زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الخامس
الفصل الخامس
إسهامه في ثورة 1919 وخلافته لسعد زغلول
(1)
بدأ إسهام النحاس باشا في ثورة ١٩١٩ مبكرا، وكان هذا متوقعا من هذا الشاب الثوري الذي كان يتأجج بحب وطنه من ناحية، وبحب الحرية من ناحية أخري، وكان يتمني أن تتاح الفرصة لوطنه كي يتحرر من المستعمر، وقد روي بعض خصوم النحاس من أمثال الدكتور محمد حسين هيكل بعض القصص التي تدل علي أنه كان في أثناء الحرب العالمية الأولي أميل إلي خصومة الإنجليز، ونحن لا نري في هذا إلا أمرا طبيعيا في مثل سنه وتكوينه، ولو أنه فعل غير ذلك لكان الأمر مستغربا، وقد تواتر أن النحاس كان وهو رئيس محكمة في طنطا يدعو زملاءه إلي التفكير فيما يجب عمله، وهو نفسه يروي في إحدي خطبه أنه كان من الذين تعجلوا سعدا وصحبه للذهاب إلي دار المندوب السامي:
«في اليوم العاشر من شهر نوڤمبر سنة ١٩١٨ علم أحدنا أن دار الحماية البريطانية قد وصل إليها نبأ اجتماعات سرية تعقد بمنزل سعد باشا زغلول، وهي تتابعها وتتربص بها، فأسرعنا إلي إخبار الجماعة (سعد وصحبه) فأجمعوا أمرهم علي الظهور بنياتهم فطلبوا في اليوم التالي مباشرة (١١ نوڤمبر سنة ١٩١٨) يوم عقد الهدنة العالمية، مقابلة السير ونجت المندوب السامي البريطاني، فتحددت المقابلة يوم الأربعاء الموافق 13 نوڤمبر سنة ١٩١٨ الذي اتخذته مصر عيدا قوميا لجهادها منذ ذلك اليوم.. فلقد كان هذا اليوم بداية حقيقية.. ومقدمة لثورة شعبية».
وباندلاع ثورة 1919 آثر النحاس الاستقالة من القضاء ليتفرغ للعمل الوطني، وافتتح مكتبا للمحاماة، ثم اضطره الانغماس في نشاط الثورة إلي أن يحدد عدد القضايا التي يقبلها مكتبه بأربع قضايا فقط في الشهر.
(2)
تتابعت أحداث الثورة علي نحو ما نعرف، ونفي سعد زغلول وبعض رفاقه إلي مالطة، وكان النحاس يمارس نشاطا فائقا في القاهرة في غياب قائد الثورة، وعندما أفرج عن المنفيين من قادة الوفد وسمحت لهم الحكومة البريطانية بالسفر إلي باريس لعرض قضية مصر علي مؤتمر الصلح، كان النحاس واحدا من خمسة من أعضاء الوفد الذين سافروا إلي المؤتمر لينضموا إلي سعد وأصحابه، وبعد أسابيع قليلة من وصوله إلي باريس وافق الوفد علي اختياره سكرتيرا للوفد، يدون جلساته، ويشرف علي تنفيذ قراراته.
وتحفل المذكرات والأدبيات التي كتبت عن هذه الفترة بالحديث عن دور النحاس النشيط في هذه المرحلة، ونحن نري أن النحاس كان في أثناء خلافات قادة الوفد التي اندلعت في باريس أميل الزعماء إلي التوجه الذي كان يتزعمه سعد زغلول، ولم يكن ينضم إلي المحاور التي كان من الطبيعي أن تنشأ بين أعضاء الوفد، وإنما كان مخلصا بكل ما أوتي من قوة لفكرة الوفد وزعامة سعد، وقد كان هذا هو السبب الحقيقي في ارتفاع مكانة النحاس بين زملائه علي الرغم من أنه لم يكن، في الظاهر، أكثرهم دبلوماسية أو لباقة أو إجادة لعرض أفكاره ورؤاه.
(3)
وظل النحاس طيلة هذه الفترة في معسكر سعد زغلول، وبعيدا عن محور ما سمي بالمعتدلين الذين بدءوا يظهرون خلافاتهم مع سعد زغلول وآرائه، ومع أن سعدا كان يتمني لو أن النحاس كان أكثر دبلوماسية ونعومة مما كان عليه، فإنه بما جبل عليه من تقدير للجوهر لم يفرط في مكانة النحاس المتميزة التي حازها.
وعندما تقرر نفي سعد زغلول في ديسمبر 1921 إلي سيشل كان النحاس واحدا من الزعماء الخمسة الذين نفوا معه، وظلوا بالمنفي هذه المرة 16 شهرا ولم يفرج عنهم إلا في مارس 1923 بعد إعلان الدستور.
وفي أثناء هذا المنفي مرض مكرم عبيد بالملاريا فتطوع النحاس باشا بتمريضه ورعايته حتي شفي، وقد صور فكري مكرم عبيد موقف النحاس من شقيقه مكرم بعبارة صادقة فقال «إنه كان في حنانه عليه وحدبه به كأنه أمه أو أباه».
ومما لا شك فيه أن وجود النحاس في صحبة سعد زغلول طيلة هذه الفترة قد أتاح لعلاقة الرجلين أن تتوثق إلي أقصي حد ممكن، ومع أن طول هذه الفترة وظروف النفي القاسية كانا كافيين لأن يحدث التباعد أو التجافي بين نفوس قلقة ومعانية، فإن معدن الرجال الحقيقي ظهر طيلة هذه الشهور.
ومما لا ينبغي تفويت الإشارة إليه أن علاقة مكرم عبيد هو الآخر قد توثقت بالنحاس في هذه الفترة، وقد مرض أحدهما فتولي الآخر تمريضه بكل الإخلاص والتفاني والحب.
(4)
وعندما استقرت الأمور لحركة الثورة بقيادة الوفد وسعد زغلول، وأجريت الانتخابات البرلمانية الأولي رشح الوفد مصطفي النحاس في سمنود، وكانت هذه هي دائرة علي المنزلاوي الذي كان في ذلك الوقت من أعلام السياسة المصرية في هذا المستوي، بينما كان اسم النحاس لا يزال بحاجة إلي كثير من الشهرة والتوهج، وهو الرجل الذي قضي معظم سنواته السابقة في القضاء بما كان فيه من بعد عن الأضواء، وترفع مقصود عن مخالطة الجماهير، لكن شخصية النحاس المحببة إلي النفوس، وأداءه الصادق مكناه من أن ينتزع الفوز في هذه الدائرة.
(5)
ولما عهد إلي سعد زغلول بتشكيل الوزارة في مطلع 1924 كان مصطفي النحاس في مقدمة الوزراء الجدد، وقد اختير لوزارة المواصلات، وقد كان من حسن الحظ أنه لم تثر في وجه تعيينه اعتراضات من سلطات الإنجليز والقصر، فقد كانت صورته في الوجدان العام قد تبلورت رجلا متزنا، قادرا علي العمل، ملتزما بالإطار العام للقانون والنظام، وقد دخل النحاس الوزارة وهو يحمل رتبة البكوية، علي حين أن هذه الوزارة ضمت عند تشكيلها اثنين كانا لا يزالان يحملان لقب الأفندي فحسب، وهما واصف بطرس غالي، ونجيب الغرابلي (وقد نال كلاهما الباشوية فيما بعد)، وقد وجدت أنه من الضروري أن أشير إلي هذه الحقيقة في ظل كثرة توارد الخطأ القائل بأن النحاس اختير للوزارة وهو أفندي فحسب!! ولم يكن هو ذلك الرجل وإنما كان زميلاه واصف بطرس غالي، ونجيب الغرابلي كما ذكرنا.
وقد أبلي النحاس في منصبه في وزارة المواصلات بلاء حسنا.
(6)
لما تركت الوزارة الشعبية الأولي الحكم في نوڤمبر ١٩٢٤ ترك النحاس مناصب الوزارة، واشتغل بالمحاماة، وكان علي رأس المحامين الذين دافعوا عن أحمد ماهر والنقراشي في القضية التي أطلق عليها اسم «قضية المؤامرة».
وظل النحاس علي ولائه للوفد طيلة فترة الانقلاب الدستوري الأول الذي مثلته فترة حكم زيور باشا، ثم كان بالطبع من أقطاب الائتلاف الذي تم بين الوفد والأحرار الدستوريين في ١٩٢٦، ورشح اسمه ليكون بين الوزراء في وزارة عدلي باشا الائتلافية (١٩٢٦)، لكن البريطانيين في هذه المرة اعترضوا علي اسمه كما اعترضوا من قبل علي تولي سعد زغلول رئاسة وزارة الائتلاف، ونظرا لما كان النحاس يمثله من مكانة في ذلك الوقت، فقد استقر الرأي علي أن يتولى وكالة مجلس النواب بدلًا من الوزارة.
وفي هذا المنصب الجديد قدر للنحاس أن يمارس نمطا جديدا من النشاط السياسي والتشريعي أضاف إلي فهمه وإلي تكوينه وإلي خبراته، وقد كان يتولي رئاسة البرلمان في مرات عديدة نظرا لما كان يعتري صحة سعد زغلول من وعكات متتالية.
(7)
ثم توفي سعد زغلول.
وحين توفي سعد زغلول وهو رئيس لمجلس النواب كان النحاس هو وكيل مجلس النواب، كما أنه كان يشغل موقع الرجل الثاني في الوفد.
وقد كان مصطفي النحاس علي عكس ما صورت كثير من الأقلام والكتب بمثابة الخليفة الطبيعي لسعد زغلول. فقد كان كما ذكرنا لتونا هو سكرتير الوفد، وهو المنصب التالي لرئيس الوفد في الأهمية. كما كان هو «الوفدي» الوحيد الذي بقي إلي جوار سعد إلي النهاية من بين طبقته من الوفديين.
وليس هناك خلاف علي هذه الجزئية ولا علي تلك، لكن النحاس في الوقت نفسه لم يكن من الذين يجيدون تقديم أنفسهم وتلميعها من أجل هذا المنصب أو ذاك، وإنما كان من طراز الذين يعملون ويتركون لعملهم أن يتحدث عنهم، ولم يكن من أولئك الذين يجيدون رسم صورة أنفسهم وتهيئتها لما يطمحون إليه من مجد أو نفوذ.
ولعل هذا يفسر أن الصحافة البريطانية بدأت تتحدث عن أنها لم تكن تتوقع ظهور زعيم من طراز النحاس ليخلف سعد عند وفاته، وقد ظهر هذا فيما سجلته هذه الصحف في ذلك الوقت، ومن حسن الحظ أن كثيرًا من أدبياتنا التاريخية قد نقلت بعض ما سجلته هذه الصحافة في حينه:
قالت جريدة التيمس البريطانية:
«لقد تأكد استحالة اختيار شخص يخلف الزعيم الراحل الذي يتفوق علي جميع أتباعه تفوق النخلة علي صغار الشجر».
وقالت الديلي إكسبريس البريطانية:
«من المستحيل العثور علي أي شخص قادر علي تحمل هذا العبء الثقيل، والنية متجهة إلي تعيين لجنة تنفيذية صغيرة العدد».
وقالت جريدة المانشستر جارديان البريطانية:
«لقد انهار الوفد».
(8)
وفي يوم 14 سبتمبر ١٩٢٧ اجتمع الوفد المصري بكامل هيئته ليقرر انتخاب مصطفي النحاس رئيسا، ولكن الوفد قرر في الوقت ذاته عدم الإعلان عن اختياره حتي يعرض الأمر علي الهيئة البرلمانية للحزب.
وقد رويت عن النحاس (في مذكراته التي كتبها محمد كامل البنا) ذكرياته عن انتخابات رياسة الوفد التي جاءت به إلي هذا الموقع الممتاز فقال في بساطة متناهية:
«اجتمع الوفد بكامل هيئته، وأخذنا نناقش فيما يكون عليه الحال وهل يعين رئيس الوفد أو تؤلف لجنة من عدد من الأعضاء لإدارة الأعمال، واستقر الرأي علي أن يعين واحد رئيسًا، وعُرضت عليّ رئاسة الوفد فاعتذرت عنها مفضلًا أن أكون سكرتيرًا عامًا، حتي يمكنني أن أزاول مهنة المحاماة التي أتعيش منها، وقلت إنكم تعلمون أني لا أملك مالًا ولا عقارًا وأن في عنقي أسرة كبيرة أتولي شئونها، ورياسة الوفد تحتاج إلي تفرغ تام، وإلي حصر كل الجهد في خدمة القضية، وأخذت أتكلم، وقد بلغ بي التأثر مبلغًا شديدًا».
«وانبري مرقص حنا باشا وقال: ما هذا الكلام الذي تقوله، أنت الرجل الذي نفي إلي سيشل، ورافق الزعيم في كل مراحل جهاده تعتذر عن عمل وطني بأنك فقير وتحتاج إلي أن تعمل لتعيش، وتضن علي الوطن بتضحية لا تقاس بما يقدمه الشباب من أرواح، وما يتعرضون له من سجن وتشريد، لقد رشحناك رئيسًا للوفد بإجماع آرائنا، ولا بد أن تنزل علي إرادتنا وكل عذر لك أو احتجاج غير مقبول».
«ووجمت وبلغ بي الألم مبلغًا كبيرًا، حتي سالت الدموع من عيني، ورضخت لحكم الحاضرين وصاغوا بيانًا ضمّنوه رأيهم بالإجماع، ولكن أرجئ إعلانه أو نشره في الصحف حتي يعرض علي حرم الرئيس الجليل أم المصريين، واتفق علي أن يظل الاجتماع ممتدًا إلي الغد».
«اجتمعت الهيئة الوفدية في النادي السعدي وأيدت ترشيحي بالإجماع وتبادل عدد من الأعضاء إلقاء كلمات التهنئة والتأييد وألقيت عليهم خطابًا مطولًا نشرته الصحف في أبرز مكان لها».
(9)
وفي 19 سبتمبر عقد الوفد المصري أول اجتماع له برئاسة مصطفي النحاس ووجه المجتمعون بيانا إلي الأمة جاء فيه:
«أيها المصريون.. إن الوفد المصري وقد كان أول مظهر لنهضتكم، وأجرأ وثيقة إلي مجدكم، لا يزال باقيا، وسيبقي مقياسا لقوتكم، وعنوانا حيا لجهادكم، ونواة لوحدتكم، ولسان صدق لآمالكم وآلامكم. لقد فُجع الوفد في رئيسه، ولكنه لا يزال حيا قوي الحياة بأمته، واحدا في كتلته، أمينا في عهده، وفيا ليومه وغده، ولن يترك ميدان الشرف حتي يتحقق مجد البلاد باستقلالها صحيحا، وحريتها كاملة».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
(10)
ونأتي إلي موضع يحلو لأدبياتنا التاريخية ألا تفوته في إظهار قدراتها من ناحية، وإظهار نزعاتها من ناحية أخري، وأقصد بهذا حديث المقارنة بين الزعيمين، وفي كل الأحوال فإننا نجد أنفسنا في إطار من الحديث عن عظيم كان خليفة لعظيم ولعبقرية جاءت بعد عبقرية أخري.
يقارن الدكتور رفعت السعيد بين سعد والنحاس فيقول:
«… ليس من اللائق أن نفاضل أو حتي نقارن بين الزعامتين المهيبتين، لكن الدراسة الموضوعية والأمانة العلمية يمكنها أن تملي علينا وصفا دقيقا يقول إن الاثنين كانا علي قدم المساواة في العداء للاحتلال، وفي مقاومة نفوذ السراي، ولكن كان النحاس أكثر تشددا في كلا الأمرين».
وقد اختار الدكتور رفعت السعيد قصة طريفة صور بها الفارق بين الزعامتين:
«عندما شكل سعد زغلول وزارته الأولي (1924) حاول الإنجليز إظهار قدر من حسن النوايا نحوه، فأعربوا له عن طريق القائم بالأعمال البريطاني مستر كير عن استعدادهم لتلبية المطلب الوفدي بالإفراج عن المسجونين السياسيين الذين حوكموا أمام المحاكم العسكرية، وكانت غالبيتهم العظمي من كوادر الوفد».
«وفي 7 فبراير تلقي سعد رسالة من كير يبلغه فيها أن الحكومة البريطانية مستعدة لأن توافق، إلي أبعد حد ممكن، علي عفو عام عن جميع المسجونين الذين يمكن الإفراج عنهم بناء علي التشاور بين دولتكم وبيني، ودون أن يؤدي ذلك إلي إحداث اضطراب للأمن العام».
«وفي اليوم التالي توجه كير ليزور سعد زغلول عارضا عليه الإفراج عن جميع المحكوم عليهم ما عدا سبعة أو ثمانية أشخاص من الذي حُكم عليهم مؤخرا، ووافق سعد زغلول مؤملا أن يحل مشكلة السجناء المعترض علي الإفراج عنهم لاحقا».
«وعرض سعد زغلول النبأ علي مجلس الوزراء مبتهجا، وأبدي جميع الوزراء ذات البهجة لهذه الخطوة المهمة إلا مصطفي النحاس، ويروي سعد زغلول الواقعة قائلا: «وكان من رأي النحاس أن نفتح السجن لكل محكوم عليه من المحاكم العسكرية دونما نظر لرأي الإنجليز، فرأيته رأيا شططا، وانتهرته لأني رأيته قد شطح كثيرًا».
(11)
وفيما قبل هذا لخص الأستاذ رجاء النقاش الفارق بين سعد زغلول والنحاس، وجاء تلخيصه هذا عند حديثه عن الخلاف النهائي الذي وقع بين النحاس والعقاد، وذلك في كتابه «عباس العقاد بين اليسار واليمين» فقال:
«لقد كان سعد زغلول يعلم في نهاية الأمر أن العقاد لا يمكن أن يقبل وليس من الضروري أن يقبل الوصاية عليه حتي لو كان ذلك نوعا من الانضباط الحزبي».
«أما النحاس فقد كان طرازا آخر من الرجال. فقد كان يميل إلي فرض نوع من السلطة الأبوية علي الجميع، وكان يميل إلي الذين يذوبون فيه بالحب أو الطاعة، وكان، لكثرة ما تعرض للعدوان عليه والانشقاق عنه والتآمر ضده، يشعر بشيء من سوء الظن في موقف المختلفين معه، ولم تكن اهتماماته الأدبية والفكرية من ناحية أخري بنفس العمق والاتساع كما نري في شخصية سعد: الذي تعلم في الأزهر، وتتلمذ علي محمد عبده، مما أعطي شخصية سعد بعدا ثقافيا وأدبيا لم يتوفر في خليفته مصطفي النحاس، ومن ناحية أخري فإن النحاس علي ما فيه من جاذبية وإخلاص وأصالة وقدرة علي اكتساب محبة الجماهير لشدة بساطته وصدقه. لم يكن بما عرف عن سعد زغلول من دهاء ومرونة وبُعد نظر، بل كان صريحا واضحا لا يخفي انفعالاته حتي ما كان منها قريبا سهلا، وحتي ما كان ينبغي علي السياسي الماكر أن يخفيه ولا يظهره، ولهذا لم يستطع النحاس أن يفهم العقاد بما فيه الكفاية، ولم يستطع أن يعرف التركيب الحقيقي لشخصيته، وعامله كأي كاتب حزبي آخر، وكان هذا كفيلا بأن يؤدي إلي فصم العلاقة بين العقاد والوفد في عهد النحاس. لقد أراد النحاس أن يملي إرادته علي العقاد، ومثل هذا الخلاف لو حدث في عهد سعد لما تشدد سعد زغلول علي الإطلاق مع العقاد، ولترك للعقاد حريته مهما كان في قرارة نفسه غاضبا من موقفه، غير راض عنه، وكانت هذه الزوبعة بالتأكيد يمكن أن تمر دون أن ينشق العقاد عن الوفد، خاصة أن الوفد التقي بعد ذلك بوقت قليل مع العقاد في موقفه من وزارة توفيق نسيم، فعارضها ووقف ضدها بقوة وحزم».
(12)
وربما كان من المفيد هنا أن نشير إلي تصوير جميل ثالث هو ذلك الذي صور به الأستاذ السيد أبو النجا انطباعاته عن هذين الرجلين في كتابه السيد أبو النجا وهؤلاء.
كما ينبغي لنا أن نشير إلي تصوير الدكتور طه حسين نفسه لعلاقته بالرجلين وهو الذي كان عدوًا صريح العداوة لسعد زغول بينما كان متيمًا بالنحاس.
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
وفي مذكرات النحاس (لسنة 1942) فقرة جميلة تعبر عن حوار مهم دار بين أحمد لطفي السيد وطه حسين عن الفارق بين سعد زغلول والنحاس باشا:
«… عكفت (الضمير يعود علي النحاس) علي قراءة الكتاب الذي قدمه لي الدكتور طه حسين وهو معنون بعنوان «علي هامش السيرة» فوجدته تاريخًا طريفًا، طريقة عرضه سهلة ميسرة وليس فيه زيغ ولا إلحاد، فاتصلت به وأخبرته برأيي وأرسلت إليه النسخة فقد يحتاج إليها».
«في المساء حضر لزيارتي وحدثني أن لطفي السيد باشا كان عنده بالأمس وجاءت مناسبة الحديث الذي دار بيننا وما أبديته من رأي في كتاب «علي هامش السيرة»، فقال: إن النحاس رجل متواضع ولو كان سعد زغلول باشا في تواضعه لما اختلفنا ولكن كبرياء سعد ونظرته إلينا معشر زملائه علي أننا صغار بالنسبة له كرّهت إلينا عضوية الوفد، وجعلتني أنا وأكثر إخواني من مؤسسيه ننفض من حوله، وإن كان خطيبًا لا يشق له غبار، ومجادلًا من الطراز الأول.. إلا أن معاملته لنا أبعدتنا عنه».
«فغضبتُ وقلت لطه: أو يظن لطفي باشا أنه إذا مدحني وذم سعد أرضي عن ذلك؟ إن سعد زغلول كان زعيمًا خُلق للزعامة، أهله لها علمه وشخصيته وقوة عارضته وسعة إطلاعه وصلابته في الحق، وأنا لا أقبل مطلقًا أن يطعن سعدا خاصة بعد أن لقي ربه، وأصبح لا يملك دحض خصومه وشائنيه».
«فقال طه: أؤكد لك أن لطفي باشا لم يكن حانقًا علي سعد، ولكنه اختلاف الرأي ولقد كنت شخصيًا اكتب ضد سعد باشا في حياته فلما انتقل إلي رحمة ربه ورأيتك رجلًا مستقيمًا لا يلين في الحق، ولا تخضع للقوة، انضممت إليك عن طيب خاطر، ولا اكتمك أن كثيرًا من إخواني أعضاء حزب الأحرار الدستوريين قد عتبوا عليَّ إعلان انضمامي للوفد والاشتراك في تحرير صحيفته عندما فصلتني وزارة صدقي باشا عام 1930».
«فقلت: يا دكتور طه أنت تعلم ومصر كلها تعلم أن سعدًا أستاذنا ومعلمنا وقائدنا ومرشدنا، ونحن نسير علي آثاره، ونترسم خطاه، ولا أحب أن أسمع أبدًا سيرته إلا مقترنة بكل خير وإجلال، قال: وسأبلغ لطفي باشا ملخص هذا الحديث لأني لمست من الرجل أنه يقدرك ويحترمك».
(13)
وقد ظل النحاس باشا يكبر ذكري سلفه سعد زغلول ومقامه وحديثه، وانظر إلي هذه الفقرة من مذكراته التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا وهو يتحدث فيها عن زيارته لإبيانة مسقط رأس سعد زغلول في 1941 فيقول:
«وصلت يوم 21 الجاري إلي إبيانة ولم أكد أصل إلي مشارفها، حتي داخلني شعور رهيب وإحساس غريب، فقد رجعت بذاكرتي إلي الماضي البعيد أيام كان سعد قاضيًا ومستشارًا ووزيرًا كان يحضر إلي هذه البلدة في كل مناسبة، ويستقبل فيها الكبراء والعظماء من رؤساء حكومات إلي حكام إلي رجال فكر وأدب وسياسة، وقد تصورت أني سأري الدار التي نشأ فيها دارًا ريفية، ولكني رأيت البلد علي صغرها كل أهلها متعلمون وجميعهم مثقفون، ولما ذكرت هذه الملاحظة قيل لي إن الفلاح والزارع وراكب المحراث وراعي الغنم، كل هؤلاء يقرأون الصحف ويناقشون في السياسة ويلاحظون علي الأحزاب ويهتمون بالشئون العامة، وستري عندما تقابلهم أنهم أكثر مما وصفنا لك».
«وصدقوا، فإني أخذت بمناقشة شبابهم ودهشت لسعة إطلاعهم وكثير معلوماتهم، والحق إنها كانت زيارة لا بد منها، وقد حضر من القاهرة بعض أعضاء الوفد كما حضر بهي الدين بركات باشا النجل الأكبر لفتح اله بركات باشا، وهو رجل قانون كبير، وعالم ضليع وفيه طابع الرزانة وعليه سيماء الوقار مرتب الحديث هادئ النبرات قوي الحجة، استمعت إليه يحدثني عن حياة جده سعد وأجداده من أسرتي سعد زغلول وبركات، فعرفت معلومات قيمة وتاريخًا مشوقًا، وطاف بي أنحاء الدار شارحًا كيف كان يجلس سعد وكيف كان يعيش، وقدم إليَّ الأحياء من أسرة سعد زغلول وبركات، وعرفني بهم واحدًا واحدًا، فكان سروري عظيمًا إذ عرفت عن كثب تاريخ الأسرة التي أخرجت سعد زغلول وفتحي زغلول وعاطف بركات وبقية الرجال الذين نبغوا في كل ناحية وقدموا لبلدهم أجل الخدمات وكانوا موضع إعجاب الجميع».
«كان فيما جري من حديث في الحجرة التي جلسنا فيها، وهي الحجرة التي لا تزال بأثاثها ومقاعدها ومنضدتها وبساطتها كما أعدها سعد في عام 1912 لاستقبال خديوي مصر عباس حلمي الثاني حين زاره في بلده».
(14)
ويتصل بتقدير النحاس وتبجيله للزعيم سعد زغلول ما رواه من حديث مستطرد عن تكرار مطالعاته في مذكرات سعد زغلول باشا وتكرار استفادته مما تحتويه هذه المذكرات من حكم وتجارب:
«منذ أن سلمت إلي السيدة الجليلة أم المصريين مذكرات الزعيم الخالد الذكر سعد باشا وأنا أحاول أن أطلع علي بعض ما فيها من أسرار السياسة المصرية في القرن التاسع عشر وهذا القرن، ولكن يمنعني من الاسترسال في الإطلاع صعوبة قراءة خط سعد، فهو مكتوب بحروف صغيرة جدًا وطريقة غير الطريقة التي ألفناها، ولكني استطعت بالاستعانة ببعض المتخصصين في قراءة مثل هذه الخطوط أن ألم بأشياء كثيرة من تلك المذكرات الخطيرة التي حوت كثيرًا من الأسرار، وعديدًا من المواقف العظيمة المشرفة التي دلت علي أن سعدًا كان حقًا رجلًا عظيمًا، وأنه خُلق للزعامة والقيادة، وأنه كان رجلًا صريحًا جدًا لا يتردد في أن يذكر أخطاءه وأخطاء زملائه من أبناء عصره الذين يعدون طليعة المثقفين وقادة المفكرين».
«لفت نظري بعض الحوادث التي ملأتني إعجابًا بالرجل العظيم، وتقديرًا لرجولته الفذة, وشخصيته القوية».
«استرعي نظري موقفه من دنلوب مستشار نظارة المعارف العمومية، كما أعجبت بموقفه من زملائه طلبة الأزهر عندما كان هو وشقيقه فتحي يطلبان العلم فيه، وترحمت علي روحه طويلًا عندما قرأت صراحته ورأيه في نفسه وزملائه قادة الفكر في أيامهم، كل هذا وغيره من المواقف السياسية الخطيرة والاصطدامات مع أكبر الحكام في سبيل الاعتزاز برأيه، ودوره في إنشاء الجامعة المصرية القديمة، وحصوله علي شهادة الحقوق الفرنسية، وغير ذلك من الأحداث التي امتلأت بها مذكراته الخطيرة التي زادتني إيمانًا بأن سعدًا زعيم قلما يجود بمثله الشرق، بل إنه رجل بما تحمله كلمة الرجل من أسمي المعاني، وأجل الصفات».
…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….
وهكذا كان جوهر رأي النحاس في سلفه العظيم.