زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الثامن
الباب الثالث
اكتمال نجم النحاس
الفصل الثامن
النحاس وبداية عهد فاروق
(1)
ونمضي مع تاريخ النحاس باشا وحياته وإنجازاته إلي عهد الملك فاروق وما بدأ به هذا العهد من شعبية طاغية للملك الشاب صنعها علي ماهر وغيره، وبذل القصر وأجهزته وحلفاؤه من أجلها كل جهد ممكن.
وعلي الرغم من الشعبية التي تمتع بها الملك فاروق في بداية عهده، فإن النحاس باشا لم يتخوف من مثل هذه الشعبية الطاغية ولم يتأثر بها، ولم يحاول أن يكون رده عليها من نوع رد الفعل، وإنما مضي علي نحو ما كان يسير في طريقه الذي اختطه لنفسه دون أن يهتز، وفضلا عن هذا فإنه لم يجد نفسه في حاجة إلي أن يرحب بالأفكار التي بدت في ظاهرها وكأنها من الإسلام أو ذات علاقة بالدين من قبيل محاولة تنصيب فاروق بطريقة يشترك فيها شيخ الأزهر علي نحو ما يجري في بعض الدول الأوروبية التي فيها يتسلم الملك تاجه من البابا، وعلي الرغم من الإعلان المكثف عن خطة الاحتفال هذه والاحتفاء بها والإلحاح عليها فإن النحاس باشا لم يفرط في المنهج الدستوري للسلطة وتحديدها، ولم يكن علي استعداد لأي قدر من المجاملة في مثل هذه الفكرة، وقال بوضوح: «إن هذا إقحام للدين فيما ليس من شئونه، والإسلام لا يعرف سلطة روحية، وليس بعد الرسل وساطة بين الله وعباده».
وأضاف النحاس في ذلك العصر المبكر:
«إنه ليس أحرص مني ولا من الحكومة التي أتشرف برئاستها علي احترام الإسلام، وتنزيهه، كما أنه ليس أحرص مني علي الالتزام بأحكام الدستور، ولكن الاحتفال بمباشرة جلالة الملك لسلطته الدستورية شيء آخر، فهو مجال وطني يجب أن يتباري فيه سائر المصريين مسلمين وغير مسلمين».
(2)
وقد شهدت وزارتا النحاس في عهد الوصاية وبداية عهد الملك فاروق (أغسطس 1936 ـ ديسمبر 1937) درجات متعددة ومتوالية من استفزازات القصر الملكي، وتنظر الأدبيات التاريخية إلي علي ماهر مستشار الملك الأول في ذلك الوقت باعتباره مسئولا عن هذه الاستفزازات والافتئاتات علي حقوق الوزارة الديمقراطية، وقد أشرنا إلي كثير من هذه الأحداث في كتابنا عن «علي ماهر ونهاية عصر الليبرالية في مصر»، وليس في وسعنا أن نكرر هنا ما هو متاح في ذلك الكتاب.
(3)
وسرعان ما أكد النحاس قدرته علي الاستحواذ علي سلطات الحكم الدستورية وعدم تمكين القصر منها تحت أي مظلة، وقد بلغت ذروة تمسك مصطفي النحاس بحقه الدستوري أنه اعترض علي الملك فاروق سنة ١٩٣٧ في تعيين مهندس كهربائي بالقصر دون استئذان الوزارة قائلا:
«إن هذا التعيين أمر لا يملكه الملك إنما هو حق الوزارة دون سواها كما يقضي بذلك الدستور».
(4)
وقد كان الأستاذ محمد التابعي من أوائل الذين تناولوا العلاقة بين القصر والوفد بالتحليل والنقد في مرحلة مبكرة جدا من عهد الملك فاروق، وقد كتب في مجلة «آخر ساعة» في 15 نوڤمبر سنة 1936 مقترحا إجراء تسوية أخري مع القصر، علي غرار المعاهدة التي عقدها النحاس باشا مع الإنجليز، علي أن تحدد فيها بشكل واضح ما هي حقوق العرش، وما هي حقوق الأمة، وجعل عنوانه: «تعالوا نتفق علي ما لله وما لقيصر، قبل أن نستقبل العهد الجديد»:
«اليوم أو غدا تبرم المعاهدة، ويتأكد استقلال مصر، أو بعبارة أخري ينتقل استقلالها من دائرة النظريات والفروض، إلي دائرة الحقائق العملية، وتصبح في مصر سلطتان لا ثالث لهما: سلطة الأمة، وسلطة العرش، وتزول سلطة القصر في الدوبارة وسلطان فخامة المندوب، ومعني هذا أن يبدأ في مصر عهد جديد، الكلمة الأولي فيه لمصر والمصريين، والخير في أن يعرف الفرد ما له وما عليه، وأن تلتزم كل سلطة حدها لا تتعداه، والشر في أن تختلف السلطات حول ما لله وما لقيصر، ويفتح باب الدسائس علي مصراعيه، وتصرف الهمم عن أسباب الإصلاح إلي أسباب الشقاق والعراك، ويوقف العمل الجديد، حتي يصفي حساب القديم، والحساب القديم حكايته معروفة: ما هي حقوق العرش، وما هي حقوق الوزارة وحقوق البرلمان؟ وكان اختلاف وجهات النظر سببا أصيلا من أسباب عدم الاستقرار، وأقول: «عدم الاستقرار» حتي لا أندرج إلي الكلام عن الانقلابات السياسية العديدة، والضربات التي نزلت بالدستور والبرلمان، فهل هناك اليوم مصلحة لأحد في أن تظل قائمة أسباب هذا الخلاف؟ وأن تستغل عند اللزوم؟ وأن تقسم قوي مصر ويعطل نشاطها وتصرفها عن النهوض بأعباء العهد الجديد، لا لسبب إلا لأن حقوق العرش لم تحدد، وحقوق الأمة لم تحدد، أو حددت في هذه وتلك تحديدا لم يقره الطرفان، ولم يرض به الطرفان، ومن هنا كان سبب الخلاف؟ تعالوا نتفق علي ما لله وما لقيصر، ثم نوجه جهودنا ونستقبل العهد الجديد..».
(5)
وهذا هو بعض ما تضمنته الكتب المتبادلة بين النحاس والملك فاروق عند تشكيل أولي وزارات عهد فاروق، وهي وزارة النحاس في نهاية يوليو 1937:
«مولاي صاحب الجلالة»
«الآن وقد باشرت جلالتكم بنعمة الله وتوفيقه سلطتكم الدستورية، أتشرف بأن أرفع إلي سدتكم العلية استقالة الوزارة التي أسند إليّ شرف رياستها، حتي يتسني لجلالتكم أن تعهدوا بتأليف الوزارة إلي مَنْ تولونه سامي رعايتكم، وتحبونه بثقتكم».
«وإني يا مولاي سأظل علي الدوام الخادم الأمين لعرشكم، الوفي لشخصكم».
«القاهرة في 23 جمادي الأولي سنة 1356 (31 يوليو 1937)»
مصطفي النحاس
* * *
«عزيزي مصطفي النحاس»
«اطلعنا علي كتاب الاستقالة المرفوع إلينا منكم اليوم، وإنا لمقدرون أحسن التقدير عظيم إخلاصكم، وثمرات جهودكم، وشاكرون لكم ولحضرات زملائكم ما أديتم للبلاد من خدمات جليلة وأعمال مجيدة».
«وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع بذلك».
«صدر بسراي عابدين في 23 جمادي الأولي سنة 1356 (31 يوليو 1937)»
فاروق
* * *
«عزيزي مصطفي النحاس باشا»
«إني وقد حملت الأمانة التي عهد الله بها إليّ معتمدا عليه سبحانه وتعالي لأجد فيكم، وقد أحرزتم الثقة الكبري بعظيم إخلاصكم وولائكم، وصادق وطنيتكم، وقدمتم تلك الخدمات المجيدة بحسن جهادكم، وسداد رأيكم، وثبات عزمكم، ذلكم الذي نوليه مهام الدولة فنعهد إليه برياسة مجلس وزرائنا».
«وإنا لعلي يقين أنكم بواسع خبرتكم، وسمو تدبيركم ستواصلون جهودكم الموفقة بمعاونة مَنْ تختارونهم علي تحقيق أماني ورغائبي في إسعاد شعبي الذي أشربت حبه، ووقفت حياتي علي رقيه ورفاهيته، إذ لا هناءة لي إلا بهناءته».
«وقد أصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض المشروع علينا لصدور مرسومنا به».
«والله ولينا، وهو نعم المولي ونعم النصير».
«صدر بسراي عابدين في 24 جمادي الأولي سنة 1356 (أول أغسطس ١٩٣٧)»
فاروق
(6)
وينظر كثير من المؤرخين إلي قرار الملك فاروق بتعيين علي ماهر رئيسا للديوان في أكتوبر ١٩٣٧ علي أنه كان بمثابة إعلان حرب من الملك علي النحاس والوفد، وقد لجأ النحاس كعادته إلي القانون يحتكم إليه ويتصرف من خلاله، وطلب من الملك فاروق إلغاء المراسيم التي صدرت في ظروف استثنائية وأنشأت أوضاعا استثنائية للقصر:
وأولها: المرسوم الذي صدر في أعقاب النكسة التي أعقبت مقتل السردار، واستصدرته وزارة زيوار باشا، قاضيا بأن يكون تعيين موظفي القصر والديوان الملكي بأوامر يصدرها الملك، كما أعاد النحاس طلب إنشاء وزارة القصر.
كما طلب إلغاء المرسوم الصادر في صيف عام ١٩٣٠ الذي يقضي بأن تكون إحالة كبار الموظفين إلي المعاش بمراسيم.
وطلب كذلك أن يقتصر حق الملك في تعيين الموظفين الذين يعينون بمراسيم علي التوقيع.
وأوضح النحاس إصراره التام علي أن يكون أداء الملك لوظيفته من خلال وزارته، وأن يكون الأساس الذي تحال به الموضوعات الأخري وأمثالها أساس واحد: وهو ارتفاع الملك عن المسئوليات، ووضعها كلها علي عاتق الوزارة، مستشهدا بأن المذكرة الرسمية الصادرة من وزير الحقانية مع الدستور اعتبرت الوزارة مسئولة عن جميع أعمال الملك بما فيه تصريحاته السياسية.
(7)
والواقع أن علي ماهر كثف جهوده في هذه الفترة لمحاربة الوفد والنحاس، وقد أشرنا بالتفصيل إلي آلياته المتعددة في هذه الفترة في كتابنا «علي ماهر»، ونضيف هنا ما رواه أحمد حسين زعيم مصر الفتاة (حليف علي ماهر باشا في تلك الفترة 1937 ـ 1938) من أن منزل علي ماهر باشا قد تحول إلي معسكر يعمل لتوجيه الضربات للوفديين والنحاس باشا.
وهذا هو نص عباراته:
«… فكان (أي علي ماهر) يستقبل كبار الموظفين، فله فيهم بعض أصدقاء، أو قل صنائع، وكانوا يمدونه بأسرار الحكومة (أي الوزارة الوفدية)، ما جري وما سيجري، وكان بعض النواب من جميع الهيئات يتصلون به كذلك ويسرون له بعض ما يجري بين جدران هيئاتهم، وكان علي ماهر يسمع من هؤلاء وهؤلاء، ثم يذيع ما يسمع هنا وهناك، ويتصل بالصحفيين ويقربهم إليه، ويفضي إليهم بالمعلومات، ويدفعهم إلي كتابتها لتنال بذلك من حكومة الوفد، فما من فضيحة عرفت عن حكومة الوفد إلا وكان علمها يصل إليه، وكان يغذي كل فريق من خصوم الوفد بما يعرف أنه يذكي حماسته في الهجوم علي الوفد، وهكذا كان علي باشا ماهر يعمل بالليل والنهار متعقبا الوفد، متظاهرا بالغيرة والوطنية والتطرف».
(8)
علي أن أهم الأحداث السياسية في أولي فترات حكم الملك فاروق كان هو خروج أحمد ماهر والنقراشي علي زعامة النحاس باشا، وهو الخروج الذي يشخصه بعض الكتاب علي أنه كان مجرد شرخ فحسب، ويشخصه بعضهم الآخر علي أنه كان انشقاقا، ويشخصه البعض الثالث علي أنه أهم الانشقاقات التي حدثت في فترة زعامة النحاس باشا للوفد.
ومع اعترافنا بدور القصر في إحداث هذا الانشقاق، ومع وعينا الكامل للدور الذي لعبه علي ماهر نفسه في التعجيل بهذا الانشقاق، فإننا نراه أمرا طبيعيا في ظل فهمنا للنفس البشرية من ناحية، وفهمنا للحياة الديمقراطية من ناحية أخري.
ولعل هذا هو ما يدفعنا إلي أن ندرس هذا الانشقاق علي نحو ما حدث بالفعل، لا علي نحو ما صُور فيما بعد، ومن الطريف أن الانشقاق بدأ بالنقراشي، ثم جاء انشقاق أحمد ماهر في مرحلة تالية.
ونبدأ بالانشقاق الذي تم أولا وهو انشقاق النقراشي:
من الشائع أن فصل النقراشي من الوفد كان بسبب موقفه المساند لمحمود غالب باشا من مشروع توليد الكهرباء، بينما الحقيقة أن فصل النقراشي باشا من الوزارة ثم من الوفد لا يعود إلي موقفه من هذا النزاع فحسب، وإنما يعود لأسباب أخري كثيرة، ومنها مواقف أخري كثيرة سابقة علي موقفه من المشروع، وأخري لاحقة له.
ومن الجدير بالذكر أن الصحف المعارضة للوفد والمؤيدة للنقراشي باشا لم تذكر من بين أسباب الخلاف التي أدت إلي إخراج النقراشي باشا من الوزارة موقفه من مشروع توليد الكهرباء، بل إن النقراشي باشا نفسه لم يجعل من قضية نزاهة الحكم (التي صورت فيما بعد علي أنها السبب في الانشقاق) ميدانا للمعركة بينه وبين الوفد، كما فعل محمود غالب باشا، وإنما اختار النقراشي باشا قضيتين أخريين (مهمتين) لتدور حولهما المعركة بينه وبين النحاس باشا، وهما: قضية الزعامة المقدسة، وقضية القمصان الزرقاء، وهما قضيتان تتعلقان بحرية الرأي.
(9)
وقد ظلت الخطب السياسية العامة بمثابة الميدان الأول والمفضل للمواجهة بين النحاس والنقراشي، وقد دارت هذه المواجهة في أكثر من خطبة وأكثر من مناسبة، ولم تكن حاسمة كالمواجهة التالية مع أحمد ماهر باشا التي تمت إحداثها علي مسرح الهيئة الوفدية في جلسة واحدة مطولة.
وقد وصل النحاس باشا إلي إعلان الحرب الصريحة علي النقراشي باشا في خطاب تاريخي بالإسكندرية قال فيه:
«قامت شراذم من هنا ومن هناك، يعبثون بالوحدة المقدسة، ويقولون: كيف لا يؤخذ النقراشي في الوزارة؟ إذا كان النقراشي يفرض علي مصطفي النحاس، فلا كان مصطفي النحاس».
ثم أكد النحاس هذا المعني ذاته في الكلمة التي ألقاها في طنطا يوم ١٠ سبتمبر ١٩٣٧ فقال:
«ما كنت في يوم من الأيام رئيس حزب أو هيئة، بل زعيم أمة بأسرها، مَنْ خرج عليها صبت عليه غضبها، ومن وقف في طريقها كان كمن يقف أمام التيار الجارف يكتسحه، فيلقيه في قاع اليم، فلا يجد لنفسه مخرجا، ولا إلي الحياة طريقا».
(10)
وتحفل مذكرات النحاس باشا التي رواها محمد كامل البنا بالحديث عن العنت المتكرر الذي لقيه هذا الزعيم الكبير من صديقه وزميله النقراشي باشا، وقد كان النقراشي علي خلاف دائم مع مكرم عبيد باشا، ثم كان علي خلاف دائم وجديد مع أحمد نجيب الهلالي باشا، وقد عاني النحاس الأمرين من خلافات النقراشي واندفاعاته في الخصومة، وإن كانت مذكرات النحاس قد أجادت إلي حد فائق تصوير هذه الاندفاعات والخصومات، وتصوير صبر النحاس باشا عليها.. وهذا نموذج لأحد مواقف النقراشي حسبما روته مذكرات النحاس:
«… لم يكد يبدأ اجتماع الوفد للنظر في ترشيحات مجلس النواب حتي فاجأنا النقراشي بمعركة عنيفة حين عرضت ترشيح أحمد نجيب الهلالي لدائرة المطرية دقهلية، وقال في ثورة، لا يمكن أن يرشح الهلالي أبدًا لأنه قاتل، سألته: من قتل؟ فقال لقد قتل أمين لطفي، فأجبت أن أمين لطفي مات ميتة طبيعية ولم يطعن أو يصب برصاصة فقال في حدة لقد قتله إذ رفض أن يعينه وكيلًا لوزارة المعارف فأعتل الرجل غمًا ومات، فأجبت بأننا اتفقنا علي ترشيح أعضاء وزارة نسيم باشا والهلالي واحدًا منهم، ولا يليق أن نسحب كلمتنا، واحتدم النقاش بين الأعضاء، وكان النقراشي يستفز مكرم بالذات ويتهمه بأنه وراء ترشيح الهلالي».
«… وامتنع أحمد ماهر عن إبداء الرأي، وخرج النقراشي إثر هذا القرار ساخطًا غاضبًا وصعد إلي الطابق العلوي حيث قابل أم المصريين وشكا لها، وبعد انتهاء الاجتماع طلبتني أم المصريين فصعدت إليها ومعي مكرم وقالت مظهرة الألم إن النقراشي يشكو من أنكم احتددتم عليه في المناقشة ووجهتم إليه ألفاظًا غير لائقة وأنا لا أحب لأبناء سعد هذا، وسبق أن قلت لكم يا باشا إنكم جميعًا أبنائي، فأجبتها وأنا أكظم غيظي «ضربني وبكي وسبقني واشتكي»، إن النقراشي هو الذي احتد علي مكرم ووجه إليه كلمات غير لائقة، ولما رأيت الأمر طال عرضت علي الأعضاء أن يبدوا الرأي فوافقوا جميعًا ما عداه علي ترشيح الهلالي نائبًا وامتنع أحمد ماهر عن إبداء الرأي وانتهت المسألة عند هذا الحد، وإني كثيرًا ما أري من النقراشي تصرفات غير لائقة وأتجاوز عنها محافظة علي وحدة الصف، ولا يصح لرجل في مثل سن النقراشي وثقافته وماضيه أن يشكو إليك ويضايقك كل يوم بهذه الصغائر. وقال مكرم: يا دولة الهانم إن النقراشي عرّض بي أكثر من مرة وتحداني وأغري بي العقاد وصحيفة روزاليوسف ليحملوا عليّ حملات مكذوبة مغرضة وأنا أسكت علي هذا كله وأراعي دائمًا أننا أبناؤك وأبناء سعد، ويظهر أن النقراشي يستغل عطفك عليه في السنين الأخيرة نظرًا لصلة النسب التي تربط بينكما ويدخل المسائل العامة في المسائل الخاصة وهذا لا يليق، ولا أظنك وأنت أمنا جميعًا وشريكة سعد في الجهاد وتعرفين أكثر من غيرك منزلتنا من سعد، تقبلين أن توجه لي كل يوم إهانات واتهامات، وأن يحاول النقراشي أحداث ثغرة في الوفد لم يستطع الإنجليز بأسطولهم ولا القصر الملكي بماله وسلطانه أن يحدثها، ونحن لم ننل ما نلناه من ثقة المواطنين والتفاف الشعب حاول مبادئ سعد إلا بوحدتنا واجتماعنا، فقالت أم المصريين موجهة الخطاب إلي: يا باشا حاول أن ترضي النقراشي فأنت تعلم أنه عزيز عليّ وكلهم أبنائي فقلت لها إني أحاول بقدر المستطاع وإن شاء الله لن يحصل إلا كل خير».
(11)
وهذا هو ما ترويه المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا عن انفعالات النقراشي في المرحلة السابقة علي تشكيل وزارة الوفد في 1936:
«وصل إليّ كتاب تأليف الوزارة فدعوت الوفد في الحال للاجتماع لترشيح الوزراء ووضع برنامج الوزارة، اجتمع الوفد، وبدأنا نبحث أسماء الوزارة وكان أول اتفاق أن يبقي أحمد ماهر خارج الوزارة ليتولي رياسة مجلس النواب وأن أتولي أنا وزارة الخارجية إلي جانب الرئاسة والداخلية ويتولي مكرم وزارة المالية والنقراشي وزارة المواصلات ثم عرضنا إدخال عناصر لم تعرف بالوفدية ولكنها قدمت للبلاد خدمات جليلة فاقترحنا اسم محمود غالب المستشار بمحكمة استئناف مصر لوزارة الحقانية فلم يلق هذا الترشيح اعتراضًا، ثم عرضت اسم نجيب الهلالي وزير المعارف في عهد وزارة توفيق نسيم باشا وزيرًا للمعارف، وهنا ثار النقراشي واحتد، وعارض هذا الترشيح بعنف، وهدد بالاستقالة من الوفد، وعدم دخول الوزارة إذا عين الهلالي وزيرًا، وكرر ما سبق أن قاله من أن الهلالي قتل أمين لطفي (وكان أمين لطفي قد انتقل إلي رحمة الله) وكاد النقراشي (يتحرش) بمكرم تحرشًا ظاهرًا ويتهمه بأنه وراء هذا الترشيح تحديًا له، واحتد النقاش، وعلت الأصوات، وزاد الصخب، وخرج النقراشي من الجلسة التي كانت في مكتب سعد ثائرًا وصعد إلي الطابق العلوي وشكا لأم المصريين، وطلبتني أم المصريين فأوقفت الجلسة، وصعدت إليها أنا ومكرم وماهر والنقراشي، وتكرر النقاش الحاد أمامها مرة أخري، وأعاد النقراشي اتهام مكرم، ولما رأيت الأمر قد زاد عن الحد ورأيت أم المصريين تلح في أن نجتاز هذه الأزمة، قلت لها أنا أشد منك حرصًا علي اجتيازها وتمسكًا بوحدة الصف، وإبقاء أبناء سعد من الرعيل الأول إخوانًا متصافين، ولكن النقراشي لا يترك لنا فرصة للنقاش بل كلما أثيرت مسألة لا يريدها يحتد ويهدد بالاستقالة، وهو يعلم تمام العلم أن منزلته عندي كبيرة وأن لا فرق بينه وبين مكرم، وأني إذا كنت رفيقًا لمكرم ونحن مع المغفور له سعد باشا في المنفي بجزيرة شيسيل، فإن النقراشي لا ينسي ولا أحد من المصريين ينسي أنني وقفت أمام محكمة الجنايات في قضية الاغتيالات السياسية وقلت للمستشارين الذين كانوا يحاكمون ماهر والنقراشي مع بعض الشباب الوفدي بتهمة قتل واغتيال بعض الإنجليز… وقفت والتأثر بلغ بي مبلغه ورفعت صوتي عاليًا بعد أن فندت أدلة النيابة ورددت عليها نقطة نقطة، وصحت: إذا كنتم تريدون بعد هذا إدانة ماهر والنقراشي والحكم عليهما فخذوني قبلهما وقدموا رقبتي للمقصلة قبل أن تعدموهما، واهتزت القاعة، وانقلب الوضع، ولقد قال زعيمنا ورئيسنا خالد الذكر سعد في تصريح له عندما صدر الحكم بالبراءة: إن فرحتي بمرافعة النحاس تعدل فرحتي ببراءة ماهر والنقراشي، فهل يتصور أحد بعد هذه العشرة الطويلة كلها وبعد تلك الزمالة التي قضينا فيها زهرة شبابنا أن أفرط في النقراشي أو أسيء إليه عن قصد أو غير قصد».
«وتأثرت أم المصريين، وهدأت العاصفة، واتفقنا علي أن نستبعد ترشيح الهلالي وزيرًا، ولما عاد الوفد للاجتماع اقترحت عليهم ترشيح زكي العرابي باشا رئيس محكمة الاستئناف وزيرًا للمعارف، وانتهي الأمر عند هذا الحد».
(12)
وهذه قصة ثالثة لانفعال ثالث للنقراشي، ومن الطريف أن الذي تصدي له في هذه المرة كان هو المستشار محمود غالب الذي نعرف أنه أصبح حليفه فيما بعد ذلك:
«انعقد مجلس الوزراء صباح اليوم وكنت أتوقع أن تكون الجلسة عادية تمر فيها المسائل المعروضة بسلام لولا أن النقراشي أثار زوبعة عنيفة من أجل موظف صغير عُرضت مذكرة بتعيينه ضمن المسائل التي ينظرها المجلس، ومن الأسف أن ذلك الموظف لم يكن ليعين في منصب خطير أو درجة كبيرة، ولا كان مشكوكًا في وطنيته أو تاريخه بل كانت المذكرة تؤكد أنه قضي في السجن أكثر من ثمان سنين، وأنه يحمل فوق ذلك مؤهلًا عاليًا، وله كثير من الامتيازات ذكرتها المذكرة، ولكن النقراشي برغم هذا كله ثار وغضب وضرب المنضدة بيديه وهددنا بالاستقالة إذا وافق المجلس علي تعيين الموظف المذكور».
«كانت مفاجأة هي آخر ما كنت أتوقعه من النقراشي، ذلك لأن الشخص المقترح تعيينه كان أحد الذين رفضوا، هو وشقيقه الذي لا يزال بالسجن في ليمان طره، أن يشهدا علي ماهر والنقراشي ويتقاضيا عشرة آلاف جنيه كانت السلطات العسكرية الإنجليزية قد رصدتها للشهود الذين يشهدون ضد ماهر والنقراشي في قضية الاغتيالات، ولذلك لم أملك نفسي حين ثار النقراشي وهدد بالاستقالة أن قلت له في غضب وحدة: ما هذا الذي تقول؟ فقدنا الوفاء والنخوة لماذا تعارض في الموظف البسيط، هل شهد عليك أو علي أحد من إخوانك حتي حكم عليكم، هل أخذ من السلطات العسكرية مكافأة لكي يوقع بك، ومع هذا كلما يعرض أمر لا يروقك تهدد بالاستقالة».
«والتفتُ إلي الوزراء قائلًا من منكم يوافق علي المذكرة المعروضة ومن منكم يعارضها، فتصدي وزير الحقانية محمود غالب بك وقال بصفتي قاضيًا لا أعرف الشخص الذي تتحدثون بشأنه ولكن أقرأ المعلومات المدونة عنه، أقترح أن يعين في درجة أعلي من الدرجة المقترحة، وإني أعتقد أن زملائي يوافقون علي هذا الرأي، فقالوا جميعًا: موافقون، فالتفتُ إلي سكرتير المجلس وقلت: اكتب في المحضر وافق الوزراء علي المذكرة ما عدا وزير المواصلات».
«ولقد أسفت كل الأسف علي أن أخلاق بعض المجاهدين القدماء انحدرت إلي هذا الدرك، وما كنت لأعير مثل المسألة التفاتًا لولا أنها شغلت المجلس في هذه الظروف المزدحمة بالعمل أكثر مما يجب».
(13)
وطيلة المعركة التي دارت بين هذين القطبين الكبيرين ظل النحاس باشا يوجه الانتقادات إلي أسلوب النقراشي في العمل السياسي، وعلي سبيل المثال فقد صور النحاس النقراشي متعنتا، بل دائم التعنت، وقد عدد النحاس باشا في كلمته التي ألقاها في بني سويف يوم 17 سبتمبر ١٩٣٧ ست مناسبات قدم فيها النقراشي باشا استقالته:
«إحداها بسبب معارضته في فصل الأستاذ العقاد من الهيئة الوفدية».
«وأخري بسبب معارضته في ترشيح نجيب الهلالي علي مبادئ الوفد، مع أنه غير وفدي، في دائرة الدكتور علي الجيار العضو في الهيئة الوفدية».
«وثالثة لأنه أراد إصدار صحيفة رسمية للهيئة الوفدية في أعقاب فصل العقاد والتبرؤ من جريدة «روز اليوسف»، وقد رفض النحاس إصدار هذه الصحيفة لأسباب تتصل بالعدالة عامة، وبالمصلحة الوفدية خاصة».
«ثم مرة أخري في عهد الوزارة بسبب مشروع توليد الكهرباء من مساقط المياه بأسوان».
«وعاد فقدم استقالته السادسة بسبب اعتراضه علي قانون ملحق الطلبة، وكانت هذه الاستقالة الأخيرة، في رأي النحاس باشا، أغرب استقالاته، لأنها صدرت من وزير غير مختص، بينما كان الوزير المختص ورجال المعارف يؤيدون فكرة امتحان الملحق».
(14)
وقد سبق هذا الحديث العنيف بيومين (أي في 15 سبتمبر) اجتماع الوفد بعيدا عن بيت الأمة، وقد كان يوم 15 سبتمبر 1937 يوما من الأيام المهمة في تاريخ الوفد كهيئة سياسية حيث عقد الوفد، لأول مرة، اجتماعه في مكان آخر غير بيت الأمة، مع ما كان معروفا من وجوب اجتماعه فيه لإصدار قراراته، وقد اجتمع الوفد بالإسكندرية حيث قرر ضم أحد عشر عضوا جديدا إلي هيئته هم: محمد صبري أبو علم، وعبد الفتاح الطويل، ويوسف الجندي، ومحمد سليمان الوكيل باشا، ومحمد المغازي باشا، وبشري حنا باشا، ومحمد الحفني الطرزي باشا، وكمال علما باشا، وأحمد مصطفي عمرو باشا، وفهمي ويصا بك، وسيد بهنس بك.
ومن الطريف أن نذكر هنا أن إبراهيم عبد الهادي، وهو من الموالين للنقراشي، ولأحمد ماهر، كان يتعجب من أن يضم الوفد إلي عضويته المغازي باشا الذي أرسل إلي سعد زغلول في أعقاب مقتل السردار برقية هجوم خاطبه فيها بقوله: أيها الخارج علي العرش.
(15)
وهذه قصة الابتعاد النهائي للنقراشي علي نحو ما يرويها النحاس باشا، وهو الابتعاد الذي باركته السيدة صفية زغلول أم المصريين فكان من نتيجته أن توقف النحاس والوفد عن الاجتماع في بيت الأمة كما ذكرنا:
«بعثتُ إلي النقراشي أعرض عليه تعيينه عضوًا في مجلس إدارة شركة قناة السويس بدرجة وزير وراتب ضعف الوزير مرتين، فرفض بطريقة غير لائقة وتكلم بكلمات ما كان يصح أن تصدر من رجل في حق زملاء له عاشروه طويلًا، واشتركوا معه في الجهاد عمرًا مديدًا، ثم شفع رفضه بأنه مستقيل كذلك من عضوية الوفد، وأرسل لي كتابًا يتضمن استقالته».
«دعوت الوفد إلي الاجتماع وعرضت عليه الموقف، وطرحت علي الأعضاء استقالة النقراشي، وما تضمنته من أسلوب تهجمي وعبارات نابية، فوافقوا جميعًا علي قبولها ما عدا أحمد ماهر الذي قال: إني برغم هذا اعتبر النقراشي عضوًا في الوفد وسأبلغه كل ما يدور في الجلسات».
«ونبهته وأنا أكظم غيظي إلي أن هذا غير قانوني، ولا يمكن لرجل قبلت استقالته بناء علي طلبه أن تبلغ إليه القرارات، وما يدور في جلسات الوفد من مناقشات، ولكنه احتد وقال هذا رأيي وأنا مصمم عليه وإن لم تقبلوه فاعتبروني مستقيلًا أنا كذلك».
«عدت إلي منزلي في ساعة متأخرة لأكتب هذه السطور وأنا في شدة التأثر والألم مما وقع».
(16)
ونأتي إلي ما أوردته المذكرات التي رواها محمد كامل البنا عن النحاس عن لقائه الأخير في بيت الأمة بالسيدة صفية زغلول، ومن الطريف أن هذا اللقاء يشهد للنحاس بالخلق الرفيع والذاكرة الحية والبديهة السريعة، فقد استحضر من ذاكرته قصة تسمية بيت سعد زغلول ببيت الأمة حين قال الصوفاني لسعد: نحن لسنا في بيتك وإنما في بيت الأمة!! لكنه رفض أن يقول المقولة نفسها للسيدة صفية زغلول لأن بيت الأمة كان قد أصبح بالفعل ملكًا للأمة، ولم يعد للمقولة مغزي التوريط الذكي الذي نجح فيه الصوفاني مع سعد زغلول، كما لم يعد من اللائق في محادثة سيدة كبيرة أن تقال لها مثل هذه الجملة، ومع هذا فإن الموقف كان يقتضي أن يشار لها إلي هذا المعني من بعيد، وهو ما فعله النحاس باشا بكل تهذيب:
«… عدت إلي بيت الأمة وكان في انتظاري بعض الزملاء من أعضاء الوفد وصعدنا إلي الطابق العلوي للسلام علي أم المصريين وتقديم العزاء لها في ذكري سعد».
«ولم نكد نجلس حتي بادرتني بقولها: إنني متألمة لخروج محمود (أي النقراشي) وأحمد (أي ماهر) من الوفد، ولقد فتحت لكم هذا البيت وتركت مكتب سعد تجتمعون فيه عندما كنتم كتلة واحدة ويدًا واحدة، أما وقد اختلفتم وانقسمتم فلا يسعني إلا أن أغلق بابي عليّ وأمنع الاجتماعات فيه».
«فأجبتها وأنا أضغط علي أعصابي: أنت حرة فيما تريدين، لقد خصصنا بيت الأمة لسكناك بعد سعد لأنك شريكة حياته، ولست أقول كما قال عبد اللطيف الصوفاني لسعد حين قال له كيف تخاطبني بلهجة عنيفة في بيتي، ولكني أقول لك إن البيت بيتك ولك أن تدخلي من تشائين، أما عني فلن أدخل هذا البيت بعد الآن ولن يكون للوفد اجتماع فيه».
(17)
وحين اكتشف النحاس أن النقراشي بدأ ينظم صفوف معارضة داخلية في الوفد قرر أن يبكر في خوضه معركته ضده فاستصدر مرسوما ملكيا بدعوة البرلمان إلي الانعقاد في دورة غير عادية، ليثبت للنقراشي ولغيره أنه لا يزال حائزا علي ثقة الأكثرية البرلمانية في مجلسي الشيوخ والنواب رغم ما بدأت المعارضة تصوره من أثر ممكن إذا ما خرج النقراشي، ومن أن هذا الخروج قد يؤدي إلي إحداث انقسام في الوفد.
وقد استند النحاس باشا في استصدار المرسوم الملكي بعقد هذا الاجتماع غير العادي للبرلمان إلي المادة 41 من الدستور التي تقضي بأن تعرض علي البرلمان في دورة غير عادية كل المراسيم بقوانين التي تصدر لضرورة عاجلة في أثناء فترة ما بين الدورتين، ولم يكن هذا الإجراء إجراء مصطنعا، لكنه كان حقيقيا، فقد كانت الوزارة قد اضطرت إلي استصدار مراسيم بقوانين خاصة بامتحان طلبة المعاهد الدينية، كما كانت في ذلك الحين علي وشك استصدار مراسيم بقوانين بتنفيذ معاهدة مونترو قبل ١٠ أكتوبر، ومراسيم بقوانين أخري خاصة باعتمادات للجيش المصري، وهكذا كان من الضروري عرض هذه المراسيم بقوانين في دورة غير عادية.
(18)
ونأتي بعد هذا إلي تأمل الآلية التي شهدت الإعلان عن انشقاق أحمد ماهر، وهي في كل الأحوال آلية حضارية مهذبة خضعت لقواعد الممارسة الديمقراطية، وابتعدت عن الديماجوجية والانتهازية، كما أنها تدلنا علي مدي ما كان يُرجي من أحمد ماهر من خير لو أنه تخلي عما زينه له القصر الملكي ورجاله، فقد كان أحمد ماهر كما هو مشهور عنه في الوجدان الشعبي صريحًا واضحًا سليم النية، وكان من السهل أن يُخدع، وكان يتصور نفسه علي الدوام ملزمًا بالحماس لما آمن به.. ولنا أن نقارن موقفه هذا بما هو معروف من مواقف مكرم عبيد التي آذت صاحبها أشد الإيذاء، علي حين أن أحمد ماهر نجا من أن يضع نفسه في صورة مكرم أو نجيب الهلالي، مع أنه سبقهما إلي الانشقاق علي زعامة النحاس:
انعقد الاجتماع الوفدي يوم ٢٣ ديسمبر ١٩٣٧، وأخذ النحاس باشا يشرح علي مدي ساعتين ونصف ساعة موقفه وموقف وزارته في الخلاف مع القصر، ابتداء من الحفلة الدينية، إلي مسألة عضوية مجلس الشيوخ، ثم وقف الدكتور أحمد ماهر ليشرح هو الآخر، وجهة نظره، ليس فقط في الخلاف بين الوزارة والقصر، بل وأيضا في التحول الذي طرأ علي الكفاح الشعبي بعد المعاهدة.
ومن الغريب، وربما من المدهش، أن أحمد ماهر انتقد موقف الوزارة في الخلاف بينها وبين القصر علي الرغم من أن جماهير مستمعيه كانت تعرف الحقيقة كاملة، وكانت تعرف مدي تعنت القصر مع الوفد ووزارته، لكن أحمد ماهر ظن أن كلام الصالون يمكن أن يقنع قادة الوفد الذين هم زعماء شعبيون في الأساس، وهكذا فإنه قال: إنه كان من المستطاع تفادي هذا الخلاف لو عالجت الوزارة الأمر بحكمة وكياسة (!!) وبني خطبته وهجومه علي هذا الأساس.
ووضع أحمد ماهر نفسه في مأزق من حيث لا يدري حين تحدث عن موقفه إذا عرضت عليه الوزارة فقال: إنه يتصور موقف الملك حين تخلي الوزارة القائمة مكانها: سيقول الملك، إنه ملك دستوري بطبعه، وقد دعا علي أثر تبوئه العرش رئيس الأكثرية ليستشيره فيمن يلي الحكم، فلما عرف رغبته في أن يقوم بذلك بنفسه، عهد إليه بتأليف الوزارة، وأعانه علي العمل!
(19)
وعلي هذا النحو تجاهل أحمد ماهر، المفترض أنه زعيم شعبي، فكرة الوفد الثابتة القائلة بأن الأمة مصدر السلطات، ورفع من شأن فكرة أخري مضادة تقول بأن الملك هو واهب النعم، ولم يكن هذا الأسلوب بالطبع ليرضي أعضاء الهيئة الوفدية، وإن كان يرضي الملك والقصر، ولست أكون مبالغا إذا قلت إن المفاهيم والمضامين التي تضمنها حديث أحمد ماهر في ذلك اليوم بدت وكأنها تخاطب القصر لا الشعب، وتخاطب الهيئة الملكية لا الهيئة الوفدية.
وقد تمادي أحمد ماهر في الابتعاد عن روح الأغلبية الوفدية إلي حد أنه بدأ يردد اتهامات القصر للنحاس.
ويبدو أن أحمد ماهر في هذه الفترة كان يظن أنه قادر علي أن يصور نفسه في صورة «المنقذ القادر» ولهذا فإنه آثر المضي في الطريق الكفيل بتثبيط نفوس الوفديين، بل إنه بدأ يخاطب النواب محرضا لهم علي الحرص علي مراكزهم وكراسيهم البرلمانية، وأقنعهم بعدم المخاطرة وقبول «العرض الملكي الكريم»، وكان سلوك أحمد ماهر في هذا السبيل أقرب إلي الاستفزاز منه إلي الاقتناع، وكانت النتيجة تعبيرًا صادقًا عن الطبيعة الأبية التي نعرفها في المصريين، وهو ما حدث بالفعل، ولهذا فقد وقف الشيوخ والنواب جميعا ضده وقرروا:
«أولا: إعلان ثقتهم بالنحاس باشا وبوزارته الدستورية، وتأييدهم له كل التأييد في موقفه الدستوري الحالي».
«ثانيا: أن كل وفدي يخرج علي تضامن الهيئة الوفدية، فيقبل تشكيل أية وزارة، أو الاشتراك، أو تأييد أية وزارة أخري غير الوزارة الحالية التي يرأسها النحاس باشا رئيس الوفد المصري، يعتبر مفصولا من الوفد ومن الهيئة الوفدية، وخارجا علي وحدة الأمة، وعاملا علي تقويض دستورها».
«وقد وافق الجميع علي هذه القرارات ما عدا أحمد ماهر، والدكتور حامد محمود، وإبراهيم عبد الهادي، وهنا وقف النحاس باشا وطلب من المؤيدين أن يقسموا معه اليمين الآتية: «أقسم بالله العظيم أن أحترم هذا القرار برمته، وأن أنفذه بإخلاص ما دمت حيا»، فأقسم الجميع ما عدا الثلاثة».
(20)
ومن الحق أن أعترف بأن أعظم إنصاف لقيمة النحاس باشا في موقفه من محاولة أحمد ماهر باشا الانشقاق هو ذلك الرأي الذي بلور به الدكتور عبد العظيم رمضان موقف النواب الوفديين في اجتماع الهيئة البرلمانية لحزب الوفد، حين كان أمامهم أن يختاروا بين البقاء تحت زعامة النحاس ومعاناة مؤامرات الملك، أو أن يختاروا أحمد ماهر ويدخلوا في جيب القصر الملكي، فما كان من هؤلاء النواب الوفديين الشرفاء إلا أن اتخذوا أشرف المواقف التي شهدتها الحياة البرلمانية المصرية علي حد تعبير الدكتور عبد العظيم رمضان الذي يلقي أضواء كاشفة أخري علي الأحداث السابقة علي ذلك الانفصال الماهري:
«… فقد أصر الدكتور أحمد ماهر علي رفض الاشتراك في الوزارة الوفدية تأهبا لتسلم زعامة الوفد! وعندما أحس النحاس بالمؤامرة، قرر عدم ترشيح أحمد ماهر في رئاسة مجلس النواب، لكن أحمد ماهر اجتمع مع مكرم عبيد باشا في بيت طاهر اللوزي بك، وأكد له إخلاصه للنحاس وتفضيله إياه علي النقراشي، وكلفه بأن يبلغ النحاس ذلك(!!) وحرصا من النحاس علي وحدة صف الوفد، وعدم إتاحة الفرصة للقصر لاستغلال أحمد ماهر ـ علي حد قوله ـ قام بترشيحه لرئاسة مجلس النواب، فنال أحمد ماهر بذلك أصوات كل من نواب الوفد ونواب القصر! وبلغ عدد الأصوات التي نالها 187 صوتا!».
«علي أنه بتلك الأغلبية الكبيرة تصور أحمد ماهر أنه سوف يستطيع انتزاع الزعامة من مصطفي النحاس! وقد قبل النحاس التحدي، فعقد الهيئة الوفدية البرلمانية يوم ٢٣ ديسمبر للفصل في النزاع، وفي هذا الاجتماع كشف أحمد ماهر عن الخطة في إزاحة النحاس والحلول مكانه، فقد قال إنه يتصور موقف الملك حين يري أنه لا يستطيع التعاون مع النحاس، فاستعمل حقه الدستوري في إقالته، ثم أراد تمكين الأكثرية من الحكم تحقيقا لروح الدستور (برئاسة أحمد ماهر) فإنها إن رفضت الحكم، هيأت لجلالة الملك القول بأنها تسلك سبيلا غير دستورية، إذ إنها تنشئ صلة شاذة بعمل معارضة في ولاية الحكم، وتسوغ لجلالته الاتجاه إلي الأقلية، وما يترتب علي ولايتها الحكم من حل للبرلمان والحكم من غير دستور!».
«علي أن تهديد أحمد ماهر للنواب الوفديين بحل البرلمان وتسليم الملك الحكم للأغلبية، لم يرهب النواب، فقد فضلوا حل البرلمان علي الخضوع لزعامة أحمد ماهر، إذ أدركوا أن وجود أحمد ماهر علي رأس الوفد يعني أن الوفد قد دخل في جيب القصر الملكي وجيب علي ماهر باشا، ولم يعد هو الوفد الذي عرفته الأمة! وقد كان موقف النواب الوفديين أشرف المواقف التي شهدتها الحياة النيابية المصرية، لأنها أنقذت الوفد من مخالب القصر، وأبقت له ماضيه وحاضره كأكبر حزب ليبرالي شهده تاريخ مصر».
(21)
وقد روي إبراهيم فرج ما أحس به من مدي معاناة النحاس من محاولات الملك ضربه بأحمد ماهر في ١٩٣٧، وهو يورد تفصيلات مهمة (ومبسطة) ترينا كيف كانت الأمور واضحة وضوح الشمس أمام النحاس باشا:
«… المهم أن السراي أبلغت أحمد ماهر أن الملك لن يقبل النحاس باشا رئيسا للوزارة بعد أن يبلغ (أي الملك) السن القانونية لتولي السلطة، أما كيف دخل هذا في ذهن أحمد ماهر فأنا لا أعرف، لأنني أكبره عن تصديق هذه الخدعة».
«قالوا له كما قال أحمد ماهر للنحاس باشا في اجتماعهما لمناقشة الخلاف بمنزله بمصر الجديدة: إن الإبقاء علي الدستور والحياة النيابية متوقف علي تخلي النحاس باشا عن تولي الحكم، وأن يختار الوفد شخصا غيره، والمقصود أحمد ماهر، حتي يمكن الإبقاء علي النظام البرلماني، لأن الملك لا يقبل التعامل مع النحاس باشا لأسباب شخصية ولأسباب عامة، والأسباب الشخصية أنه لا يستلطفه، أما الأسباب العامة فهي أنه كثير المناكفة ويثير دائما الحقوق الدستورية للشعب ويتدخل في كل شيء. وضربوا لأحمد ماهر مثلا، فالملك أراد أن يعين موظفا أجنبيا في السراي لكن النحاس باشا اعترض، فاستدعاه الملك وقال له:
«إذا أردت أن أعين حلاقًا.. فهل ستتدخل؟ وأشار بشدة علي شعره».
«فقال له النحاس باشا: يبقي أحسن.. لمصلحتك.. أنا مستشارك».
«وقالوا لأحمد ماهر أيضًا: إن الملك لا يطيق النحاس باشا.. وهو ما زال شابا، وأحمد ماهر كانت لديه الشجاعة لأن يقول ذلك للنحاس باشا في منزله.. ويرجوه أن يقبل ذلك صيانة للدستور وحفاظا علي الحياة النيابية.. فالنحاس باشا قال له:
«يا أحمد.. لا تصدق أنهم حريصون علي الحياة النيابية.. إنهم يريدون تمزيق الوفد وأقصي أمانيهم القضاء علي «الوفد».. لا يطيقون حكم الوفد لأنه حكم الأمة، أما بالنسبة لي فإنني شخص زائل وسأموت.. والوفد باق. إن خصوم الوفد يتآمرون ويكذبون ويقولون ذلك حتي أتنحي ولن يأتوا بك بعدي أبدا، إنما هي خدعة خبيثة غايتها انقسام الوفد علي نفسه».
«ولقد حاول النحاس باشا إقناع أحمد ماهر، لكنه كان يعتقد أن ذلك إنقاذ للدستور وللحياة النيابية وظل علي رأيه.. وطلب الاحتكام للهيئة الوفدية.. فانعقدت في أكتوبر (سنة ١٩٣٧) وأيدت النحاس باشا ولم يخرج مع أحمد ماهر إلا بضعة أفراد».
(22)
علي هذا النحو حدث أو تم ما يوصف بأنه أهم الانشقاقات في تاريخ الوفد وكان النقراشي بطله المتقدم بعد انضمامه إلي محمود غالب باشا الذي يمكن وصفه بأنه كان صاحب شرارة الانشقاق الأولي في مجلس الوزراء، ثم سرعان ما انضم أحمد ماهر بزعامته إلي النقراشي، ومحمود غالب، وبهذا أصبح هناك محور جديد هو ماهر والنقراشي، ومعهما محمود غالب ومجموعة من قيادات الوفد كان أبرزها الرئيس الثالث لحزب الهيئة السعدية إبراهيم عبد الهادي، الذي لم يكن قد دخل مجلس الوزراء حتي ذلك الحين.
وهكذا قدر للنحاس أن يقضي النصف الثاني من عام سبعة وثلاثين (1937) في خصومات متعددة علي جبهات متعددة كانت جبهة الانشقاق أخطرها أثرا، وأكثرها شغلا لوقته، وقد كان علي ماهر من موقعه رئيسا للديوان وراء تدبير قدر كبير من هذه المؤامرة، علي نحو ما أشرنا في كتابنا عنه.
(23)
وعلي مستوي العلاقة مع القصر الملكي فقد كان علي ماهر لا يكف عن تدبير الدسائس للوفد ليل نهار، علي نحو ما أشرنا إليه في أكثر من موضع من هذا الكتاب، وعلي نحو ما أوضحناه بتفصيل واف في كتابنا عن «علي ماهر» مما لا نري محلا لتكراره، وبخاصة أن «النحاس» لا «علي ماهر» هو موضوع هذا الكتاب.
وقد استمرت هذه المؤامرات حتي أصدر الملك فاروق قراره بإقالة الوزارة الوفدية قبل نهاية عام 1937 بيومين، وكأنما أراد ألا يكون عام 1937 عاما وفديا خالصا.
وهذا هو نص خطاب الإقالة الذي عُدّ بمثابة إهانة بالغة وتجاوز من الملك في لغة خطابه ومضمونه:
«عزيزي مصطفي النحاس باشا»
«نظرا لما اجتمع لدينا من الأدلة علي أن شعبنا لم يعد يؤيد طريقة الوزارة في الحكم، وأنه يأخذ عليها مجافاتها لروح الدستور، وبعدها عن احترام الحريات العامة وحمايتها، وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور علي يد الوزارة التي تترأسونها، لم يكن بد من إقالتها تمهيدا لإقامة حكم صالح يقوم علي تعرف رأي الأمة، تستقر به السكينة والصفاء في البلاد، ويوجه سياستها خير وجهة في الظروف الدقيقة التي تجتازها، ويحقق آمالنا العظيمة في رقيها وعزتها».
«وإني أشكر لمقامكم الرفيع ولحضرات زملائكم ما تم علي أيديكم من الخير للبلاد».
«وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع بذلك».
«صدر بسراي القبة في 27 شوال سنة 1356 (30 ديسمبر ١٩٣٧)».
فـاروق
(24)
وها هي الوزارة القومية الكبري، كما أطلق عليها، تتشكل في 30 ديسمبر ١٩٣٧ برئاسة محمد محمود، ضامة بين أعضائها رجالا كبارا (من حيث المناصب والرتب) من طبقة إسماعيل صدقي، وعبد الفتاح يحيي، وعبد العزيز فهمي، وأحمد لطفي السيد، ومحمد حافظ رمضان، وتبدأ معاناة وفدية من طراز جديد، لكن الوفد نفسه (بما تكون فيه من قوة الصهر) كان قد أصبح من المناعة بحيث لا يمكن أن تتكرر معه آثار تجربة محمد محمود في ١٩٢٨، ولا تجربة صدقي في ١٩٣٠ ـ ١٩٣3.
لكن عاملا آخر لا يقل أهمية عن قوة الوفد كان يخدم الوفد والنحاس ويخفف عنهما من آثار العنت الحزبي والحكومي، ونقصد بهذا العامل وجود علي ماهر نفسه في الديوان الملكي مناوئا لمحمد محمود وللوزارة القومية بأكملها.
وهكذا قضت وزارات محمد محمود الثلاث المتعاقبة أغلب وقتها في نزاع مع علي ماهر وسلطة الملك معا، كما قضت بعض وقتها في نزاع سلطة الملك وعلي ماهر والبنداري.
ومن الحق أن نشير إلي أن النحاس طيلة هذه الوزارات التي رأسها محمد محمود باشا (1937ـ 1939) لم يؤيد فكرة إضعاف محمد محمود أمام الملك وعلي ماهر علي الرغم من تقاطع مصلحته مع مصلحة الملك في هذا الإضعاف، بل علي العكس من ذلك، فقد كان النحاس ضد تنامي سلطة القصر والملك، حتي إنه قال في خطاب تاريخي له في الجزيرة بكل وضوح:
«ليس أسوأ من حكم رجال السراي في أي بلد من البلاد».
(25)
وقد رد النحاس والوفد ردا سريعا علي خطبة الملك فاروق الشهيرة في ٢٢ فبراير ١٩٣٩ بمناسبة العام الهجري الجديد والتي أعلن فيها ميله التام إلي ديكتاتورية القصر.
وتمثل هذا الرد في مسارعة الوفد بعقد اجتماع عاجل أسفر عن إعلان قرار وفدي واضح وصريح يعلن أن الدستور والنظام الديمقراطي في مصر قد أصبحا في خطر، وأن الهيئة الوفدية تري من واجبها أن تعلن أنها لا تقبل بحال من الأحوال أي مساس بالدستور والحريات التي جعلت شعب مصر في مصاف الشعوب الديمقراطية الحرة، والتي كسبها الشعب بعد جهاد طويل مرير كلفه ثمنا غاليا من التضحيات والأرواح، وأن مصر التي ضربت للأمم الشرقية أول الأمثلة وأعلاها في الجهاد تأبي «أن تصبح في مؤخرة هذه الأمم حرية وكرامة، وأن تفقد، بعد كل ما جره الانقلاب الحاضر من خراب، البقية الباقية من ثمار ثورتها، فيصبح دستورها وسيادتها في مهب الرياح».
(26)
ثم وصلت الأمور في سبتمبر ١٩٣٩ إلي إقالة محمد محمود وتولي علي ماهر الوزارة للمرة الثانية، وبدأت معاناة جديدة للنحاس وللوفد لكنها كانت أخف وطأة من المعاناة التي سبقتها.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية كانت الأمور تسير وفاقا بين علي ماهر والبريطانيين، لكن تطور مراحل الحرب حوّل دفة الموقف وبدأت بريطانيا نفسها تستشعر مدي حرج موقفها في ظل وجود وزارة كوزارة علي ماهر، بينما الوفد الذي وقع زعيمه معاهدة ١٩٣٦ بعيد عن المسئولية بكيانه القوي والمؤثر وشعبيته الجارفة.
وهكذا بدأت الاتصالات البريطانية تركز علي محاولة الإفادة من أن يوجد الوفد في موقع المسئولية، كما أن الملك فاروق هو الآخر بدأ يستشعر ضرورة حسن العلاقة مع الوفد، وبدأت المحاولات مع النحاس لإقناعه بتشكيل وزارة قومية برياسته، لكن النحاس كان حاسمًا في رفض هذه المحاولات الدءوبة والبراقة، وهي المحاولات التي سخر منها أكثر من مؤلف ومن كاتب ذكريات كان في مقدمتهم بالطبع الدكتور عبد العظيم رمضان:
«… وفي أول إبريل 1940 فاجأ الوفد الجميع بتقديم مذكرة شديدة اللهجة للسلطات البريطانية اتهمها فيها بأنها باركت الانقلاب الدستوري و استغلته لصالحها رغم أحكام المعاهدة في نصها وروحها، وقالت المذكرة: إن هذا الموقف البريطاني يعطي لمصر الحق في أن تطلب من الحليفة أن تحدد موقفها منها، وأن تحدد بنفس النصيب الذي تقوم به من المحالفة وتنفيذها، وأن تقدر لمصر، الدولة الصغيرة، ما حملته وتحمله عن حليفتها الكبيرة من أعباء الحرب».
«ومن حق النحاس علينا أن نقرر له أنه لم يلجأ إلي مثل هذا الهجوم العنيف عندما كان في صفوف المعارضة فحسب، بل لقد عاود التأكيد عليه أكثر من مرة بعد أن تولي الحكم، عقب حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، معلنا ضرورة العمل لتعديل المعاهدة، وفي المؤتمر الوفدي الكبير الذي عقد في نوڤمبر ١٩٤٣ راح النحاس يعدد ما قدمته مصر لبريطانيا من مساعدات، وما أدته من خدمات تنفيذا للمعاهدة، ثم قال: إن حوادث الحرب قد غيرت الموقف تغييرا كبيرا حتي أصبح هذا التعديل ضرورة لا بد منها، ونتيجة لا ريب فيها، وإني الآن أكاد ألمح بإذن الله فجر اليوم الذي نري فيه مصر المستقلة استقلالا تاما لا تشوبه أية شائبة».
(27)
وربما كان من المهم أن نقرأ ما تضمنته مذكرة الوفد الشهيرة إلي الحكومة البريطانية من مطالب:
«أولا: أن تصرح الحكومة البريطانية من الآن (1940) بأنه عندما تضع الحرب العالمية أوزارها ويتم عقد الصلح بين الأمم المتحاربة تنسحب من الأراضي المصرية القوات البريطانية جميعها سواء في ذلك القوات المعسكرة قبل الحرب أو بعده وأن تحل محلها القوات الحربية المصرية علي أن تبقي المحالفة فيما عدا ذلك قائمة بين الطرفين بالأوضاع المبينة فيها.
ثانيا:عند التسوية النهائية يجب أن تكون مصر طرفا فيها وأن يكون لها اشتراك فعلي في مفاوضات الصلح للدفاع عن مصالحها والعمل علي تحقيق أغراضها معنوية كانت أو مادية.
ثالثا: بعد انتهاء مفاوضات الصلح يجب أن تدخل إنجلترا ومصر في مفاوضة يعترف فيها بحقوق مصر كاملة في السودان لمصلحة أبناء وادي النيل جميعا.
رابعا:المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية.
خامسا: عدم الحيلولة دون تصدير القطن المصري إلي البلاد المحايدة، أو شراؤه بالأسعار والشروط المناسبة».
(28)
ويذكر الأستاذ عبد الرحمن الرافعي أن هذه المذكرة قوبلت (علي وجه العموم) باغتباط واضح لأنها كانت بمثابة أول صوت ارتفع من بين الهيئات السياسية التي وقعت المعاهدة بالانتقاض عليها، كما أوضحت تعلق البلاد بالجلاء، علي نحو ما أشار الأستاذ الرافعي في تأريخه، وجاءت (فيما عدا حديثها عن المحالفة وعن السودان) انتصارا كبيرا لقضية الجلاء ولوجهة نظر الحزب الوطني في هذه المسألة الهامة التي هي جوهر الاستقلال.
أما لدي الجانب البريطاني فقد قوبلت بداهة بالاستياء والتذمر، وبالرغم من انهماك بريطانيا وقتئذ في الحرب ورغبتها في كسب رضا الشعوب فإن جواب حكومتها ينم عن روح السخط والحنق، فقد أجابت عليها برد أرسله اللورد هاليفكس وزير خارجيتها بطريق البرق إلي السفير البريطاني وهذا أبلغة إلي النحاس يوم 6 أبريل قال ما ترجمته:
1- «أبلغوا النحاس باشا في الحال أن الحركة التي قام بها ونشرت علي الناس فعلا قد أحدثت لدي الحكومة البريطانية شعورا أليما للغاية، ولا تستطيع الحكومة البريطانية إلا اعتبار قرارات الوفد كمحاولة مقصودة للعب دور في السياسة الداخلية في حين أن بريطانيا العظمي مشتبكة في صراع ليس أثره علي مصير مصر واستقلالها بأقل منه علي بريطانيا العظمي نفسها.
2- أما فيما يختص بالمسائل التي أثارها النحاس باشا فمن البديهي أنها تؤدي إلي:
أ- إعادة النظر في المعاهدة البريطانية المصرية.
ب- تدخل من جانبنا في السياسة الداخلية المصرية.
ج- الطعن فيما نستخدمه من وسائل الضغط الاقتصادي في الحرب ضد ألمانيا.
3- لما كانت نتيجة الحرب ذات أثر فعال بالنسبة لمصر ومن الجلي بلا شك للنحاس باشا أنه لو انتصر العدو لم يبق إلا قليل احتمال في مناقشة مستقبل مصر ضمن حدود ديمقراطية فإن الحكومة البريطانية موقنة بأن المسئولين عن مصير الشعب المصري ومنهم النحاس باشا سيواجهون المسئوليات التي تجابههم في ساعة خطيرة من تاريخ العالم.
4- إننا نحارب لسلامة الأمم الصغيرة واحترام العهد المقطوع فقل للنحاس باشا ـ وأنا أحد الموقعين علي المعاهدة ـ يبدو لي أنه غير مفهوم أن يشعر النحاس باشا الناس بأنه يريد التشكيك فيما للمعاهدة من صفة قطعية ورسمية وأنه ليسعدني أن أتأكد أن النحاس باشا سيعمل جهد طاقته لتخفيف أثر هذه الحركة التي لم تقترن بالسداد».
(29)
والشاهد أن الفترة ما بين خروج النحاس من الحكم في نهاية 1937 وعودته إليه في بداية 1942 شهدت في أغلبها مظاهر عداء سافر بين النحاس والملك فاروق، وإن كانت قد شهدت بعض فترات الهدنة أو السعي إلي التقارب.
وقد بلغت صفاقة الملك فاروق في معاملة النحاس باشا حدًا فاق كل تصور، ويكفي للدلالة علي هذا ما أوردته مذكرات النحاس باشا عن مطلع عام 1941 حين تصادف وجود الرجلين في فندق «كتراكت» بأسوان:
«نزلت من الطابق العلوي الذي أقيم فيه إلي ردهة الفندق لاستقبل الزائرين الذين وفدوا لتحيتي والذين لم ينقطع سيلهم منذ حضوري إلي أسوان، وبعد أن انتهيت من استقبالهم قرابة الظهر أخذت أتمشي في الردهة فصادفني الدكتور نجيب محفوظ الطبيب المعروف بالقاهرة [وهو صهر مكرم]، والدكتور حافظ عفيفي باشا أحد أعضاء الوفد السابقين الذين خرجوا من الوفد في حياة المغفور له سعد زغلول باشا [وانضم إلي حزب الأحرار الدستوريين الذي أنشأه الذين انشقوا علي سعد عام 1920]».
«وبينما نحن نتحدث في ناحية الردهة وقد وقف بعيدًا عنا بعض النزلاء إذا بالملك يمر فجأة ولما لمحنا واقفين وقف فصافح حافظ عفيفي باشا ثم نجيب محفوظ باشا ولما رآني أعرض وأعطاني ظهره وانصرف دون أن يحيني أو يسلم عليّ فعجب الواقفان معي واندهش الذين رأوا هذا المظهر الصبياني الحقير، طبعًا تأثرت من هذا التصرف الذي إن دل علي شيء فإنه يدل علي أن أمر هذا البلد الذي يتصرف فيه طفل أهوج طائش لا يصلح لأن يحكم نفسه فضلًا عن حكم شعب بأسره».
(30)
ها هو النحاس باشا يكظم غيظه، وها هو يجد نفسه محاطًا بالصفوة، وهم يستهجنون هذه الطفولة الطائشة، التي عبر عنها النحاس بجملة واحدة في نهاية الفقرة السابقة:
«وتحدث معي (نجيب) محفوظ باشا وعفيفي باشا محاولين تلطيف المسألة وبأن هذا التصرف لا يجب أن يؤثر فيّ أو يضايقني لأنه تافه، ولم أعلق عليه بشيء أكثر من أن أقول لا يستغرب علي طفل أهوج لا يعرف أبسط قواعد اللياقة والأدب أن يفعل هذا».
«ثم انضم إليَّ بعض الزملاء الذين كانوا يقفون قريبًا مني وأخذ كل واحد من الحاضرين الذين رأوا هذا المنظر يعلق عليه من جهته، وكلهم يحاولون التلطيف من وقعه عليَّ، ولكني أكدت لهم أني لا اهتم بمثل هذه التفاهات، فالعداوة بيننا وبين الملك وقصره وعهده كله معروفة للجميع، وليس بمستغرب عليه أن يفعل هذا وأكثر منه، ولقد كشف أدبه وسوء تربيته بفعلته هذه».
(31)
وها هي الملكة نازلي هي الآخري تحاول أن تزيل عن النحاس أثر طيش ابنها الملك، وتشاركها في هذا بناتها الأميرات:
«وحين حل موعد الغداء قصدنا إلي صالة الطعام وكان الفندق قد شطرها شطرين، شطرًا خصصه للملك وحاشيته ووالدته الملكة نازلي والأميرات، والشطر الثاني للنزلاء وأقام حاجزًا بين المكانين، وقد نبهت علي إدارة الفندق أن تغير موعد تناولنا الغداء بعد أو قبل الموعد الذي يريده الملك حتي لا ألتقي به مرة أخري من قريب أو بعيد، ولكنهم أخبروني أنه ليس له موعد محدد وإنه تارة يتناول الغداء في المكان المعد له وأخري في جناحه الخاص، ولكن الملكة الوالدة والأميرات هن اللاتي ينزلن دائمًا إلي القاعة للطعام في موعد محدد، غالبًا ما يكون الموعد العادي للنزلاء».
«وبعد تناولنا الغداء جاء سكرتير الملكة نازلي وأسرّ إليَّ أن جلالة الملكة تحييك وترجو ألا تغضب من تصرف الملك معك، وهي أسفة شديد الأسف، فشكرتها وحملته تحيتي واحترامي.. لكني عجبت كيف سري النبأ بهذه السرعة إليها».
«وعند خروجي لمحت الملكة واقفة وهي تحييني برفع يديها ومعها الأميرات وظلت تكرر التحية وتعيدها ويتبعها الأميرات إلي أن خرجن من قاعة الطعام، وقد اعتبرت هذا شبه اعتذار عن ذنب لم تجنه بل جناه ابنها».
(32)
وقد ظلت علاقة هذه الأسرة الملكية بالنحاس باشا بعيدة تماما عن سخافات فاروق وسوء تصرفه، وقد روت مذكرات النحاس أنه لما تمت خطبة الأميرة فوزية لولي عهد إيران، أصرت الملكة نازلي علي دعوة زوج النحاس باشا إلي حفل القران، وقد روت مذكرات النحاس قصة هذه الدعوة:
«أعلن رسميًا خطبة الأميرة فوزية شقيقة الملك لولي عهد إيران الأمير (شاهبور) وحدد منتصف الشهر القادم لعقد القران، وقد اتصلت الملكة نازلي بحرمي ودعتها إلي حفل القران، وقالت لها إذا كان الملك لا يريد دعوة الباشا فهذه سياسة أما أنا فهذا فرح ابنتي وأنا حرة في أن أدعو من أشاء وأترك من أشاء، ثم حملتها تحية إليّ ورجاء ألا أتأثر من تصرفات الملك فهو شاب طائش وتحيط به بطانة سيئة تريد أن تعيش علي حسابه، وقد كلفتُها أن تشكر جلالة الملكة علي كريم عطفها وأن تلبي دعوتها لحضور عقد القران».
(33)
علي أن علاقة الملك فاروق بالنحاس لم تستمر في هذا الطيش، وإنما وجد الملك نفسه في أوقات كثيرة بحاجة إلي أن يتقرب من زعيم الأمة وأن يحسن معاملته! وقد أجادت مذكرات حسن يوسف باشا تصوير الفترات التي شهدت تقارب الملك والنحاس في أثناء الفترة التي سبقت حادث ٤ فبراير، وهي الفترة التي نعلم جميعا أن الملك كان يلح فيها علي النحاس بقبول تشكيل وزارة قومية، لكن النحاس كما هو ثابت في جميع المصادر رفض كل هذه المحاولات وسجل رفضه كتابة فيما أملاه علي عبد الوهاب طلعت باشا حين ذهب لزيارته في كفر عشما موفدًا من الملك.
وعلي كل الأحوال فمن المفيد أن نقرأ ما يرويه حسن يوسف عن علاقة الملك فاروق والنحاس باشا في نهاية الربيع في عام ١٩٤١:
«… وفي 30 إبريل دعا الملك الزعماء لغرض تأليف وزارة قومية، وقابل كلا منهم علي انفراد مبتدئا بالنحاس باشا، وقد علمت وقتها أن الاتفاق كاد يتم، وأن النحاس وافق علي تأليف وزارة قومية برئاسته هو، أو أن تتألف وزارة محايدة برئاسة حسين سري بشرط أن يحل مجلس النواب القائم وأن تجري انتخابات جديدة».
«وانتهت هذه المشاورات إلي لا شيء، فاتجه حسين سري إلي تعزيز وزارته بإدخال السعديين فيها، فصارت مكونة من ٥ وزراء سعديين، و٥ دستوريين، و٥ مستقلين».
«وإذا كانت هذه المشاورات لم تأت بنتيجة، فقد كان من آثارها أن حدث تقارب بين الملك والنحاس باشا، وظهر هذا التقارب في دعوة النحاس إلي الاحتفال الرسمي الذي افتتح فيه الملك كوبري سمنود في ٢ مايو ١٩٤١ (وسمنود بلد النحاس باشا)، وبعد شهور قليلة ألقي النحاس باشا خطبة بالإسكندرية يوم 14 أغسطس، ذكر فيها أن الحكومة تزمع بيع القطن المصري للإنجليز بثمن بخس، وأن الإنجليز لا يساعدون في إمداد مصر بالسماد اللازم للزراعة، وقد سر الملك وقتها لهذا الهجوم الوفدي علي الإنجليز».
* * *
هكذا كانت الأمور تمضي في اتجاه ما عرف بأنه حادث ٤ فبراير، وهو ما نتناوله في الفصل التالي.