زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الحادي عشر
الفصل الحادي عشر
مؤامرة مكرم عبيد والكتاب الأسود
(1)
نتناول في هذا الفصل قصة الانشقاق الأكثر فرقعة في حياة النحاس والوفد، وهو انشقاق مكرم عبيد ثم تأليفه ونشره «الكتاب الأسود»، وسنحاول أن نستعرض بعض ما هو متاح من الأدبيات التاريخية التي تصور هذه الأزمة تصويرا كفيلا بفهمها وفهم حجمها ومدي ما يمكن لتاريخنا أن يفيده من تأمل مثل هذه التجربة.
وكالعادة فإننا نفضل أن نبدأ بنقل النصوص الرسمية المتاحة أمامنا.
كتب النحاس في كتاب استقالة وزارته الخامسة ما يؤكد به علي وقوع الخلاف بينه وبين مكرم عبيد، وأن هذا الخلاف هو سبب تقديمه لاستقالة الوزارة!!
«مولاي صاحب الجلالة»
«نظرا لما قام بيني وبين حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا وزير المالية من خلاف جوهري طال أمده، وتعددت مظاهره، وتعذر عليّ علاجه، بالرغم مما بذلته من الجهود، ولما كان هذا الخلاف قد أدي إلي استحالة استمرار التعاون بيننا، فإني أتشرف بأن أرفع إلي جلالتكم استقالة الوزارة، راجيا أن تتنازلوا بقبول أخلص عبارات ولائي، وأصدق آيات شكري علي ما غمرتموني وزملائي به إلي آخر لحظة من الثقة الغالية، والعطف السامي».
«وإني يا مولاي ما أزال الخادم الأمين لعرشكم، الوفي لشخصكم».
«القاهرة في 11 جمادي الأولي 1361 (26 مايو 1942)».
النحاس
(2)
وقد رد الملك علي كتاب النحاس بكتاب قبل فيه استقالة الوزارة وبكتاب آخر كلفه فيه بتشكيل الوزارة، وهذا هو نص الكتاب الأول:
«عزيزي مصطفي النحاس باشا»
«رفع إلينا اليوم كتاب استقالة وزارتكم للسبب الذي فصلتموه به، وإنا مع ما نشعر به من شديد الأسف علي هذا الذي حدث لا يسعنا إلا قبولها، مقدرين صدق ولائكم، وشاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما قدمتم للبلاد من جليل الخدمات».
«وأصدرنا أمرنا هذا إلي مقامكم الرفيع بذلك».
«صدر بقصر عابدين في 11 جمادي الأولي 1361 (26 مايو 1942)»
فـاروق
* * *
وهذا هو نص الكتاب الثاني:
«عزيزي مصطفي النحاس باشا»
«يسرني وقد عرفت لكم سداد الرأي، وبعد الهمة، وصدق الولاء، أن أسند إليكم رياسة مجلس وزرائنا، راجيا لكم التوفيق في ظل من التعاون والصفاء الذي أود أن يكون شعار الجميع حتي تصل سفينة البلاد في هذه الآونة العصيبة إلي شاطئ السلام».
«وقد أصدرنا أمرنا هذا إلي مقامكم الرفيع، للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض المشروع علينا، لصدور مرسومنا به».
«والله المسئول أن يوفقنا جميعا إلي ما فيه خير الوطن العزيز».
«صدر بقصر عابدين في ١١ جمادي الأولي 1361 (26 مايو ١٩٤٢)»
فـاروق
* * *
وهذا هو نص كتاب النحاس بقبول التكليف:
«… وما من شك في أن الظروف العصبية التي تواجه البلاد منذ حين، تتطلب من جميع المصريين أن يساهموا في خدمة الوطن العزيز، سواء في ذلك مَنْ كانوا في الحكم، أو خارج الحكم، في جو من الصفاء والتعاون والهدوء».
«وقد راعيت ذلك منذ تأليف وزارتي السابقة فبذلت الجهود تلو الجهود لتحقيق الصفاء والهدوء، وتيسير التعاون لجميع المصريين، مؤيدين كانوا أو معارضين».
«ولئن شاب هذا الجو شائبة أدت إلي استقالة الوزارة السابقة، إلا أن التعاون الكامل، والانسجام الشامل بين الوزراء الذين أتشرف بعرض أسمائهم علي جلالتكم يجعل مهمتي بفضل رعايتكم السامية إن شاء الله ميسرة.. موفقة».
«وستكون خطة الوزارة الجديدة في الحكم هي الخطة نفسها التي جرت عليها الوزارة السابقة من حيث أهداف الحكم الوطنية، وأساليبه الحرة المستندة إلي كريم ثقتكم، وتأييد مجلسي البرلمان».
(3)
بعد هذه النصوص الكاشفة عن الإطار الرسمي فإنه يجدر بنا أن نتأمل فيما سجله حسن يوسف علي أنه رأيه الشخصي في «الكتاب الأسود» ومعركته، ويبدو حسن يوسف في هذا الرأي الذي يبديه منصفا للحقيقة وللوفد، لكنه قبل أن يعرض ما يدل علي هذا الإنصاف يتعمد التساؤل عن السبب الذي جعل مكرم عبيد يتحاشي، في كتابه الأسود، الإشارة إلي حادث ٤ فبراير، وربما نستطيع الإجابة عن تساؤل حسن يوسف علي مستويين: المستوي الأول هو الإشارة إلي حقيقة أن وعي مكرم عبيد لم يكن ليصل إلي القدرة علي توظيف مثل هذا الحادث، ومع احترامي لقدرات مكرم عبيد الخطابية أو البلاغية أو التنظيمية فإني أري أنه كان يتمتع بعقل كبير لكنه كان أصغر من أن يحيط بالمسائل السياسية الكبري، وآية ذلك هو انسياقه التام لتحطيم ماضيه ومستقبله علي يد أحمد حسنين كما حدث في موضوع الكتاب الأسود.
(4)
أما المستوي الثاني فإني أستوحيه مما تدارسناه من مذكرات حسن يوسف في كتابنا «علي مشارف الثورة» حيث تحدث في موضع آخر عن أن الحديث عن حادث ٤ فبراير لم يبدأ إلا بعد ٣ سنوات من وقوعه، وقد أشار في موضع سابق من هذا الكتاب نقلناه عنه إلي ما أبداه كل من النحاس ومكرم في تلك الآونة المبكرة:
«… مما يستوقف النظر في موضوع هذا الكتاب (أي الكتاب الأسود) أنه خلا من الإشارة تصريحا أو تلميحا إلي حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، وقد كان مكرم باشا من أقرب المقربين إلي النحاس باشا وقتها، وكنا نطمع في أن نقف منه علي الأسباب التي حدت بالنحاس باشا إلي رفض الوزارة القومية التي عرضها عليه الملك في اجتماعات الزعماء التي تمت يومي ٣ و٤ فبراير بقصر عابدين، إذ يمكن اعتبار هذا الرفض من المآخذ علي الوفد. ولو أن النحاس باشا قبل تشكيل وزارة قومية أو وزارة ائتلافية فإن قبوله كان كفيلا بإنهاء الأزمة دون حاجة إلي الإنذار البريطاني أو محاصرة القصر بالدبابات وإرغام الملك علي قبول وزارة وفدية خالصة، ويبدو أن مكرم باشا أغفل الإشارة إلي هذا الحادث لأنه كان مستشارا أو شريكا مؤثرا فيما أدي إليه حادث ٤ فبراير من نتائج تركت آثارا بعيدة في هيبة الحكم في مصر».
(5)
ونأتي إلي ما أشار به حسن يوسف في صراحة ووضوح إلي ما عرفه بنفسه من دور واضح لحسنين باشا في إشعال الخلاف بين مكرم عبيد والنحاس باشا:
«… اغتنم رئيس الديوان هذه الفرصة وأخذ يعمل علي توسيع شقة الخلاف بين رئيس الوزراء (أي النحاس) ووزير المالية (أي مكرم عبيد)، فرتب مقابلة لمكرم باشا مع الملك يوم ٢١ مارس (أي قبل أن تمضي أربعون يوما علي تشكيل الوزارة) وخرج مكرم بعدها يقول لمندوب «الأهرام» إنه لقي من الملك «فاروق» إرشادا نافعا، واطلاعا واسعا، ونظرة دقيقة وعميقة إلي جوهر المسائل المعروضة رغم تباينها وبعد نواحيها، إلي أن قال: «لم ألبث طويلا حتي أدركت أن ملكنا الشاب قد ملك زمام الأمور بفضل ما أوتي من رجولة مبكرة، وخبرة منوعة نادرة، قلما أتيحت لملك من الملوك…».
«هذا الوصف الذي سجله مكرم يختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي رسمها النحاس باشا ومكرم باشا عن الملك للسفير البريطاني منذ سنة ١٩٣٧، وعندما تحرج الموقف في فبراير سنة ١٩٤٢».
(6)
ويذكر حسن يوسف (ولا نقول يعترف) أنه تسلم من حسنين باشا النسخة الأصلية من عريضة مكرم باشا المعروفة باسم «الكتاب الأسود»:
«سلمني حسنين باشا النسخة الأصلية من عريضة مكرم باشا يوم 29 مارس واحتفظت بها في مكتبي بالديوان إلي يوم 10 إبريل حيث أعددنا كتابا بإحالة العريضة إلي رئيس الحكومة متضمنا أهميتها لأن مقدمها عضو في البرلمان القائم ورئيس لحزب الكتلة الوفدية وكان وزيرا للمالية عدة مرات، كما كان نقيبا للمحامين أكثر من مرة وقد كلفني حسنين باشا بتسليم كتاب الديوان والعريضة إلي رئيس الحكومة، وإثباتا لقيامي بهذه المهمة دونت في مفكرتي عن هذا اليوم (10 إبريل) ما يلي:
«بأمر من معالي الرئيس (أي رئيس الديوان)، اتصلت بمنزل النحاس باشا فأجابني السكرتير ميشيل ساويرس وأخبرته بأن عندي رسالة عاجلة من رئيس الديوان إلي رئيس الحكومة لذا أطلب موعدا لتقديمها، وسأل: إلي متي سأكون بالمكتب؟ فقلت: إلي منتصف الثامنة، وإلي حوالي منتصف التاسعة لم يتصل بي ميشيل فعاودت الاتصال بمنزل الباشا فقيل لي: تفضل!».
«قابلت رفعته (أي النحاس) في مكتبه بالمنزل وكان ممسكا بورقة وقلم، وأشار إلي أنه مستعد لتلقي الرسالة، وبعد أن أبلغته تحيات معالي الباشا (أي أحمد حسنين) قلت له: إنه كلفني أن أحمل إليكم هذا الكتاب، فأخذ يتلوه بصوت عال، ثم استعرض محتويات العريضة، واعترض علي عدم ذكر الإمضاءات علي الجزء الخاص بانتخابات المحامين، كما اعترض علي إطلاق «الكتلة الوفدية» علي حزب مكرم باشا، وقال: «أنا رئيس الوفد وأنا أحاربه في استعمال هذه الصفة»، وأخيرا طلب نسخة من العريضة فوعدته باستئذان حسنين باشا في ذلك».
«وفيما بين 29 مارس و10 إبريل تمت اتصالات مكثفة بين رئيس الديوان والسفير البريطاني من جهة، وبين رئيس الديوان وزعماء المعارضة من جهة أخري».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
(7)
وقد لخص حسن يوسف محتوي الكتاب الأسود علي نحو دقيق:
«اشتمل الكتاب الأسود علي سبعة أبواب تضمنت نحو مائة مسألة أغلبها أصغر من أن يذكر.. فيما عدا خمسة اتهامات أو ستة تستحق التسجيل إلا أن مكرم باشا قصر جهده عن تأييدها بما يثبت صحتها:
«١ ـ علي سبيل المثال ذكر مكرم باشا أن نظارة النحاس باشا لوقف البدراوي كان نوعا من استغلال النفوذ، وكانت النظارة تدر عليه 1500 جنيه سنويا، والحقيقة كما وردت في إجابة الحكومة أن نظارة هذا الوقف كان معهودا بها إلي المنزلاوي بك وفي سنة ١٩٣٦ انتقلت النظارة إلي النحاس باشا، وفي سنة ١٩٣٨ قضت المحكمة الشرعية بتسليم وقف البدراوي إلي وزارة الأوقاف، ولما عاد النحاس باشا إلي الحكم في سنة ١٩٤٢ أسندت إليه النظارة من جديد. ويلاحظ أن أعيان الوقف تقع في سمنود (بلدة النحاس باشا) ولم يضار المستحقون في شيء لأن أجر النظر حق شرعي لناظر الوقف، ومن العسير اعتبار هذا استغلالا للنفوذ، فهو أقرب إلي القول المأثور: «بارك الله فيمن نفع واستنفع…».
«٢ ـ وكذلك ورد في الكتاب الأسود أن النحاس باشا عهد إلي أحد المقاولين لإنشاء طريق سمنود مقابل إسقاط دعوي أقيمت ضد هذا المقاول، ولم يستطع مكرم باشا إثبات ذلك».
«٣ ـ وعن تأجير بيت النحاس باشا في الإسكندرية ادعي مكرم باشا أن إيجاره كان ألف جنيه، وأجاب النحاس باشا بأن قيمة الإيجار لم تزد علي 500 جنيه، وقال مكرم: إن المنزل استؤجر ليكون ناديا ليليا، وإن النحاس باشا وعد صاحب الملك بتعيينه عضوا في البرلمان، ولم يقم دليل علي صحة ما ذكره مكرم باشا في كتابه الأسود».
«٤ ـ وعن موضوع إقامة النحاس باشا في عوامة أو دهبية أو باخرة مملوكة للدولة، فإن كل رؤساء الحكومة فعلوا ذلك!».
«٥ ـ وعن تبرعات أسبوع البر قال النحاس باشا: إن جمعها كان تمهيدا لطلب الإنعام علي المتبرعين بالرتب والألقاب، مع توجيه التبرعات إلي مشروعات البر والإحسان!».
«٦ـ ولعل التهم الموجهة إلي وزير الأشغال عن نقل بعض المهمات الخاصة بكوبري بنها لإصلاح عزبة الوزير، أو توصيل ترعة إلي أراضي أحد أصدقائه كانت تستحق المزيد من الإيضاح، لأن الوزارة أجابت بأن مثل هذه الأعمال كانت ضمن مشروعات الري القديمة!».
«٧ ـ وأما عن موضوع المحسوبيات والاستثناءات في تعيينات وترقيات موظفي الدولة، فتلك مسألة مألوفة في مصر في جميع العهود، ولعلها كانت أكثر عددا في الوزارات الوفدية منها في وزارات الأقلية، ويرجع ذلك إلي أن الوفد هو حزب الأغلبية ولأنه بقي بعيدا عن الحكم زمنا طويلا، فهو في العشرين سنة من ١٩٢٤ إلي ١٩٤٤ لم يتول الوزارة سوي أربع مرات، ولم يزد حكمه علي خمس سنوات».
«وقد جمع النحاس باشا إجابات الحكومة في كتاب أطلق عليه «الكتاب الأبيض» وقدمها إلي رئيس الديوان ردا علي عريضة مكرم باشا، واعتبرت الأزمة منتهية أو علي الأصح مؤجلة إلي فرصة سنحت في إبريل من السنة التالية، عندما قام رئيس الديوان بمحاولة ثانية لإقصاء النحاس باشا عن الحكم».
(8)
ومن الإنصاف أن نشير إلي أن النحاس باشا نفسه كان قد بدأ يحس بتقلب مكرم عبيد وتمرده ورغبته في الانفصال عن الوفد منذ 1938، وقد وردت في مذكرات النحاس عن ذلك العام فقرة مهمة تدلنا علي أن مكرم بدأ يسفر عن وجهه الحريص علي مصالح أخري:
«نشرت الصحف أنه تحدد لرئيس تحرير المصري دور يناير لمثوله أمام محكمة جنايات مصر دائرة عبد الرحمن الطوير لمحاكمته بتهمة العيب في الذات».
«اتصلت بمكرم وطلبت إليه أن يحضر ومعه بعض الأساتذة المحامين الذين سيتولون المرافعة في هذه القضية».
«حضر مكرم ونجيب الهلالي وصبري أبو علم ويوسف الجندي ومحمود غنام وفهمي جندية وعدة أشخاص من الأساتذة المحامين، وطرحنا مسألة الدفاع علي بساط البحث وسرعان ما فؤجئت بأن مكرم يعتذر عن الدفاع، فعجبت وسألته لماذا؟ قال لأن هذا من مصلحة المتهم إذ أنني لو حضرت للدفاع عنه لتدخلت السراي وطلبت تشديد العقوبة لأنها ستري أن هذه القضية حزبية، فقلت سواء ترافعت أو لم تترافع فهي قضية حزبية من الدرجة الأولي، وأنت الذي أمليت الأخبار التي يحاكم بسببها (الشافعي البنا) فغضب وقال أنا أمليتها لصالح الوفد لا لمصلحتي الشخصية، وطال اللجاج والنقاش فقلت له أنت ورأيك، واتفقنا علي أن يتولي الدفاع صبري أبو علم ويوسف الجندي ومحمود غنام وفهمي جندية».
«تألمت من تصرف مكرم ولم أشأ أن أثير أزمة وكتمت الأمر في نفسي».
(9)
وهذه فقرة من فقرات مذكرات النحاس باشا عن عام 1940 حسبما سجلها الأستاذ محمد كامل البنا، وفيها يبدو بوضوح شديد أن النحاس كان قد بدأ يشك في توجهات مكرم عبيد وفي طبيعة نفسيته حتي إنه سأل نفسه مستعجبًا: ما هذا الصغار؟
«اتصل بي محمود أبو الفتح صاحب المصري، وطلب مقابلتي في أمر خاص فحددت له اليوم ولما حضر، قال لي: إن رئيس تحرير المصري أخبره أن مكرم باشا عاتبه بقوة علي أنه أظهر بيان يوسف الجندي الذي ألقاه في مجلس الشيوخ بمناسبة استجواب قدم لرئيس الوزراء عن شئون التموين».
«فدهشت وقلت لمحمود (أبو الفتح): لعل رئيس التحرير بالغ أو أخطأ في فهم كلام مكرم فقال: إني كلمت مكرم باشا في هذا الخصوص فقال إنه لا يريد أن تبرز بيانات الأستاذ يوسف الجندي أكثر من اللازم حتي لا نتهم بأننا نستغل الظروف ونحمل علي الوزارة، فقلت له: هذا كلام تافه لأن مكرم يعلم اليقين أن لا منفذ لنا إلا ما يقال في البرلمان وأن المعارضة الوفدية والمستقلين من النواب والشيوخ جاهدوا جهادًا طويلًا حتي استطاعوا أن يحصلوا من رئيس الوزراء علي أن ما يقال في مجلسي البرلمان لا يتعرض له الرقيب ولا يحذف منه شيئًا، وهذه فرصتنا الوحيدة ليسمع صوتنا الرأي العام، ومع ذلك سأكلم مكرم في هذا الموضوع».
«حضر إليّ مكرم صباح اليوم وفاتحته في مسألة يوسف الجندي فقال: إنني أخشي أن تؤول العناوين الكبيرة التي ينشرها المصري والمقدمات التي يقدم بها البيانات علي أننا نتحدي الحكومة فتعدل عن موافقتها وتفرض الرقابة علي ما يقال في مجلس البرلمان. فقلت له لا، لا أظن أن شيئًا من هذا سيحصل، وإن الحكومة لو فعلت هذا لأغضبت كثيرًا من المستقلين من أنصارها، ولا يمكن أن يكون ما ينشره المصري خاصًا ببيانات يوسف الجندي أو عبد الحميد عبد الحق أو محمود غنام (عضوي مجلس النواب الوفديين) يحمل الوزارة علي أن تفعل شيئًا مما تتصوره، فسكت مكرم ولكن رأيت علي وجهه علامات الضيق مما جعلني أعجب من هذا».
(10)
ويبدأ النحاس في إدراك حقيقة أن مكرم كان يغار من يوسف الجندي، وهي الحقيقة التي اختفت في ظل الوفاة المبكرة ليوسف الجندي:
«ودار في خاطري أنه قد يكون يغار من أن يوسف الجندي يذكر اسمه كثيرًا في الصحف أكثر منه، ولكن مكرم ليس محتاجًا إلي دعاية فهو معروف بأنه سكرتير الوفد، وأنه من أكبر المعاونين لي، وأكثر الأعضاء قربًا مني، فما هذا الصغار إذًا؟».
(11)
وهذه فقرات عابرة وردت في مذكرات النحاس باشا عن عام 1941، وفيها يعقب علي بعض ما أبداه مكرم عبيد من آراء كانت تميل منذ مرحلة مبكرة إلي إيثار السلامة:
«فكرت لأول مرة في حديث مكرم لي بالأمس بعد انتهاء جلسة الوفد، ولست أدري لماذا وسوس لي الشيطان أنه ربما كتم عليَّ شيئًا وزاد في شكي أنه لم يذكر لي اسم صديقه الإنجليزي الذي حدثه، وقد فاتحت صبري في هذا الأمر حين زارني اليوم، فأكد لي أن غرض مكرم ليس إلا من قبيل الحرص علي قوة الوفد وهيبته، وأنه [أي مكرم] لا يطعن أحد في إخلاصه ولا يشك في حبه لك وحماسته لنصرة الوفد، واكتفيت بهذا وقلت لعله شيطان وسوس لي، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم».
(12)
ويتحدث النحاس باشا عن مشاعر مكرم عبيد المضطربة حين علم باختيار أحمد حمزة باشا وزيرًا التموين:
«وبدأت الصحف تكتب عن التجار الجشعين واستغلالهم الموقف وإخفائهم السلع وطلبت إلي مكرم وزير التموين أن يوقف هؤلاء عند حدهم ولكنه كان مرهقًا في إعداد ميزانية تتمشي مع مشروعات الوزارات وتستطيع أن تنفذ للوزراء ما يطلبون، فكلمته في أن يتخلي عن وزارة التموين ونبحث عن شخص كفء يتفرغ لهذه العملية ويكون مسئولًا عنها فرفض وغضب وقال أنا لم أقصر وأديرها علي أحسن وجه، فانتظرت وطالت الشكوي وعجبت ما الذي يجعل مكرم يتمسك بوزارة التموين وهو الذي وعد عند تأليف الوزارة بأنه سيشغلها مؤقتًا حتي نجد الرجل الملائم، وتعددت الشكوي ورأيت أن الشعب من حقه أن يحصل علي مطالبه خصوصًا وقد دبرنا له الأشياء الضرورية ولا ينقصه إلا عدالة التوزيع ومراقبة الأسعار».
«فاستشرت الوزراء وسألت أن يبحثوا عن شخص نزيه نظيف اليد والجيب فيه كفاءة ليتفرغ لوزارة التموين، فرشحوا لي أحمد حمزة أحد أعضاء الهيئة الوفدية ولجنة الوفد في القليوبية وسألت عنه أكثر من واحد وأكثر من جهة فأجمعوا علي أنه رجل غني يدير مزرعة للياسمين علي أحسن وجه، لديه مصنع للثلج يمون به مدينة القاهرة وضواحيها وهو يدير أعماله في نشاط ودقة وكفاءة، فضلًا عن أنه متمسك بتعاليم الدين ويحب العدل ويعطف علي الفقراء والضعفاء، فلما تأكدت من صحة هذه المعلومات رشحته وزيرًا للتموين ولم أشأ أن أجمع مجلس الوزراء حتي لا يثير مكرم زوبعة، فبعثت بالمرسوم إلي الوزراء فوقعوا عليه ثم بعثت به إلي مكرم فهاج وماج وغضب غضبًا شديدًا وجاء إليّ في عصبية يسألني لماذا اخترت هذا الرجل بالذات دون أن تستشيرني فقلت له خفف من حدتك إنك مرهق بعمل وزارة المالية ومن المصلحة العامة أن نعهد إلي واحد ليكون مسئولًا عن شئون التموين، وقد أجمع إخوانك أعضاء الوفد وزملاؤك في الوزارة علي أن أحمد حمزة نزيه وكفء ونظيف، فوقف وهو ممتقع اللون ولا يخفي استياءه وسارع في الخروج وأخذ يستفسر من الوفديين عن السر في اختيار أحمد حمزة وزيرًا للتموين، وأخذ موظفو مكتبه يشيعون أن اختيار وزير التموين انتقام من مكرم لأنه وقف في طريق طلبات غير قانونية لرئيس الوزراء وأصهاره وأسرته».
«وكانت تبلغني هذه الأنباء فلا أعيرها التفاتًا ولا أهتم بها لأن عشرتي مع مكرم والرابطة التي تربطنا سنين طويلة في المنفي والسجن والكفاح والجهاد والاضطهاد كل هذا لا يمكن أن ينسي أو يسيء إلي علاقتنا أو يقلل من رابطتنا».
(13)
وقد تحدث النحاس (في المذكرات المروية عنه) عن اللحظة الفاصلة في علاقته بمكرم عبيد حديثًا موجزًا وبسيطًا علي الرغم مما حفل به الموقف من مشاعر قاسية فقال:
«… وخاطبني أكثر من وزير في أن بعض موظفي وزارته مظلومون وأنه أرسل إلي وزير المالية مذكرة بإنصافهم فرفضها وجاءت التقارير مرة أخري تؤكد أن أتباع مكرم لا يزالون يخوضون في سيرة رئيس الوفد والوزارة وقد تعدوا إلي المسائل الخاصة، كذلك جاء بعض أعضاء الهيئة الوفدية الذين يجتمعون بمكرم في داره أكثر الليالي يتحدثون بأنه يسلقني ويسلق أسرتي وأصهاري بلسان حاد وأنه يتهمني بأني أخرجته من وزارة التموين لأنه لم يستجب لاستثناءات خطيرة طلبها منه بعض أفراد أسرتي. ويشهد الله أني ما كنت أعرف شيئًا مما يحدثني به أعضاء الهيئة الوفدية وما تحتويه التقارير التي تقدم إليَّ».
«وزاد الطين بلة أن كثيرًا من المصادر المتصلة بالقصر أخبرت أنه [أي مكرم] يجتمع بحسنين باشا اجتماعات طويلة من وراء الكواليس، وانكشف الغطاء وظهر ما كان خفيًا وأسفر عن خروجه علي هيئته وجماعته، وجاء الوزراء وأعضاء الوفد ثائرين غاضبين كيف تعرف هذا كله وتسكت عليه».
«أجبتهم: قد يكون مكرم ضيق الصدر ببعض التصرفات أو غير موافق عليها لكنه لم يصل إلي الحد الذي تقولونه وتنسبونه إليه، وقد يكون بعض الشباب الطائش الذي يتردد عليه يتكلم في المجالس كلامًا قذرًا لكن هو ليس مسئولًا عنه، قالوا لا سل بعض المقربين إليك الذين لهم به صلة ولا يزالون يزورونه من وقت إلي آخر، قلت أفصحوا، قالوا سل الحسيني زعلوك وكامل البنا وهما قريبان منك وسألتهما كلًا علي حدة، أما الحسين زعلوك فوافق علي كل ما نقل إليّ وزاد عليه بعض الكلمات، وأما البنا فقد تخلص كعادته وقال يا باشا ليس من مصلحة الوفد ولا من مصلحة البلد أن يكون بينك وبين مكرم باشا خلاف بعد هذه السنين الطويلة، وأني لم أسمع كلامًا محددًا ولكنه متألم وغاضب، وحرام أن يفرق بينكما مع أن الإنجليز بأساطيلهم لم يستطيعوا ذلك».
«وبدأت أفيق من غشاوتي وأنفض عن نفسي تراب الثقة الكبري التي وضعتها في مكرم واحتملت في سبيله وفي سبيل رضاه غضب كثير من الإخوان واستياء عدد غير قليل من الزملاء، ولكني تذرعت بالصبر وقلت لعل الله يهديه في أخر لحظة سواء السبيل ولكنه لم يهتد».
(14)
ونأتي إلي اللحظة الفاصلة التي أعلن النحاس فيها بتلقائية وزعامة أن مكرم لم يعد سكرتيرًا للوفد، ولم يعد وزيرًا للمالية.. وهي عبارة حاسمة لا تصدر بمثل هذه البساطة إلا عن النحاس باشا:
«وذات ليلة ذهبنا لحضور جلسة مجلس النواب وكان أحد نواب المعارضة قد قدم استجوابًا لأحد الوزراء وتكلم صاحب الاستجواب ووجه النقد إلي الوزير ثم أعقبه عضو ثان فانتقد الحكومة كلها ورئيسها لأنها مسئولة عن هذا التصرف مسئولية كاملة، فإذا بمكرم يطلب الكلمة فأيد صاحب الاستجواب وزميليه فيما قالاه، وسأله رئيس المجلس هل تتكلم بصفتك الشخصية أم بصفتك الحكومية، فقلت أتكلم بصفتي سكرتيرًا للوفد المصري ووزيرًا للمالية. هنا لم يبق في قوس الصبر منزع، ولا للسكوت محل فاستأذنت رئيس المجلس في أن أتكلم ووقفت وقلت بصفتي رئيسًا للوفد المصري أعلن أن معاليه لم يعد سكرتيرًا للوفد المصري، وبصفتي رئيسًا للوزراة أعلن أنه لم يعد وزيرًا للمالية وسيعرض علي حضراتكم في أول جلسة تعديل وزاري لإقراره».
«قلت هذا القول وأنا آسف جد الأسف علي أن ظني خاب في صديق العمر وتقديري أخطأ في رفيق النفي والسجن والجهاد، ولكن هدأ من عاصفة قلبي وثورة نفسي أني ما بدأته بل طاولته، ولا هاجمته بل هادنته، ولم أضق به مع تكرار اعتدائه بل احتملته حتي بلغ السيل الزبي».
(15)
وقد وصل النحاس إلي قمة انتصاره علي مكرم عبيد حين واجهه في مجلس النواب ودوي التصفيق للنحاس، حتي أشار رئيس المجلس يطلب سكوت الأعضاء، ثم ختم النحاس بيانه بقوله:
«… يُحكي أنه كان في مصر شخص يسمي مكرم عبيد بلغ من الشهرة أقصاها ومن المنزلة منتهاها، قربه رئيسه وعظمه زعيمه حتي إذا بلغ القمة وظن أن لا أحد بعده، أخذه الغرور وزين له الشيطان الغرور، فسقط من حالق محطم العقل مزعزع الفكر مضطرب أوضاع الحياة، كان في مصر شخص يسمي بهذا الاسم، فانمحي من الوجود السياسي ذلك الاسم.. رحمه الله».
(16)
أما إبراهيم فرج فقد صور خروج مكرم علي الوفد بأنه ضعف إنساني، كما أشار إلي تورط القصر في تقريب مكرم، وهو يذكر أن مكرم كان متطرفا في الحب والبغضاء، ولم يكن كأحمد ماهر يراجع نفسه في بعض الأوقات ويتحفظ في تصرفاته، ولنقرأ هذه الفقرات المهمة التي يجيب بها عن تفسيره لخروج مكرم علي الوفد فيقول:
«إنني متأسف جدا أن أقول إنه ضعف إنساني شمل بعض رجال الوفد.. وإن كان يختلف أثرا وبعدا من شخص لآخر. هذا الضعف هو الغيرة. فأحمد ماهر والنقراشي كانا يضيقان بقرب مكرم من النحاس، وكانت هذه الغيرة من أهم أسباب خروجهما علي الوفد، لأن مكرم كان يلازم النحاس، فالطريق إلي بيته كان نفس طريق النحاس لبيته، وكانا يخرجان معا ويعودان معا، وكان أحمد ماهر والنقراشي لا يعرفان ما يدور بينهما. وفي الحقيقة لم يكن يدور أي شيء يريد النحاس إخفاءه عنهما، لكن النفس البشرية ضعيفة فاستبدت بهما الظنون».
«ومكرم عبيد كان من طبعه حب الانفراد بالنحاس، ولكن عندما تزوج النحاس بدأت مواعيده وارتباطاته الاجتماعية تختلف، خاصة بعد إقالة الوزارة في سنة ١٩٣٧، وكان مكرم يريد أن يقابل النحاس باشا كل يوم، لكن النحاس أحيانا ما يكون مشغولا فلا يستطيع مقابلته، ويريد في الوقت نفسه أن يعدل في لقاءاته ومعاملته بين أعضاء الوفد جميعا فبدأت الغيرة تنتاب مكرم، ثم بدأ التمرد.. وكان هذا من أسباب خروجه علي الوفد».
«وكذلك بدأت محاولات القصر لتقريب مكرم الذي استجاب لهذه المحاولات، فكان يذهب للقصر ويدلي بالتصريحات يمتدح فيها الملك بصورة مسرفة، ولما كان النحاس يطالبه بألا يفعل ذلك كان يقول له: ما أنت كمان ساعات بتقول كده لما تروح السراي».
«فيرد عليه النحاس: أنا أقول وأختار المناسبة بوصفي رئيسا للوفد».
«ثم أوهمت السراي مكرم بأنه من الممكن أن يتولي رئاسة الوزارة، لأنه رجل كفء وشريف، وملئوا صدره بالآمال ولكنها كانت كأمل إبليس في الجنة.. وخرج مكرم من الوفد».
(17)
ويحرص إبراهيم فرج علي نفي أن يكون للسيدة زينب الوكيل أي دور مؤثر في خروج مكرم علي الوفد، وهو الأمر الذي حاولت الأوساط المكرمية الإشارة إليه والتركيز عليه ويقول:
«بالعكس كانت تتمني ألا يحدث ذلك، وكانت تقول: «كيف سأقابل عايدة»، أي زوجة مكرم، لكن النحاس كان يعرف أن الأمر انتهي لأن القصر استخدم مكرم كأداة لضربه».
ويلتفت إبراهيم فرج إلي عناصر الخبث في تدبير خروج مكرم ويقول:
«وكان القصر يعتقد أن خروج مكرم عبيد من الوفد سيحدث فتنة داخله بين المسلمين والأقباط، لكن لم يخرج معه منهم ـ أي من الأقباط ـ إلا خاصة أهله، زوج أخته وأقاربه. وحدث رد الفعل المعاكس عندما أصرت نقابة المحامين علي انتخاب كامل يوسف القبطي نقيبا للمحامين في سنة ١٩٤٢، وعين كامل صدقي وزيرا للمالية بدلًا من مكرم.. لم يحدث الانشقاق بين المسلمين والمسيحيين الذي كان رجال القصر يتوقعونه بقلوبهم المريضة».
وأكثر من هذا يقول إبراهيم فرج:
«مكرم نفسه لم يكن رجلا متدينا، وكان معروفا في المجال الديني أنه ليس قبطيا أرثوذكسيا، إذ ربما كان أبوه إنجيلي المذهب، إنما لما تزوج مكرم من السيدة عايدة كريمة مرقص باشا حنا أصرت أسرتها علي أن يكللوا وفقا لتقاليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية».
(18)
كما يروي إبراهيم فرج بعد هذا بعض ما يصور العلاقات المتوترة بين أحمد ماهر ومكرم بعدما اشترك مكرم تحت رياسة أحمد ماهر في وزارة واحدة خلفت حكم الوفد، وتدلنا هذه الوقائع المشهورة (عن خلافات مكرم مع أحمد ماهر والنقراشي) علي مدي الفشل الذي جلبه مكرم لنفسه بانخداعه في القصر وانجرافه إلي محاربة الوفد والنحاس.
«فوجئ أحمد ماهر بأن القصر أصدر أوامر مباشرة إلي مديري المديريات بأن ينجحوا مرشحي حزب الكتلة في انتخابات عام ١٩٤٥ فاحتج أحمد ماهر وقدم استقالته وقال للملك: أنا أخدمك داخل الحكم وخارجه، وبالفعل امتنع (عن) التدخل في الانتخابات».
«ولم يطل عهد مكرم عبيد معهم… فقد كان يريد أن يكون رئيس وزارة، ولم يكن في المسألة أي حرج من كونه قبطيا، لأن هناك أمثلة بطرس باشا غالي ويوسف باشا وهبة، أي لم تكن هناك صعوبات مانعة، فذهب إلي أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وقال له:
«أحمد ماهر والنقراشي اللي كانوا لا يدخلون عليّ إلا بإذن وأنا سكرتير الوفد».
المقصود من كلام مكرم أنه ـ أي مكرم ـ كان سابقا في البروتوكول والنفوذ علي أحمد ماهر والنقراشي حتي إن أحدهما لم يكن يدخل عليه وهو سكرتير الوفد إلا بعد أن يطمئن إلي مناسبة الوقت للزيارة، وهذا هو المعني.
«فقال له (أي أحمد حسنين): معلهش.. الظروف تغيرت يا مكرم باشا، أنتم الآن خرجتم كلكم من الوفد، الطبقية هذه كانت موجودة وأنتم في الوفد».
«وهكذا لم يتحمل مكرم البقاء معهم، وخرج من الحكم بعد مدة قصيرة ولم يعد إليه».
(19)
أما كريم ثابت فيشير بكل صراحة إلي الدور الذي لعبه الملك فاروق في تعضيد ونشر الكتاب الأسود وهو يصل فيما يرويه عن هذا إلي حد أنه يذكر أن الملك فاروق كان لا يخرج من قصره إلا بعد أن يحشو جيوبه بأجزاء من الكتاب الأسود:
«… ومن المعلوم أن فاروق كان يكره النحاس في ذلك الحين كرها شديدا، فحرص علي أن تصل إليه أجزاء «الكتاب الأسود» تباعا، والحبر الذي طبعت به لم يجف بعد.. وكان لا يخرج من قصره إلا بعد ما يحشو بها جيوبه فإذا جلس في مجلس خاص سأل قراء العربية من الحاضرين هل اطلعوا علي «الكتاب الأسود»، فلا يكادون يقولون إنه لم يتسن لهم الاطلاع عليه بعد حتي يخرجه من جيوبه ويطلب إليهم أن يشرعوا في قراءته فورا!».
«ولم يكتف فاروق بذلك، بل أمر بعض مترجمي الديوان الملكي بترجمة «الكتاب الأسود» إلي الفرنسية والإنجليزية.. ليضع الترجمة تحت تصرف الذين لا يعرفون العربية».
«ودأب علي هذه الخطة نفسها في كل ما كان يصل إليه من نشرات سرّية ضد الوزارة النحاسية، وكان يوزعها بيده في جميع مجالسه الخصوصية!».
(20)
ومن الطريف بعد هذا أن يلتفت كريم ثابت إلي المفارقة في أن يقوم ملك دستوري بنفسه بتوزيع مطبوعات سرية ضد حكومته الدستورية:
«ولعله كان أول «ملك دستوري» في العالم اشترك في توزيع مطبوعات سرية مناوئة لحكومته!!».
(21)
وفي رأيي أن جزءًا كبيرًا من جاذبية الحديث عن الكتاب الأسود يعود إلي عناصر التشويق في إصداره وفي فكرته لا إلي موضوعه أو إلي محتواه. وقد مضت الأيام حتي أصبح الحديث عن المخالفات التي حصرها الكتاب الأسود مضرب المثل للمخلفات الهينة، التي تدل في أذهان العامة علي النزاهة بأكثر من دلالتها علي الفساد، ذلك أن هذا «العدو» أجهد نفسه فلم يجد إلا هذه المخالفات مع كل ترصده وبحثه الدءوب.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فمما تجدر الإشارة إليه أن أحد أقطاب النشر في مصر كان سعيدا في نهاية السبعينيات أنه سينشر الكتاب الأسود، وقد ظننت ساعتئذ أن هذا الكتاب الذي قرأنا عنه سيحوي شيئا ذا بال، أو سيحرك مياها راكدة، فإذا بمعظم نسخ الكتاب تخرج من المطابع إلي المخازن بعد فترة طويلة من عرضه والطنطنة له، دون أن يهتم به أحد، وإذا بمن يتصفحه يعجب من أن يكون مثل هذا الكتاب موضوعا لمعركة أو لحديث.
ومع هذا فإن الذين يحبون مهاجمة النحاس والوفد لا يفتئون يكررون الحديث عن الكتاب الأسود، وعما حوي من وقائع أثارت الضجة.
(22)
ثم إن كثيرين لا يزالون يتساءلون عن السبب الذي جعل النحاس لا يحيل مكرم عبيد إلي النيابة بتهمة السب والقذف، ومن الطريف أن النحاس نفسه قد رد علي مثل هذا التساؤل مبكرا ردا بليغا وجميلا دل دلالة واضحة علي مدي ما كان يتمتع به هذا الرجل من روح رجل الدولة ذي الطراز النادر، وقد أعجبت بكل ما في هذا الرد من تصور كامل لمدي المسئولية الإدارية والسياسية، وعمق هذه المسئولية، وكنت أحس وأنا أقرأ تفصيلات هذا الرد أني أواجه عقلية طبيب مسئول عن حياة المريض الذي يجري له الجراحة، لا عن المرض الذي يعالجه فحسب، بل كنت أحس أن هذا الزعيم قد تعدي دور الجراح إلي دور الأب الجراح الذي يجري الجراحة لابنه هو، وقد أعجبني ما وصف به الدكتور عبد العظيم رمضان رد النحاس من أنه كان بمثابة «درس في الإدارة العامة».
وعلي كل الأحوال فمن المفيد أن نلخص للقراء هذا الرد البليغ:
«في البداية أوضح النحاس باشا أن المادة 66 من الدستور المصري تنص علي «أن لمجلس النواب وحده حق اتهام الوزراء فيما يقع منهم من الجرائم في تأدية وظائفهم»، وأشار إلي أن تخويل مجلس النواب وحده حق اتهام الوزراء يستتبع أن قواعد الإجراءات الجنائية لا تتبع في هذا الصدد، فلا يكون للنيابة العمومية الحق في مباشرة الدعوي الجنائية من تلقاء نفسها، أو بناء علي شكوي يتقدم بها أحد الأفراد، كذلك لا يكون للأفراد الحق في رفع دعوي الجنحة المباشرة، وهكذا فإنه إذا آثر الوزير الذي أسندت إليه جرائم اتهم بارتكابها في أثناء تأدية وظيفته، رفع الأمر إلي المحاكم العادية متهما مهاجميه بالقذف، بدلًا من الاتجاه إلي البرلمان، يكون قد خالف روح الدستور، لأن تقديم القاذف إلي النيابة العمومية والسلطة القضائية العليا من شأنه سلب البرلمان حقه في الرقابة علي أعمال الوزراء، وتفويت الأغراض التي توخاها الدستور من تقرير نظام خاص لاتهامهم ومحاكمتهم».
* * *
وقد بني النحاس باشا علي هذا الفهم القانوني موقفه الذي عبر عنه بقوله:
«ما كان لي ولا لغيري أن يخرج علي حكم الدستور، فينقل اختصاص البرلمان إلي القضاء».
(23)
وقد كان النحاس من الذكاء بحيث أجاد تصوير الأمور لو أنها سارت في الطريق السهل الذي يعتقد بعض الكتاب أنه أولي بالموضوع، بأن تحول المسائل إلي القضاء للفصل فيها فقال: «وإذا جاز لمجرد إقدام كاتب، أيا كانت صفته، علي اتهام وزارة في تصرف من تصرفاتها، إذا جاز رفع الأمر فورا إلي القضاء، توصلا إلي القول بأنه متي رفع الأمر إلي القضاء وجب تنحي الوزارة الحائزة علي ثقة البرلمان بمجلسيه، حتي لا يؤثر قيامها في سير التحقيق، أليس معني هذا أن تصبح الوزارة مسئولة، لا أمام البرلمان، ولا أمام القضاء، بل أمام كل قاذف وطاعن، حيث تهيأ له لمجرد أنه كتب أو كذب أو افتري، أو قذف، أن يصل إلي تخلي ممثلي الأغلبية عن كراسي المسئولية».
«ماذا يكون مصير الحكم في البلاد إذا تم هذا وجاءت وزارة ثانية فاتهمها نفس الكاتب، أو أي كاتب آخر ورماها بإفك جديد، ألا يجب عليها هي الأخري، أخذا بهذه الخطة، تبليغ القضاء والاستقالة لترك القضاء حرا؟ وهكذا لا يكون الحكم في البلاد للأمة مصدر السلطات، ولا للبرلمان الرقيب علي الوزارات، ولا للوزارات المسئولة أمام البرلمان، وإنما يكون الحكم للقاذفين، والمفترين، وأصحاب الأهواء من الكاذبين والطاعنين، فهل هذا هو المصير الدستوري الذي تريد المعارضة أن تصل بالبلاد إليه؟».
وقد سارع النحاس بالتعقيب علي السؤال الذي طرحه فقال:
«إني لأربأ بوطنيتي أن أساهم في الوصول بالبلاد إلي مصير كهذا».
(24)
وهكذا أبدت وزارة النحاس استعدادها لأن تناقش في البرلمان كل ما جاء في الكتاب الأسود، وأعلنت أنها ترحب بكل سؤال أو استجواب يُقدم في البرلمان لهذا الغرض، سواء من مكرم باشا أو من غيره من المعارضين، والمؤيدين، ولما لم يتقدم مكرم عبيد باشا أوحت الحكومة لأنصارها بتقديم الأسئلة عن الوقائع التي وردت في الكتاب، وأخذ الوزراء يجيبون عنها، ثم إن النحاس لم يكتف بذلك، وإنما حرص علي إصدار ما سمي بالكتاب الأبيض (أصدرته حكومة الوفد عام ١٩٤٣)، وقد ضمنه جميع بيانات الحكومة، وقرارات مجلسي البرلمان بشأن الأسئلة والاستجوابات عما ورد بالكتاب الأسود، وما يتعلق به من مسائل سبق إثارتها في مجلسي البرلمان.
وعلي الرغم من هذا كله فإن الضوضاء التي أحاطت بإصدار مكرم عبيد لكتابه الأسود لا تزال محتفظة بطنينها، وإن فقدت مصداقيتها وتأثيرها مبكرا.
(25)
وتنفرد مذكرات صلاح الشاهد بما استنتجه أو ظنه من أن مكرم عبيد كان يفكر في العودة إلي أحضان الوفد بعدما لقي ما لاقاه من إهمال القصر وتعنته معه:
«… لقد أدرك مكرم باشا هذه الزلة بعد أن تعاون مع أحمد حسنين باشا وأحزاب الأقلية سنوات، فعندما توفي المرحوم صبري أبو علم باشا سكرتير الوفد المصري الذي خلف مكرم باشا، شوهد مكرم باشا يقبل النحاس باشا في سرادق العزاء».
«فهل كان المرحوم مكرم باشا يأمل أن تعود العلاقات بينه وبين النحاس باشا، ويعود سكرتيرا عاما للوفد؟».
«وقد اشتهر عن مكرم باشا أنه بعد انتخابات 1945 التي لم يتقارب حزبه «الكتلة الوفدية» في مقاعد مجلس النواب من حصة حزب السعديين وحزب الأحرار الدستوريين، أنه قال: «لقد أقمت هذا النظام وعليَّ أن أهدمه».
(26)
وربما كان من حق القارئ علينا بعد كل هذا أن نطلعه علي هذا الزجل المعبر الذي لخص به الأديب العظيم الدكتور سعيد عبده أزمة مكرم عبيد مع النحاس، ونحن ننقله عن نص أوردته سناء البيسي في فصل لها عن النحاس في كتابها «سيرة الحبايب».
كتب الدكتور سعيد عبده هذا الزجل في باب كان يحرر في مجلة أخر ساعة ويرسمه الفنان صاروخان بعد عرض فيلم «فاطمة» الذي لعبت بطولته أم كلثوم. وقد كتبه سعيد عبده علي نمط أغنية أم كلثوم في الفيلم «ح أقابله بكره وبعد بكره».. وفيه يغني مكرم عبيد علي العود تحت صورة النحاس:
«ح أبوســــه بكـــره وبعـــد بكـــره
وبعـــد بعــــده أبـوســــــه بكـــره
ح أبـــوســـــــــــــــه بـكــــــره
* * *
يـا كـتلة هيـصي ح أبـوس عــريـسـي
صـفـصف رئيـسي في شفـايفه بكــره
أقــول لـه أهـلًا يقــول لـي مـهــــلًا
ولمــا أبـوســــه أقـــول لــه بـكــره
ح أبـــوســـــــــــــــه بـكــــــره
* * *
يـا قـلبـي جـالـك ســواد كــتــابـك
واللـي جـرالـك عـمـره مـا يجـــري
ح ارجــع لعــهـده وامـدح عـوايــده
وادخـل فـي وفــده فـي العمر مـــرة
مـا دام يـا قـلبـي حتبوسـه بـكـــــره
* * *
ح اقـعـد لـوحـدي في الكتلة بـكــره
أغـسـل عـنـيــه واحــط قـطــــــرة
أنـا حــر أعــشـق وحــر أكـــــــره
الـليلـة أحـبـه وأحـــاربـه بـكـــــره
ح أبـــوســـــــــــــــه بـكــــــره
* * *
يـا ريـت يـا قلبـي فـي كـل قـبــــلـة
تيـجـي اسـتـقـالـة مـن عـضـو كـتلة
يـا نجــيب هـلالـي يـا فــؤاد غـالـي
قــولوا لرئيـسي راح أبـوسـه بـكــره
والعـمـــر كـلـه يهنــا لنــا بــكــره