زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الثالث عشر
الفصل الثالث عشر
القـوات المسلحة
(1)
يذكر التاريخ للنحاس باشا، وحده، وقبل غيره، تأهيله القوات المسلحة المصرية للقيام بدور وطني حتي لو كان هذا الدور هو دور الانقلاب علي الملك، وعلي النظام، وحتي لو كان هو القيام بثورة. ويذكر التاريخ أنه تفاوض في وزارته الأخيرة مع اثنتي عشر دولة من أجل تسليح مصر، وهو ما كان معجزًا بكل المقاييس.
وفي الحقيقة فإن النحاس كان حفيا بكل تطوير وتقدم يمكن أن تحققه القوات المسلحة المصرية، وإليه يعود الفضل في وضع الهيكل الأساسي للقوات المسلحة، بدءًا من صدور القانون الخاص بإنشاء مجلس الدفاع الأعلي وهيئة أركان حرب الجيش، وعلي عادة هذا العهد في التجويد والبناء علي أسس سليمة فقد تولت وزارته علي سبيل المثال إنشاء وظائف جديدة في ميزانية المدرسة الحربية لتتمكن من زيادة عدد طلبتها إلي مائتي طالب، ولنا أن نتصور الحال لو أن النحاس أمر بزيادة الأعداد دون توفير الإمكانات اللازمة لتعليم جيد لهؤلاء الضباط.
والحقيقة أن إنجاز النحاس باشا في هذا المجال لم يكن يتوقف عند هذا الحد، وإنما كان حريصا علي أن يمهد السبل الفنية لرفع مستوي الموارد البشرية في الجيش المصري والارتقاء بها باستمرار، ولهذا نمت في عهده، علي سبيل المثال، فكرة إنشاء مدرسة للصناعات الميكانيكية، كما نفذت في عهده فكرة تأسيس ورشة رئيسية لصيانة وتصليح السيارات والدبابات والمدافع والآلات الحربية التي تتسلح بها القوات المسلحة.
وبعد إتمام معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا أرسلت مصر وفقا لبنود المعاهدة قوة من جيشها إلي السودان، وكانت قد خرجت منه عام ١٩٢٤ علي إثر مقتل السير لي ستاك ستانلي سردار الجيش بالسودان، وتبع ذلك ما تستلزمه هذه الخطوة من فتح اعتمادات مالية لمواجهة المصروفات التي يتطلبها تنفيذ عدد من بنود المعاهدة المصرية الإنجليزية نفسها.
(2)
وقد كان النحاس منذ ما قبل الثلاثينيات حريصا علي أن يضع الجيش المصري والقوات المسلحة بعيدا عن سلطة القصر وتسلطه، ويذكر له أنه انتهز فرصة توليه الحكم في عهد الوصاية وسن قانونا بإنشاء مجلس الدفاع الأعلي وهيئة أركان الجيش، وقد أثبت الدكتور عبد العظيم رمضان في دراسته لتاريخ الحركة الوطنية أن النحاس بهذه الإجراءات التشريعية تمكن من قطع الصلة ما بين الجيش والملك من الناحية الفعلية، فقد تضمن هذا القانون أن يتألف مجلس الدفاع الأعلي من رئيس مجلس الوزراء (رئيسا)، ومن وزير الحربية والبحرية (نائبا للرئيس)، ومن كل من وزير الأشغال، ووزير المالية، ووزير المواصلات، والوكيل الدائم لوزارة الحربية والبحرية، ورئيس هيئة أركان الحرب (أعضاء)، ولم ترد في هذا القانون أية إشارة إلي القائد الأعلي للجيش وهو الملك، وبهذا تم إلغاء منصب القائد الأعلي للقوات المسلحة الذي كان يشغله الملك فــؤاد، وبهذا القانون جرد مصطفي النحاس الملك فاروق من كل سلطاته الإشرافية علي الجيش.
وربما يحتاج هذا الأمر إلي بعض التفصيل:
فقد كان الأمر الملكي السابق بتشكيل مجلس الجيش يتضمن الإشارة إلي أن الملك هو القائد الأعلي للجيش، وقد كان لهذا الإغفال [الجديد] معناه الذي أدركه رجال القصر بالطبع، وهو أن الملك لم تبق له بالجيش صلة، وأن القيادة العليا التي هي له بنص الدستور قد صارت حبرا علي ورق، لأن المجلس صار مؤلفا من وزراء وموظفين يعينهم الوزراء.
(3)
ومن الجدير بالذكر أن قانون إنشاء مجلس الدفاع الأعلي صدر في يوم 13 يونيو ١٩٣٧، أي بعد يومين فقط من مباشرة الملك فاروق لسلطته الدستورية.
وقد نص القانون رقم 27 لسنة ١٩٣٧ علي أن مجلس الدفاع الأعلي يختص بإبداء الرأي في كل ما يتعلق بسياسة الدفاع عن البلاد، وتنظيم القوات المكلفة به، وسياسة التجنيد، وما يتصل بذلك كله من المسائل المالية وغيرها، ويقدم اقتراحاته إلي مجلس الوزراء، وبهذا القانون صارت القيادة العليا لرئيس مجلس الوزراء.
وقد منح القانون رئيس هيئة أركان الحرب كل اختصاصات القائد العام بصراحة لا لبس فيها، ولا إبهام، فأصبح هو المسئول أمام وزير الحربية والبحرية عن القيادة العامة للجيش، والإشراف علي إدارته، ومراقبة حالة قوات الجيش، وإبداء الرأي في وسائل التوفيق بين حالة الجيش ومقتضيات سياسة الدفاع عن البلاد، وهكذا خرجت الاختصاصات الفعلية من يد الملك، وتأكد دور رئيس أركان الحرب ليكون بمثابة الرجل الفني الأول بعيدًا عن الحلقات الإضافية من القيادة.
ومن العجيب أن رؤية الوفد لتسلسل القيادة في القوات المسلحة وعلاقتها بالدولة كانت أكثر تقدمية من رؤية عهد الثورة الذي كان أقطابه أنفسهم من رجال القوات المسلحة المصرية، ومع هذا فإنهم وقعوا في مأزق الحلقات الإضافية في سلسلة القيادات بما كان له أثره السلبي حتي في الحروب.
(4)
عنيت الوزارة الوفدية بالنظر إلي «يمين الجيش»، وكانت صيغتها قد وضعت منذ ما قبل عصر الدستور، فخلت بطبيعة الحال من أية إشارة إليه، كما أنها تضمنت قسم الضابط بأن يكون خادما مخلصا أمينا للملك، مطيعا لأوامره الكريمة، ورأت الوزارة الوفدية تعديل هذه اليمين بإدخال الدستور في النص، وحذف العبارة المذكورة، وجعلت الإخلاص للوطن والملك، والطاعة للدستور وقوانين الأمة المصرية، وأصبحت صيغة اليمين الجديدة هي:
«أحلف بالله العظيم وبشرفي العسكري أن أكون مخلصا للوطن ولحضرة صاحب الجلالة فاروق الأول ملك البلاد وقائد قواتها الأعلي، وأن أكون مطيعا للدستور ولقوانين الأمة المصرية.. إلخ».
(5)
وقد سجل الدكتور عبد العظيم رمضان أن الصحف الموالية للقصر لم تشأ أن تمرر سياسة الوفد في هذه الجزئية دون هجوم، وعلي سبيل المثال فقد اعترض محمد عبد القادر حمزة علي هذا التعديل في البلاغ [وكانت البلاغ في ذلك الوقت قد تحولت عن وفديتها السابقة]، ونشر عدة مقالات عنيفة أوضح فيها أن إقحام الدستور في اليمين يتضمن إقحاما للسياسة في واجبات الجيش، وأن الجيش وظيفته فقط الدفاع والطاعة فيما يصدر إليه من الأوامر، وليس من وظائفه إقامة نظام سياسي معين، والمحافظة علي هذا النظام وحمايته.
أما الملك فاروق نفسه فقد أعلن أنه لن يقبل تعديل اليمين بالشكل الذي رأته الوزارة.
وبعد هذا التصريح الملكي لم تتراجع الوزارة الوفدية، وآثرت أن تتمسك بموقفها، فاجتمعت وقررت الموافقة علي مشروع التعديل، وإزاء هذا قرر القصر إيقاف الترتيب الذي كان معدا من قبل بأن يحلف الجيش اليمين في اليوم التالي لتولي الملك سلطته الدستورية، وأن يؤدي وزير الحربية اليمين بالنيابة عنه، وأمر فاروق بدعوة جميع الضباط العاملين وغير العاملين علي اختلاف رتبهم إلي حفل شاي بقصر عابدين، حضره ضباط البعثة العسكرية البريطانية، حيث وقف أثناء توديعه لهم يقول بصريح العبارة: «علي سبيل النصيحة أقول لكم: لا تشتغلوا بالسياسة!».
ولم يؤد الجيش اليمين بالصيغة الجديدة للملك فاروق طيلة عهد الوزارة الوفدية، حتي أقيلت هذه الوزارة فعاد الجيش يؤدي اليمين بصيغتها القديمة في عهد وزارة الانقلاب.
(6)
وقد كرسّ النحاس باشا فكرة نزع وظيفة القائد الأعلي للقوات المسلحة عن الملك باعتباره رئيسًا للدولة، وهو الوضع الذي كانت البلاد المتقدمة قد بدأت تتجه إليه فعليًا (وشكليًا) في ظل ما خرجت به من تجارب الحرب في ذلك الوقت المبكر من العصر الحديث.
وقد كانت وجهة النظر الداعية إلي هذا التحول هي أنه علي بالرغم من أن دساتير أغلب الدول التي خاضت غمار الحرب العالمية الأولي كانت تمنح رئيس الدولة حق قيادة الجيش، فإن واحدا من هؤلاء لم يفكر في استعمال هذا الحق، بل لقد أثبتت الحرب أن رؤساء الدول لم يتنحوا فقط عن استعمال هذا الحق من الناحية الفعلية، بل لقد كفوا عن استعماله أيضًا من الناحية الشكلية، حتي أنه في فرنسا روعيت هذه القاعدة من الوجهة الشكلية في بداية الحرب، فكانت الحكومة تصدر الأوامر للجيش باسم رئيس الجمهورية، ولكن باستمرار الحرب وظهور عيوب هذا النظام، تنحت الحكومة في النهاية عن قيادة الجيش الشكلية هذه..
(7)
كان النحاس بفطرته من المتابعين الجيدين لمجريات الأمور في الحروب، وقد روي عنه فيما روي أنه في أثناء الحرب العالمية الأولي كان لا يفتأ يتتبع سير المعارك علي الخرائط معه في غدوه وترحاله، ويناقش الآخرين فيما انتهت إليه الحروب، وفيما يتوقع أن تمضي إليه.
وقد نما هذا الإحساس بالمعارك والاستراتيجية مع النحاس في كل مراحل حياته، وكان لهذا الإحساس دور جوهري في إيمانه بقضايا الجيش المصري ورفع قوته واستعداداته وتسليحه وتنظيمه.
وربما كان من المفيد أن نتأمل فيما يروي علي لسان النحاس باشا في مذكراته (عام 1941) عن إحدي محاولاته الدءوبة لفهم مجريات الحرب العالمية الثانية، وتأثيراتها علي مصر:
«تذكرت أن ضابطًا من أكفأ الضباط المصريين اسمه [علي موسي] برتبة أميرالاي علي ما أذكر كنا قد ألحقناه في الوفد العسكري لهيئة المفاوضات أثناء عقد معاهدة عام 1936 مع الإنجليز، أنه كان يتحدث عن الصحراء كأنه ولد فيها وعاش وتربي في ربوعها، فسألت عنه فقيل لي إنه يقيم في الإسكندرية قريبًا منا، فطلبت استدعاءه وكلفت السكرتارية بالاتصال به ودعوته للمرور علينا».
«وفي عصر اليوم جاء فعرفته وتذكرته تمامًا ثم سألته عن الصحراء علي ضوء المعلومات التي نقلها إليّ محمد الشامي بك، فقال: إن الصحراء الغربية كما تعرف متسعة الأرجاء وليس فيه معبد إلا الطريق الرئيسي الذي تعسكر فيه قوات الجيش المصري والقوات البريطانية، وأن المعلومات التي وصلت تؤكد أن الإنجليز لغموا جميع المسالك التي يمكن أن يتسرب منها العدو، وملئوا الطريق الوحيد المعبد بقواتهم ومعداتهم، وإذا كانوا كما نقل إليك قد تجمهروا في نقطة العلمين فقد أحسنوا الاختيار، لأنها نقطة صالحة ومهمة ويمكن لمن يتمركز فيها ويحيط بها من جميع جوانبها ألا يُمكن أحدًا من التسلل منها إلي الإسكندرية».
«وقال: حسب المعلومات التي عرفتها عن أنباء القتال، وبحكم خبرتي لا أظن أن جيش المحور مهما كان مستعدًا وقويًا يستطيع أن يجتاز تلك الصحراء الواسعة الأرجاء من الغرب إلي مساعد والسلوم، وهي تبعد عن مرسي مطروح مئات الكيلو مترات إلا بعد جهد جهيد، ومشقة كبيرة ووقت طويل، وفي تقديري أن هذا ـ إن لم يطرأ طارئ في الحسبان ـ يستغرق علي الأقل عامين أو أكثر من الزمان، إذا لم تنته الحرب قبل هذا الوقت».
«فأخذت أناقشه، وأسأله أسئلة دقيقة عن مدي استعداد الجيش المصري فأجاب: مع الأسف إن جيشنا ليس عنده أي استعداد لمعركة كبيرة لأن الإنجليز لم يمكنوه من التسليح، ولم يحاولوا أن يمكنوا كبار قواده وخاصة الخبيرين بالصحراء من أن يؤدوا واجبهم، وهذه إحدي مصائب الاحتلال، وإن الجيش المصري فيه من الكفاءات والدراية ما يستطيع أن يدافع عن بلاده ولو كان مسلحًا تسليحًا قويًا ومدربًا تدريبًا كافيًا، ومن هنا كانت الأعمال المكلف بها في الصحراء أو في غيرها أعمالًا هامشية ومهمات مقصورة علي الحراسة والمراقبة، وحتي هذا الشيء التافه لم يتركوه له بل أشركوا قواتهم فيه».
«فسألته ألا يُحتمل أن يغيروا بطائرتهم بعد أن يملؤها بمعدات حربية ويحاولوا أن يحتلوا الإسكندرية أو أجزاء قريبة منها، فأجاب: لا يمكن للطائرات من الجو من غير مساعدات من الدبابات والمدرعات التي لا طريق لها إلا الطريق البري أن تصل إلي ما يريد أو تستقر في أي جهة. ما لم تكن محمية بقوات أرضية ومعدات مختلفة من المدافع والمدرعات والأدوات الحربية الأخري».
(8)
وننتقل إلي ما هو متاح في أدبياتنا عن دور النحاس والوفد في تسليح الجيش المصري.
وربما كان أفضل الأحاديث دلالة علي مدي عناية الوفد بتسليح الجيش المصري هو ذلك الذي كتبه الضباط الدارسون لهذه القضية من خلال دراستهم لتاريخ القوات المسلحة المصرية، وفي هذا الصدد فقد نشرت المكتبة الأكاديمية دراسة مهمة للواء طيار دكتور جبر علي جبر عن القوة الجوية المصرية، وقد تتبع في هذه الدراسة، من خلال الوثائق، الجهود التي بذلت لتأسيس وتطوير القوات الجوية المصرية، وعلاقة هذه الجهود بالوزارات المتعاقبة وبالعلاقات المصرية ـ البريطانية، مركزا (بالطبع) علي الفترة التي تلت حرب 1948.
وسوف ننقل للقارئ بعض فقرات من هذه الدراسة القيمة بما يكفل تصوير طبيعة الآليات التي كان النحاس باشا ووزارة الوفد يتحركان بها من أجل تحقيق هدف تسليح مصر وتقويتها بما يضمن أمنها القومي، وقدرتها السياسية، وبخاصة فيما يتعلق بقضية فلسطين، وسنحاول فيما ننقله ألا نثقل علي القارئ بتفصيلات بعيدة عن الموضوع ولا بتعليقات تقطع تواصل الفكرة.
وسوف نري مدي الوعي السياسي الذي حكم تصرفات وتوجهات وسياسات النحاس باشا علي جميع الأصعدة الاستراتيجية المتصلة بهذا الموضوع.
يقول اللواء جبر علي جبر:
«اتجهت وزارة الوفد الأخيرة منذ أيامها الأولي في الحكم إلي تدعيم القدرات الدفاعية المصرية، الأمر الذي برز في ثلاث جوانب مختلفة:
«حشد الطاقات العربية في مواجهة إسرائيل».
«تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لدعم وتطوير القوات المسلحة».
«محاولة تدبير احتياجات هذه القوات من العتاد والأسلحة والطائرات».
«بالنسبة للجانب الأول، فعلي ضوء استمرار رفض إسرائيل لأي تسوية عادلة لمشكلتي الحدود واللاجئين، فضلًا عن تنفيذ قرار التقسيم، استمرت حالة الحرب بينها وبين الدول العربية. وقد حاولت إسرائيل اختراق الصف العربي من خلال اتصالها بالملك عبد الله لعقد اتفاقية صلح وعدم اعتداء بينها وبين الأردن، إلا أن الحكومة المصرية نجحت في احتواء المحاولة الإسرائيلية باستصدار قرار من جامعة الدول العربية لا يُجيز لأي دولة من دول الجامعة أن تتفاوض في عقد صلح أو اتفاق سياسي منفرد مع إسرائيل».
«كما قامت مصر بتطويق الخلاف بين دول الجامعة العربية، ودعت إلي عقد معاهدة للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين هذه الدول، وافق عليها مجلس الجامعة في الثالث عشر من إبريل 1950، لتعزيز الأمن الجماعي لدول الجامعة. فطبقًا للمادة الثانية من هذه المعاهدة يعتبر كل اعتداء مسلح يقع علي أي من دول الجامعة، اعتداءً يقع عليها جميعا، ولذلك فإنها عملًا بمبدأ الدفاع الشرعي تلتزم بالمبادرة إلي معونة الدول المعتدي عليها، واتخاذ التدابير الفورية ـ بما في ذلك استخدام القوة المسلحة ـ لرد الاعتداء وإعادة الأمن والسلام إلي نصابهما».
«وفيما يتعلق بالجانب الثاني، تعكس ميزانية وزارة الحربية تصاعدًا ملحوظًا في الاعتمادات المخصصة لاحتياجات القوات المسلحة بصفة عامة، والسلاح الجوي بصفة خاصة، حيث جعلت اعتماد الأخير 5.017630 مليون جنيه خلال السنة المالية 1950/ 1951، وهو ما يمثل 11٪ من اعتمادات وزارة الحربية خلال تلك السنة بزيادة 39٪ عن اعتمادات السنة السابقة. كما ارتفعت تلك الاعتمادات مرة أخري لتصل إلي 7.735565 مليون جنيه خلال السنة المالية 1951/ 1952 وهو ما يمثل 16٪ من اعتمادات وزارة الحربية خلال هذا العام، أي بزيادة 54٪ عما كانت عليه في السنة المالية السابقة».
«وبالإضافة إلي اعتمادات السلاح الجوي المشار إليها تعكس ميزانية وزارة الحربية خلال السنة المالية 1951/ 1952 اعتماد مبلغ 1.642.254 مليون جنيه لإنشاء مصنع للطائرات».
(9)
وقد التفت الدكتور جبر علي جبر إلي حقيقة أن الاستراتيجيات الدولية لم تسمح لمصر أن تمضي في سياساتها إلا بمشقة استطاعتها وزارة الوفد، وإن كانت سياساتها التحررية (والمعادية للاستعمار) قد زادتها صعوبة:
«… رغم توافر الاعتمادات المالية للتدرج في تنفيذ مشروعات التطوير التي سبق تقديمها بواسطة السلاح الجوي، فإن جهود حكومة الوفد لتوفير احتياجات التطوير من الطائرات والأسلحة والمعدات، لم تُكلل بنفس النجاح الذي حققته في تدبير الاعتمادات المالية اللازمة لأعمال التطوير. وهو ما يرجع في الحقيقة إلي سياسة الوفد تجاه القضية الوطنية والمخططات الغربية في المنطقة من ناحية، وردود الفعل البريطانية والأمريكية تجاه تلك السياسة من ناحية أخري».
«فبالرغم من أن المناخ كان مهيأ عند تولي وزارة الوفد لتنفيذ مشروعات التطوير ـ التي غرست بذورها في عهد الوزارات السابقة ـ بعد رفع الحظر علي تصدير الأسلحة والتعاقدات التي تمت في خريف العام السابق، [فإن] الوزارة ما لبثت أن واجهت ـ بعد شهورها الأولي ـ عقبات كئود عرقلت جهودها لتطوير القوات المسلحة المصرية، وقد جاء بعض هذه العقبات نتيجة لعوامل خارجية لا يد للحكومة المصرية فيها، بينما جاء البعض الآخر نتيجة لسياسة وزارة الوفد حيال القضية الفلسطينية وأسلوب معالجتها».
(10)
وبعد أن يشير الدكتور جبر علي جبر إلي الضغوط الإسرائيلية علي الحكومة الأمريكية والحكومات الغربية من أجل تزويد إسرائيل بالأسلحة من ناحية، ومن أجل تعطيل صفقات الأسلحة البريطانية لمصر في خريف 1949، يشير إلي صدور ما سمي بالإعلان الثلاثي، الذي اتفقت عليه أمريكا وبريطانيا وفرنسا في 25 مايو 1950، وموقف وزارة الوفد منه:
«في مايو 1950 دارت مباحثات بين الجانبين الأمريكي والبريطاني لوضع أسس السياسة المرجوة ثم عرضت علي فرنسا نتائج تلك المباحثات، وبعد أن وافقت الأخيرة علي تلك السياسة، أعلنتها الدول الثلاثة في 25 مايو فيما عُرف باسم الإعلان الثلاثي».
«وقد تلخصت السياسة الواردة في ذلك الإعلان في قبول الدول الثلاثة بإمداد دول الشرق الأوسط بقدر من الأسلحة، إلا أنها حددت إطار استخدام هذه الأسلحة بصيانة الأمن الداخلي لهذه الدول والدفاع الشرعي عن النفس، وأخيرًا ـ وهو الأهم من وجهة النظر الغربية ـ هو لتمكينها من القيام بدورها في الدفاع عن المنطقة كلها بصفة عامة».
«كما نص البيان علي عدم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها بين أي دولة وأخري في تلك المنطقة، وأن الحكومات الثلاث إذا رأت أن إحدي هذه الدول تعد العدة لانتهاك الحدود أو خطوط الهدنة، فإنها سوف تتخذ إجراءات عاجلة وفقًا للالتزامات بوصفها أعضاء في الأمم المتحدة داخل أو خارج الهيئة لمنع هذه الانتهاكات».
«ولما كانت دول الجامعة العربية قد وقعت علي معاهدة الدفاع المشترك قبل أقل من أسبوعين من صدور الإعلان الثلاثي، فقد وضع ذلك الإعلان كافة الدول العربية الموقعة علي تلك المعاهدة في كفة وإسرائيل في الكفة الأخري بالنسبة لإمدادات الأسلحة، الأمر الذي يضمن التفوق لإسرائيل في مواجهة أي من الدول العربية أو أغلبها مجتمعة».
«ونظرًا لأن الإعلان يفرض وصاية الدول الثلاث ـ غير المنزهة عن الغرض ـ علي الدول العربية ويضعها تحت رحمة هذه الدول في مجال تسليح قواتها، ويكرس الأمر الواقع والمكاسب الإقليمية التي حصلت عليها إسرائيل خلال الحرب الأخيرة فقد اعترضت عليه دول الجامعة العربية، بينما رحبت إسرائيل به».
«وهكذا كان علي وزارة الوفد أن تواجه الآثار المترتبة علي ذلك الإعلان بعد بضعة شهورمن توليها الحكم، ولم يكن ذلك الإعلان هو العقبة الوحيدة التي واجهتها وزارة الوفد حيال جهودها في تطوير القوات المسلحة المصرية فما لبثت الحكومة البريطانية ـ بتشجيع من الحكومة الأمريكية ـ أن فرضت حظرًا جديدًا علي شحنات الدبابات والطائرات إلي مصر في سبتمبر 1950، كما فرضت مع الولايات المتحدة عام 1951 مزيدًا من القيود علي إمداد مصر بالأسلحة من السوق الأوربية والأمريكية، مما كان له أسوأ الأثر علي تطوير القوة الجوية المصرية».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
هكذا واجهت وزارة الوفد عدة مظاهر للتآمر الغربي بما يصب في مصلحة إسرائيل، ومن ثم فإنها، شأنها شأن كل وزارة فاعلة، بدأت في محاولات كسر الطوق الجديد بكل ما هو ممكن من وسائل تقليدية وغير تقليدية.
(11)
ويستعرض الدكتور جبر علي جبر في دراسته بعض مواقف النحاس باشا من قضايا التسليح في أثناء محادثاته مع الجانب البريطاني في عهد وزارة الوفد الأخيرة:
«… كان من الصعب علي الفيلد مارشال سليم أن يقنع رئيس الوزراء المصري ووزير خارجيته ـ خلال اجتماعه بهما في الخامس والسادس من يونيو ـ بأن مجابهة الخطر السوڤيتي تقتضي تكتل الأمم عسكريًا بأن تتنازل كل منها عن بعض سيادتها، وأن مصر هي مطمع الطرف الآخر لأنها مفتاح المنطقة. ومن ثم، فلن يجديها بقاؤها علي الحياد، خاصة وأنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة هذا الخطر».
«وجاء عدم [اقتناع] الجانب المصري بوجهة النظر البريطانية، من تقديره بأن مصر إذا كانت مهددة بهجوم سوڤيتي، فإنما يعود في الدرجة الأولي إلي وجود القوات البريطانية فيها».
«وإزاء عدم ثقة الجانب المصري في أية وعود بريطانية جديدة فإنه ـ رغم قبوله بمبدأ التحالف ـ أصر علي جلاء القوات البريطانية أولًا إلي قاعدة قريبة كفلسطين، بحيث يمكنها العودة إلي مصر خلال فترة قصيرة في حالة الحرب».
«كما اقترح النحاس علي الجانب البريطاني أن تُمد مصر بالطائرات علي أن تُستخدم لصالح قوي التحالف عند قيام الحرب، مؤكدًا علي أن التعاون المنشود يقوم علي تحقيق الجلاء، فإذا تم ذلك سنضع أيدينا في أيديكم».
«وفي جلسة المباحثات الثالثة، أشار النحاس إلي اهتمام مصر بتقوية جيشها، خاصة بالنسبة للدفاع الجوي وإنشاء المطارات والمصانع الحربية، وحدد نطاق التحالف الذي يمكن الموافقة عليه ـ بعد جلاء القوات البريطانية عن مصر ـ في تبادل الحكومتين المصرية والبريطانية الرأي عندما يتهدد الأمن في الشرق الأوسط، فإذا وقع أي اعتداء علي مصر، أو دخلت بريطانيا حربًا نتيجة وقوع اعتداء علي إحدي البلاد (العربية) المتاخمة، فإن مصر تتعاون عسكريًا مع بريطانيا في داخل حدودها وفي نطاق إمكاناتها للدفاع عن مصر، وفي هذه الحالة يمكن استقدام قوات بريطانية في مصر إذا تبين أن ذلك ضروري».
«وإزاء تمسك سليم ببقاء القوات البريطانية في مصر وقت السلم، رفض النحاس وجهة نظر رئيس أركان الإمبراطورية، مؤكدًا له أنه لا يستطيع إقناع الشعب ببقاء جندي أجنبي واحد علي أرض مصر».
(12)
وتذهب دراسة الدكتور جبر علي جبر إلي التأكيد علي حقيقة أن تمسك النحاس بالسياسة الوطنية الحريصة علي الخلاص الكامل من قوات الاحتلال كان بمثابة سبب مباشر لتعويق تسليح مصر علي النحو الذي كان الوفد يبتغيه ويخطط له. وهو ما ظهر مباشرة في مكاتبات الحكومة البريطانية بشأن تنظيم تسليم الأسلحة المتعاقد عليها من قبل!!:
«… وإزاء ذلك الفشل وخيبة أمل البريطانيين في إحراز أي تقدم في المباحثات بعد عودة الوفد إلي الحكم، حاولت الحكومة البريطانية استغلال شحنات الأسلحة للضغط علي الحكومة المصرية لتغيير موقفها. ففي التاسع من سبتمبر، أرسلت الخارجية البريطانية تطلب من سفيرها في القاهرة إبلاغ الحكومة المصرية أنه بالنظر إلي خطورة الموقف العالمي الحالي والنقص الموجود في أنواع معينة من الأسلحة والمعدات، فإن حكومة صاحب الجلالة قد قامت أخيرًا باستعراض التزاماتها في جميع أنحاء العالم الخاصة بتوريد الأسلحة والمعدات العسكرية، وقررت وضع نظام صارم لترتيب الأولويات، أما المبدأ الذي سيتم به في المستقبل تنظيم تسليم الأسلحة والمعدات فهو أن تلي (تلبية احتياجات) المملكة المتحدة تلبية ما تحتاج البلدان التي لها معها ترتيبات دفاعية عملية. ومن مؤدي هذا أن يتم الكف عن عمليات شحن الأسلحة والمعدات التي تعاني نقصا في المعروض منها إلي البلدان الآخري».
«وقد جاء في رسالة للخارجية البريطانية إلي سفيرها في مصر:
«فيما يتعلق بمصر، لن نكون قادرين في الوقت الحالي علي شحن مزيد من المقاتلات النفاثة بعد الآن، وسيتعين علينا إلغاء رخص التصدير المتعلقة بما تم الوعد به فعلا، وربما سري نفس الشيء علي معدات الرادار والدبابات…».
(13)
وقد سارعت وزارة الوفد بالاحتجاج علي قرار الحظر الذي فُرض علي تسليم مصر طائراتها التي تعاقدت عليها ووضعت عليها العلامات المصرية، بيد أن الجانب الأمريكي انحاز إلي البريطانيين ومضي علي نفس خطواتهم.
«وقد احتجت الحكومة المصرية علي الحظر البريطاني الجديد واعتبرت عدم تسليم أربع عشرة طائرة نفاثة ـ كانت جاهزة للتسليم ووضعت عليها العلامات المصرية ـ عملا غير ودي».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
«ولم ترفض الحكومة الأمريكية مساندة الموقف المصري في المباحثات فحسب، بل إنها استمرت أيضًا في فرض القيود علي إمدادات مصر بالأسلحة الأمريكية وحظر إمدادها تماما بأي أسلحة ثقيلة. كما أيدت السياسة البريطانية المتشددة حيال مصر والضغط عليها بتأجيل إمدادها بالأسلحة البريطانية حتي ترضخ للمطالب البريطانية، حيث كانت تلك المطالب آنذاك، لا تقل أهمية للولايات المتحدة عنها بالنسبة للمصالح البريطانية».
«وقد ظهر الموقف الأمريكي المخيب للآمال جليا واضحا، خلال الاتصالات التي أجراها كل من السفير المصري في واشنطن والدكتور محمد صلاح الدين (وزير الخارجية الوفدي) مع ماك چي مساعد وزير الخارجية الأمريكية، خلال شهري يوليو وأكتوبر 1950، سواء بالنسبة لطلب تأييدها أو إمدادات الأسلحة».
(14)
وقد بدأت الوزارة الوفدية تعلن للجانب الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) إلي أنها ستضطر إلي اللجوء إلي الكتلة السوڤيتية من أجل إتمام سياسات التسليح:
«وقد اعتبر وزير الخارجية المصري وقف إمدادات الأسلحة [جزءًا] من مؤامرة من جانب القوي الغربية الكبري لإبقاء مصر ضعيفة، حتي لا تضطر بريطانيا إلي الانسحاب من مصر عام 1956 عندما تنقضي مدة المعاهدة. وحذر الدكتور صلاح الدين، خلال لقائه مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي في التاسع عشر من أكتوبر، بأن مصر قد تضطر إلي اللجوء إلي الكتلة السوڤيتية التي تتلهف علي تقديم الأسلحة، إذا لم تُستأنف شحنات الأسلحة البريطانية».
«وإزاء موقف الحكومتين البريطانية والأمريكية تجاه حظر إمداد مصر بالأسلحة، فقد اتجهت الحكومة المصرية إلي البحث عن مصادر بديلة لتوفير احتياجات القوات المسلحة من العتاد والأسلحة، حتي لا تزداد حالة قواتها سوءًا نتيحة لتوقف خطة تطويرها، وعلي ذلك اتجه الرأي إلي البحث عن تلك المصادر بين الدول الأوربية الآخري، بعد استبعاد بريطانيا والولايات المتحدة».
(15)
ويلخص الدكتور جبر علي جبر ما انتهت إليه وزارة الحربية من خلال تقرير قدمه وزيرها الوفدي إلي النحاس باشا:
«ويوضح التقرير الذي قدمه مصطفي نصرت ـ وزير الحربية والبحرية آنذاك ـ إلي رئيس الوزراء أن الرأي قد اتجه إلي تشكيل لجنة يكون لها من السلطة ما يخولها التعاقد مباشرة، علي أن تحاط أعمالها بالسرية التامة منعا من تدخل بريطانيا لعرقلة أعمالها، وعلي أن تتصل بالشركات (المنتجة للأسلحة) اتصالًا مباشرًا».
«وأقر رئيس الوزراء (النحاس باشا) تشكيل هذه اللجنة برئاسة وزير الحربية والبحرية في الخامس عشر من أغسطس 1951، كما شُكلت لجان فرعية متعددة كان عملها بحث ما يعرض علي اللجنة العليا من الوجهة الفنية، فضلًا عن قيامها بمعاينة المعدات وتجربتها. وبدأت اللجنة رحلتها للبحث عن السلاح في الثالث والعشرين من أغسطس 1951».
«إلا أن تلك اللجنة واجهت العديد من الصعاب في مهمتها، مثل عدم وجود ملحقين عسكريين في بعض الدول التي قصدتها، للتمهيد لعمل اللجنة مع حكومات تلك الدول وشركاتها، بالإضافة إلي أن توقيت رحلة اللجنة إلي أوربا واكب مرحلة انتقالية في صناعة الأسلحة والطائرات للتحول من طرازات الحرب العالمية الثانية إلي طرازات حديثة وخاصة في مجال الطائرات النفاثة»
«إلا أن أهم العقبات التي واجهتها لجنة المشتروات المصرية هو ما لمسته من تدخل الإنجليز لدي حكومات الدول التي زارتها (اللجنة) لمنع التعاقد معنا، أو لمنع تصدير المهمات السابق التعاقد عليها، وقد نجح الإنجليز في ذلك مع بعض الدول، نتيجة لارتباط دول منظمة شمال الأطلنطي ـ التي زارتها اللجنة ـ بالسياسة الدفاعية لبريطانيا والولايات المتحدة، وتكامل سياسة التسليح والتصنيع الحربي فيما بينها، لذلك كان من الصعب علي دولة كمصر خارجة عن هذا الحلف التعامل مع دولة المرتبطة فيما بينها بكميات وأنواع هذه المعدات».
«وقد قامت تلك اللجنة بمهمتها في كل من إيطاليا وسويسرا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والسويد وألمانيا وأسبانيا والبرتغال وتشيكوسلوفاكيا بحثا عن السلاح».
(16)
وعلي الرغم من هذه الظروف المعاكسة تماما فقد تمكنت اللجنة العسكرية المصرية التي شكلها الوفد في أغسطس 1951 من إحراز نجاحات مختلفة بلورت بعضها دراسة الدكتور جبر علي جبر التي ركزت علي ما يخص القوات الجوية والدفاع الجوي:
«… وبالنسبة للدفاع الجوي، فيوضح تقرير اللجنة أنها تعاقدت مع الشركات الفرنسية علي توريد ست محطات رادار إنذار طويل المدي، وست محطات رادار لتوجيه المقاتلات في الجو. وهو ما كان مقدرًا أن يغطي احتياجات الإنذار في ذلك الوقت».
«كما استكملت معدات الرادار والإنذار المحلي للمدفعية الثقيلة المضادة للطائرات للعمل مع المواقع الحالية. مع شراء ورشة للرادار. كما تعاقدت اللجنة علي شراء مائتي مدفع (هسبانو سويزا) مضاد للطائرات من عيار 30 مم، و 250 ألف طلقة من سويسرا».
«أما بالنسبة للقوة الجوية، فإن تقرير اللجنة يشير إلي تعسف الحكومة البريطانية بالنسبة لاحتياجات السلاح الجوي التي كانت المملكة المتحدة المصدر الأساسي لإمداداته، فقد سبق التعاقد علي عدد من الطائرات من طراز (ألڤامبير) و(المتيور) لم تورد إنجلترا منه إلا جزءًا قليلًا، ومنعت توريد الباقي، رغم دفع جزء كبير من ثمنه مقدمًا، ورغم أن المصانع كانت قد أعدته وجهزته لنا، حتي أن بعضها كان قد وضع رمز السلاح الجوي الملكي المصري علي الطائرات، وهي الخطوة الأخيرة قبل التصدير، وكانت حجتهم في ذلك أنهم في أشد الحاجة إلي هذه الطائرات وإن إنتاج مصانعهم لا يكفي لسد حاجاتهم».
«ولم تكتف الحكومة البريطانية بحظر تصدير إنتاجها من الطائرات، بل إنها مارست ضغوطًا مستمرة علي الدول الأوربية الأخري لإحباط جهود اللجنة المصرية في تلك الدول من أجل شراء الطائرات اللازمة للسلاح الجوي، الأمر الذي أقنع تلك اللجنة بفساد الحجة البريطانية».
«وإزاء فشل اللجنة في شراء طائرات (الڤامبير) من إيطاليا وفرنسا و(المتيور) من بلجيكا ـ والتي كانت تنتجها هذه الدولة بتراخيص من الحكومة البريطانية ـ بعد رفض الأخيرة إعطاء هذه الدول تراخيص بيعها لمصر ـ فقد اتجهت اللجنة للبحث عن الطائرات التي لا تسيطر الحكومة البريطانية علي تصديرها للدول الأخري، إلا أنها وجدت أن جميع الطائرات المقاتلة النفاثة في دول أوربا الغربية الداخلة في حلف الأطلنطي ـ باستثناء طائرات (الأوارجون) ـ إنجليزية الأصل هيكلًا أو محركًا، كما أن السويد كانت عازفة عن بيع أي من طائراتها النفاثة قبل استكمال احتياجات قواتها المسلحة».
«ومن ثم أصبحت (الأوراجون) الفرنسية هي هدف اللجنة، فرغم تزويد تلك الطائرات بمحرك إنجليزي الأصل، إلا أن الشركة الفرنسية المنتجة كان لها حق بيع هذه الطائرات للدول الأخري، ورغم أن اللجنة وجدت مائة طائرة من ذلك الطراز فائضة عن عقد سابق بين الحكومة الفرنسية وشركة (داسو) المنتجة، فإنها لم تستطع شراءها لغلو ثمنها من ناحية، وعدم صدور قرار رسمي من الحكومة الفرنسية بالاستغناء عن تلك الطائرات من ناحية أخري».
(17)
ويتعرض الدكتور جبر علي جبر بالتحليل السريع لموقف الحكومة التشيكية المبكر من تزويد مصر بالأسلحة، وما اعتري هذا الموقف من تريث كانت له وجاهته في رأي المصريين المقدرين للاستراتيجيات الدولية:
«ولما كانت تشيكوسلوفاكيا قد إبدت استعدادها ـ خلال مباحثات الاتفاقيات التجارية التي عقدتها مع مصر ـ علي تزويد الأخيرة ببعض منتجاتها الحربية فقد تم الاتصال بالحكومة التشيكية، وقدمت لها اللجنة كشوفا الاحتياجات المصرية من الأسلحة والدبابات والطائرات، إلا أن الحكومة التشيكية سوفت في الرد علي الطلبات المصرية، وقد أرجع وزير الحربية المصري ذلك التسويف إلي كون الحكومة التشيكية كانت منتظرة حتي ينجلي موقف مصر السياسي بالنسبة للمعسكر الغربي».
«وهذا التحليل من وزير الحربية المصري لموقف الحكومة التشيكية آنذاك له وجاهته في ظل العلاقات المصرية ـ البريطانية المانعة في ذلك الوقت، وعدم حسم الموقف السياسي المصري من إلغاء معاهدة 1936، وهو الأمر الذي كان سيترتب عليه فك الارتباط السياسي والعسكري المصري بالغرب، ويفقد الوجود البريطاني في مصر شرعيته الدولية».
(18)
ويستعرض الدكتور جبر علي جبر كذلك ما ذكره تقرير رئيس اللجنة التي شكلتها وزارة النحاس باشا وما تضمنته من سعي دائب إلي تعويض الموقف الناشيء عن تعنت الحكومة البريطانية الذي فاق كل حد:
«يشير تقرير رئيس اللجنة إلي أن إيقاف تصدير الطائرات والدبابات لم يكن الوسيلة البريطانية الوحيدة للضغط علي الحكومة المصرية، فقد كانت صناعة الطائرات ـ الوليدة في مصر آنذاك ـ وسيلة أخري، حاولت الحكومة البريطانية استغلالها للضغط علي الحكومة المصرية».
«فبالرغم من أن بريطانيا كانت قد باعت لمصر رخصة تجميع وإنتاج طائرات (الڤامبير)، وتعهدت ـ تمهيدًا لذلك ـ ببيع اثنتي عشرة طائرة من نفس الطراز مفككة إلي أجزاء كبيرة واثنتي عشرة طائرة مفككة إلي أجزاء صغيرة، فضلا عن المكونات الصغيرة لاثنتي عشرة طائرة أخري، بقصد التدرج في مراحل التجميع ثم التحول في مرحلة تالية إلي تصنيع مكونات هذه الطائرة في مصر، فإنها أخلت بجميع هذه التعهدات، وقامت بالضغط علي جميع الشركات المصنعة لهذه الطائرات في البلاد الأخري لمنع تصدير الأجزاء السالفة إلي مصر، رغم إلحاح تلك الشركات عليها في ذلك الوقت، لوجود فائض لديها من هذه المكونات، وحتي المواد الخام اللازمة لصناعة هذه الطائرات لم تسمح الحكومة البريطانية بتصديرها إلي مصر، بالرغم من سابق تعهدها بذلك».
«ومن ثم اضطرت اللجنة المصرية إلي اتخاذ الخطوات التالية:
1ـ فيما يختص بالمواد الخام لصناعة الطائرات، فقد تم الاتفاق مع شركة «OGA» الفرنسية، علي قيامها بتوريد الاحتياجات المصرية من هذه المواد.
2ـ أقنعت اللجنة شركة «OGA» سالفة الذكر بإمكان توريدها لمكونات (الڤامبير) إلي مصر، نظرًا لأن الأخيرة لديها ترخيص مدفوع الثمن من شركة (دي هاڤيلاند) المصممة الأصلية للطائرة بتصنيعها في مصر، إلا إنه لم يتم البت في عرض الشركة المذكورة نظرًا لبعض المشاكل المتعلقة بمحرك الطائرة، والتي كانت اللجنة (تحاول) تذليلها.
3ـ اتفقت اللجنة مع البروفسير (هاينكل) رجل صناعة الطائرات الألماني المشهور للمضي قدمًا بمشروع صناعة الطائرات المقاتلة في مصر، سواء باستكمال تصنيع (الڤامبير) البريطانية أو (المستيرال) (الڤامبير الفرنسية) عند تذليل المصاعب الخاصة بمحركات هذه الطائرات».
(19)
هكذا تصل الإرادة السياسية في عهد وزارة الوفد إلي فكرة تبني المضي بخطوات جادة في تصنيع طائرة مصرية خالصة، رغبة في تحقيق الاستقلال الوطني في هذا الميدان المهم. ولا أظن وزارة أخري غير وزارة النحاس كانت قادرة علي أن تمضي في مثل هذا السبيل.
«ويوضح تقرير اللجنة أن وزارة الحربية آنذاك، كانت تفكر في تصنيع طائرة مصرية خالصة، سواء من ناحية هيكلها أو محركها، رغبة في جعل صناعة الطائرات بمنأي عن المؤثرات الخارجية».
«وفي الوقت الذي كان يُعد فيه تقرير اللجنة، كان قد صل إلي مصر فعلًا ثلاثة من خبراء مصانع (هاينكل) لبحث إمكانيات هذه الصناعة في مصر، كما كانت اللجنة في سبيلها للتعاقد علي وجه السرعة مع شركة (هاينكل) لاستخدام خبراء ألمان في مصانع الطائرات المصرية محل البريطانيين».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
ويذكرنا الدكتور جبر علي جبر في هامش دراسته بحقيقة مهمة وهي أنه كان في مصر آنذاك مصنعان لصناعة الطائرات، أحدهما لطائرات التدريب، وقد تم إنشاؤه واستكملت احتياجاته، والآخر للطائرات المقاتلة وقد تم إنشاء الجزء الأكبر منه.
ونعود إلي ما يلخصه من نشاط اللجنة:
«وبالنسبة لتزويد القوة الجوية باحتياجاتها من الأسلحة والذخائر، فقد كانت سويسرا أحد المصادر البديلة التي اتجهت إليها جهود اللجنة، حيث يشير تقريرها إلي أنها نجحت في التعاقد مع الشركات السويسرية علي كمية لا بأس بها من الصواريخ جو/ أرض والحمالات اللازمة لها».
«ولم يقتصر نشاط اللجنة علي شراء الأسلحة والذخائر من الخارج فقد قامت بشراء الأجهزة والمعدات اللازمة لصناعة ذخائر الطائرات من عيار 20 مم والتي كانت القوة الجوية تعاني من العجز فيها من خلال الحرب عام 1948».
«ونظرًا للأهمية الكبيرة للصواريخ وصناعتها فقد تم الاتصال بأحد الخبراء الألمان بهدف الاتفاق معه علي إقامة صناعة لصواريخ الطائرات في مصر، علي ألا تقل مواصفاتها عن نظيرتها السويسرية، كما تم الاتفاق علي توفير المواد الخام اللازمة لهذه الصناعة أولًا، حتي يمكن للخبراء لألمان المضي قدمًا في صناعة الصواريخ المطلوبة».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
هكذا نري أن وزارة الوفد بذلت جهودًا قصوي من أجل التغلب علي الحصار المفروض علي تسليح القوات المصرية، وقد نجحت في كثير من هذه الجهود علي نحو ما رأينا في هذا العرض الذي لخصت به دراسة الدكتور جبر علي جبر الاستراتيجية ما كان متاحا أمامها من مصادر ومراجع.
(20)
وقد لخص الدكتور جبر علي جبر الإجراءات (والإجراءات المضادة) المتعلقة بالتسليح المصري فيما بعد إلغاء معاهدة 1936 (في أكتوبر 1951) وتدهور العلاقات الغربية مع وزارة الوفد، علي نحو جيد:
«خلال الشهور الأولي من حكم وزارة الوفد بدأت وزارة الحربية في استكمال الجهود السابقة ـ التي جرت في ظل المباحثات العسكرية ـ لتطوير ودعم القوات المسلحة المصرية. وبالنسبة للقوة الجوية، فقد تقدمت وزارة الحربية بعدة أوامر شراء للعديد من طائرات التديب من بريطانيا والولايات المتحدة، شملت صفقتين من طائرات (الهارڤارد) و(الباليول) «Balliol» للتدريب المتقدم، وأربعا وثلاثين طائرة (تشيبمنك) للتدريب الابتدائي، كما طلبت شراء ثماني طائرات (فيوري) لاستكمال سرب المقاتلات القاذفة الذي شُكل من هذا الطراز. وست طائرات (لانكستر) «Lancaster» فضلًا عن ست طائرات (سبيتفير) مزدوجة لأغراض التدريب، وعشرين طائرة سبيتفر طراز 18 لتشكيل سرب مقاتل قاذف جيد».
«وباستثناء طائرات (الهارڤارد) التي تم شراؤها من الولايات المتحدة قبل تدهور العلاقات مع حكومة الوفد، فإن الحكومة البريطانية لم توافق علي أي من أوامر الشراء الأخري التي قُدمت في عهد وزارة الوفد، كما تم إيقاف أية طائرة أو أسلحة كان يجري تسليمها من تعاقدات الوزارة السابقة».
«ولم تكتف الحكومة البريطانية بالحظر البريطاني والأمريكي الذي تم فرضه منذ صيف 1950، بل إنها طاردت الجهود المصرية لتدبير احتياجات قواتها المسلحة من الدول الأوربية، بالضغط علي هذه الدول لمنع أو إلغاء أية تعاقدات مع هذه الدول، ولعل ما حدث مع الحكومة السويسرية ـ رغم حيادها الدولي المعروف ـ خير مثال علي ذلك».
(21)
وقدم الدكتور جبر علي جبر تفصيلات مهمة عن جهود اللجنة العسكرية التي رأسها وزير الحربية المصري مصطفي نصرت في التغلب علي الضغوط الأمريكية والبريطانية علي السويسريين:
«… في جولتها الأوربية، قامت اللجنة المصرية سالفة الذكر بالتعاقد علي شراء بعض الأسلحة والمعدات من المصانع السويسرية، كان يخص السلاح الجوي منها 15120 صاروخ (أورليكون) جو/ أرض عيار 8 سم، و 1600 صاروخ من نفس الطراز 5 سم، فضلًا عن مائتين وثمانين قاذفا لهذه الصواريخ. إلا أن الحكومة السويسرية ـ تحت ضغط الحكومة البريطانية بعد إلغاء المعاهدة ـ قامت بحظر تصدير الأسلحة المتعاقد عليها، الأمر الذي استدعي إجراء ضغط مصري مضاد علي الحكومة السويسرية يتهدد مصالحها المالية. حيث قام وزير الحربية (رئيس الجنة) والسفير المصري في برن بمقابلة وزير الخارجية السويسرية وإفهامه أنه ما لم يرفع الحظر، فإن ذلك سيترتب عليه إيقاف الاتفاق التجاري بين البلدين وسحب رصيد مصر من الفرنكات السويسرية البالغ 24 مليونا من الفرنكات، لاستخدامها في شراء المعدات التي نحتاجها من البلاد الأخري، هذا فضلًا عن إلغاء العقود المبرمة فعلًا مع الشركات السويسرية وعدم الارتباط علي الأسلحة الجديدة التي نحن بسبيل التعاقد عليها، مما سيسبب خسارة كبيرة للشركات السويسرية، فضلًا عن أن هذا الحظر سيكون سببًا في سوء العلاقات الودية بين البلدين».
«وإزاء هذا التحذير للحكومة السويسرية فإنها راجعت موقفها وسمحت بتشغيل وتصدير الأسلحة والمعدات التي تم التعاقد عليها مع الشركات السويسرية».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
وهكذا انتصرت وزارة الوفد علي التعويق البريطاني وحصلت علي الأسلحة السويسرية، وجاء عهد الثورة فوجد القوات المسلحة المصرية مزودة بهذه الأسلحة السويسرية، التي أشرنا إليها في كتابنا عن عبد المنعم رياض.
(22)
وفي إطار حرص الدكتور جبر علي جبر علي استيعاب الجوانب المختلفة للقضية التي عني بدراستها فإنه يقدم ما تضمنه تقرير الملحق الجوي البريطاني في مصر عن عام 1951، وهو تقرير كاشف إلي حد بعيد عن الضغوط التي تعرضت لها وزارة الوفد في صيف 1950 فيما يتعلق بخطة تطوير القوة الجوية المصرية والأضرار التي لحقت بمصر نتيجة العداء (أو التغطرس) البريطاني، وفي هذا الصدد ينقل الدكتور جبر عن تقرير الملحق البريطاني الفقرات التالية:
«في بداية فقرة التقرير (الشهور الأولي لعام 1951) كان إمداد السلاح الجوي الملكي المصري بالمعدات البريطانية قد توقف فعلًا إلي حد كبير نتيجة للتوتر السياسي من ناحية، وصعوبة توفير المعدات المصرية، التي كانت مطلوبة في بريطانيا أو لدول منظمة شمال الأطلنطي من ناحية أخري».
«وكان هناك حظر غير رسمي علي إمداد مصر بالطائرات النفاثة واختصرت أوامر الشراء المصرية الخاصة بتسع وثلاثين طائرة (متيور)، وست وستين طائرة (ڤامبير) إلي اثنتي عشرة وسبع وعشرين طائرة علي الترتيب، ومن ثم كان السلاح الجوي الملكي المصري قادرًا فقط علي تشكيل سرب واحد من طائرات المتيور، كما أنهم ـ بسبب نقص الطيارين ـ شكلوا سربًا واحدًا من طائرات (ڤامبير)، والذي توفر له رصيد طيب من الطائرات الاحتياطية».
«كما كانت بريطانيا قادرة فقط علي تزويد مصر باثنتي عشرة طائرة (فيوري) وثلاثين (تشيبمنك) طبقًا لأمر الشراء الأصلي، وعلقت أمر الشراء الخاص بأربع وثلاثين (تشيبمنك) أخري، كما رفضت أمر شراء خاص بثماني طائرات (فيوري) إضافية، من ثم كانت أي خسارة أو إصابة في طائرات سربي (المتيور) و (الفيوري) مخصومة من قوتها الأصلية، كما تأثر التدريب الابتدائي إلي حد كبير».
«وبمضي العام توقفت الإمدادات تدريجيًا بكافة المعدات البريطانية من كل الأنواع، وبنهاية العام لم يعد السلاح الملكي المصري يتسلم أية معدات من المصادر البريطانية مباشرة».
(23)
وقد خلص الدكتور جبر علي جبر إلي تقييم الحالة التي وصل إليها السلاح الجوي المصري في نهاية وزارة الوفد، وهو تقييم ينطق بمدي نجاح وزارة الوفد رغم كل هذه المعوقات القاتلة:
«وبالرغم من الصورة الكئيبة السابقة التي قدمها الملحق الجوي البريطاني عن حالة السلاح الجوي المصري عام 1951 ـ نتيجة للحظر البريطاني والأمريكي علي تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية لمصر ـ فإنه يمكن القول إن القوة القتالية للسلاح الجوي المصري قد طرأ عليها تحسن ملحوظ بالنسبة لما كانت عليه في الشهور الأولي لعام 1949. فرغم نقص عدد طائرات الخط الأول والثاني بمقدار أربع عشرة طائرة عما كانت عليه في أثناء ذلك التاريخ، إلا أنه دخل علي تلك القوة ـ بعد الاستغناء عن الطائرات القديمة ـ اثنتان وثمانون طائرة من طرازات أكثر حداثة، منها ست وأربعون طائرة من طرازات «فيوري» و«سبيفتر 22» و«هاليفاكس» و«لانكستر» فضلًا عن ست وثلاثين طائرة مقاتلة نفاثة من طراز «ميتور» و«فامبير».
«وبالرغم من انخفاض معدلات صلاحية الطائرات، وخاصة بالنسبة للمقاتلات القاذفة والقاذفات وطائرات التدريب عن المعدلات الجيدة (85٪ ـ 90٪)، بسبب النقص الكبير في قطع الغيار والمعدات اللازمة لتنفيذ المهام، إلا أنه يمكن القول أن نسبة صلاحية الطائرات قد تحسنت نسبيًا مقارنة بما كانت عليه في عام 1949. فبينما كان عدد طائرات الخط الأول والثاني الصالحة في إبريل 1949 لا يزيد عن ست وستين طائرة أي بنسبة 44٪، فإنها وصلت في نهاية 1951 إلي ثلاث وتسعين طائرة أي بنسبة 69٪.
(24)
وقد أشار الدكتور عبد العظيم رمضان في أكثر من كتاب من كتبه، وبخاصة كتابه «القضية الفلسطينية» إلي بعض ملامح النجاح الذي حققه النحاس والوفد في تسليح الجيش المصري، وقد بلور رؤيته أن وزارة الوفد في سعيها لتسليح القوات المسلحة المصرية قامت بزيادة ميزانية وزارة الحربية، ورفع الاعتمادات المخصصة لاحتياجات القوات المسلحة بصفة عامة، والسلاح الجوي المصري بصفة خاصة.
وقد استعان الدكتور عبد العظيم رمضان بما كتبه الدكتور جبر علي جبر في تحليل ميزانية وزارة الحربية في السنتين الأخيرتين اللتين تولي فيهما الوفد الحكم، وكتب هذه الحقائق بأسلوبه التاريخي:
«… ففي ميزانية ١٩٥٠/ ١٩٥١ بلغت اعتمادات السلاح الجوي 5.176 مليون جنيه، وهو ما يعادل ١١٪ من اعتمادات وزارة الحربية خلال تلك السنة، وبزيادة 39٪ علي اعتمادات السنة السابقة، كما ارتفعت تلك الاعتمادات مرة أخري في ميزانية السنة التالية ١٩٥١/ ١٩٥٢ لتصل إلي 7.527 مليون جنيه، وهو ما يماثل 16٪ من اعتمادات وزارة الحربية، أي بزيادة 54٪ عما كان عليه في السنة المالية السابقة».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
ونحن نلاحظ أن الأرقام التي يذكرها الدكتور عبد العظيم رمضان تبدو مختلفة اختلافات طفيفة عن الأرقام التي نقلناها عن الدكتور جبر علي جبر.
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
«وبالإضافة إلي اعتمادات السلاح الجوي سالفة الذكر، اعتمدت حكومة الوفد مبلغ 1.346 مليون جنيه لإنشاء مصنع طائرات، وقد وصل بالفعل إلي مصر ثلاثة من خبراء مصانع «هاينكل» لبحث إمكانات هذه الصناعة في مصر، وكانت حكومة الوفد تزمع التعاقد مع شركة «هاينكل» لاستخدام خبراء ألمان في مصانع الطائرات المصرية محل البريطانيين!».
«وكان هدف حكومة الوفد تصنيع طائرة مصرية مقاتلة خالصة، سواء من ناحية هيكلها أو محركها، رغبة في جعل صناعة الطائرات بمنأي عن المؤثرات الخارجية، وقامت بالفعل بإنشاء مصنع لصناعة طائرات التدريب، وتم إنشاؤه، واستكملت احتياجاته، أما مصنع الطائرات المقاتلة، فقد تم إنشاء الجزء الأكبر منه».
«في الوقت نفسه كانت حكومة الوفد تسعي لشراء السلاح، وعندما امتنعت بريطانيا والولايات المتحدة عن بيع السلاح لمصر، شكل مصطفي النحاس لجنة برئاسة وزير الحربية مصطفي نصرت للبحث عن مصادر أخري».
«وقد زارت هذه اللجنة كلا من إيطاليا وسويسرا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والسويد وألمانيا وأسبانيا والبرتغال بحثا عن السلاح».
«ولما فشلت مع هذه الدول الغربية لم تتردد في الاتجاه إلي دول الكتلة الشيوعية، وكسر احتكار السلاح، وقد اتصلت بالحكومة التشيكية، التي أبدت استعدادها لتزويد مصر بما تحتاج إليه من منتجاتها الحربية من الأسلحة والدبابات والطائرات، لكنها سوفت في إجابة الطلبات المصرية منتظرة حتي ينجلي موقف مصر السياسي بالنسبة للمعسكر الغربي. ففي ذلك الحين كانت حكومة الوفد تعد لإلغاء معاهدة ١٩٣٦ من جانب واحد، بكل ما يترتب علي ذلك من فك ارتباط مصر بالغرب من الناحيتين السياسية والعسكرية، وفقدان الوجود البريطاني في مصر شرعيته الدولية».
«علي أن حكومة الوفد في ذلك الحين كانت قد تمكنت من الاتصال بأحد الخبراء الألمان، بهدف الاتفاق معه علي إقامة صناعة لصواريخ الطائرات في مصر، علي ألا تقل مواصفاتها عن نظيرتها السويسرية. كما تم الاتفاق علي توفير الخامات اللازمة لهذه الصناعة أولا، حتي يمكن للخبراء الألمان المضي في صناعة الصواريخ».
«علي أن هذه المحاولات الوفدية لتسليح الجيش المصري توقفت بعد وصول المفاوضات مع بريطانيا إلي طريق مسدود، وإعلان مصطفي النحاس باشا إلغاء معاهدة ١٩٣٦ يوم ٨ أكتوبر ١٩٥١، فانفجر الموقف في مصر، وتسارعت الأحداث، وأصبح وجود حكومة الوفد غير مرغوب فيه، لا من الإنجليز ولا من الملك فاروق، خصوصا بعد أحداث القناة وحريق القاهرة يوم 26 يناير ١٩٥٢».
وربما كان من المفيد هنا أن نورد للقارئ نص ما أعلنه النحاس باشا في ٢٨ نوفمبر ١٩٥٠ حين قال:
«لقد وطدنا العزم علي تجهيز جيشنا بالأسلحة اللازمة، وسنستورد هذه الأسلحة من أي مكان. إننا لا نضمر أي نية عدوانية لأي إنسان، لكننا في حاجة إلي استيراد الأسلحة للأغراض الدفاعية، وسنبذل جميع ما لدينا من جهد لتحقيق هذه الأهداف بالرغم من جميع العقبات التي تضعها بريطانيا في سبيلها، وبالرغم من ضغطها علي الدول التي تتعامل معها».
يشير النحاس إلي الضغوط التي مارستها إنجلترا علي إيطاليا والسويد وسويسرا حتي لا تبيع أسلحة لمصر.
(25)
ويتصل بتسليح الجيش المصري وتدريبه وصيانة معداته موقف النحاس ووزارة الوفد الأخيرة في وضع إطار أفضل للعلاقات مع الجانب البريطاني الذي كان حتي ذلك الحين بمثابة «محتكر» بالتراضي لهذه المجالات، وهو احتكار معهود في مثل حالة مصر في ذلك الحين، وقد دقت وزارة الوفد ناقوس التنبيه للبريطانيين باعتزامها التخلي عن الاستعانة بهذه الخبرات، وهو ما يعني التحول إلي التعاون مع دول أخري، بل هو ما لا يمنع ما حدث بعد ذلك في عهد الثورة، من تحول من العقيدة العسكرية الغربية إلي العقيدة العسكرية الشرقية.
وقد أوردنا في كتابنا «في رحاب العدالة» ما روي به عبد الفتاح حسن من أنه في أعقاب إلغاء معاهدة 1936، اتخذ قرارًا بالاستغناء عن الخبراء الإنجليز الذين كانوا لا يزالون يعملون في وزارة الحربية، كما قرر إيقاف البعثات إلي إنجلترا (وذلك في أثناء توليه وزارة الحربية بالنيابة)، وقد كانت لهذا الوزير الوفدي مبررات قوية لاتخاذ هذا القرار الذي كان بالإضافة إلي غيره تعبيرًا عن حالة السخط تجاه السياسة البريطانية:
«كان بوزارة الحربية تسعة عشر خبيرا إنجليزيا بمرتبات عالية، وأدركت بعد إلغاء المعاهدة أن الإنجليز لن يمدونا بطبيعة الحال بقطع غيار، ولا بخبرات، فألغيت عقود هؤلاء الخبراء، ولم أستشر أحدا في ذلك».
«وأرسلت كتابا بذلك إلي الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة، فإذا به بعد وصول الخطاب إليه يتصل بي ثائرا وهائجا ـ وكان وزيرا للحربية قبلي بسنين ـ وقال: هو أنا كاتب أرشيف في الوزارة؟ وكنت قد درست أسلوبه، فقلت له مهدئا لثورته: «فاضي أفوت عليك»، وكنت أعلم من دراستي له أن تلك الكلمة كافية لأن أعرف كيف سيتصرف، فقال لي: «أنا جاي حالا»، وحضر معه إبراهيم جزارين الضابط المختص بشئون الطيران في مكتبه، ودخلا معا مكتبي بوزارة الحربية، فقلت: تسمح أن جزارين ينتظر قليلا؟ فانصرف، وقلت لحيدر: أنت زعلان؟ قال: «جدا.. دي إهانة»، قلت: أنا وزير وفدي، ومدني، ومحامي قبل كده، ولم أرد إحراجك أو أن أفقد صداقتك، وفكرت إن أنا استشرتك إما أن توافقني فتورط نفسك معنا، وإما أن تخالفني فتكون صداقتنا هي الضحية، وتعمدت أن أتصرف دون استشارتك حتي إذا عاتبك أحد أمكنك أن تذكر ما تشاء تبريرا لموقفك أو تنديدا بموقفي».
«ولم أكد أذكر ذلك حتي هب واقفًا، وقبل رأسي، وضغط علي الجرس واستدعي إبراهيم جزارين الذي لم يكد يدخل حتي قال له الفريق محمد حيدر: إن الوزير أقنعني، وأنا مش زعلان، أنا خارج من عنده مبسوط جدا».
(26)
وقد أشار عبد الفتاح حسن نفسة باعتزاز إلي قرار «انفعالي» آخر اتخذه ردًا علي تصريح الوزير البريطاني، ومن الطريف أننا حين نقرأ الآن ما يرويه صاحب المذكرات قد نحس ببعض التحفظ تجاه هذا الموقف وما يستلزمه من تضحية ببعض العلم العسكري والارتباط بالمؤسسة العسكرية التعليمية في بريطانيا، لكن الإنصاف يقتضينا أن نشير إلي حقيقة أهم من مثل هذا التوجه، وهي أن مثل هذا التصرف كان ضروريا وجوهريًا في مثل هذا الظرف:
«… وبعد أيام سمعت ليلا إذاعة ما دار في مجلس العموم (البريطاني) من إدلاء أحد الوزراء بتصريح يفهم منه أن الجيش غير راض عن تهور الوزارة، وإقدامها علي إلغاء المعاهدة، وأشار إلي مبعوثي وزارة الحربية حاليا في معاهدهم البريطانية، ولم أكد أسمع من الإذاعة البريطانية ذلك حتي كلفت فؤاد الطودي مدير مكتب وزير الحربية في ذلك الوقت، بأن يرسل إشارة عاجلة بإعادة جميع مبعوثي وزارة الحربية إلي بلادنا في أفواج بالطائرات، وتم إرسال الإشارة فورا، ونفذ القرار فعلا، وقلت في ذلك الحين: مادام الأمر كما صوروه في مجلس العموم تعريضا بالمبعوثين لديهم سنلحق ضباطنا في أي معهد من معاهد الدنيا ما عدا إنجلترا».
ويردف عبد الفتاح حسن بأن يشير إلي حرصه علي التوظيف الإعلامي لقراره وتوجيه هذا التوظيف في خدمة القضية الوطنية:
«… وعلي إثر إرسال الإشارة إلي سفارتنا في لندن اتصلت بكامل الشناوي في الأهرام، وأمليت عليه خبرًا مؤداه أنه علم من مصدر كبير في الحربية أن جميع المبعوثين من وزارة الحربية سيعودون أفواجا بالطائرة إلي مصر ردًا علي التصريح الذي أدلي به في مجلس العموم البريطاني، ونشر التصريح في صدر الأهرام بصورة تبرزه، واتصل بي حيدر (نذكر القارئ أنه كان القائد العام للقوات المسلحة، علي حين كان عبد الفتاح حسن وزيرًا للحربية بالإنابة عن وزير الحربية الأصلي الذي كان في سفرة طويلة من أجل التعاقد علي أسلحة للجيش المصري) تليفونيا حين قرأ الخبر المنشور في الأهرام وقال: الكلام المنشور صحيح؟».
«قلت له: «أنا الذي أمليته بنفسي»، فقال: «خلاص مش حاسألك عن الأسباب.. أنا حبيت بس أعرف مين مصدر الخبر».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
هكذا نري في هذه الوقائع التي يرويها عبد الفتاح حسن عن تعامله (وهو وزير للحربية بالإنابة) مع القائد العام للقوات المسلحة (الفريق محمد حيدر رجل الملك) ما يدلنا علي أن مصر عرفت في حقبتها الليبرالية نوعًا مهمًا من التوجيه السياسي للأمور العسكرية يتضافر مع التوجيه الفني العسكري لها، وربما نتعجب اليوم لوجود مثل هذا التوجه في تاريخنا مبكرًا، وهو ما نشاهده في العالم الغربي حيث وزراء الدفاع أو الحربية في الديمقراطيات الغربية رجال سياسيون لا علاقة لهم بالرتب العسكرية علي عكس ما تعودنا عليه طيلة عهد الثورة.
وفي كل الأحوال فإن أداء النحاس فيما يتعلق بالقوات المسلحة لا يخرج عن أسلوبه الفذ في العمل الجاد من أجل بناء دولة ليبرالية قوية.