الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (16)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (16)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر

اختيار القيادات الدينية

(1)

لا يتسع المقام للحديث عن خلفيات اختيار النحاس لمساعديه ووزرائه وكبار رجال الدولة. وقد حفلت الوزارات التي رأسها النحاس باختيارات ذكية لرجال الدولة، كذلك حظيت اختياراته لرجال الوفد ومرشحيه في الانتخابات النيابية والنقابية وغيرها بهذا التوفيق المتصل.

وليس أدل علي هذا التوفيق من أن الإنجازات الوفدية تواصلت، كما أن الانتماءات الوفدية ظلت عصية علي الحروب والمضايقات العديدة التي صادفها كيان الوفد، ومع أننا نستطيع أن نلقي بعض الضوء علي أسلوبه في هذه الاختيارات من خلال ما روته مذكراته ومن خلال تتبع شجرة الوزراء الوفديين في وزاراته السبع. فإننا نفضل أن نلجأ إلي التركيز علي نموذج قطاعي واحد تتمثل فيه القدرة والنية والعقلية والنزاهة، كما تمثل القرارات الصائبة فيه إضافة إلي صورة الدولة وأجهزتها وبنائها. ومن ثم فإننا سنركز في هذا الفصل علي التأمل فيما روته المذكرات المنسوبة إلي النحاس عن اختياراته لشيوخ الأزهر.

والحق أن ما رواه الأستاذ محمد كامل البنا عن النحاس في هذا الصدد كان متأثرا بالطبع بانتماء البنا إلي أسرة وفدية ذات علاقة وثيقة بالأزهر، حتي إن أحد أشقاء البنا كان مرشحًا لمشيخة الأزهر في وزارة النحاس الأخيرة، علي نحو ما روته المذكرات.

ومن الطريف أنه علي الرغم من أن النحاس باشا لم يتول الحكم طيلة زعامته الوفد إلا لفترة قصيرة إذا ما قيست إلي الفترة الإجمالية، فإن كل شيوخ الأزهر (باستثناء الشيخ مصطفي عبد الرازق) كانوا قد حظوا بترشيحه المبكر للمناصب العليا مع اختلاف آليات وصولهم إلي هذا المنصب، ذلك أن النحاس كان بمثابة المكتشف الحقيقي لكل من المراغي وعبد المجيد سليم والشناوي وحمروش وغيرهم..

(2)

وقد تحدث النحاس باشا في مذكراته التي كتبها الأستاذ محمد كامل البنا عن اختياره للشيخ محمد مصطفي المراغي شيخًا للأزهر، وعن المحاولات الدائبة التي بذلها في هذا السبيل، كما صرح بأن الملك كان مصرًا علي اختيار الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وأن المندوب السامي البريطاني هو الذي حسم الخلاف لمصلحة المراغي:

«… وكانت أول مشكلة صادفتني وأعرتها اهتمامًا كبيرًا هي تعيين شيخ للأزهر الشريف إذ كان المنصب شاغرًا كما كان منصب مفتي الديار المصرية كذلك كان شاغرًا فأخذت أفكر فيمن نعينه شيخًا للأزهر يسير به في طريق الإصلاح والتطور الذي تنتظره البلاد الإسلامية من هذا المعهد العتيد، وهداني التفكير إلي أن أدعو بعض العلماء المعروفين بالاستقامة والنزاهة والعلم لمناقشتهم».

«استدعيت المشايخ محمد العدوي أحد علماء الأزهر، ومحمد البنا القاضي أحد خريجي مدرسة القضاء الشرعي والقاضي بالمحاكم الشرعية، وعبد العزيز الخولي المدرس بالقضاء الشرعي، ومحمد أبو زيد من العلماء، وتحدثت معهم فيمن يصلح شيخًا للأزهر فرشحوا الشيخ محمد مصطفي المراغي، ما عدا الشيخ البنا الذي رشح الشيخ حسنين مخلوف وقال حين سألته لماذا، أجاب إن الشيخ مخلوف كان وكيلًا للأزهر في عهد الخديو عباس والسلطان حسين وفصل ظلمًا وهو عالم فاضل، فقلت إن كثير من الوفديين وعلي رأسهم أم المصريين يرشحونه، ولكني لا أنظر في هذا المنصب بالذات إلي الحزبية خصوصًا وأن الملك قد يرفض ترشيحه بحجة أو بأخري، فمن ترشح غيره فأجاب إن لم يكن الشيخ مخلوف فالشيخ المراغي».

«اقتنعت برأي الأزهريين الذين حدثوني بشأن ترشيح الشيخ المراغي شيخًا للأزهر، ولكني أردت أن التقي به لأفهم ماذا هو فاعل إذا تولي هذا المنصب، وعلمت أنه صديق لحمدي بك سيف النصر عضو الوفد وأنه يلتقي به في حلوان لأنهما متجاوران فاتصلت بحمدي وأخبرته أني سأزوره وأريد أن أري الشيخ المراغي واجتمع به دون أن يعلم، وأن المصادفة هي التي جمعتنا واتفقنا علي اليوم التالي».

«قصدت إلي حلوان، واستقبلني حمدي سيف النصر ومعه الشيخ المراغي وبعض الزوار، وبعد قليل دعوت الشيخ المراغي للتحدث معه فأخذ يحدثني بحديث منسق مرتب، فأدركت في الحال أن حمدي قد أخبره بحضوري، ولكني سألته عن رأيه في تطوير الأزهر وإصلاحه وتماشيه مع الظروف فرأيت منه استجابة واستعدادًا للتماشي مع الزمن والنهوض به نهضة تليق بماضيه، فودعته وقد عقدت النية علي ترشيحه للمشيخة».

«طلبت مقابلة الملك فحدد لي ظهر اليوم وقابلته وعرضت عليه تعيين شيخ الأزهر فقال: عندي رجل صالح جدًا وعالم كبير فقلت: من؟ قال: الشيخ الأحمدي الظواهري، فأجبته إنه رجل ملتو وجامد لا يصلح لما نرجوه للأزهر من تقدم فقال: من ترشح إذًا؟ قلت: الشيخ المراغي، قال: لا لا.. إنه رجل يحب الطفرة، فأجبت: ومهمة رئيس الوزراء الذي يتبعه هذا المنصب أن (يمسك السرع) فلم يوافق، وسألني عمن أرشح للإفتاء فقلت: الشيخ عبد المجيد سليم، فقال: لا مانع عندي، فأجبت: نرجئ الأمر حتي ننتهي من المنصبين».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(3)

ويروي النحاس باشا في تلقائية شديدة قصة مقابلاته المتعددة مع الملك فؤاد، من أجل اختيار شيخ للأزهر في 1928، وترشيحه للشيخ المراغي مرة ثانية، وترشيح الملك للشيخ الظواهري مرة أخري، وإصرار كل منهما علي مرشحه:

«قابلت الملك مرة أخري وعرضت عليه مسألة تعيين شيخ للأزهر فأصر علي تعيين الظواهري وأصررت علي تعيين المراغي، ولما اعترض قلت له إن المراغي ليس وفديًا، ولكنني أريد للأزهر الإصلاح، ولا تهمني الحزبية في هذا الصدد ولكنه أصر علي رأيه».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«قابلت الملك مرة أخري وحدثته بشأن تعيين الشيخ المراغي شيخًا للأزهر فرفض للمرة الثالثة فصممت علي ألا أفاتحه في هذا الموضوع مرة أخري، وأن أترك المنصب شاغرًا حتي يقضي الله أمرًا كان مفعولًا».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«اتصل بي توفيق نسيم باشا وطلب إليّ أن أرسل الأمر الملكي بتعيين المراغي شيخًا للأزهر، وعبد المجيد سليم مفتيًا للديار المصرية فدهشت ما الذي غير رأي الملك ولكن سرعان ما انكشف الغطاء».

«بعد تعيين الشيخ المراغي شيخًا للأزهر جاء لزيارتي وأخبرني أنه لما قابل الملك ليشكره قال له: لا تشكرني لم آت بك.. بل أشكر النحاس لأنه هو الذي أصر علي تعيينك».

«ثم علمت بعد هذا أن المندوب السامي هو الذي أرغم الملك علي تعيين المراغي شيخًا للأزهر».

(4)

وهذه فقرة من فقرات مذكرات النحاس في 1940 تدل علي ما كان قد وصل إليه من رأي متحفظ بشدة علي ممارسات الشيخ المراغي في تلك الفترة، ومن الإنصاف أن نشير إلي أن المراغي كان في تصرفاته التي انتقدها النحاس باشا قد مال إلي تغليب عناصر الانتماء إلي الملك والدستوريين وعائلات الصعيد المؤثرة لفكرة العصبية.. إلي آخر ما عُرف عن توجهات الشيخ المراغي في هذه الفترة، والمراغي رجل عظيم بلا شك، بيد أن هذا لا ينفي أن الشعب في مجموعه أعظم من كل شخص عظيم:

«… زارني حمدي سيف النصر بك وقال لي إن الشيخ المراغي كان في زيارته، وأنه علم منه أن الأزهر هائج وثائر ضد الإنجليز وأنه ينوي القيام بمظاهرة لتأييد المحور، فكلفته بأن ينصح الشيخ ألا يعمل هذا العبث لأن هذا ليس في مصلحة البلد ولا في مصلحة الأزهر الذي ينظر إليه العالم الإسلامي علي أنه كتيبة العلم ومنارة المسلمين، وقلت له: أما كفي الشيخ المراغي أنه أصبح بوقًا للملك يسير ورائه في كل مكان، ويصعد إلي المنبر بعد خطبة الجمعه ليسبح بحمد فاروق ويقدسه حتي أصبحت سمعة شيخ الإسلام وعميد العلماء لا تسر أحدًا، ولقد كان معلومًا أن المراغي صنيعة من صنائع الإنجليز، وأنهم هم الذين أغروا الملك فؤاد علي تعيينه شيخًا للأزهر عام 1928 بعد أن طلبت من الملك أكثر من مرة تعيينه ورفض، ثم جاء المندوب السامي جورج لويد فوافق في الحال علي تعيينه فما الذي غيّر الشيخ؟ لعله رأي أن يسير في ركاب فاروق حتي يضمن بقاءه في المنصب أو رأي من الإنجليز تغيرًا عليه.. سبحان مغير الأحوال».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ويأسي النحاس لموقف الشيخ المراغي منه ومن الوفد فيقول:

«تبين لي أن أيادي كثيرة تلعب في الخفاء وأن الشيخ المراغي (شيخ الأزهر) يقوم بدور كبير للترويج لأصدقائه الدستوريين والتشهير بالوفد صاحب الفضل عليه في الأولي والأخيرة، فلا حول لا قوة إلا بالله… صدق المثل القائل: ازرع بني آدم يقلعك».

(5)

وقد ظل النحاس باشا حفيًا كل الحفاوة باختيار قيادات الأزهر من أرفع طبقة متاحة من علمائه، علي نحو ما رأينا من حرصه علي اختيار الشيخ محمد مصطفي المراغي للمشيخة، وعبد المجيد سليم لمنصب الإفتاء.

وكذلك نري إخلاصه فيما يرويه عن اختياره للشيخ محمد مأمون الشناوي كي يعينه وكيلًا للأزهر (وقد أصبح في عهد وزارة تالية شيخًا للأزهر):

«…. فاجأني شيخ الأزهر (يقصد المراغي) باستقالته فبعثت بها إلي القصر فأبي الملك أن يوقع الأمر الملكي بقبول الاستقالة وركب الشيخ رأسه ولزم بيته، وترك الأزهر بلا إدارة، ذلك أن وكيل الأزهر الذي كان يمكن أن ينوب عن الشيخ قد توفي وأصبح منصبه شاغرًا، واتصلت برئيس الديوان وقلت إما أن يوقع الملك بقبول استقالة الشيخ أو تقنعوه بالعودة إلي عمله لأنه رجلكم وصديق الملك الشخصي، فقال إنه مصمم علي ملازمة داره».

«قلت: أنترك هذا المعهد بلا إدارة ولا رئيس ولا وكيل ويصبح الأمر فيه فوضي، قال سأرد عليك بعد أن أعرض الأمر علي جلاله الملك، وانتظرت يومًا ويومين ولا رد. وجاءني رسول من السفارة البريطانية يقول إن السفير يرجو أن ترشح الشيخ الجبالي وكيلًا للأزهر حتي يمكن للملك أن يوقع الأمر الملكي، فعجبت وقلت للرسول وما للسفير والأزهر، أوصل الأمر إلي هذا الحد؟ قال: إن السفير لم يتدخل ولكن الملك وسط له رئيس الديوان أحمد حسنين باشا ليتدخل في الأمر.. ما شاء الله، الملك يستعين بالسفير علي رئيس حكومته ليخضع ويقبل تعيين شيخ تحريت عنه فوجدته آخر من يصلح للإدارة، وفضلًا عن هذا فقد عين مرة رئيسًا للجنة امتحان شهادة العالمية فعمت الفوضي واستعان الطلبة بالغش حتي اضطرت إدارة الأزهر إلي إلغاء إمتحان تلك السنة.. ما هذه التصرفات العجيبة؟ وما هذا اللعب بالنار والسعي لدي الغرباء عن البلد والدين ليتدخلوا في مسألة حساسة كهذه؟».

«وأخذت أفكر في حل لهذه المشكلة فاستخرت الله وطلبت مدير الشئون الدينية فلم أجده وعلمت أن أعماله قد أضيفت إلي مدير الصحافة مدة غيابه في اجازة طلبها، فاستدعيت مدير الصحافة وحضر واستقبلته في حجرتي الخاصة وأمليت عليه هذا الخطاب:

حضرة صاحب المعالي رئيس الديوان الملكي

أرجو أن ترفع إلي جلالة الملك الأمر الملكي التالي لتوقيعه

نحن فاروق الأول ملك مصر…

بناء علي ما عرضه علينا رئيس مجلس الوزراء وموافقة المجلس عليه..

أمرنا بما هو آت..

مادة [1] يعين الشيخ محمد مأمون الشناوي وكيلًا للجامع الأزهر.

مادة [2] علي رئيس مجلس وزرائنا تنفيذ أمرنا هذا.

فاروق

صدر بقصر عابدين في 5 أكتوبر1942»

(6)

ونري النحاس حين روي هذه القصة في مذكراته حريصًا كل الحرص علي أن يقدم نموذجًا فذًا في صياغة مبرراته للاختيار حيث يقول:

«وألحقت بالأمر مذكرة تفسيرية ضمنتها الأسباب التي حدت بي إلي اختيار هذا الرجل للمنصب المذكور مدعمة بالأدلة والوقائع وتتلخص فيما يلي: نظرًا لخلو وكالة الأزهر واعتكاف شيخ الأزهر ولأنه لا بد من وجود مسئول يدير شئون الأزهر قد اخترنا الشيخ المذكور للأسباب الآتية:

أولًا: أنه عميد كلية الشريعة.

ثانيًا: أقدم العلماء تخرجًا.

ثالثًا: مشهود له بالنزاهة والسمعة العلمية الحسنة.

رابعًا: رجل محايد لا ينتمي إلي حزب من الأحزاب ولا هيئة من الهيئات».

«ونبهت أن يكون هذا الخطاب سرًا ولا تعلم به الصحافة أو يشير أحد إليه، وكلمت رئيس الديوان وقلت له إني أبرأت ذمتي أمام الله وأمام ضميري وأنتم بالخيار إما أن يوقع الأمر الملكي أو تتركوا الأزهر وعلماءه وطلابه في فوضي لا يعرفون كيف يدبرون أمرهم، وفي اليوم التالي عاد إليّ الأمر الملكي موقعًا ونفذته في الحال، وفوت عليّ الشيخ المراغي قصده من ترك الأزهر بلا شيخ يدير أموره ولا وكيل يدير إدارته».

(7)

وتروي مذكرات النحاس التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا قصة اختيار الشيخ إبراهيم حمروش شيخًا للأزهر في عهد وزارة الوفد الأخيرة، ومن الطريف أن المرشح الأول للنحاس [حسب هذه الرواية] كان هو شقيق كاتبها الأستاذ محمد كامل البنا، وقد كان يشغل منصب وكيل الوزارة للشئون الدينية، لكن النحاس رشح معه آخرين فأخذت سلطات القصر بالثالث الذي كان هو الشيخ حمروش، وهكذا فإن الشيخ حمروش كان أيضًا مرشحًا للنحاس، وإن لم يكن مرشحه المفضل.

وقبل أن نروي قصة اختيار الشيخ حمروش نروي قصة إقالة الشيخ عبد المجيد سليم ومحاولت النحاس الدائبة في الوقوف أمام هذه الإقالة:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«بقيت مسألة لا أنكر أني تشبثت فيها أول الأمر ثم لعبوا فيها دورًا أتقنوا تمثيله وخدعوني ـ والمؤمن غر كريم ـ تلك هي أن الملك أبدي غضبه من رجال الأديان الثلاثة شيخ الأزهر وحاخام اليهود وبطريرك الأقباط، لأنهم نشروا في الصحف أحاديث رآها ماسة بشخصه ومشيرة إلي بعض تصرفاته».

«قال شيخ الأزهر ـ وكان قد طلب ترقيات وزيادة مرتبات للأزهريين بلغت حدًا كبيرًا دعت وزير المالية إلي طلب تخفيضها حتي يستطيع تنفيذها ـ فقال لمندوب إحدي الصحف (تقتير هنا، وتبذير هناك) مشيرًا إلي السهرات والحفلات التي يقيمها الملك في رحلاته إلي أوربا، وكذلك تحدث الحاخام والبطريرك حديثًا يتعلق ببعض التصرفات.

«فغضب الملك، فاعتذر الحاخام، وأعلن أنه لا يقصد جلالته و[ذكر] أن مركزه الديني لا يسمح له بنشر أحاديث أو الاتصال بالصحف، وكذب البطريرك ما نسب إليه، وبقي شيخ الأزهر الذي عينوه وأنا غائب في أوربا وأهملوا رأيي، فطلبوا التحقيق معه فبعثت إليه في مصيفه ببور فؤاد أسأله عسي أن ينفي كما فعل (الآخران) وكفي الله المؤمنين شر القتال، وسافر إليه وكيل الشئون الدينية ومهد له السبيل كي يتراجع ولكنه لبس مسوح الأبطال فقال: أنا قلتُ ما قلتُ ومصرٌ عليه».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

تشير مذكرات النحاس باشا إلي الموقف الرائع الذي وقفه الشيخ عبد المجيد سليم حين قال جملته المشهورة التي صارت مثلًا، وحين أصر علي عدم الرجوع عن قولته هذه بأي حال من الأحوال، ونحن نري مذكرات النحاس (ولا نقول النحاس) تتمني لو أن الشيخ عبد المجيد سليم كان قد ساس الأمور بعض الشيء!! لكن الشيخ العظيم لم يفعل!!

ومع هذا فإننا لا نستسيغ لفظ «مسوح الأبطال» في وصف موقف الشيخ عبد المجيد سليم، فقد كان الشيخ بطلًا بالفعل، وقد أفضنا في الحديث عن أداء الشيخ عبد المجيد سليم في كتابنا «أصحاب المشيختين» بما لا نجد مجالًا لتكراره هنا.

(8)

ومع هذا فإن النحاس ظل يعارض بكل شدة في إقالة الشيخ عبد المجيد سليم، وحاول أن يمنع هذه الإقالة، لكن الآخرين خذلوه حين لم يكن الخذلان جائزًا. ونحن نري هنا أن رئيس أقلام قضايا الحكومة هو الذي أفتي بجواز إقالة الشيخ عبد المجيد سليم، وهو ما يتعارض مع رواية حسن يوسف التي ذكرها في مذكراته وأشرنا إليها في مدارستنا لها في كتابنا «في كواليس الملكية».

«… وحاول وكيل الشئون الدينية الذي كان يسأله أن يثنيه عن رأيه فأصر، وعلم الملك فطلب إقالته وإعداد أمر ملكي ليوقعه، ومع أن شيخ الأزهر جاء علي غير رغبتي وبغير علم مني فإني عارضت هذا الطلب معارضة عنيفة وقلت هذه لم تقع من قبل. فردوا بأن الملك هو الذي يملك تعيينه ومن يملك التعيين يملك الإعفاء، فأبيت وصممت علي وجهة نظري، فعرضوا عليّ أن نحتكم إلي رئيس أقلام قضايا الحكومة بصفته موظف الحكومة القانوني وقالوا نرضي جميعًا رأيه واتفقنا، وكنت أتصور أن رئيس القضايا سيفتي في صف الحكومة، ولكن خاب ظني وجاءت مذكرة رئيس أقلام القضايا مؤيدة رأي القصر في أن من يملك التعيين يملك الإعفاء، وأيدت وجهة نظرها بأقوال الفقهاء والشراح والمشرعين من البلاد الأوربية العريقة في الأصول الدستورية».

«ونزلت عند رأيها ما دمت قبلت من قبل الاحتكام إليها».

«وأعددنا الأمر الملكي وأرسلناه إلي القصر فوقعه».

(9)

ثم نأتي إلي ما ترويه المذكرات التي حررها الأستاذ البنا عن قصة اختيار الشيخ إبراهيم حمروش شيخًا للأزهر في عهد وزارة الوفد الأخيرة:

«… وخلت وظيفة شيخ الأزهر من جديد، وخلقوا في الترشيح أزمة كذلك لأنهم قالوا إن حق الملك في شغل هذا المنصب حق مطلق وله أن يختار من يشاء، فاعترضت وقلت لهم إن الملك يملك ولا يحكم إلا بواسطة وزرائه ونحن الذين نرشح طبقًا للقانون والدستور ـ رؤساء الأديان الثلاثة ـ وهذا حقنا لا يشاركنا فيه أحد وصممت من جديد علي أن يكون مرشحي هو وحده الذي يصدر به الأمر الملكي».

«وهنا كانت الخدعة وكان الاحتيال، قالوا ما لا شك فيه أن تعيين رؤساء الأديان من اختصاص رئيس الوزراء وما للملك في هذا إلا التوقيع، ولكن ـ وما أسوأها في مثل هذا المقام ـ ولكن يُري من باب الذوق والمجاملة للملك ألا نرسل إليه مرشحًا واحدًا ليرغم علي تعيينه ومن باب المجاملة فقط أن نختار مرشحين آخرين عدا مرشحك… واخترهما من أنصارك لكي نعطي الملك الشكليات فقط».

«وقبلت هذا العرض، وفاتني أن جلالته حقود وعنيد، وأنه قد يتحداني ويوافق علي واحد ليس مرشحي الذي أري المصلحة العامة في تعيينه، [فقد] أكدوا لي أنهم يسعون حثيثًا لكي يكون مرشحك هو الذي يُعين وقبلت العرض، واخترت اثنين غير وكيل الشئون الدينية هما الشيخ علام نصار المفتي الحالي لأن الملك لا يحبه ويحقد عليه إذ أنه أصدر أحكامًا لم توافق السراي في عديد من القضايا، والثاني الشيخ إبراهيم حمروش عميد كلية اللغة العربية في الأزهر وهو لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة للملك ولا لأحد من حاشيته».

«وأعددت الأمر الملكي، وقدمتُ اسم مرشح الحكومة في أول القائمة، ولما اطلع الملك عليها قال: أما الأول فلا يمكن الموافقة عليه لأنه هو وأسرته خصوم للقصر خصومة متوارثة، وأما الثاني فيستبعد لسوابقه معنا ولم يبق إلا الثالث وإن كنت لا أعرفه ولم أسمع به إلا أنني أوافق عليه».

«ولم أدرك الخدعة إلا بعد انتهائها، لكنني لم أعترض».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ربما جاز لنا أن نشير هنا إلي أنه ليس لهذه الرواية ما يعارضها، وإن كان لها ما يؤيدها مما رواه الشيخ حمروش من أنه لم يعرف لماذا اختير هو شيخًا للأزهر بدون أي مقدمات، وقد روي الأستاذ أحمد حمروش قصة لقائه به في ذلك اليوم عند عودته من القصر الملكي في الإسكندرية.

(10)

وعلي الرغم من العداء الكلاسيكي بين النحاس باشا والشيخ المراغي فإن الزعيم الوطني العظيم كان هو الذي رشح المراغي لمشيخة الأزهر، وأصر علي تعيينه، كما أنه ظل لفترة طويلة يفضل وجود المراغي علي رأس الأزهر، وهو ما تنطق به في أكثر من موضع المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا. ففي مذكرات سنة 1933 نجد هذه الفقرة:

«زارني وفد من علماء الأزهر المفصولين ومعهم بعض العلماء المدرسين في المعاهد الأزهرية وشرحوا لي ما يجري في الأزهر من عبث وإفساد، وما يفعله الشيخ الظواهري «الشيخ الحالي» من تصرفات بعيدة كل البعد عن الدين ولا تليق بمعهد عتيد كالأزهر، وأن السراي جعلت شيخه وعلماءه كالخاتم في أصبعها تحركه كيفما تشاء وأن هذه التصرفات الممقوتة غيرت نفوس الأزهريين وهم ينتهزون أول فرصة وينوون القيام بمظاهرة صاخبة تخرج من الأزهر إلي القصر ويقدمون عريضة للملك بمطالبهم وأولها عزل الشيخ الظواهري وإعادة الشيخ المراغي إلي المشيخة، لأنه هو الشخصية الوحيدة التي يمكنها أن تضبط الأزهر وتوجهه الوجهة الصحيحة خصوصًا في هذه الأيام، وقد أخبرتهم بأن الغلطة غلطة الشيخ المراغي لأني أرسلت إليه في عام 1929 حين استقال محمد محمود وبعث يشكو لي من تحدي السراي له وتعطيل كل طلباته وأنه مصمم علي الاستقالة لأنه قد ضاق ذرعًا بما يلقاه من تحد فطلبت إليه أن يبقي في منصبه ولا يستقيل فيعطي القصر الفرصة للإتيان بالشيخ الذي يريده، ولكنه تسرع وقدم استقالته، وكانت النتيجة كما نري الآن ونصحت لهم أن يهدأوا الآن ويحاولوا تهدئة ثائرة الطلبة حتي ينجلي الموقف السياسي، وعندئذ سيكون لنا موقف يرضي الأزهريين».

(11)

وفي مذكرات سنة 1935 نجد هذه الفقرة التي تدلنا علي مدي حب النحاس باشا للأزهر وتقديره لمكانته وقيمته، وقد جاء هذا التأكيد منه ردًا علي محاولة الدكتور طه حسين لفت نظره إلي عدم إخلاص المراغي له:

«زارني الدكتور طه حسين مودعًا بمناسبة سفره إلي أوربا لقضاء إجازة الصيف وقد قال لي أنه كان مع الشيخ مصطفي عبد الرازق وبعض أساتذة الجامعة وأعضاء حزب الأحرار الدستوريين وتحدثوا في شأن اهتمامي بإعادة المراغي للأزهر، وقد قال بعض الحاضرين إن النحاس باشا تحمس لإعادة المراغي ظنًا منه أنه من أنصاره أو أصدقائه ولكن الأمر يختلف عن هذا تمامًا، وذلك لأن المراغي صديق حميم للدستوريين ومن أشد المتحمسين لهم فضلًا عن علاقته الوثيقة بالإنجليز نظرًا لعشرته الطويلة لهم أيام كان قاضي قضاة السودان».

«وقد أجبت طه بأني لم أنظر إلي شيء من هذا ولكني رأيت الأزهريين، وهم فئة يعتد بها في الأمة ونظرت لمكانة الأزهر بين البلاد الإسلامية فألححت علي الحكومة من هذه الناحية موقنًا بأن العصر الذي نعيش فيه عصر تطور وتقدم ويجب أن يأخذ الأزهر بنصيبه في هذا المضمار وأن المراغي ربما يكون أصلح الشيوخ للنهوض بالأزهر وتطويره».

«وقلت لطه: بلغ أصدقائك الدستوريين أن النحاس لا ينظر إلي الدين من ناحية الحزبية ولكنه ينظر إليه من ناحية أنه دين الله المنزل من السماء».

*    *    *

هكذا كان النحاس متسقًا مع مبادئه وإيمانه قولًا وفعلًا.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com