زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل السابع
الفصل السابع
النحاس والانقلاب الدستوري الثالث
(1)
جاء إسماعيل صدقي باشا إلي الحكم، علي نحو ما ذكرنا، وبدأ سياساته التعسفية، وبدأت زعامة النحاس من الناحية الأخري تظهر قدراتها الأصيلة في مواجهة المحن.
وقد قاد النحاس ثورة نواب الشعب وهم يحطمون السلاسل التي وضعتها حكومة صدقي علي أبواب مجلس النواب (١٩٣٠)، وفي تأييده قامت ثورة عمال الترسانة (١٩٣٠).
ومضت علي مصر سنوات عجاف من تعسف صدقي، ومجاهدة النحاس.
ولعل خطاب النحاس في عيد الجهاد (نوڤمبر ١٩٣١) في ذروة سطوة وزارة إسماعيل صدقي يبين بوضوح حقيقة مشاعره ورأيه في صدقي وحكم صدقي:
«أيها السادة..
«ما احتفلت مصر بعيد جهادها إلا وتمثل لها سعد في عظمته تملؤه روح أمته، فيسعي للغاصب في صولته، ليطالبه بالحق المغصوب، والأحكام العرفية يومئذ في شدتها، والجند علي تمام أهبتها، والحراب مشروعة، فما أشفق له جنان أو عيي له لسان، لأنه كان جنان الأمة الأبية، ولسانها الموفد في السعي إلي الحرية».
«ولقد مر علينا عيد الجهاد في العام الماضي متشحا بالسواد، مجللا بالحداد علي دستور الأمة الذي ألغته الوزارة الصدقية، وعلي حرياتها التي انتهكتها، وحقوقها التي ضيعتها، ولم تتورع هذه الوزارة عن أن تجعل يوم العيد نفسه مسرحا لانتهاك الحرمات والاعتداء علي الحريات، فمنعت إحياءه في كل بلاد القطر وأرسلت القوات إلي سرادق الاحتفال بالقاهرة فاحتلته، وتولي رجال المطافئ هد قوائمه وإنزال معالمه، وماجت أرجاء العاصمة برجال البوليس، وحاصر الجنود بيت الأمة والنادي السعدي وضريح الزعيم الخالد الذكر سعد، حيث يحج المخلصون لتجديد عهود الوفاء، وبلغ الأمر بالمعتدين أنهم احتلوا الضريح بالجواسيس وحاولوا منع السيدة الجليلة أم المصريين من أن تصل إليه.. وهذا هو يوم 13 نوڤمبر 1931 لا نراه أسعد حظا عند الوزارة من سابقه، فهي تمنع الاحتفال به كما منعته في العام الماضي، وتجعله أيضًا مسرحا للظلم والاعتداء، مع أننا كنا نحتفل بالعيد كما نشاء، وكانت السلطات العسكرية البريطانية نفسها لا تمنع الاحتفال به حتي في سنة 1922 سنة النفي إلي سيشل والسجن في ألماظة والاعتقال في قصر النيل، والمحاريق وتسليط الحديد والنار علي المصريين».
(2)
وفي أدبياتنا التاريخية نصوص كثيرة تروي مظاهر العنت الذي لقيه النحاس والوفد والشعب علي يد إسماعيل صدقي طيلة حكمه (1930 ـ 1933)، وليس هذا الكتاب مجالًا لنقل كثير من النصوص، لكننا نجتزئ ببعضها بما يكفي للإشارة إلي تلخيص الجو العام للأحداث.
وهذا علي سبيل المثال هو حديث النحاس باشا المختصر عن اليوم الذي شهد تحطيم سلاسل مجلس النواب، واجتماع هذا المجلس برياسة ويصا واصف باشا:
«اجتمعت الهيئة الوفدية برمتها بالنادي السعدي في الموعد المحدد، وهو الساعة لعاشرة صباحًا، وركبنا سياراتنا يتقدمنا الأستاذ ويصا واصف رئيس مجلس النواب وقصدنا إلي المجلس، فوجدنا الحرس البرلماني يقف علي الأبواب فأمرهم ويصا في شدة أن يخلوا الطريق ففعلوا وتقدم وأمر بعض من كانوا معنا بتحطيم السلاسل التي تحيط بالأبواب، وفتح المجلس ودخلنا قاعة النواب واجتمع الأعضاء برياسة ويصا واصف واتخذنا قرارات باستنكار عمل الحكومة بغير الدستور، وأعلنا احتجاجًا صارخًا علي العبث بالدستور وتعطيل الحياة النيابية، كما أعلن النواب بالإجماع أنهم لا يقرون هذا العبث ولا ينفذونه وأنهم لا يزالون نوابًا عن الأمة، وأعضاء في برلمانها المنتخب انتخابًا حرًا».
«قامت قيامة الحكومة وجن جنونها، وحاصرت البرلمان من جميع جهاته بقوات كبيرة من رجال الجيش والبوليس، وأصدرت لهم الأوامر بإطلاق الرصاص علي النواب إن حاولوا أن يعودوا للاجتماع مرة أخري، وأن يمنعوهم بكل الوسائل، ويقبضوا عليهم بلا هوادة ولا رحمة، ولكن كان السهم قد نفذ وأثبت نواب الأمة أنهم رجال، وسجلوا علي القوة الغاشمة عسفها وبطشها وعبثها بالقوانين، وانتصرت كلمة الحق وتناقلت الأسلاك والأنباء هذا الحادث الذي كان حديث العالم كله، وهز إنجلترا وممثليها هزة عنيفة».
(3)
وهذه فقرة أخري يصف فيها النحاس باختصار شديد يوم معركة المنصورة التي بيتت حكومة إسماعيل صدقي النية فيها علي قتل النحاس باشا نفسه:
«زرنا المنصورة من يومين، فرأينا فيها عجبًا.. لقد وصلنا إليها فإذا بها قلعة محصنة بفرقة كاملة من رجال الجيش المصري فضلًا عن رجال البوليس المنتشرين في كل مكان، وحاولنا بكل الوسائل أن نذهب إلي حيث مكان الاحتفال، وسمحوا لعدد قليل منا وركبنا سيارة مكشوفة وكان معي فيها سينوت حنا بك عضو الوفد المصري، وحاولت قوات الجيش والبوليس أن تمنع الجماهير المتحمسة فلم تستطع، وكانت معركة حامية سقط عدد كبير من الجرحي وقبض علي مئات المواطنين، ولم نعلم بهذا الخبر إلا بعد أن وصلنا إلي مكان الاحتفال وألقيت الخطاب وأظهرت الجماهير من الحماسة والوطنية ما يفوق كل وصف، وسارعنا بالعودة حتي لا نكلف المواطنين إرهاقًا فوق ما تكلفوه وعدنا كما جئنا في السيارة المكشوفة ومعي سينوت بك، وفي هذه المرة زادت قوات الجيش وبرز رئيس القوة وهو برتبة لواء وأصدر أوامره للجنود والضباط بالهجوم علي سيارتنا وتقدم عدد كبير منهم بالسنك والبنادق وهموا بالاعتداء عليّ، وبينما كان أحد الجنود يصوب السنكة المسنونة إلي صدري حماني سينوت وتلقي السنكة في صدره فجرح جرحًا بليغًا وسقط في السيارة مغشيًا عليه، فهاجت الجماهير وماجت وتقدمت تلقي الأحجار والحصي علي الجنود وقائدهم حتي انسحبوا بعيدًا وسارعنا إلي الإسعاف، فعملت الإسعافات الأولية وحاولنا إبقاء سينوت حنا في المستشفي بالمنصورة، ولكنه أفاق وتحامل علي نفسه وأصر أن يصل إلي مصر، ولازمه عدد كبير من الأطباء الذين كانوا معنا وظلوا يسعفونه ويعنون به حتي وصلنا محطة القاهرة، وسارعوا فنقلوا سينوت إلي المستشفي حتي أجريت له عملية وضمد الأطباء المختصون جرحه ولم أتركه إلا في ساعة متأخرة من الليل بعد أن أطمأننت أنا وإخواني أعضاء الوفد ، وشقيقه بولس بك حنا وكريمته وزوجها إميل الكسان بك عليه».
«أذن الأطباء لسينوت بك حنا بالخروج إلي داره علي أن يلازم الفراش عدة أيام ولا يباشر عملًا حتي يلتئم الجرح تمامًا، وقد عاد إلي داره التي ذهبنا إليها أنا وجميع إخوانه وقضينا وقتًا طويلًا نتحدث في هذا الحادث ولطف الله الذي قدر، وكانت وطنية سينوت بك وأسرته بالغة الحد إذ أظهر من الشعور والإخلاص والكلمات الحارة ما أخجل تواضعي وأثر في نفسي تأثيرًا بليغًا».
(4)
وربما أن أصعب الآثار التي تركها عسف إسماعيل صدقي بالحركة الوطنية في أثناء حكمه الأول (1930 ـ 1933) كان هو تعرض الوفد تحت قيادة النحاس باشا للانشقاق الأول في عهده، وهو الانشقاق الذي عرف اختصارًا بانشقاق «السبعة ونصف»، وفيه انشق ثمانية من أقطاب الوفد لكن أحدهم كان قصيرًا فابتدعت العقلية المصرية الميالة للفكاهة هذا التعبير، ومن العجيب أن هذا الذي أطلق عليه النصف كان هو أهم هؤلاء الثمانية فيما تلا ذلك من تاريخ مصر، وهو علي الشمسي باشا، الذي كان قد وصل إلي الوزارة في أخر أسبوع من أسابيع وزارة سعد باشا (نوڤمبر 1924)، ومن الطريف أن بعض كتابنا ومؤرخينا كتبوا أن الأستاذ محمد نجيب الغرابلي هو المقصود بالنصف، مع أن هذا الرجل كان طويل القامة، (وهو خطأ تردد في أكثر من موضع من المواضع الكثيرة التي ينقل بعضها عن بعض استسهالًا دون إثبات للمصادر).
وفي كل الأحوال فمن المفيد أن نقرأ تصوير النحاس باشا نفسه للمناقشات التي سبقت حدوث هذا الانشقاق والمحاولات الصبورة التي بذلها بنفسه من أجل تجنب حدوثه. لكننا قبل أن نمضي في هذه القراءة نلفت نظر القارئ إلي أن وعي النحاس السياسي كان قد تشكل قبل هذا بما رآه من تجربة سعد زغلول مع أعضاء الوفد الأول.. وقد كان النحاس نفسه واحدًا منهم، وقد وصلت أمور المناقشات بين سعد وأقلية من الوفد في ناحية، وبين الأغلبية في ناحية أخري إلي النقطة التي تمسكوا فيها بفكرة أنهم أغلبية، وكان رد سعد زغلول الذي مثل جوهر سياسة الوفد منذ ذلك الحين هو أن القضية ليست قضية أغلبية وإنما هي قضية توكيل، وأن التوكيل الذي يعمل الوفد بمقتضاه لا يسمح للوفد بأن يتصرف فيما وكل في العمل لأجله استنادًا إلي الأغلبية.. وقد كان هذا المبدأ الحاكم هو الذي حمي الوفد في عهد سعد من الانفراط.. وقد كان النحاس بوعيه وذكائه قادرًا علي أن يعمل من خلاله في 1932 أيضًا، علي نحو ما سنري في هذه المناقشات التي عرضتها مذكرات النحاس بأمانة شديدة:
«زارني الغرابلي باشا وتحدث معي في الحالة الحاضرة، وأخذ يسرد عليّ وقائع التعذيب التي يلقاها المواطنون في كل بلدة وكل قرية، فقلت له إني علي علم بهذا أولًا بأول وأتلقي كل يوم وتتلقي سكرتارية الوفد مئات البرقيات تحمل هذه الأنباء السيئة المؤلمة، ولكن لا حيلة لنا إلا الصبر والمقاومة والاحتمال حتي يأذن الله بالفرج. فأجاب بعد سكتة طويلة: يا دولة الباشا لقد اجتمعت بالإبراشي باشا وبعض رجال السراي كما التقيت ببعض رجال الجالية البريطانية من المتصلين بدار المندوب السامي وتحدثنا طويلًا في الحالة السيئة التي تعانيها البلاد، وفهمت من الجميع أن دار المندوب السامي والقصر الملكي لا مانع لديهما من العمل علي تغيير الحالة، وكلفاني بأن أنقل إليك هذا الخبر!! قلت: هذا حسن وما الذي يمنعهما من أن يفعلا ذلك إذا كانا صادقين، قال: إن الملك يخشي من انفراد الوفد بالحكم لأن هذا في رأيه يجلب له متاعب كثيرة، وهو يعرض أن يقبل الوفد تأليف وزارة قومية من جميع الأحزاب برئاستك فإذا وافقت فهو مستعد لأن يعيد الدستور والحياة النيابية، وتعود البلاد إلي طبيعتها، ويسود الهدوء، ويتمتع الشعب بعهد من الاستقرار والاطمئنان».
«فأجبته: ألست عانيت معنا تجربة الائتلاف والوزارة القومية، وهل نسيت ما فعله محمد محمود في وزارتي الأولي، وما تأخرت بسببه قضية البلاد، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولن أقبل بحال من الأحوال أن أرأس وزارة ائتلافية الأقي منها ما لاقيته من قبل، قال: ادع الوفد إلي الاجتماع وأعرض هذا العرض فإني أعلم أن عددًا كبيرًا من زملائنا يرون في هذا الحل تغير الأحوال، وخروج الأمة من المصائب التي تنزل بها كل يوم، قلت: مَنْ الزملاء الذين يؤيدونك؟ قال: حمد باشا، والجزار بك، والشريعي بك، وواصف باشا، والشمسي باشا، وفخري عبد النور بك، وفتح الله باشا، ونحن ثمانية أعضاء كلنا مللنا وتعبنا من الحرب المنحطة التي يحاربنا بها صدقي، وتساعده السراي، وتؤيده دار المندوب السامي، والوفديون أنفسهم يضجون من هذه الحالة التي لا نعرف لها نهاية، فلو تساهلت وقبلت لخرجنا من هذا المأزق».
«فأمسكت أعصابي وقلت له: إذًا قد تكلمتم في هذا الأمر، واتفقتم عليه من غير علمي، وجئت بعد أن انتهيتم منه تخبرني بما قررتم. قال: إننا نظرنا إلي ما تقاسيه البلد وما يتعرض له المواطنون جميعًا من ظلم وانتقام في الأبدان والرزق، وكل ما يملكون وأشفقنا علي الأمة من هذا الذي يرتكب معها، فقلت له: بلغ إخوانك إذا كانوا قد أجمعوا علي هذا الأمر فإني أرفضه جملة تفصيلًا، ولو اتفق الوفد كله علي هذا فلن أوافق».
(5)
هكذا تشير المذكرات التي رويت عن النحاس صراحة إلي جوهر حواره مع الغرابلي باشا، وإلي أنه أدرك أن مناقشات مستفيضة تمت من دون علمه، وأن هذه المناقشات انتهت إلي ما كان لا يعتقد في صوابه.. وإلي أنه مع هذا كان واضح الرؤية مستعدًا للاستقالة إذا ما اقتضي الأمر ذلك وفشل في إقناع زملاءه بالصواب.
وها هو علي نحو ما نقرأ قد بدأ مشاورات مطولة مع هؤلاء الزملاء زادته تصميمًا علي ما كان يراه صوابًا:
«قضيت الأيام العشرة الماضية في مقابلات وزيارات لأعضاء الوفد الذين يؤيدون الوزارة القومية إذ قد تبين لي أن هذه المسألة أخذت طابعًا جديًا وأصبحت حديث المجالس القومية والصحف، وأخذ بعض رجال السراي والمندوب السامي يقولون إن النحاس مستبد، ويريد أن يفرض رأيه علي الأغلبية، ولقد زرت حمد باشا وتحدثت معه طويلًا فكان حديثه لا يخرج عما قاله لي الغرابلي، وزرت علوي الجزار بك ومراد الشريعي بك وفخري عبد النور بك والشمسي باشا وبركات، وكانت زيارة كل واحد تستغرق يومًا بأكمله في الصباح والمساء، وإذا بآرائهم جميعًا متفقة علي أن البلد تعب وأن الناس في الأرياف ضجوا من الشكوي، وأن قوة الوزارة ووراءها الإنجليز لا يمكن أن تُقاوم، وأن السراي تدعونا إلي حل المشكل، والملك يرحب بالوزارة القومية فلماذا لا ننتهز هذه الفرصة الذهبية علي حد قولهم، ونقبل هذا الحل حتي تتخلص البلاد من المصائب التي تنزل علي رؤوس أبنائها كل يوم».
«حاولت بكل الوسائل أن أقنع الزملاء بأن هذا حل أعرج، وأن الملك والإنجليز يريدان من ورائه إضعاف قوة الوفد، وتفرق كلمته، وعبثًا حاولت إقناعهم فردًا فردًا علي حدة، فقررت دعوة الوفد وعرض الأمر عليه، وصممت علي أنه إذا قرر الوفد بأكمله تأييد فكرة الوزارة القومية فإني سأستقيل من الرياسة حتي لا أخون الأمانة التي ائتمنتني عليها الأمة، ولا أسيء إلي روح سعد في عليائه، ولكني كتمت هذا في نفسي وانتظرت ما تأتي به الأحداث».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
(6)
وقد كان العنت الشديد الذي لقيه الشعب المصري والمشتغلون بالسياسة والعمل الوطني من أبنائه علي يد إسماعيل صدقي وحكومته بمثابة دافع قوي إلي ائتلاف الوفد والأحرار الدستوريين للمرة الثانية في تاريخهما (وذلك علي غرار ما حدث في أثناء الانقلاب الدستوري الأول الذي تولي إصره أحمد زيور باشا) وقد كان هذا هو ثاني وآخر ائتلاف بين هذين الحزبين التاريخيين، وقد نشأت عن هذا الائتلاف جبهة من النحاس ومحمد محمود وغيرهما في مواجهة صدقي باشا الذي لم يعبأ كعادته بمثل هذه القوة، وواصل غطرسته.
وهذه فقرة من المذكرات المنسوبة إلي النحاس باشا تلخص بعض وقائع المواجهة طويلة الأمد بين هذين الجانبين بكل ما كانا يمثلانه:
«… وبعد عدة اتصالات بين الوفد والأحرار الدستوريين انتهي إلي ائتلاف بينهما علي محاربة الحكومة التي عبثت بحقوق البلاد، وطغت وبغت حتي ضج منها الجميع، وقد اتفقنا علي أن نقوم برحلات إلي عواصم المديريات تلبية لدعوة المواطنين الذين وصلت إلينا منهم عشرات وعشرات من الدعوات».
«بعد الائتلاف بين الوفد والدستوريين قررنا تلبية دعوة بعض المواطنين وأعلنا أننا سنزور الوجه القبلي واستأجرنا لذلك قطارًا خاصًا من السكة الحديد فسمحت لنا، وفي اليوم المحدد ركبنا القطار أنا ومحمد محمود باشا وأعضاء الوفد وأعضاء حزب الأحرار الدستوريين وعدد كبير من الوفديين واتجه القطار في طريقه المرسوم له، ولم تكد تمضي فترة وجيزة حتي وجدنا أنفسنا في صحراء المقطم بين الصحراء والسماء، ولما سألنا قيل لنا أن الحكومة أمرت بتحويل اتجاه القطار من خط الصعيد إلي هذا المكان، فكانت مهزلة من مهازل صدقي أثارت غضب الأمة كلها واستنكرتها وتحدثت عنها الصحافة المحلية والأجنبية، ونقلت وكالات الأنباء هذا الخبر ونشرته الصحف البريطانية والفرنسية حتي إذا غربت الشمس وأقبل الظلام أمر سائق القطار بأن يعود بنا إلي محطة مصر وعدنا إلي بيوتنا مرهقين ساخرين من عبث الحكومة وأسالبيها الصبيانية وجرائمها التي لا يرتكبها إلا اللصوص وقطاع الطرق».
(7)
وهذه هي قصة زيارة بني سويف علي نحو ما تصورها عبارات مذكرات النحاس باشا ببساطة وعفوية وحماس:
«دعتنا لجنة الوفد ببني سويف للزيارة فصممت علي تلبيتها، واتخذنا لذلك الحيطة فلم نستأجر قطارًا خاصًا بل ركبنا القطار العادي حتي لا يتحول إلي الصحراء، ووصلنا إلي محطة بني سويف فإذا بها قلعة حربية ممتلئة بالجنود والضباط، شاهري الأسلحة والبنادق وحاولوا منعنا بالقوة من الخروج لملاقاة المواطنين الذين كانوا يملأون الشوارع والطرقات».
«وتقدمت إلي باب المحطة ومعي محمد محمود باشا، وحاولنا الخروج فتعرض لنا البوليس ومنعنا بالقوة، ولما صمم محمد محمود باشا أن يخرج بالقوة خطف ضابط الطربوش من علي رأسه، وأحاط بي عدد كبير من الجنود ودفعوني بالقوة إلي داخل المحطة، وحاصرونا فيها فصممنا علي ألا نبرح مكاننا مهما مر من الوقت حتي نلتقي بالمواطنين».
«ولما جاء وقت القيلولة ونحن محاصرون استرحنا علي كراسي المحطة حتي زال الحر، ثم عمدنا مرة أخري إلي الخروج لملاقاة الجماهير التي ظلت واقفة تحت وهج الشمس، ونجحنا هذه المرة بأن استطعنا اختراق كردون البوليس ومعنا عدد قليل من مرافقينا. واشتدت حماسة الجمهور عند ذلك».
«وكانت مظاهرة رائعة انتصرت فيها الجماهير علي قوات الحكومة، حتي قال محمد محمود باشا: خسرنا طربوشًا وكسبنا معركة، ولما رأينا الاعتداءات قد اشتدت علي المواطنين وسقط منهم عدد كبير تحت سنابك الخيل وهراوات الجنود، سارعنا بالعودة إلي المحطة، ولكن بعد أن لقنا الحكومة وأعوانها درسًا، في أن الوطنية لا تقهر، وأعلمنا صدقي أن قوته وبطشه لن يفلحا مع شعب مصر إذًا أبدًا».
(8)
ومن الإنصاف لتاريخنا أن نلقي مزيدا من الضوء علي الائتلاف الذي انعقد في مارس 1931 بين الوفد بزعامة النحاس، والأحرار الدستوريين، وقد كان ائتلافا عالي القيمة.. سريع الأثر.
وقد أعلن المتآلفون حرصهم علي العمل علي إعادة النظام الدستوري، ولأجل هذا الغرض نشطوا في زيارة الأقاليم، كما عملوا علي عقد مؤتمر وطني عام يجمع الأمة بهيئاتها وطوائفها لتأييد سياسة قوية.
ووضعوا لهذا الميثاق الوطني الذي كان نصه علي ما أثبته الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:
«بما أن وزارة إسماعيل صدقي باشا تتخذ العدة لإجراء انتخاب للبرلمان وأعضاء مجالس المديريات، وتنوي بعد ذلك أن تتصدي لقضية البلاد فتعقد الاتفاق الذي سعت الحكومتان المصرية والإنكليزية طوال هذه السنين المتوالية لعقده بينهما، وربما أنها رغم ما تلجأ إليه من وسائل الحجر علي الأمة والقضاء علي حرياتها تزعم في الوقت نفسه أن الأمة ستشترك في الانتخابات وأن الهيئتين اللتين أعلنتا مقاطعتها، أي الوفد والأحرار الدستوريين، قد تخوضان معركتها في اللحظة الأخيرة، فالوفد المصري والأحرار الدستوريون يعلنون أنهم لا يحفلون بكل ما تزعمه الحكومة في هذا الصدد، وأنهم يقفون متفاهمين بكل قوة وإخلاص جبهة واحدة في وجه الدستور الذي تحاول وزارة صدقي باشا بكل وسائل البطش والإرهاب أن تفرضه علي البلاد فرضا، مزدرية في ذلك كل عدل أو قانون، ويكررون أنهم متفقون علي مقاطعة الانتخابات التي تجري في ظل هذا الدستور مقاطعة لا رجوع فيها، سواء كانت هذه الانتخابات للبرلمان أو لمجالس المديريات وأنهم يرون مقاطعتها فرضا علي كل مصري مخلص لبلاده ولا يرضون أن يكون لمصر نظام للحكم غير ما ارتضته بدستور سنة 1923، وهم في موقفهم هذا صادرون عن رأي الأمة، واثقون من تأييدها لهم، وقيامها إلي جانبهم في مسعاهم، ليعود هذا النظام كاملا غير منقوص، وليعود الحكم النيابي بكل تقاليده، الصحيحة، فتتولي الأغلبية النيابية شؤون الحكم في حدود تلك التقاليد النيابية، حتي يتمتع المصريون جميعا علي اختلاف آرائهم وطبقاتهم بنعمة الدستور وما يكفله للجميع من حرية وعدالة ومساواة، وحتي يستقر بذلك نظام الحكم في البلاد فتطمئن النفوس وتعود الثقة المالية وتتوافر المصلحة لجميع القاطنين في مصر أجانب ووطنيين علي السواء، وفوق ما تقدم فإن هذه الحكومة الدستورية مستندة إلي برلمان الأمة، هي وحدها التي تستطيع أن تعقد مع إنجلترا اتفاقا شرعيا ثابتا يرضاه الشعب المصري ويطمئن إلي نصه وتنفيذه، ولن تقر الأمة أي اتفاق يعقد في ظل دستور الحكومة الحاضرة، إذ يكون الغرض من عقده وتنفيذه بطريقة لا تتفق مع مصلحة مصر ولا مع استقلالها، وقد اتفقت الهيئتان علي حل المسألة المصرية حلا شريفا عادلا لا يدخران وسعا أو جهدا في سبيل تحقيقه، وكذلك فالهيئتان متفقتان علي أن ينظر البرلمان في تعديل قانون الانتخاب الذي صدر في سنة 1924 بعد أن تعود الحياة النيابية علي مقتضاه وعلي أن يكون كل تعديل في هذا القانون متفقا مع المصلحة القومية دون التقيد بأي اعتبار حزبي».
«ولقد اعتزمت الهيئتان متضامنتين أن تعملا علي تنفيذ هذا الميثاق الوطني بكل ما أوتينا من قوة؛ ولذلك عولتا علي عقد مؤتمر وطني ممثل للأمة علي اختلاف طبقاتها وهيئاتها لتأييد هذه السياسة القومية، كما اعتزمتا الدعوة إليها بزيارة الأقاليم للمزيد من إيمان الناس بها، ولن يدخرا في سبيل هذه الغاية السامية أي جهد ولن يضنا عليها بأي تضحية».
«وقد وقع علي هذا الميثاق كل من:
رئيس الوفد المصري: مصطفي النحاس.
أعضاء الوفد: حمد الباسل، سينوت حنا، جورج خياط، واصف غالي، ويصا واصف، مكرم عبيد، محمد فتح الله بركات، محمد علوي الجزار، مراد الشيعي، مرقص حنا، علي الشمسي، محمد نجيب الغرابلي، فخري عبد النور، سلامة ميخائيل، راغب إسكندر، حسن حسيب، حسين هلال، مصطفي بكير، عطا عفيفي، أحمد ماهر، محمود فهمي النقراشي.
رئيس حزب الأحرار الدستوريين: محمد محمود.
أعضاء مجلس الإدارة: محمود عبد الرازق، محمد علي علوبة، إبراهيم الهلباوي، جعفر ولي، أحمد محمد خشبة، كامل جلال، صالح الشريعي، علي عبد الرازق، محمد كامل البنداري، عبد الحليم العلايلي، محمد محفوظ، رشوان محفوظ، سيد محمد خشبة، عبد الجليل أبو سمرة، غبريال سعد، علي راتب، حامد العلايلي، محمد سامي كمال، إبراهيم الطاهري، عبد العزيز الحسيني سعده، توفيق إسماعيل، عبد الله أبو حسين، عباس أبو حسين، أحمد مصطفي أبو رحاب، محمد الفقي، أحمد علي علوبة، أحمد عبد الغفار، حفني محمود، إسماعيل راتب، محمد حسين هيكل».
(9)
وفيما بعد هذا قرر الوفد والأحرار الدستوريون عقد مؤتمر وطني عام وحددوا يوم الجمعة 8 مايو موعدًا لانعقاده، ولكن وزارة صدقي قررت منعه، فاتفقوا علي وضع قرارات تعبر عن آرائهم ومطالبهم ووقعوا عليها، وقد أثبتها الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:
«دعا الوفد المصري والأحرار الدستوريون إلي عقد مؤتمر وطني عام في يوم الجمعة 8 مايو سنة 1931، فمنعت الوزارة الاجتماع، وقد عرضت القرارات التالية علي حضرات المدعوين للاشتراك في المؤتمر فأقروها ووافقوا عليها وهي كما يأتي:
أولا: التمسك بالدستور الذي صدر في 19 أبريل سنة 1923 واعتبار النظام المقرر به النظام الوحيد الذي ترضاه الأمة لحكمها.
ثانيا: بما أن الوفد المصري والأحرار الدستوريين قرروا مقاطعة الانتخابات التي تجريها الوزارة الحالية في ظل النظام الذي استصدره صدقي باشا في 22 أكتوبر سنة 1930 فالانتخابات التي تجريها وزارة صدقي باشا في ظل هذا النظام ـ مع ما يحوطها من أعمال الضغط علي حرية الأهالي جميعا بما لا يتفق وقوانين البلاد المتمدينة ـ لا تعبر عن رأي الأمة ولا تعتبر استفتاءً لها بحال، والمؤتمر يعلن أن البرلمان الذي قد يعقد علي أثر هذه الانتخابات لا يمثل الأمة ولذلك فكل معاهدة أو اتفاق يعقد مع حكومة تستند إلي هذا البرلمان لا تتقيد الأمة بنصه أو بتنفيذه.
ثالثا: الاحتجاج علي ما قامت به وتقوم به وزارة صدقي باشا من مصادرة حرية الرأي بتعطيل الصحف ومراقبتها إداريا والعبث بحرية القول والاجتماع والانتقال من مكان إلي آخر، مما أدي إلي سفك الدماء وإثارة الخواطر وتسخير الموظفين لأعمال غير متصلة بشئون وظائفهم أو واجباتهم إلي غير ذلك من الأعمال الخانقة لحرية الفرد والمجموع مما كان له أسوأ الأثر في حياة البلاد من جميع نواحيها اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية.
رابعا: رفع هذه القرارات إلي حضرة صاحب الجلالة الملك وإبلاغها لممثلي الدول الأجنبية في مصر.
القاهرة في يوم الخميس 19 ذي الحجة سنة 1349 ـ 7 مايو سنة 1931.
الموقعون: مصطفي النحاس ـ رئيس الوفد المصري ورئيس الوزراء سابقا، محمد محمود ـ رئيس حزب الأحرار الدستوريين ورئيس الوزراء سابقا، عدلي يكن ـ رئيس الوزراء سابقا ورئيس مجلس الشيوخ سابقا، محمد مصطفي المراغي ـ شيخ الجامع الأزهر سابقا، ويصا واصف ـ رئيس مجلس النواب سابقا.
وزراء سابقون: أحمد مدحت يكن، جعفر ولي، حسن حسيب، حسين درويش، مصطفي ماهر، أحمد زكي أبو السعود، فتح الله بركات، مرقص حنا، واصف غالي، محمد نجيب الغرابلي، أحمد ماهر، علي الشمسي، عثمان محرم، أحمد خشبة، محمد السيد أبو علي، محمد علي علوبة، محمد صفوت، مكرم عبيد، محمد أفلاطون، محمود فهمي النقراشي، محمد بهي الدين بركات، محمود بسيوني، عبد العزيز عزت- وزير مصر المفوض في بريطانيا العظمي سابقا.
أعضاء الوفد المصري: حمد الباسل ـ وكيل مجلس النواب سابقا، جورجي خياط، سينوت حنا، محمد علوي الجزار ـ وكيل مجلس الشيوخ سابقا، مراد الشريعي، فخري عبد النور، سلامة ميخائيل، راغب إسكندر، حسين هلال ـ وكيل مجلس النواب سابقا، مصطفي بكير، عطا عفيفي.
أعضاء مجلس إدارة حزب الأحرار الدستوريين: محمود عبد الرازق – وكيل وزارة الداخلية سابقا، رشوان محفوظ ـ وكيل وزارة سابقا، محمد محفوظ، كامل جلال، محمد عبد الجليل أبو سمرة، حامد العلايلي، محمد توفيق إسماعيل، أحمد علي علوبة، صالح الشريعي، محمد حسين هيكل، الدكتور سامي كمال، إبراهيم الهلباوي، السيد علي راتب، السيد إسماعيل راتب، علي عبد الرازق، محمد كامل البنداري، محمد حامد محسب، عبد العزيز أبو سعده، غبريال سعد، أحمد عبد الغفار، عبد الله أبو حسين، عباس أبو حسين، عبد المجيد إبراهيم صالح، إبراهيم الطاهري، حفني محمود، أحمد معبد، محمد الفقي، أحمد مصطفي أبو رحاب.
كبار الضباط المتقاعدين: اللواء علي فهمي، اللواء محمد فاضل، اللواء علي شوقي، اللواء علي صدقي، اللواء عبد الحميد راغب.
(10)
هكذا نجح النحاس باشا في أن يضم للائتلاف الذي قاده شخصيات زعماء الأحرار الدستوريين بصفتهم الشخصية وبصفتهم الحزبية التي تم النص عليها كأعضاء في مجلس إدارة الحزب، كما نجح في أن يكون عدلي باشا يكن بكل تاريخه من أقطاب هذا الائتلاف، وكذلك الشيخ المراغي الذي لم يكن محسوبا علي الوفد بأية صورة.
وقد انضم عدد من أمراء البيت المالك إلي هذه الجبهة المعارضة لصدقي وكان من هؤلاء:
الأمير عمر طوسون.
الأمير محمد علي.
الأمير عمرو إبراهيم.
النبيل سعيد داود.
النبيل محمد علي حليم.
النبيل إبراهيم حليم.
(11)
وقد كان للملكة نازلي زوج الملك فؤاد موقف مؤيد للنحاس حريص، دون جدوي، علي نصرته. وقد ظهر هذا الموقف بوضوح (وإن لم يكن الوضوح كافيا) في فترة عهد صدقي. والواقع أن موقف الملكة نازلي المتعاطف للنحاس باشا المقدر له لم يكن وليد عهد فاروق، وإنما كان سابقًا علي ذلك حتي مع الحصار المفروض عليها في عهد زوجها الملك فؤاد، وفي مذكرات النحاس التي رواها الأستاذ محمد كامل البنا عن النحاس باشا حديث صريح عن رسالة صريحة بعثت بها الملكة نازلي إلي النحاس باشا في 1932:
«… زارني محمد أسعد بك موفدًا من قبل الملكة نازلي وقال لي إن جلالة الملكة تهدي إليك تحيتها وتقديرها، وقد كلفتني برسالة شفوية هي أن الملك بدأ يضيق بصدقي وبتصرفات وزرائه وأنها لا تريد أن يعرف بهذه الزيارة أحد وأن الإنجليز هم الآخرون بدأوا يفكرون في تغيير العهد وأن جلالتها تريد منك أن تخفف الحملة علي الملك شخصيًا حتي تستطيع أن تفعل شيئًا لصالح الوفد، فإنها من أشد المعجبين بصلابتك وتماسكك ولكنها تلاحظ عليك تعسفك في حرب السراي، وإذا كان لا بد فأبعد عن شخص الملك، واحمل ما شئت علي الحاشية الأجنبية والمصرية فهي كلها حاشية فاسدة، وقد ضاقت بها وتتمني أن تزول اليوم قبل الغد، وقد شكرت لأسعد بك هذه الزيارة ووعدته بأن تظل سرًا، وحملته إلي الملكة نازك تحيتي وشكري ووعدت بأن أخفف الحملة علي الملك إذا كان هذا في مصلحة البلد، ولكن الملك هو الذي يدبر كل شيء ويعمل بيده كل شيء والحاشية الذي حوله هم (عبد المأمور) كما يقولون، وأن المصيبة تكمن وراء الحكومة الغاشمة التي تحكم البلاد بالنار والحديد، وقد خربت كثيرًا من البيوت وملأت السجون بالألوف من الأبرياء والشرفاء».
(12)
وقد تحدث النحاس في عيد الجهاد (نوڤمبر ١٩٣٢) ملخصًا ما أحس به من مشاعر جماهير الوفد تجاه سطوة صدقي وغطرسته وافتراءاته فقال:
«في مثل هذا اليوم من كل عام يحتفل المصريون بعيد الجهاد في كل جهة، بل في كل قرية، بل في كل منزل، بل في كل قلب، لا يعنيهم أن تسمح القوة باحتفالهم أو تمنعه، فإن سمحت به تجلي فيه رائع إجماعهم وإن منعته في مظهره فلن تستطيع أن تمنعه من قلوبهم أو تحرمهم أن ينشروا بين أيديهم راية مجدهم، وكتاب جهادهم، وأن تتصل في الملأ الأعلي أرواحهم بروح سعد باعث هذه النهضة فيهم، يستلهمونها قوة علي قوتهم، وثباتا فوق ثباتهم، ويعاهدونهم علي استمرار الجهاد مخلصين حتي تحقق بإذن الله آمالها وآمالهم في الاستقلال التام».
«أيها المصريون… إن شأنكم مع القوة في هذا الأمر شأنكم معها في كل أموركم تخادعكم فلا تخدعكم ولكن تفضحونها، وتصارعكم فلا تصرعكم ولكن تغلبونها، وتحاربكم بالنار والحديد فتنتصرون عليها بالإيمان الصادق والعزم الوطيد».
«هكذا فتح لكم سعد باب الجهاد يوم سعي هو وزميلاه إلي دار الحماية البريطانية في 13 نوڤمبر سنة ١٩١٨ عزلا من كل سلاح إلا سلاح الإيمان، ومن كل قوة إلا قوة الجنان، والإنجليز يومئذ في نشوة الغرور بالنصر، تسد جيوشهم عين الشمس، وتوقع الخشية في كل نفس، والأحكام العرفية ضاربة بجرانها، سادرة في طغيانها، فما عيي لسعد لسان أو تزعزع إيمان، بل دوت صيحته بالحرية في آذان الأقوياء وما زالت تدوي فيها حتي الآن».
«تلك عقيدتي وعقيدة زملائي في الحرية، وذلك ديني ودينهم في الوطنية، تملؤنا الثقة الوطيدة بالله وبالحق وبالوطن، فنعتمد علي الأمة من بعد الله أولا، ونعتمد عليه أخيرا، ونفخر بالأمة دائما، ونفخر بالأمة كثيرًا، ومن اعتمد علي الله وعلي الأمة من بعد الله فالله وليه وناصره، وهو نعم المولي ونعم النصير. فأما من كذب بالأمة أو داخله الشك فليس منا، لأن الكفران بها فناء، والشك أول الكفران، ونحن بها مؤمنون، ولعهدها حافظون، فما لنا وللكافرين».
«ولقد عرفت فينا الأمة هذا الإيمان الراسخ بقوتها، وسلامة عقيدتها، وعدالة قضيتها، واستعدادها الدائم للتضحية في سبيل حريتها، فغمرتنا في كل الظروف وما زالت تغمرنا بتأييدها، وأولتنا وما زالت تولينا خالص ودها وصادق عهدها».
«ولقد رأي خصوم قضيتها في هذا الإخلاص المتبادل بيننا وبينها كل معدات الكفاح، ومقتضيات النجاح، فجعلوا همهم الدائب أن ينفروها منا أو يصرفوها بالقوة عنا، ولكنهم كانوا كلما افتروا علينا عندها، أو حالوا بالقوة بيننا وبينها، زادوها استمساكا بنا، وزادونا استبسالا في خدمتها، وإيمانا بصلابتها في جهادها للاستقلال».
«كلكم جنود الوطن، وكل جندي منكم يتغني في الملمات بكلمة سعد، سأبقي في مركزي مخلصا لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادا وجماعات».
(13)
ظل النحاس والوفد يعانيان من حكم صدقي حتي تمكن الشعب من إسقاط صدقي وجاء عبد الفتاح يحيي ليخلف صدقي، ثم جاء محمد توفيق نسيم ليخلف صدقي وعبد الفتاح يحيي معا، وبدأ الحديث عن عودة دستور ١٩٢٣، كما بدأ الحديث عن وضع معاهدة جديدة مع البريطانيين في ظل تغير الأوضاع العالمية بما كان واضحا من اندلاع نذر الحرب العالمية الثانية.
وبينما كان هناك كثير من الوفديين علي رأسهم الأستاذ العقاد وكتاب مجلة «روز اليوسف» يرون في وزارة نسيم امتدادا لحكم الإرهاب الذي ذاقوا مرارته، فقد كان النحاس نفسه يصف وزارة نسيم بأنها وزارة صديقة، وكان يعاملها بهذا المنطق، بل إنه كان يساعدها ببعض الكوادر الوفدية إلي حد أن هذه الوزارة ضمت في منصب وزير المعارف أحمد نجيب الهلالي المعروف حينذاك بوفديته.
وقد عاد دستور 1923 في النهاية.
وقد خرج عن الوفد في نهاية هذا الانقلاب كاتبه الكبير الأستاذ عباس العقاد، وكان خروجه ، في تقديري، أصعب أثرًا من خروج السبعة ونصف وخروج مكرم عبيد نفسه.
كذلك خسرت صحيفة روزاليوسف مكانتها بسبب هذا الخروج. ويبدو لكل متأمل للأدبيات المتاحة أن مكرم عبيد كان صاحب السبق المعلي في إتمام هاتين الخطوتين اللتين أفقدتا العقاد وروزاليوسف مكانهما الطبيعي وألجأتهما إلي سياق آخر.
(14)
ثم عين علي ماهر رئيسا للديوان الملكي، وبدأت محاولات جادة لإجراء انتخابات برلمانية كانت كفيلة بعودة الوفد إلي الحكم عقب انتهاء مائة يوم تولي علي ماهر فيها الحكم، وتولي نقل السلطة إلي مجلس الوصاية علي الملك فاروق الذي كان لا يزال دون السن القانونية.
وقد كان للنحاس باشا فضل كبير جدا في تثبيت أقدام الملك فاروق حين وافق علي فكرة بلوغه السن اللازمة لتسلمه سلطاته، وذلك علي الرغم من أن الظروف كانت تتيح فرصة ذهبية للنحاس لو أراد المناورة وتأجيل تسلم فاروق لسلطاته، لكن النحاس بفطرته وصادق نيته آثر استقرارا طبيعيا.
(15)
وتنفرد مذكرات حسن يوسف بتقديم بعض تفصيلات المداولات التي سبقت اختيار هيئة الوصاية علي الملك فاروق في ١٩٣٦، ومع أن التفصيلات التي يوردها حسن يوسف تبدو غير كاملة وغير موثقة، فإنها تمثل عنصرا مهما في تصوير بعض الحقيقة إن لم يكن كلها:
«… اقترح المندوب السامي عقب وفاة الملك فــؤاد، أن يعين الأمير محمد علي رئيسا لمجلس الوصاية، والشيخ المراغي عضوا بالمجلس (علي هدي السوابق في إنجلترا باختيار أسقف كانتربري)، ومن ناحية أخري حذر المندوب السامي من اختيار الأمير عمر طوسون أو محمد طاهر باشا لما هو معروف عنهما من العداء لإنجلترا».
«وقد وافق رئيس الحكومة (علي ماهر باشا) علي رأي المندوب السامي، ولو أنه اعترض علي ترشيح الشيخ المراغي لأنه ليس من الفئات التي نص عليها القانون، ثم أوعز إلي المندوب السامي أن يستطلع رأي الزعماء السياسيين المصريين».
«اجتمع المندوب السامي برؤساء الأحزاب الثلاثة: مصطفي النحاس باشا، ومحمد محمود باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وأطلع كلا منهم علي الشروط التي وضعها الإنجليز لاختيار الأوصياء، وقد وافق النحاس باشا علي تعيين الأمير محمد علي وأبدي رغبته في ترشيح توفيق نسيم باشا، أما رئيس الأحرار الدستوريين فقد وافق علي اختيار محمد علي ورشح معه لعضوية المجلس عبد العزيز عزت باشا وأحمد زيوار باشا، أما إسماعيل صدقي فقد وافق علي مرشحي دار المندوب السامي».
«قال النحاس باشا بعد أن فاز الوفد في الانتخابات التي أجريت في ٢ مايو: «إن البرلمان لن يوافق علي ترشيح زيوار باشا لمجلس الوصاية»، ووجد الزعماء حلا وسطا باختيار محمد شريف صبري باشا (خال الملك فاروق)، وبذلك أصبح المجلس مكونا من الأمير محمد علي، وعبد العزيز عزت باشا، وشريف صبري باشا، ووافق البرلمان علي هذا الاختيار».
(16)
هكذا نفهم أن الأمير محمد علي كان مرشح المندوب السامي البريطاني، وأن عبد العزيز عزت كان مرشح الأحرار الدستوريين، وأن شريف صبري كان حلا وسطا لرفض النحاس ترشيح زيوار.
وهكذا نفهم أن عقلية النحاس المرنة لم تكن تفضل شخصا بعينه، لكنها كانت قادرة علي أن تعبر عن ذكائها في استبعاد شخص بعينه، وهذا هو بعض جوهر الذكاء في حكم السياسيين الزعماء علي الأمور.
وعلي كل الأحوال فقد تشكل مجلس الوصاية وسرعان ما كلف هذا المجلس النحاس باشا بتشكيل الوزارة:
«دولة الرئيس العزيز مصطفي النحاس باشا»
«لما أنتم عليه من عظيم الإخلاص والولاء، فوق ما حزتم من ثقة كبري، ولما اتصفتم به من أصالة الرأي، ومضاء العزيمة، وما نعرفه فيكم من واسع الخبرة، وكمال الكفاية، وسمو التدبير، قد اقتضت إرادتنا إسناد رياسة مجلس الوزراء إليكم».
«وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم، للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض المشروع علينا لصدور مرسومنا به».
«وفقنا الله جميعا، وسدد خطانا إلي ما فيه خير الوطن».
«صدر بسراي عابدين في 18 صفر سنة 1355 (9 مايو 1936)».
مجلس الوصاية
محمد علي
عبد العزيز عزت
شريف صبري
(17)
وجاء في رد النحاس باشا علي تكليف مجلس الوصاية له بتأليف الوزارة:
«… وتعتزم الوزارة بمشيئة الله أن تتقدم إلي البرلمان ببرنامجها، جاعلة نصب عينيها تحقيق استقلال البلاد بإبرام معاهدة مودة وتحالف مع الدولة البريطانية الصديقة، والعمل علي صيانة دستور الأمة بتثبيت قواعده، وتوطيد تقاليده، والسير بالبلاد في طريق الإصلاح، وسيكون في مقدمة ما تعني به شئون الفلاح المصري، الذي يجب أن يكون له النصيب الوافر في الخير الذي هو مصدره».
«وستجعل الوزارة من أول أغراضها تحقيقا للثقة العظيمة التي أسدتها الأمة إلي الوفد المصري في الانتخابات الأخيرة، تمكين صلات الولاء والثقة بين العرش والأمة، وتوطيد النظم البرلمانية علي الأسس الديمقراطية المعمول بها في البلاد العريقة في الحكم النيابي، ولهذا فقد اعتزمت أن تنشيء وزارة جديدة باسم وزارة القصر لتوثيق روابط التعاون في خدمة البلاد، كما أنني أري لحسن سير العمل إدخال نظام وكلاء الوزارات البرلمانيين، وسأعرض علي مجلسكم السامي مشروع مرسوم بإنشاء هذا النظام».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
هكذا بدأ النحاس عهدًا جديدًا بعد رحيل الملك فؤاد لكن روح مؤامرات عهد الملك فؤاد كانت فيما يبدو لا تزال حية وقابلة للاستدعاء في كل حين.