرم عبيد، حافظ عفيفي، محمود فهمي النقراشي، أحمد حمدي سيف النصر.. أعضاء».

وهكذا كان سبعة من أعضاء هيئة المفاوضة ومنهم الرئيس من الوفد، وكان لكل من حزب الأحرار الدستوريين وحزب الشعب وحزب الاتحاد عضو واحد، علي حين كان هناك ثلاثة من المستقلين.

«أما هيئة المفاوضة البريطانية فكانت مؤلفة من السير ميلز لامبسون المندوب السامي البريطاني في مصر يعاونه كل من: الأميرال السير وليم فيشر قائد الأسطول البريطاني في البحر الأبيض المتوسط، واللفتننت چنرال السير چورچ وير القائد العام للقوات البريطانية في مصر وقتئذ، ومارشال الطيران الأول السير روبرت بروك بوبهام قائد قوات الطيران البريطانية في الشرق الأوسط، والمستر كيلي مستشار دار المندوب السامي، والمستر سمارت السكرتير الشرقي بها».

«وبدأت المفاوضات في القاهرة يوم 2 مارس سنة 1936 بقصر «الزعفران» ـ الذي تشغله جامعة عين شمس الآن ـ ثم استمرت في الإسكندرية منذ أواخر يوليه بقصر «أنطونيادس»، وانتهت بوضع مشروع المعاهدة التي وقعت بوزارة الخارجية البريطانية يوم 26 أغسطس سنة 1936.

(14)

وقد تم تصديق البرلمان علي المعاهدة علي النحو التالي:

دعي البرلمان بمجلسيه إلي عقد اجتماع غير عادي في 2 نوڤمبر سنة 1936 للنظر في مشروع القانون بالموافقة علي المعاهدة.

وافق مجس النواب علي مشروع القانون بجلسة 14 نوڤمبر سنة 1936 بأغلبية 202 صوت ومعارضة 11 صوت.

ووافق عليه مجلس الشيوخ بجلسة 18 نوڤمبر سنة 1936 بأغلبية 109 أصوات ومعارضة سبعة أصوات.

(15)

ونأتي إلي إلغاء معاهدة 1936 وهو القرار الشجاع الذي اتخذه الوفد بقيادة النحاس في 1951 حين أدرك مدي الحاجة إليه.

وربما كان من المفيد هنا أن نبدأ بالإشارة إلي ذلك الرجاء الشهير الذي تقدم به حسن يوسف للمؤرخين أن يتحروا الحقيقة فيما يسجلونه، ويروونه ومن تجاهلهم لدور الملك فاروق في تعضيد قرار الوفد في 1951 الخاص بإلغاء معاهدة 1936، وكان الأجدر بحسن يوسف أن يتأمل في هذا الرجاء وموضوعه ليكتشف أن المؤرخين لم يخطئوا فيما توصلوا إليه، إذ لم تكن الوثائق متاحة أمامهم، كما أن الأجواء لم تكن تدل علي الحقيقة التي يشير إليها حسن يوسف علي نحو ما أثبتها هو، ولكننا مع هذا نثبت نص حسن يوسف بما فيه من عفة اللفظ، ونبل الهدف:

«… أتوجه (في ختام هذا الفصل) بالرجاء إلي السادة المؤرخين والكتّاب أن يستعينوا فيما يكتبونه بالوثائق الرسمية أو شبه الرسمية، فإن اختلفت مع وجهة نظرهم كان لهم الحق في تفنيدها إثباتا للرأي والرأي الآخر.. فكتابة التاريخ أمانة في أعناقنا نؤديها كاملة إلي جيلنا الحاضر وإلي الأجيال المقبلة، فإذا أعوزتنا الأسانيد الرسمية لنصل إلي الحق فلا أقل من أن نستعين بالمنطق».

وبعد هذه الجملة العمومية يردف حسن يوسف بذكر المثل الذي يريد التحدث عنه فيقول:

«قال أحدهم وهو يفاخر بأن الفضل في إلغاء المعاهدة يرجع إلي الوفد، وأن الوزارة ضحكت علي الملك، وانتزعت منه التوقيع علي مراسيم الإلغاء، لأنه لم يكن موافقا علي هذا الإجراء».

«ولي أن أتساءل بعد إيضاح المراحل التي مرت بها تشريعات الإلغاء: متي وكيف انتزعت موافقة الملك؟ في المرحلة الأولي عرض النحاس باشا علي الملك يوم 19 سبتمبر مبدأ الإلغاء، وفي المرحلة الثانية يوم 20 منه قمت بعرض التفاصيل فوافق عليها الملك وأبلغت الموافقة إلي رئيس الحكومة، وفي المرحلة الثالثة وقع الملك علي مراسيم الإلغاء يوم ٧ أكتوبر بإحالتها إلي البرلمان، وبعد موافقة مجلس النواب والشيوخ صدق الملك علي التشريعات وأصدرها يوم 15 أكتوبر».

«ففي أي مرحلة حصل الانتزاع؟ وإذا حدث مرة فهل يتكرر مثني وثلاث ورباع؟».

ثم يردف حسن يوسف هذه المعلومات المرتبة بقوله:

«وإذا كان في قولي ما يشبه التحيز فإني أستشهد بأستاذنا الكبير الدكتور وحيد رأفت، وهو عالم لا يرقي الشك إلي حياده، وكان مستشارا للرأي في وزارة الخارجية، فهو عندما طلب إليه الوزير إعداد مشروعات القوانين لإلغاء المعاهدة سأله عن موافقة السراي.. فأجابه الوزير بأن لدينا موافقة الملك علي هذا الإجراء».

«وسواء كان إلغاء المعاهدة عملا جليلا أو عملا ضئيلا فأمره متروك لحكم التاريخ، بيد أن الأحداث التي ترتبت عليه لها نتائج بالغة الأثر في تاريخ مصر المعاصر».

(16)

وربما كان من واجبنا أن نشير هنا إلي حقيقة مهمة وهي أن مقصد الكاتب الذي أشار إليه حسن يوسف لم يكن متعلقًا بكل هذه الخطوات وإنما كان متعلقًا بالمبدأ نفسه، أما كل ما بعد هذا فقد كانت موافقة الملك المبدئية قد حسمته.

وليس من شك في أن حسن يوسف (علي الرغم من مركزه كرئيس للديوان بالنيابة) كان بعيدا إلي حد ما عن المؤامرات التي كانت تريد دفع الملك إلي التآمر علي وزارة الوفد حتي لا يكون لها وجود أصلا في الوقت الذي ألغت فيه المعاهدة أو اعتزمت هذا الإلغاء، ونحن نقرأ في مصادر أخري أن الملك استشار الهلالي باشا علي سبيل المثال فأشار عليه بما معناه أن الوزارة لن تقدم علي هذه الخطوة… إلخ، وبوسع القارئ أن يراجع مذكرات عبد الفتاح حسن، وإبراهيم فرج، وكريم ثابت، وصلاح الشاهد، وقد تناولناها جميعًا في سلسلة مدارساتنا للمذكرات في كتبنا «في رحاب العدالة» و«علي مشارف الثورة» و«في كواليس الملكية».

(17)

ونحن نري كريم ثابت يشيد بحنكة النحاس في ختام الحديث عن آخر جولة من المباحثات المصرية ـ الإنجليزية التي سبقت قرار إلغاء المعاهدة ، وكان النحاس قد حذر وزراءه في بداية المفاوضات ألا يفرطوا في التفاؤل وألا يعولوا كثيرًا علي آمالهم من الإنجليز فإذا بالزمن يثبت صدق توقع النحاس:

«… وعلي هذا الأساس أقول إنه ما كادت المباحثات تبدأ حتي أخذت تتعثر، وحتي بدا للمشتركين فيها من الجانب المصري أن النصيحة التي أسداها إليهم النحاس كانت في محلها!».

«وحدث في خلال وجود (الدكتور محمد) صلاح الدين في الخارج، وقبل ذهابه إلي لندن واجتماعه بالمستر بيفن، أن نشرت بعض الصحف المصرية تصريحا لإبراهيم فرج وزير الخارجية بالنيابة قال فيه إن الذين سبقونا قالوا إن معاهدة سنة ١٩٣٦ أصبحت غير ذات موضوع، وأنا أقول إنها ملغاة، وإنه لم يبق سوي أن يصدر البرلمان التشريع الذي يجعل هذا الإلغاء حقيقة قانونية بعدما أصبح في نظر الشعب والحكومة حقيقة فعلية!».

«وقال إبراهيم فرج في هذا التصريح كذلك: إن إنجلترا هي التي خلقت إسرائيل بالاشتراك مع أمريكا، ومنعت وصول الأسلحة والذخيرة إلي مصر مخالفة بذلك معاهدة ١٩٣٦ التي يتشدقون بها، فاضطرت مصر أن تشتري الأسلحة والذخيرة من السوق السوداء في الخارج».

«فلما ذهب صلاح الدين إلي لندن وقابل بيفن، شكا وزير الخارجية البريطانية من ترديد الكلام حول إلغاء المعاهدة، وطلب من صلاح الدين أن تتعهد الحكومة المصرية بألا تلغي المعاهدة، وألا تهدد بإلغائها، ثم قال: «وعندئذ تجري المفاوضات!».

«واتصل صلاح الدين بعد المقابلة بالنحاس تليفونيا، وأعلمه بحديثه مع بيفن، فأيده في موقفه وقال له إنه لا يمكننا أن نخرج علي تعهداتنا للبرلمان بحال ما!».

«وانتهت اتصالات صلاح الدين في لندن من غير أن تؤدي إلي نتيجة مرضية».

«ثم توفي بيفن وتقلد المستر موريسن وزارة الخارجية البريطانية».

«وعلي أثر وفاة بيفن «تقلص الأمل» ـ علي حد تعبير إبراهيم فرج في حديث له معي ـ عن تلك المباحثات».

(18)

وفي مقابل رواية حسن يوسف فإن إبراهيم فرج ينفي تماما أن يكون النحاس باشا قد استشار الملك في إلغاء المعاهدة علي نحو ما ذكر حسن يوسف في مذكراته، ويروي إبراهيم فرج ذكرياته عن إلغاء المعاهدة فيقول:

«النحاس لم يستشره (أي الملك فاروق).. إنما أبلغه به كأمر واقع. وفي يوم إلغاء المعاهدة كنا في مدينة الإسكندرية.. فاستدعي النحاس باشا حسن يوسف يوم ٧ أكتوبر وأبلغه أن هناك مراسيم مهمة جدا يريد من الملك أن يوقع عليها.. وطلب منه أن يرسلها قبل الساعة الخامسة من اليوم التالي إلي مقر مجلس الوزراء في بولكلي.. وكان حسن يوسف وطنيا حقًّا ورحب بها، وقابل النحاس باشا وأثني علي وطنيته ثناء كبيرا.. وقال له النحاس باشا:

«يجب أن أسترعي نظرك بأن المراسيم يجب أن تأتي من عند الملك قبل اجتماع البرلمان.. وإذا تأخرت فسأقول في الاجتماع بأنها لم ترد من عند الملك ولم يوقعها».

(19)

ويردف إبراهيم فرج معقبا علي الرواية المنسوبة إلي حسن يوسف باشا والقائلة بأن إلغاء المعاهدة كان بناء علي اتفاق النحاس مع الملك ويقول:

«ولقد عجبت أشد العجب مما كتبه حسن يوسف في مذكراته بأن إلغاء المعاهدة كان باتفاق مسبق مع الملك.. وهذا غير صحيح إطلاقا.. وربما اختلط الأمر عليه بما كان يرد في خطب العرش من إشارة إلي نية الحكومة في اتخاذ إجراء حازم بالنسبة لتسوية العلاقات بين مصر وإنجلترا بخصوص معاهدة سنة ١٩٣٦ وضرورة تعديلها بما يحقق الجلاء الناجز، وإقرار وحدة مصر والسودان».

«والثابت تاريخيا أن النحاس باشا عندما استدعي حسن يوسف قبل عرض المراسيم علي المجلسين بأربع وعشرين ساعة، حذره تحذيرا شديدا صريحا من أن يفشي هذا السر إلي أي أحد، وأن يرجو جلالة الملك بأن يحتفظ به أيضًا. وقال له:

«وأرجو ألا تعتبر هذا تهديدا.. وسأفهم تماما إذا وصل الخبر إلي السفارة البريطانية سيكون مصدره السراي وأنت تعلم من أقصد: إلياس أندراوس، وفي هذه الحالة سيكون لي شأن آخر».

(20)

ويقول إبراهيم فرج أيضًا:

«وفي موضع آخر من مذكراته يذهب حسن يوسف إلي القول بأن النحاس باشا كان علي موعد مع الملك يوم 13 سبتمبر سنة ١٩٥١، وأنه في تلك المقابلة أبلغه بنية الحكومة في إلغاء المعاهدة، والحقيقة التي أعلمها علم اليقين.. هي أن الزيارة كانت بهدف التعديل الوزاري الأخير الذي عين فيه كل من عبد المجيد عبد الحق وحسين الجندي وزيرين».

«وهذا ما حدث في المقابلة.. ولم يدر فيها حديث قط بشأن إلغاء المعاهدة».

(21)

ومن المهم أن نكرر هنا ما أشرنا إليه في كتابنا «علي مشارف الثورة» من أن كريم ثابت (علي الرغم من علاقته بالإنجليز) لم يتورط في أقوال من قبيل ما قال به حسن يوسف من أن الملك كان هو الذي أوحي إلي النحاس باشا بإلغاء المعاهدة، وعلي العكس من ذلك فإنه فكر بصوت عالٍ في حقيقة موقف الملك، وقد طرح كريم ثابت أسئلة أجاب عليها بذكاء، وإن لم يلجأ إلي حسم القضية:

«هل كان فاروق يريد أن يخرج الإنجليز من منطقة قناة السويس؟».

«أم كان يريد إلغاء المعاهدة المصرية ـ الإنجليزية التي عقدت في سنة 1936؟».

«أم كان يريد عدم إلغائها؟».

ويجيب كريم ثابت علي أسئلته بنفسه فيقول:

«وأبادر فأعترف بعجزي عن الرد علي هذه الأسئلة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وبعد عشر صفحات من التحليل يلخص كريم ثابت وجهة نظره في طبيعة هذه العلاقة فيقول:

«وقد اكتشفت ذلك حينما بدأت أستنتج أنه يود في قرارة نفسه ألا يجلو الإنجليز عن قاعدة قناة السويس!».

«ومتي بدأ هذا الاستنتاج؟».

«بدأ من اللحظة التي سمعته يقول فيها لأول مرة: إن الذين يحاربونني لا يعلمون أنه بمجرد ظهور بوادر ثورة سيكون الإنجليز في القاهرة في أقل من ساعة!».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«فبينما كان يؤكد للإنجليز أنه مخلص في صداقته لهم وموال لمعسكرهم، وأنه يتعهد لهم بأن مصر ستقف في صفهم في كل وقت، بل بينما كان يسأل المارشال «سليم» هل يفكرون جديا في الجلاء عن قناة السويس، كان من جهة أخري يبلغ النحاس أنه ليست له توجيهات معينة في مباحثاتهم مع الإنجليز، وأنه يترك للوزارة أن تتبع خير الخطط الكفيلة بتحقيق الأماني الوطنية!».

«وقال فاروق لنفسه إنه إذا تعثرت المباحثات، وفشلت، تحققت أمنيته «السرية» في ألا يغادر الإنجليز منطقة القناة، ولم تستطع الوزارة الوفدية أن تدعي أنه لم يؤيدها في خطتها وجهودها،أما إذا نجحت المباحثات فنجاحها سيجئ حتما نتيجة لتفاهم الجانبين، وفي هذه الحالة يستغل نجاحها عند الفريقين، ويفوز بثناء الطرفين!».

«ولكنه لم يحسب حساب الاحتمال الثالث وهو أن تعمد الوزارة في حالة عدم الاتفاق مع الإنجليز، إلي إلغاء المعاهدة!».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وبعد خمس صفحات أخري يؤكد كريم ثابت علي هذا المعني ويقول :

«وروي إلياس أندراوس فيما بعد أن الملك أوفده في تلك الساعة إلي بعض أصدقائه الإنجليز يستشيرهم في المسلك الذي يحسن به أن يسلكه بعدما وضعته الوزارة أمام الأمر الواقع، فقالوا إنه لم يبق أمامه سوي طريق واحد، وهو أن يمضي المراسيم!».

«هذا ما رواه لي أندراوس وليس عندي ما يؤيده أو ينفيه».

(22)

وقد تصدي إبراهيم فرج لحسن يوسف أيضًا في قضية أخري تتعلق بإلغاء المعاهدة والآثار المترتبة عليها:

«وما دمنا نتعرض لما قاله حسن يوسف في مذكراته بهذا الخصوص، فيهمني أيضًا أن أشير إلي أن ما ذكره بخصوص لقب ملك مصر والسودان وامتناع بعض الدول عن الاعتراف به».

«فالذي حدث أنه في منتصف نوڤمبر أو في العشرين منه.. أن جاء بعض السفراء للقائي وكنت وزيرا للخارجية بالنيابة نظرا لسفر محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية إلي اجتماع للأمم المتحدة.. وقد رفضت لقاءهم لأن أوراق اعتمادهم كانت مقدمة إلي ملك مصر فقط متجاهلا للقب الجديد الذي أقره البرلمان تعديلا للمادة 159، 160 من دستور سنة ١٩٢٣».

«وبطبيعة الحال رفضت السراي قبول أوراق اعتماد لا تقدم إلي اللقب الدستوري الجديد وهو ملك مصر والسودان واضطروا إلي الرجوع إلي حكوماتهم التي أقرت الوضع الجديد واستبدلوا بأوراق الاعتماد أوراقا أخري باللقب الجديد فيما عدا البرتغال التي كان يحكمها الطاغية سالازار.. وهؤلاء السفراء يمثلون اليونان وهولندا وإيطاليا والبرتغال».

وقد حرص إبراهيم فرج فيما رواه من مذكرات علي أن يرد علي الدعاوي القائلة بأن حكومة الوفد لم تستعد لإلغاء المعاهدة، وتصدي لهذه المقولة بأن ذكر قصة اجتماع للوفد مع هذه القيادات التي زايدت علي موقف الوفد:

«ماذا يراد بالقول إن الحكومة لم تستعد؟».

«هذه النغمة انكشفت عندما اجتمع معنا بعض زعماء الأقليات وبعض الأشخاص ممن كان يهمهم حرب الإنجليز، ونقلوا هذه العبارة في الحوار الذي دار بيننا وبينهم في وزارة الداخلية».

«ويحدد إبراهيم فرج هؤلاء الأشخاص بالاسم وهم: «أحمد حسين وصالح حرب، ومرشد الإخوان المسلمين حسن الهضيبي وعزيز المصري وغيرهم.. هؤلاء الزعماء الذين جلسوا معنا لنأخذ رأيهم فيما يجب عمله ونناقشهم فيه.. فكانت الكلمة الأولي والسؤال الأول علي ألسنتهم جميعا».

«… هؤلاء الناس المفترض أن يكونوا فدائيين علي حسب ما كانوا ينشرون في صحفهم ويقولون في خطبهم هم أنفسهم يسألوننا عن خطتنا في محاربة الإنجليز؟ فطبعا كان جوابنا أن الخطة جاهزة وهي أن الشعب المصري كله مجند لضرب الإنجليز في القنال لأننا أبحنا حمل السلاح في هذه المنطقة دون قيد أو شرط ليتمكن الشعب من محاربة الإنجليز. منعنا التموين عن الإنجليز منعا باتا.. أخرجنا العمال من العمل في المعسكرات».

«إن الهجوم الذي شنوه علينا كان خطوة للتخلص من الوفد وللتخلص من الحياة الدستورية في مصر».

«بعد إلغاء المعاهدة جمعناهم لنتناقش معهم ويساعدونا.. لكننا لم نجد من هؤلاء إلا روح التخاذل، واتضح أنهم يريدون ضرب الوفد لحساب الملك».

(23)

وقد صور النحاس (في خطابه الشهير الذي قدم به لمجلس الشيوخ قراره بإلغاء المعاهدة) الظروف التي نشأت بقيام الحرب العالمية ثم انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وما تستتبعه هذه الظروف من نظرة أخري إلي العلاقات المصرية ـ البريطانية وإلي المعاهدة نفسها:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«ثم حل الخطر المرتقب، وقامت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر ١٩٣٩، وقدمت مصر لبريطانيا العظمي وحلفائها أجلّ الخدمات، وأنفع المساعدات، واشتركت معهم في احتمال أفدح التضحيات، وكان لمعونتها أثر فعال في كسب الحرب كما اعترف بذلك الكثير من رجالات بريطانيا الرسميين.. عسكريين ومدنيين كاللورد ألكسندر، ومستر تشرشل، ومستر إيدن، ومستر بيفن».

«وبانتصار الأمم المتحدة في الحرب تغيرت الظروف الدولية التي عقدت فيها معاهدة 1936 تغيرا كاملا، فقد خرجت دول المحور التي عقدت هذه المعاهدة لمواجهة خطرها منهزمة شر هزيمة، وقضي قضاء مبرما علي قوتها العسكرية، وبالتالي علي الخطر الذي كان ماثلا عند إبرام معاهدة 1936».

«ومن جهة أخري اعتبرت الدول المنتصرة نفسها كتلة متحدة، اشترك جميع أعضائها في وضع النظام الدولي الشامل الذي يرتب علاقات الشعوب بعضها ببعض».

«وبذلك لم يقتصر الأمر علي انتفاء الخطر الذي كان يتهدد مصر من ناحية دول المحور، بل انتفي في الواقع كل خطر يتهددها من أية ناحية أخري».

«وقد جاء ميثاق الأمم المتحدة المعقود في سان فرانسيسكو في يونيو سنة 1945 وافيا بالغرض من هذه الناحية، قائما في الوقت نفسه علي أسس جديدة في المعاملات الدولية تختلف تمام الاختلاف عن الأسس التي قامت عليها معاهدة سنة 1936».

«فهو يحرم الحروب كوسيلة من وسائل فض المنازعات الدولية، ويوجب فض هذه المنازعات بالوسائل السلمية، ويحظر كل اعتداء علي استقلال الدول الأعضاء ووحدة أراضيها، ويقرر حق الشعوب في تقرير مصيرها، وينص علي المساواة التامة في السيادة بين جميع الدول الأعضاء، كما ينص علي أنه إذا تعارضت التزامات أعضاء الأمم المتحدة المترتبة علي الميثاق مع التزاماتهم المترتبة علي أي اتفاق دولي آخر وجب تغليب التزاماتهم المترتبة علي الميثاق».

(24)

وقد لخص النحاس باشا (في بيانه عن إلغاء المعاهدة) بإنصاف شديد الجهود التي بذلتها وزارات صدقي والنقراشي من أجل دفع البريطانيين إلي الوفاء بعهودهم، وإن لم يعن هذا أنه كان موافقًا علي الأسلوب الذي سلكته هذه الوزارات في المفاوضات وما حولها:

«ونظرا لإجماع الشعب المصري علي المطالبة بحقه الكامل في جلاء القوات البريطانية جلاء ناجزا عن مصر والسودان ووحدتهما تحت التاج المصري دخلت الحكومة المصرية مع الحكومة البريطانية في مفاوضات لإعادة النظر في معاهدة سنة ١٩٣٦ لكي تستبدل بها معاهدة جديدة تتمشي أحكامها مع الأحوال الدولية الجديدة».

«واستمرت هذه المفاوضات من أوائل إبريل إلي أواخر أكتوبر سنة 1946، وانتهت إلي مشروع صدقي ـ بيفن الذي اختلف الطرفان المتفاوضان علي تفسير البروتوكول الملحق به عن السودان، والذي وقف الأمر عند حد التوقيع عليه بالأحرف الأولي من أسماء المتفاوضين، إذ تجلي إجماع الرأي العام في مصر علي رفضه لقصوره عن تحقيق المطالب الوطنية».

«وفي ٨ يوليو سنة ١٩٤٧ رفعت الحكومة المصرية النزاع القائم بينها وبين بريطانيا العظمي إلي مجلس الأمن طالبة جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان جلاء تاما ناجزا، وإنهاء النظام الإداري القائم بالسودان، فعقد مجلس الأمن للنظر في هذا النزاع إحدي عشرة جلسة بين ٥ أغسطس و10 سبتمبر ١٩٤٧، ولكنه عجز عن إصدار أي قرار في شأنه، إذ لم يحصل أي مشروع من مشروعات القرارات التي قدمت في هذا الشأن علي الأغلبية اللازمة».

«وقد اشتركت جميع المشروعات في مطالبة طرفي النزاع باستئناف المفاوضات المباشرة لتسويته بالاتفاق بينهما، ثم قرر الرئيس (أي رئيس مجلس الأمن) الاحتفاظ بالنزاع في جدول أعمال المجلس، وانتهي الأمر عند هذا الحد».

«ثم تبادلت الحكومة المصرية مع إدارة السودان من جهة، ومع الحكومة البريطانية من جهة أخري رسائل كثيرة بشأن الإصلاحات الإدارية والتشريعية في السودان، وتلت ذلك محادثات في هذا الشأن بين وزير الخارجية المصرية والسفير البريطاني بدأت في 6 مايو وانتهت في 28 مايو 1948، ولكن جميع هذه المكاتبات والمحادثات منيت بالفشل، ولم يستطع الطرفان الاتفاق حتي في هذا النطاق المحدود الذي لم يتناول بحث الوحدة بين مصر والسودان».

(25)

ثم انتقل النحاس (في خطابه أمام مجلس الشيوخ) إلي الحديث عن موقف وزارته القائمة بالحكم منذ يناير 1950 فأكد علي اهتمامها منذ يومها الأول بوضع حد للوضع الذي ضج منه الوطنيون المصريون:

«وفي شهر يناير سنة 1950 أجريت في مصر الانتخابات العامة فأسفرت عن تولية الحكومة القائمة، وقد تجلي في هذه الانتخابات من جديد إجماع الشعب المصري علي مطالبه الوطنية، فنوهت الوزارة بهذا الإجماع المنقطع النظير في خطاب العرش الذي افتتحت به الدورة الأولي للهيئة النيابية العاشرة من دورات انعقاد البرلمان المصري إذ جاء فيه:

«لقد أجمعت الأمة إجماعا لا يشذ عنه أحد من أبنائها علي وجوب تحرير وادينا، مصره وسودانه، من كل ما يقيد حريته واستقلاله، ليسترد مجده القديم، ويتبوأ المكان الكريم اللائق به في ميدان الحياة العالمية، ولن تفتر حكومتي في بذل أصدق الجهود وأقصاها ليتم الجلاء العاجل عن أرض الوادي بشطريه، وتصان وحدته تحت التاج المصري من كل عبث أو اعتداء».

«وشرعت الوزارة علي الفور في إنجاز ما وعدت به ورأت أن تكون أولي خطواتها في هذا السبيل محاولة الاتفاق مع الإنجليز فدخلت معهم في سلسلة طويلة من الاتصالات والمحادثات لعلهم يقتنعون بالحجة، وينزلون علي حكم الحق، وتعددت الاتصالات، وطالت المحادثات، وتذرعت الوزارة بالحكمة والصبر فلم تتعنت ولم تتعجل، بل واجهت المشاكل مواجهة واقعية، وعالجتها باقتراح الحلول العملية للتوفيق بين حقوق مصر الوطنية التي لا يمكن التحول عنها، وبين الملابسات الدولية التي يتعلل بها الإنجليز، ولكن شيئا من ذلك لم يفلح في صرفهم عن عنتهم وإقناعهم بضرورة احترام حقوق مصر إذا شاءوا حقًّا أن يحتفظوا بصداقتها».

«فلم تجد الحكومة والحالة هذه بدا من أن تعلن في خطاب العرش الذي ألقي في البرلمان المصري يوم 16 نوڤمبر سنة 1950 أنه لا مناص من إلغاء معاهدة سنة 1936، وأن الحكومة ماضية دون تردد أو إبطاء في تحقيق الأهداف الوطنية، ولن تترك وسيلة إلا اتخذتها للوصول إلي غايتها بفضل تأييد البرلمان وعون الأمة ويقظتها، وفي طليعة هذه الوسائل إعلان إنهاء معاهدة سنة ١٩٣٦ وما يتبع ذلك من إعلان إنهاء اتفاقيتي 16 يناير و10 يونيو سنة 1899 الخاصتين بالحكم الثنائي في السودان».

«ثم استمرت المحادثات وقصد وزير الخارجية إلي لندن حيث تباحث مع وزير الخارجية البريطانية طويلا، وانتهت هذه المباحثات في 15 ديسمبر 1950 بأن قرر وزير الخارجية البريطانية أنه عرض علي مجلس الوزراء بصفة شخصية محضة مقترحات تتضمن طريقة علاج جديدة لمشكلة الدفاع فكلف المجلس مستشاريه أن يقوموا علي الفور ببحث هذه المقترحات، وهو يرجو أن يتمكن من الإفضاء إلي الحكومة المصرية بنتيجة دراسة حكومته لطريقة العلاج المذكورة في أواسط يناير 1951، وفي أسرع وقت مستطاع بعد ذلك التاريخ».

«ولكن المقترحات الموعودة لم تصل إلي الحكومة المصرية إلا في ١١ إبريل سنة ١٩٥١، أي بعد التاريخ المضروب بثلاثة أشهر، وقد جاءت مع ذلك أبعد ما تكون عن تحقيق المطالب المصرية».

«وفي 24 إبريل سنة ١٩٥١ ردت الحكومة المصرية برفض هذه المقترحات في جملتها وتفصيلاتها مقدمة من جانبها مقترحات مضادة بشأن الجلاء ووحدة مصر والسودان، ووعد الجانب البريطاني بدراسة هذه المقترحات المضادة والرد عليها، ولكن رده لم يصل إلا في ٨ يونيو سنة ١٩٥١».

«ثم استؤنفت المحادثات ودار البحث فيها عن السودان».

(26)

وانتقل النحاس باشا إلي الأحداث السابقة مباشرة علي قرار الوفد بإلغاء معاهدة 1936، وهي أحداث أثبتت للوفد ضرورة اللجوء إلي مثل هذا الحل الحاسم لقطع دائرة التسويف التي آثر البريطانيون اللجوء إليها:

«… وبينما هي سائرة تتعثر، ألقي وزير الخارجية البريطانية بيانه المعروف في مجلس العموم البريطاني يوم الاثنين 30 يوليو سنة ١٩٥١، يعلن فيه تمسك الحكومة البريطانية بالاحتلال والدفاع المشترك في وقت السلم بحجة القرارات الدولية، ومعارضتها وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري بحجة استطلاع مشيئة السودانيين».

«وقد جاء هذا البيان ناطقا بعمق (الهوة) التي تفصل بين الطرفين لإصرار الحكومة البريطانية علي سياستها الاستعمارية القديمة، سياسة ادعاء المسئوليات، وانتحال التبعات، ومقاومة الحقوق الوطنية بشتي الحجج والتعلات».

«وفي ٦ أغسطس سنة ١٩٥١ رد وزير الخارجية المصرية علي هذا البيان ببيانه الذي ألقاه في مجلسي البرلمان المصري وقال فيه: إن وزير الخارجية قد أغلق بتصريحاته الأخيرة في مجلس العموم باب المحادثات، ولكن وزير الخارجية البريطانية بعث إليَّ في 17 أغسطس سنة ١٩٥١ برسالة شخصية ينفي فيها أنه أغلق باب المباحثات ويقول إنه علي العكس يبحث علي وجه الاستعجال مشروعا جديدا لعلاج مسائل الدفاع فرددت عليه مبينا الأسباب التي من أجلها اعتبرت الحكومة المصرية أن خطابه في مجلس العموم البريطاني قد أغلق باب المباحثات، وأضفت أن جلاء القوات البريطانية ليس إلا شطرا للقضية المصرية، وأن هناك الشطر الآخر وهو وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وأن الشطرين كل لا يتجزأ، وأن الأسس التي بني عليها خطاب سعادته فيما يتعلق بالسودان كافية وحدها لإغلاق باب المحادثات».

«فالموقف إذًا من هذه الناحية لم يتغير في شيء بعد رسالته الشخصية، ومع ذلك فلن يعدل اغتباطي (شيء) إذا وصلت مقترحاته المشار إليها في الوقت المناسب ووجدت فيها الحكومة المصرية من الشواهد العملية علي احترام حقوق مصر الوطنية ما يدعوها إلي مراجعة الموقف».

«أرسل هذا الرد في 26 أغسطس سنة ١٩٥١ ولم تصل هذه المقترحات حتي الآن، ولكني تلقيت من وزير الخارجية البريطانية في 21 سبتمبر سنة ١٩٥١ رسالة شخصية أخري يقول فيها: إنه لا يستطيع أن يعين علي وجه التحديد تاريخا لإرساله مقترحاته، ولكنه يتوقع أن يكون ذلك في موعد قريب، وهو يرجو أن يستطيع كذلك في القريب تقديم مقترحات جديدة عن مستقبل السودان تكون مقبولة لدي الحكومة المصرية كأساس لاستئناف المباحثات».

«وقد كلفت سعادة السفير البريطاني الذي حمل إليَّ هذه الرسالة أن يبلغ وزير الخارجية البريطانية أن الحكومة المصرية مرتبطة بإعلان خطتها في البرلمان قبل فض دور الانعقاد الحالي في أوائل شهر أكتوبر علي أكثر تقدير، فلا معني والحالة هذه أن تصل المقترحات الجديدة علي أساس تحقيق المطالب الوطنية قبل هذا التاريخ».

(27)

وقد نبه النحاس باشا إلي عدد من الحقائق الاستراتيجية في النزاع المصري ـ البريطاني، مشيرا إلي أهمية عامل الوقت، وإلي أن البريطانيين قد استغلوه لمصلحتهم:

«… هذا هو تاريخ المحادثات حتي الآن، وغني عن البيان أن الجانب البريطاني لا يخسر شيئا من كل هذا التأخير والتطويل، فالاحتلال قائم في منطقة قناة السويس وفي السودان، والحكم البريطاني يواصل مساعيه في الجنوب لفصل السودان عن مصر تحت ستار الحكم الثنائي».

«أما مصر فقد أصبح من المستحيل عليها أن تصبر أكثر مما صبرت، وتطاول أكثر مما طاولت، وتواصل هذه المحادثات التي امتدت حتي الآن أكثر من ستة عشر شهرا، ثم إن هذه المحادثات ليست إلا حلقة أخيرة في سلسلة المحاولات التي بذلتها مصر دون طائل منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها لنيل حقوقها الوطنية، وإقناع بريطانيا العظمي بضرورة احترامها، وكف العدوان عنها».

«من أجل ذلك أري لزاما عليّ وقد امتد دور الانعقاد الحالي إلي أحد عشر شهرا، حتي كاد أن يتداخل في دور الانعقاد المقبل أن أعلن في مجلسكم الموقر أن الحكومة المصرية تعتبر الوقت المناسب الذي نوهنا عنه في ردنا علي رسالة مستر موريسون الشخصية وقيدنا به وصول المقترحات الجديدة التي وعد بها قد فات وانقضي، وأن المحادثات التي كانت جارية بين الحكومتين قد قطعت بعد أن تبين بجلاء عدم جدواها».

«وما دام السعي المتواصل لتحقيق مطالب البلاد عن طريق الاتفاق قد ثبت فشله، فقد آن الأوان لأن تفي حكومتكم بالوعد الذي قطعته علي نفسها في خطاب العرش الأخير فتتخذ علي الفور الإجراءات اللازمة لإلغاء معاهدة 26 أغسطس سنة 1936، واتفاقيتي 19 يناير و10 يوليو سنة 1899 بشأن إدارة السودان».

(28)

وقد حرص النحاس باشا في خطابه في مجلس الشيوخ علي أن يقدم بيانا تاريخيا بالسوابق التي سجلها التاريخ لإلغاء المعاهدات علي نحو دقيق:

«لقد جادل الإنجليز في حق مصر في إلغاء معاهدة سنة 1936 الدولية من جانب واحد، كما تتبينون حضراتكم مما يلي:

في سنة 1871 ألغت روسيا القيصرية معاهدة باريس المعقودة في 30 مارس سنة 1856 بشأن حيدة البحر الأسود.

في سنة 1884 ألغت الولايات المتحدة الأمريكية المعاهدة الإنجليزية ـ الأمريكية التي عقدت في 19 إبريل سنة 1850 الخاصة بإنشاء قناة بحرية في أمريكا الوسطي.

في 9 ديسمبر سنة 1905 ألغت فرنسا كنكوراتو 15 يوليو سنة 1801 المعقود بينها وبين البابا.

في ٣ أكتوبر سنة 1908 ألغت النمسا والمجر أحكام معاهدة برلين المعقودة في سنة 1878 بأن ضمت إليها البوسنة والهرسك.

في 15 أكتوبر سنة 1908 ألغت بلغاريا معاهدة برلين بإعلانها بأنها دولة حرة مستقلة.

في ٩ سبتمبر سنة ١٩١٤ ألغت تركيا نظام الامتيازات الأجنبية بمقتضي الالتزامات الدولية.

في سنة ١٩١٩ ألغت الصين معاهدتي 1913 و1915 مع روسيا ومنغوليا.

بين سنة ١٩١٧ ـ ١٩٢٤ ألغت الحكومة السوفيتية المعاهدات السياسية والاقتصادية التي كانت حكومة روسيا القيصرية قد أبرمتها.

بين سنة ١٩٢٦ ـ ١٩٢٨ ألغت الصين المعاهدات غير المتكافئة التي كانت طرفا فيها.

في سنة ١٩٣٢ أوقفت فرنسا دفع ديون الحرب المستحقة للولايات المتحدة بمقتضي اتفاق 29 إبريل سنة ١٩٢٦.

في نوڤمبر سنة 1933 ألغت دولة أيرلندا الحرة المعاهدة الإنجليزية ـ الأيرلندية المعقودة في ٦ ديسمبر سنة 1921.

في 13 سبتمبر سنة ١٩٢٤ ألغت بولونيا التزاماتها الدولية الخاصة بحماية الأقليات.

في 16 مارس سنة ١٩٣٥ ألغت ألمانيا الجزء الخامس من معاهدة فرساي.

في مارس سنة ١٩٣٦ ألغت ألمانيا معاهدة لوكارنو.

في أول إبريل سنة ١٩٣٦ ألغت النمسا الجزء الخامس من سان جرمان.

في ديسمبر سنة ١٩٣٨ ألغت الحكومة اليابانية معاهدة الدول التسع الموقعة في واشنطن بتاريخ ٦ فبراير سنة 1922 الخاصة بالمبادئ الواجب اتباعها، والمواقف الواجب اتخاذها نحو الصين.

في يونيو سنة ١٩٣٩ ألغت ألمانيا التصريح الألماني البولوني الصادر في 26 يناير سنة 1934 الخاص بعدم الالتجاء إلي القوة.

في يونيو سنة ١٩٣٩ ألغت ألمانيا الاتفاق البحري المعقود بينها وبين إنجلترا في 18 يونيو ١٩٣٥.

وفي نهاية هذا الإحصاء التاريخي الدقيق أشار النحاس إلي أن هذه أمثلة كثيرة متفاوتة التاريخ والظروف والأسباب علي سوابق إلغاء المعاهدات والاتفاقات الدولية من جانب واحد.

(29)

ثم انتقل النحاس باشا إلي بيان الأسباب التي دفعته هو ووزارته إلي إلغاء المعاهدة، وكان النحاس من الذكاء في تقديم حججه بحيث استشهد بأقوال الساسة البريطانيين أنفسهم في مناسبات مشابهة، كوصف بيفين لما تم بين روسيا وإيران من قبل بأنه كان قسرًا، وهو ما أخذ به مجلس الأمن الدولي في الحكم علي الاتفاقات التي تعقد في ظل الاحتلال:

«وقد كان الجانب الآخر يجادل بالطبع في جواز هذا الإلغاء، ولكن الإلغاء مع ذلك تم وأنتج آثاره القانونية في جميع الأحوال».

«وقد يقال إن أكثر الدول التي لجأت إلي هذا الإجراء كانت تعتمد فيه علي القوي المادية».

«هذا صحيح ولكنه أبعد ما يكون عن أن ينطبق علي حالتنا».

«فنحن لا نعتمد فيما اضطررنا إليه من إلغاء معاهدة سنة ١٩٣٦ إلا علي الحق الواضح، والعدالة المطلقة، والمبادئ السامية التي يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة».

«وما من سابقة من هذه السوابق الدولية سقناها تشبه أو تداني حالتنا في سلامة الحجة، ووضوح الضرورة، وقوة أسباب الإلغاء التي أجملها الآن لحضراتكم باختصار فيما يلي:

«أولا: إن هذه المعاهدة عقدت في ظل الاحتلال البريطاني فلم يكن شرط الاختيار الكامل متوافرا للجانب المصري، وليس هذا رأيا جديدا يتردد هنا أول مرة لنبرر به موقفنا، بل هو رأي وزير الخارجية البريطانية مستر بيفن أعلنه بصريح العبارة في مجلس الأمن عندما طرح عليه النزاع الروسي ـ الإيراني، إذ قال بالحرف الواحد: «إن الحكومة البريطانية ليؤسفها أي اتفاق يبدو أنه قد انتزع من الحكومة الإيرانية قسرا، علي حين تحتل حكومة الاتحاد السوفيتي جزءا من إيران».

كما قال في المناسبة نفسها: «نحن دول قوية نوصف أحيانا بالثلاثة الكبار، ولكننا نمثل القوة دون ريب، وللقوة ولا شك حسابها في المفاوضات».

«وقد أخذ مجلس الأمن بهذا الرأي فتضمن قراره فيما تضمن أن وجود القوات الأجنبية في أرض دولة من الدول يسلبها حرية الاختيار في المفاوضات».

«هذا هو حكم مجلس الأمن، وحكم وزير الخارجية البريطانية علي الاتفاقات التي تعقد في ظل الاحتلال، وهو الحكم الحق علي معاهدة سنة ١٩٣٦ التي عقدت والاحتلال البريطاني قائم في مصر كلها، لا في بعض أجزائها كما كان الحال في إيران».

(30)

وفي ذكاء شديد استعرض النحاس باشا معني الضغط البريطاني في معاهدة 1936 دون أن يتناقض مع نفسه وتاريخه فيقول:

«ولا بد لي هنا من أن أفصح عما نقصده بضغط الاحتلال، ليس القصد أن أحدا أكرهنا إكراها ماديا علي توقيع المعاهدة، ولكننا نقصد حالة الإكراه الأدبي التي كانت تساور نفوسنا، إذ نري مصر تكاد تختنق تحت ضغط الاحتلال المتغلغل في كل مرافقها، العابث بكل مصالحها، والامتيازات الأجنبية الجاثمة علي صدرها، فأردنا أن نلتمس لها من هذا الإسار مخرجا يخرجها من عقالها، ويكون خطوة أولي تتلوها خطوات أوسع لاستكمال وحدتها واستقلالها».

«ثانيا: تغير الظروف التي عقدت فيها المعاهدة، وقد سبق لنا تفصيل ذلك بما فيه الكفاية».

«ثالثا: أنها تتناقض مع اتفاقية قناة السويس ومع ميثاق الأمم المتحدة، وكلاهما أولي منها بالتنفيذ والإقدام».

«فاتفاقية قناة السويس عقدت قبلها بزمن طويل بين دول متعددة لتقرير وضع دولي (مهم) هو حيدة القناة، وحرية المرور فيها علي قدم المساواة التامة بين الجميع».

«ولذلك حرمت هذه الاتفاقية علي الدول الموقعة عليها محاولة الوصول إلي مزايا إقليمية أو تجارية أو أية ميزة أخري في أي اتفاق دولي يعقد في المستقبل بشأن القناة، كما ناطت مصر وحدها، وهي الدولة صاحبة الإقليم، حق الدفاع عن حيدة القناة وسلامة المرور فيها، وهذا ما أهدرته معاهدة سنة ١٩٣٦ إهدارا تاما، إذ ليست هذه المعاهدة إلا مجموعة من الميزات الصارخة لمصلحة بريطانيا وحدها علي حساب استقلال مصر وسيادتها».

«وما كان لبريطانيا بصريح النص في اتفاقية سنة 1888 أن تنتهز فرصة الاحتلال فتحصل لنفسها علي هذه المزايا».

«أما ميثاق الأمم المتحدة فقد سبق أن بينا أوجه التناقض بينه وبين معاهدة سنة ١٩٣٦، ولا حاجة بي إلي تكرار القول في أهمية هذا الميثاق ووجوب تغليب أحكامه علي ما يتناقض معها من أحكام المعاهدات والاتفاقات الأخري».

«رابعا: تكرار الإخلال بأحكام المعاهدة من جانب المملكة المتحدة، والواقع أن الإنجليز لا يتمسكون بالمعاهدة إلا فيما يعتمدون عليه لتأييد الاحتلال أو العبث بوحدة مصر والسودان».

«أما ما وضع عليهم من قيود، أو ألقي من التزامات فليس له وزن عندهم، فهم يتجاوزون عدد القوات التي ترخص المعاهدة بإبقائها في منطقة القناة، ويتجاوزون المناطق المحددة لها، ويأبون الخضوع للإجراءات الصحية والجمركية التي تفرضها القوانين المصرية، ويحاربون تدريب الجيش المصري وتجهيزه بدلًا من أن يعاونوا في إعداده وتقويته وفقا لتعهدهم في المعاهدة».

«وقد انتهجوا وما زالوا ينتهجون في المسألة الفلسطينية سياسة لا يمكن وصفها إلا بأنها سياسة عدائية تعرض مصر لأشد الأخطار مع أن المعاهدة توجب عليهم ألا يتخذوا في علاقاتهم مع البلاد الأجنبية موقفا يتعارض مع المحالفة، وذلك فضلا عن سياستهم في السودان التي يرمون بها إلي فصله عن مصر وفصل جنوبه عن شماله تمكينا لأغراضهم الاستعمارية فيه منتهكين بذلك أحكام معاهدة سنة ١٩٣٦ واتفاقيتي سنة 1899 علي حد سواء».

(31)

وانتقل النحاس باشا إلي التأكيد علي حقيقة أن مصر كانت تمارس سياساتها في حدود حقها القانوني والدولي، حين تلغي معاهدة سنة ١٩٣٦ وتنهي العمل بأحكامها، وأن هذا هو الشأن لنفس الأسباب فيما يتعلق بإلغاء اتفاقيتي سنة 1899 وإنهاء العمل بهما.

وفي هذا الصدد قال النحاس باشا:

«… بل إن أمرهما (أي اتفاقيتي 1899) أهون وأيسر، فقد عقدتا في وقت لم تكن مصر تملك فيه عقد المعاهدات السياسية، وكان الإكراه والإملاء واضحين فيهما وفي الملابسات التي سبقت عقدهما أشد الوضوح، فقد وقعها وكيل نظارة الخارجية، والمعتمد البريطاني، وهما خاصتان بإدارة السودان، ولم ينصا علي أجل لانتهاء الوضع الذي فرضتاه، فهو وضع مؤقت أملته السيطرة البريطانية علي أمور مصر في ذلك الحين فلا بد من أن يزول بزوالها، وقد كان يكفي في إنهاء العمل بهاتين الاتفاقيتين صدور قرار من وزارة الخارجية المصرية، ولكن نظرا لارتباط هذا العمل بقضية الوطن الكبري فقد فضلنا أن يتوج بموافقتكم فأدمجناه في مشروع القانون الخاص بإلغاء معاهدة سنة ١٩٣٦ وإنهاء العمل بأحكامها».

«وبإلغاء هذه المعاهدة من جهة، وهاتين الاتفاقيتين من جهة أخري يعود الوضع في السودان من تلقاء نفسه إلي ما كان عليه قبل الاحتلال، فتستبعد كل علاقة للإنجليز بالسودان، ولا تبقي إلا الوحدة الطبيعية التي تربطه مع مصر علي مر الزمان، ويتعين بعد ذلك استكمال جميع أركان الوضع الشرعي بتعديل المادتين 159 و160من الدستور المصري وتدارك ما كان الضغط البريطاني قد أكره الحكومة المصرية عليه عند وضع الدستور من حذف النص علي وحدة الوطن، وعلي تلقيب الملك بملك مصر والسودان، وهذا ما يتكفل به المرسوم المقدم إليكم باقتراح تعديل المادتين 159 و160من الدستور».

«ومشروع القانون المتضمن هذا التعديل كما يتعين إصدار قانون بشأن النظام الذي يجب أن يحل في السودان محل النظام القائم الآن، وهذا ما يتكفل به مشروع القانون المقدم إليكم في هذا الشأن، وقد توخينا فيه التزام المبادئ الأساسية، والخطوط العامة المتفق عليها بين الوطنيين في الشمال والجنوب، والمحققة لتمتع السودان بحكم ذاتي كامل، ودستور ديمقراطي صحيح، تاركين جميع التفصيلات للسودانيين أنفسهم يضعونها بمعرفة جمعية تأسيسية تمثلهم أصدق تمثيل».

«وبهذا كله تتمشي النصوص الدستورية مع الوحدة الوطنية التي جمعت بين مصر والسودان من أقدم عصور التاريخ. هذه الوحدة التي لم يكن الإنجليز في أول أمرهم يمارون فيها، بل كانوا في كل مناسبة يعلنون بأنهم يعملون في السودان باسم مصر، ولحساب مصر».

«وهذه الوحدة التي بلغ من قوتها ووضوح حجتها أن أنطقت مستر تشرشل نفسه بتشبيهه المعروف الذي مثل فيه شطري الوادي بنخلة أصلها في السودان وفروعها في الدلتا، وقال بصريح العبارة: «إن مصر والسودان من الناحية الطبيعية والجغرافية وحدة لا تتجزأ».

(32)

وقد جاء أفضل ختام لهذا البيان السياسي البليغ علي لسان النحاس باشا حين قال:

«… لقد انقضي وقت الكلام وجاء وقت العمل.. العمل الدائب المنتج الذي لا يعرف ضجيجا أو صخبا، بل يقوم علي التدبير والتنظيم وتوحيد الصفوف لمواجهة جميع الاحتمالات، وتذليل كل العقبات، وإقامة الدليل علي أن شعب مصر والسودان ليس هو الشعب الذي يكره علي ما لا يرضاه، أو يسكت عن حقه في الحياة».

«أما الخطوات العملية التالية فستقفون علي كل خطوة منها في حينها القريب».

«وإني لعلي يقين من أن هذه الأمة الخالدة ستعرف كيف ترتفع إلي مستوي الموقف الخطير الذي تواجهه متذرعة له بالصبر والإيمان والكفاح، وبذل أكرم التضحيات في سبيل مطلبها الأسمي».

«يا حضرات الشيوخ المحترمين».

«من أجل مصر وقعت معاهدة سنة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها».

«أرجو اعتبار هذا البيان التفصيلي الذي تشرفت بإلقائه علي حضراتكم الآن بمثابة مذكرة تفسيرية لكل مشروعات القوانين التي أودعتها مجلسكم الموقر علي أن ينظرها المجلس علي وجه الاستعجال في هذه الدورة».

(33)

وجدير بالذكر أن النحاس أودع في مجلس الشيوخ مجموعة من المراسيم:

«أولا: مرسوما بمشروع قانون إلغاء القانون رقم 80 لسنة 1936».

«والقانونين رقم 13 ورقم 24 لسنة 1941، وبإنهاء العمل بأحكام معاهدة 26 أغسطس سنة 1936 وملحقاتها».

«وأحكام الاتفاق الخاص بالإعفاءات والمميزات التي تتمتع بها القوات البريطانية الموجودة في مصر».

«وأحكام اتفاقيتي 19 يناير و10 مايو سنة 1899 بشأن إدارة السودان».

«ثانيا: مرسوما باقتراح تعديل المادتين 159 و160 من الدستور لتقرير الوضع الدستوري للسودان وتعيين لقب الملك».

«ثالثا: مرسوما بمشروع قانون بتعديل المادتين المشار إليهما».

«رابعا: مرسوما بمشروع قانون بشأن نظام الحكم في السودان».

كذلك فقد وعد النحاس باشا بأن تصدر الحكومة «كتابا أخضر» تنشر فيه جميع الوثائق والمحاضر الخاصة بالمحادثات ليقف البرلمان والرأي العام علي حقائق الموقف كاملة، وليعرف العالم كله أننا لم نتعنت ولم نتعجل، ولكننا تمسكنا بالحق الواضح الصريح، وأيدناه بالحجج الدامغة، وأبي الجانب البريطاني إلا أن يتشبث بالأفكار الاستعمارية التي فات أوانها، والتي هي في الواقع أكبر خطر يتهدد قضية الأمن الدولي، ويعرقل الجهود المبذولة لاستقرار السلم العالمي».

(34)

ونأتي إلي حقيقة موقف النحاس من سياسة المواجهة مع البريطانيين، وهو موضوع طويل ومتشعب لكننا نكتفي في عرضه ببعض الأمثلة، ونبدأ بالحديث عن موقف النحاس، في ليلة الهجوم البريطاني البربري علي كفر عبده، وقد روي إبراهيم فرج تفصيلات مهمة عن عظمة النحاس ووطنيته وتخاذل قوي الاحتلال التي وجدت فرصتها ـ للأسف ـ فيما بعد، وقد قدم البريطانيون هذا الإنذار السابق علي إنذار معركة الإسماعيلية الذي يبدو أنه كان بروفة بريطانية غربية للإنذار الأخير الذي سبق حريق القاهرة مباشرة.

قبل أن يهجم الإنجليز علي قرية «كفر عبده» ويهدموها، وكانت مركزا لتسرب الفدائيين، أنذر القائد الإنجليزي أرسكين باحتلال القرية، فاجتمع مجلس الوزراء لبحث الأمر وامتد الاجتماع حتي منتصف الليل وانتهي برفض الإنذار والتصدي للإنجليز، وكلف النحاس باشا إبراهيم فرج بأن يستدعي السفير البريطاني في منتصف الليل ليبلغه بقرار مجلس الوزراء.. ولما أراد إبراهيم فرج تأجيل الأمر إلي الصباح رفض النحاس باشا وأمره باستدعاء السفير علي الفور. وجاء السفير وكان (علي حد وصف إبراهيم فرج) في حالة محزنة مضطرب الأعصاب يسأل عن السبب في استدعائه في هذا الوقت المتأخر من الليل.. فقال له إبراهيم فرج:

«إننا رفضنا طلبات القيادة البريطانية وقررنا أن نقاومهم لآخر رجل إذا هجموا علي كفر عبده.. وأنا أبلغك حتي تتولي إبلاغ القيادة العسكرية بوقف هذا العدوان».

«فاستأذنني في أن يطلب الجنرال أرسكين من مكتب رئيس الوزراء الذي كنا نجلس فيه، وفعلا طلبه وأخذ يحدثه ويرجوه أمامي، ومن العبارات التي قالها له: «Pleas God bless you» وهذا معناه:

«أتوسل إليك.. الله يخليك.. أرجوك إرجاء هذا الهجوم حتي أتمكن من حل هذا الموضوع بالطرق السياسية».

«فقال له أرسكين: إن هذه مسائل تتعلق بأمن الجيش البريطاني.. لأن الجيش يصل به الحال أنه لا يجد نقطة ماء».

«وانتهي الأمر بأن هجموا علي القرية وهدموها وسقط لهم قتلي كثيرون بأيدي الفدائيين وأرسلنا احتجاجات إلي العالم كله علي هذه الوحشية.. وسميناها «دنشواي أخري».

ويروي إبراهيم فرج أن النحاس ظل ينتظره في بيته حتي أبلغه بما حدث.

«قال: علي بركة الله نحن لا يمكن أن نفرط في شيء».

(35)

وقد أنصف الأستاذ أحمد حمروش سياسة وزارة الوفد في التعامل مع البريطانيين بعد إلغاء المعاهدة، وكان مما ذكره في هذا الصدد:

«كانت سياسة الحكومة المصرية هي المقاطعة السلمية، حتي تفقد القاعدة البريطانية قيمتها العسكرية، ولما كان إلغاء المعاهدة يلغي شرعية الوجود البريطاني في مصر، فقد أصبح التعاون مع القوات البريطانية عملا غير مشروع، ومن ثم أعدت الحكومة المصرية تشريعات توقع عقوبة السجن علي كل مصري يستمر في العمل في القاعدة البريطانية أو يتعاون مع البريطانيين، واستغلت بث الإذاعة المصرية لإذكاء الروح الوطنية في عمال القاعدة البريطانية وتشجيعهم علي ترك العمل، في الوقت الذي أصدرت تعليماتها إلي وزارة الشئون الاجتماعية بصرف مرتبات العمال كاملة وتهيئة العمل المناسب لهم خارج منطقة القناة. كما صدر قرار وزاري يمنع السكك الحديدية والنقل البري والنهري من نقل أي مهمات أو مواد إلي القاعدة البريطانية، وفرضت الحكومة ضريبة جمركية علي واردات القوات البريطانية في مصر».

«وبذلك جعلت الحكومة المصرية من سياسة المقاطعة مشكلة تقلق القيادة البريطانية وتعوق مهمتها، بالإضافة إلي توقف الحياة الاجتماعية للعسكريين البريطانيين في مدن القناة، نتيجة لتحجيم التعاون معهم وحالة الطوارئ التي فُرضت عليهم بسبب الأعمال العدائية المصرية في المنطقة».

(36)

وفي كل الأحوال فمن الثابت تاريخيا أن وزارة الوفد الأخيرة قامت بدعم العمل الفدائي في منطقة القناة، وتقديم السلاح للقائمين عليه، كما أصدر تشريعًا يبيح حمل السلاح لجميع المواطنين، كما أن وزير الداخلية أصدر أوامره لرجال الشرطة بالاشتباك مع القوات البريطانية دفاعا عن أنفسهم. وفضلًا عن هذا وذاك فقد تركت وزارة الوفد المظاهرات الجماهيرية تعبر عن نفسها في القاهرة والإسكندرية.

وقد لفت أحمد حمروش النظر إلي أنه كان غريبًا أن تسهم قوات البوليس بالعبء الأكبر من معركة الكفاح المسلح بالقناة إلي جانب الفدائيين والأهالي الذين بدأوا ينضمون إلي حرب العصابات، بينما قوات الجيش تمارس حياتها الطبيعية دون الاعتداء علي قوات الاحتلال، ودون تحرش من قوات الاحتلال.

ومن الإنصاف أن نشير إلي أن اشتباكًا قد حدث بين القوة المصرية المدافعة عن كوبري الفردان وبين البريطانيين، لكن الساسة البريطانيين سرعان ما قرروا تجنب الصراع مع القوات المسلحة المصرية، وكان السبب في هذا تقديرهم أن هذه القوات هي إحدي الدعامتين اللتين يمكن لاعتماد عليهما لإحداث التغيير المطلوب في الحكومة المصرية، وكان الملك بطبيعة الحال هو الدعامة الأخري في تحقيق هذه السياسة التي تبنتها الحكومة البريطانية، علي نحو ما حققته الدكتورة هدي عبد الناصر في رسالتها التي انتهت فيها إلي تقرير الحقيقة من وجهة نظر السفير البريطاني في القاهرة، وقد وصل، حسبما سجلت الوثائق البريطانية، إلي القول بأن الموقف القائم في مصر آنذاك سينتهي بأحد أمرين، إما «(أ) حدوث نوع من الانفجار الثوري الذي يُحتم السيطرة المؤقتة بواسطة الجيش المصري، أو (ب) سقوط الوفد بطريقة مخزية بحيث تستطيع حكومة أخري تولي الحكم بسهولة أكثر مما تستطيع الآن.

(37)

وليس من شك في أن تاريخ الكفاح الوطني الذي قام به الشعب المصري في منطقة القناة بدعم وقومية وزارة الوفد يتطلب دراسة مستفيضة ومستقلة يعجز المقام هنا عن أن يعطيها حقها، لكن من واجبنا تجاه القارئ أن نعدد له (علي الأقل) المعارك التي فرضت نفسها علي أبناء مصر، والتي اندلعت بعد إلغاء المعاهدة، وتواريخ هذه المعارك ليري من خلال قائمة موجزة روعة وتيرة الكفاح المسلح الذي قاده الوفد وغذاه، ولم يخش مغبة تأييده له من أجل حرية الوطن وكرامة أبنائه:

معركة الإسماعيلية الأولي                      16 أكتوبر 1951

معركة بورسعيد الأولي               16 أكتوبر 1951

احتلال كوبري الفردان                17 أكتوبر 1951

احتلال جمرك السويس               20 أكتوبر 1951

معركة الإسماعيلية الثانية            17 و 18 نوڤمبر 1951

معركة السويس الأولي                2 ديسمبر 1951

(وفيها استشهد 28 مصريًا وقُتل 22 بريطانيًا)

تجدد القتال في السويس              4 ديسمبر 1951

(وفيها استشهد 15 مصريًا وقُتل من الإنجليز 24)

ضرب محافظة الإسماعيلية بالمدافع          17 ديسمبر 1951

موقعة كفر عبده                                    8 ديسمبر 1951

(وعلي إثرها تقرر سحب سفير مصر من لندن)

معركة السويس                                   3 و 4 يناير 1952

معركة أبو صوير                                 4 يناير 1952

معركة المحسمة                                    9 يناير 1952

معركة التل الكبير                                 12 و 13 يناير 1953

اشتباكات في القرين                   13 يناير 1952

احتلال التل الكبير                                 16 يناير 1952

معركة الشرطة                         25 يناير 1952

(38)

ويتصل بدور النحاس باشا في قضية الاستقلال الوطني الحديث عن دوره في قضية السودان وتوجهاته البارزة في هذه القضية في كل المفاوضات التي جرت بينه وبين البريطانيين:

ومن الإنصاف أن نذكر أن آلية استقلال السودان في 1956 قد أهالت التراب علي كل جهود الزعماء المصريين من أجل السودان، وقد بات أصحاب الأدبيات التاريخية يسألون أنفسهم عن جدوي الحديث عن مثل هذه الجهود إذا ما كان الانفصال قد أصبح أمرًا واقعًا منذ 1956.

وربما أن الحديث عن تصميم النحاس علي احتفاظ مصر بعلاقتها مع السودان كفيل بأن ينكأ جراحًا تكاثرت حول تفريط مصر في أمنها القومي في وادي النيل.

(39)

لكننا مع هذا لا نستطيع أن نزعم أن الوفد وغيره من الأحزاب قد بذلوا جهودهم في الامتداد بالحياة الحزبية المصرية إلي السودان، تعويضًا عما كانوا يلاقونه من محاربة البريطانيين لأي وجود مصري في ذلك القطر الشقيق.

وهذه فقرة من مذكرات النحاس باشا التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا تعبر بوضوح عن أن رأي النحاس في طوائف السودان كان قريبًا جدًا من المعتقد الشعبي في هذه الطوائف وعلاقتها بمصر:

«… تلقيت رسالة خطية من السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية بالسودان يعبر فيها عن مشاعره نحو شخصي، ونحو الوفد، ويؤكد أن علاقة السودان بمصر ليست قاصرة علي مياه النيل فقط وإنما هي أعمق من ذلك لأن الرابطة التي تربطنا هي رابطة اللغة والجوار، والتضحيات الجسيمة التي قدمتها مصر جنبًا إلي جنب مع السودان عندما كان (غردون) حاكمًا مستبدًا وإني لا يجب أن ألقي بالًا إلي ما يذيعه المهديون أنصار الإنجليز وصنائعهم وليكن معلومًا أننا قطر واحد وبلد واحد لا يستطيع الاستعمار أن يفصلنا أو يفرق بيننا، وقد سرتني هذه الرسالة كثيرًا لأني أعلم مركز الميرغني في السودان وقيمة تعلقه به وقد رددت علي الرسالة بخطاب شكر أكدت فيه علي المعاني التي ذكرها وأكدت له أن شعورنا نحو القطر الشقيق هو نفس شعور أهله بل أننا نعتبر السودان شريان مصر وأنه لا حياة لنا بدونه، لا من ناحية النيل فقط ولكن من جميع النواحي، وأنه إذا كان الإنجليز قد انتهزوا فرصة اغتيال السير لي ستاك حاكم السودان، وطردوا الجيش المصري منذ عام 1924 فعلي الرغم من مضي هذا الزمن الطويل فإننا لا نستطيع أن نستغني عن السودان، ولا يستطيع السودان أن يستغني عن مصر، ولقد صدق شوقي حينما عبر عن هذه العلاقة بقوله إن السودان بالنسبة لمصر وريد الحياة وشريانها».

(40)

ويبدو لي أن إنشغال النحاس باشا العميق بالقضية المصرية قد حال بينه وبين أن يقوم بالحدود المطلوبة من المناورات في السودان، ولم يكن النحاس بدعًا في هذا فقد كان سعد زغلول من قبله كذلك، وكان الزعماء المعاصرون لكليهما لا ينشغلون بالسودان إلا في إطار الحديث عن الحكم الثنائي واتفاقية 1899 والعناية بتأمين احتياجات مصر من مياه النيل، ومشروعات الري في السودان، ورعاية مصر لوجوه الحضارة في السودان.. وما إلي ذلك من الموضوعات التي حفلت أدبياتنا التاريخية بدراسة تفصيلاتها.

وقد أجاد المستشار طارق البشري التعبير عن شعور مشابه أحس به وهو يقرأ مذكرات النحاس التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا، وذلك حيث قال:

«… هذه الأهمية القصوي للسودان، التي يستشعرها المصري عامة، ويستشعرها المصري في النصف الأول من القرن العشرين بخاصة، ويستشعرها رجال الحركة الوطنية علي وجه أخص، ويتوقعها الجميع من الوفد ومن النحاس. هذه الأهمية لا نجدها متمثلة ولو بأدني درجات الاهتمام في المذكرات المطروحة علينا هنا (يقصد مذكرات النحاس التي حررها محمد كامل البنا)، لا نجد حديثًا ولا تعليقًا ولا رؤية ولا ذكرًا للسودان في المذكرات إلا عند حديثه عن وقائع مفاوضات سنة 1930، ومفاوضات سنة 1936 أو عن نص السودان في الدستور المصري لسنة 1923 (19 نوڤمبر 1935)، فيذكرها كنقطة من نقاط المفاوضة مع الإنجليز، أما السودان ذاته وناسه ورجاله وأوضاعه، وعلاقات النحاس بكل ذلك ومتابعته لأخباره ووقائعه وما يحدث هناك وما يحدثه الإنجليز، فلا نجد من كل ذلك إلا خبرين أو ثلاثة، في 9 أكتوبر 1940 عندما تأسس مؤتمر الخريجين بالسودان، وما أرسلوا به إلي النحاس بهذه المناسبة، ثم في 4 فبراير 1941 عندما شاهد في الصعيد فرقة مسرح مصرية عائدة من السودان، ثم ما حكاه عن رفض الحكومة التصريح له بالسفر إلي السودان في 1947 أو 1948، ولعلها كانت المرة الأولي التي فكر النحاس فيها أن يذهب إلي السودان».

(41)

وقد قدم المستشار طارق البشري تفسيره لطبيعة انحصار الاهتمام المصري الرسمي بالسودان وهو تفسير مقبول لكننا نخالفه فيه من زاوية مهمة وهي أن مجتمع السودان لم يكن قد تهيأ بالفعل للإصلاحات السياسية والبرلمانية التي مرت بها مصر علي مدي القرن التاسع عشر، ومن ثم فقد كان من الصعب علي رجال السياسة المصريين في القرن العشرين أن يدفعوا بالقوي السياسية والاجتماعية في السودان إلي صراع دستوري أو سياسي علي النحو الذي كان دائرًا في مصر.

ومع هذا فقد كنت علي الدوام مرجحًا لفكرة أخري وهي أنه كان بالإمكان أن يكون للسودانيين تمثيل بصورة أو بأخري في البرلمان المصري، وأنه كان بالإمكان كذلك أن تكون للوفد المصري روافد قوية وعضوية في السودان.

بيد أني كنت أعود وأذكر نفسي مرارًا وتكرارًا أن جماعة الإخوان المسلمين نفسها التي سرعان ما انتشرت روافدها خارج مصر لم تجد ما يوازي هذا الاهتمام في أقرب الأوطان الإسلامية إلي مصر وهو السودان، ولم يكن في هذا ما ينتقص من قدر الإخوان ولا الأحزاب المصرية، لكنها طبيعة البنية السياسية في السودان.

(42)

وفي كل الأحوال فمن المفيد أن نقرأ انطباعات المستشار طارق البشري عن هذه الجزئية:

«إن هذا يدلني علي أن السودان كجزء من وادي النيل ومتمم لمصر، كان خارجًا عن مجال الرؤية اليومية وعن إطار الشاغل اليومي أو الإدراك الملموس لقيادة الوفد وقتها، ولذلك لم يكن غريبًا أن يعلق النحاس علي معاهدة السودان بين مصر وبريطانيا في 1953، بأن تخيير المعاهدة للسودانيين بين الاستقلال والوحدة مع مصر سيؤدي إلي اختيارهم الاستقلال. لقد سبق لي أن عرضت لهذا الموضوع في دراسة لي عن (سعد زغلول يفاوض الاستعمار، 1977)، ودراسة أخري وردت في كتاب (دراسات في الديمقراطية المصرية 1987)، وذلك عن وضع السودان في الحركة الوطنية المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ومجمل الأمر حسبما ذكرت ما يلي:

أولًا: يبدو لي أنه لم يكن صحيحًا أن الحركة الوطنية المصرية كانت في النصف الأول من القرن العشرين تستهدف الوحدة بين مصر والسودان، أن هذه الحركة انبنت علي أساس من الجامعة الوطنية المصرية، وكانت غايتها إجلاء المحتل من مصر والنهوض بمصر، ودليل ذلك أن حزبًا مصريًا من أحزاب النصف الأول من القرن العشرين لم يحاول أن يتكون علي أساس جامع بين مصريين وسودانيين، ولا حاول جادًا أن ينشط بين السودانيين كما ينشط بين المصريين، ولا أن يبني تشكيله من أهل البلدين معًا.

ثانيًا: إن سعي المصريين لتحقيق هدفهم بشأن السودان كان يجري في إطار العلاقة الثنائية بين مصر وبريطانيا، وقد عالجتها المفاوضات والمباحثات في هذا الإطار، بواسطة جمع القوي السياسية التي كانت تتبادل الحكم من 1920 إلي 1951، وإن كان بدأ نوع من الاتصال المنظم نسبيًا بالأحزاب السودانية في النصف الثاني من الأربعينيات.

ثالثًا: يمكن القول بأن السودان في السياسة المصرية لم يكن مسألة وحدة بين بلدين بقدر ما كان شعار الوحدة مقصور الدلالة في هذه السياسة علي حماية الأمن الاستراتيجي لمصر باعتبار أن منابع النيل آتية من السودان وما وراءه ومياه النيل كلها ترد مصر عبر السودان.

لذلك كان جهد السياسة المصرية أن تحذر كل الحذر من وجود دولة أجنبية تحكم السودان وتطمع في مصر وتستطيع بقوتها العلمية والاقتصادية والعسكرية التحكم في مياه النيل لتسيطر علي مصر، وهذا ما نلمسه في موقف رجال الوفد من موضوع السودان في مفاوضات 1930 ومن تعلقيهم علي ذلك أثناء مفاوضات 1936، وخاصة ما ورد علي لسان فتح الله بركات في 1930».

*    *    *

وقد توج المستشار طارق البشري حديثه في هذه الجزئيةبملاحظة ذكية قال فيها: «إني لاحظت ببالغ دهشتي أن ما نسب للنحاس في هذه المذكرات عن الهند أكثر كثيرًا مما ذكره عن السودان».

(43)

بقي أن أشير إلي أن إبراهيم فرج قد خصص قرابة ثلاثين صفحة من مذكراته لنشر بعض الوثائق التي تصور بجلاء شديد موقف الوفد من قضية السودان، وقد كان إبراهيم فرج بمثابة الوزير المختص بشئون السودان في وزارة الوفد الأخيرة، وهو يروي مدي الاقتناع الذي تمتع به الوفد تجاه السودان حتي علي مستوي الموازنة المخصصة لشئون السودان فيقول:

«وحين جاء الوفد إلي الحكم سنة ١٩٥٠ كانت الميزانية المخصصة لشئون السودان لا تتجاوز ستين ألف جنيه، فقررنا رفعها إلي ستمائة ألف جنيه».

وأظن أن مضاعفة رقم الموازنة إلي عشرة أضعافه لم يكن إلا مؤثرًا دالًا علي مدي الاهتمام الحثيث.

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وبوسع القارئ أن يعود إلي مذكرات إبراهيم فرج ليقرأ تفاصيل دقيقة وجيدة وموحية عن طبيعة موقف الوفد العظيم من قضية السودان.. وهو موضوع تتجاوز قيمته أن تكون فصلا، فحسب، من حديثنا عن مثل هذه القضية.

(44)

ولا ينبغي لنا أن ننتهي من هذا الفصل من دون حديث عن علاقة النحاس بالمندوب السامي البريطاني الذي شهد عهده توقيع معاهدة 1936، وهو اللورد كيلرن، ومن الثابت أن هذا الرجل الاستعماري لم يحب النحاس لا قبل ٤ فبراير ولا بعد ٤ فبراير، ومع هذا فإنه كان يحترمه علي الدوام، ونحن نري أن بعض تعليقاته علي لقاءاته به في مذكراته المنشورة لا تنطق بالكراهية فحسب، لكن بالحقد كذلك، وباستكثار ما هو فيه من مجد وقوة، بل إن لامبسون ظل يحاول بكل ما أوتي من دهاء وخبث أن يصور بعض نقائص النحاس وأن يمررها بطريقة خبيثة وكأنه يتحدث فحسب عن سمات شخصية، لكن الذي لا شك فيه أن فهم مضمون حديثه علي سبيل الإجمال يدلنا علي أن رواياته كانت تنطق بمدي الوعي السياسي الذي كان يتمتع به النحاس، وطول باله، وسعة اطلاعه.

ولست أشك أن مايلز لامبسون كان قد أدرك بل وتأثر ببعض طبائع المصريين المحدثين ومنها رغبتهم في اقتطاف عبارات بعينها من ضمن النصوص المطولة مروية أو مكتوبة، في أحاديثهم وفي كتاباتهم، وهكذا أورد هذا الرجل الإمبريالي في مذكراته بعض لمزاته في شخص النحاس علي نحو ما كان يفعل حين يضمنها حديثه عنه في أثناء لقائه بالمصريين من منافسي النحاس أو من أتباع القصر أو من أصدقاء الإنجليز، فقد كان لامبسون يمرر لهم بعض العبارات في وصف النحاس وسلوكه ولقائه علي نحو ما فعل بعد ذلك في مذكراته، ولكن من حسن حظ النحاس أو مما هو دليل علي حسن نيته وأن الله لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا، أن مذكرات لامبسون بقيت حتي الآن وربما تبقي حتي فترة طويلة لاحقة بمثابة دليل حي علي ذكاء النحاس ووطنيته وبعد نظره وإخلاصه غير المحدود لوطنه ولعروبته. فربما تحدث النحاس بإسهاب عن استقبال الجماهير له، لكنه فيما يرويه لامبسون كان سرعان ما يردف هذا بحديث وطني واسع الأفق عن مشكلة دولية أو إقليمية دون أن يناور أو يهادن.

وسأضرب مثلا واحدا علي هذا، وهو الموقف الذي سجله لامبسون للنحاس من اعتراضه المبكر جدا ووعيه الشديد بخطورة إنشاء دولة صهيونية في فلسطين علي حدود مصر، وللأسف الشديد فإن كتابا حديثا من جزءين كتبه فيروس صحفي قد حاول، بكل التزوير والتزييف معتمدا علي المقدمات الطويلة التي يتوه فيها القارئ في الحديث عن «الجغرافيا» و«التاريخ»، أن يصور النحاس وكأنه لم يكن واعيا لخطورة قيام إسرائيل، بينما نصوص لامبسون وغيره مسجلة للقارئ منذ سنوات عديدة تشهد بكل وضوح أن النحاس منذ أواسط الثلاثينيات كان منتبها إلي ما تدبره بريطانيا في المساعدة علي قيام إسرائيل، ولست أريد أن أتهم الفيروس الصحفي بالتآمر علي صورة النحاس في هذه الجزئية، لأنه وهو المدعي دائما بالعلم ربما لم يعلم مثل هذه الحقائق مكتفيا بما فرض عليه تقديمه لنا ممن يعمل لحسابهم أو لحساب مجدهم.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com