الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية ( 2 )

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية ( 2 )

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الثاني

الفصل الثاني

ملامح فكره السياسي

(1)

لا يستقيم الحديث عن فكر النحاس السياسي من دون الإشارة إلي مكانة الحرية في عقيدته وفكره.

وفي كلمة النحاس التي وجهها للأمة بعد استقالة وزارته في 1944 (في عيد الجهاد 1944)، حديث دالّ علي إيمان النحاس بقيمة الحرية وقيمة الكفاح من أجلها:

«والحرية عزيزة المنال إلا علي أجنادها الصابرين، وطلابها الباذلين، وأقصر الطرق إليها ما ازدحم بالعقبات وحف بالمكاره والآلام، فإذا قدمت اليوم يا عيد الجهاد، والحرية مطرقة إطراق الهضيم المقهور، والشعب ساكن سكون الليث الهصور، فإنا لك يا عيد الأشد إكبارا، وأعظم إجلالا، فالشدة هي التي أوحت إلينا عنوانك، وألهمتنا تقديرك وإجلالك، وكم فيك من آية توقظ الغافل، وتنبه النائم، وتستثير الهمم، وتستحث العزمات، وكم فيك من آية، تخلق من الضعف قوة ويقينا، ومن اليأس رجاء كبيرا، ولقد عودت هذه الأمة الناس ألا تظهر أكرم صفاتها وأشرف ميزاتها إلا حين تمتحن في أعز آمالها، وأقدس أغراضها، فعند ذلك لا يقر لها قرار، ولا يهدأ لها اصطبار حتي تسترد حقها من غاصبيه، وتري أمرها في أيدي قادرين يتلقونه وهم له حافظون».

(2)

كان النحاس أبرز نموذج للزعماء الأخلاقيين الذين يتمسكون بالدين والأخلاق في ممارساتهم للسياسة، من دون أن يندموا علي هذا التمسك. وكانت هذه النزعة في أداء النحاس ظاهرة للعيان في سلوكه وفي قراراته علي حد سواء. كان النحاس مؤمنًا متدينا مؤديًا لشعائر دينه، حريصًا علي الآخرين وشعورهم وعلي حقوقهم وعلي تمكينهم من أداء شعائر دينهم.

وعلي نحو ما كان النحاس يؤمن بالدين وبالأزهر ويقدرهما، فإنه كان يؤمن بالديمقراطية. ولسنا بحاجة عند الحديث عن إيمان النحاس الحق بالديمقراطية وضرورة إبعادها عن دعاوي التدين إلي أن نروي أن أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة توجه إليه للتفاهم في نوڤمبر ١٩٣٢، وكان قد جعل شعار الجمعية «الله.. الوطن.. الملك»، وقد نبهه النحاس في أثناء المناقشة قائلا: «خذ مثلا كلمة الله» التي وضعتها في رأس شعاركم، فلست أراها إلا شعوذة، لأن وضع كلمة «الله» في برنامج سياسي هو شعوذة!

والنحاس هو الذي أعلن في مجلس النواب بعبارات قوية وصريحة وواضحة ومبكرة أن «الإسلام لا يعرف سلطة روحية، وليس بعد الرسل وساطة بين الله وبين عباده، فلا معني إذًا للاحتجاج في هذا الشأن بأن دين الدولة هو الإسلام، أو بمكانة مصر لدي الأمم الإسلامية، بل إن هذه المكانة الإسلامية تستلزم أن ننزه الدين عن إقحامه فيما ليس من مسائل الدين!».

(3)

ولعل أبلغ عبارة تقال في الدفاع عن أداء النحاس والوزارات الوفدية التي رأسها في مواجهة الاتهام بدكتاتورية الأغلبية، ودكتاتورية الوفد المقدسة… إلخ، هي تلك الفقرة الجميلة التي وردت في كلمة النحاس باشا في عيد الجهاد الوطني سنة ١٩٣٧ حيث قال:

«… يقولون دكتاتورية، وإخلال بالدستور، فهل هم يعقلون؟ وهل هم يستحون؟ أنحن عطلنا البرلمان أيها الناس؟ أنحن أوقفنا الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد؟ أنحن فاخرنا بيد من حديد؟ أنحن ألغينا الدستور إلغاء، وأبدلناه بدستور ملفق جديد؟ أنحن أجرينا الانتخابات علي أساس الإكراه والتزوير؟ أنحن قتلنا الأبرياء، وروينا أرض الوطن بدماء الشهداء؟ أنحن تسترنا علي المجرمين، وحمينا العابثين من عدالة القانون؟ حاشا لله، بل الدستور قائم، والبرلمان قائم، والحرية شاملة تبسط ظلها علي الجميع بالسواء، والقانون والقضاء هما الفيصل في الصغير والكبير، يخضع لهما المؤيدون، كما يخضع لهما المعارضون».

(4)

تميز النحاس في معالجته للقضايا الاقتصادية بنهج ليبرالي علمي وطني لم يتخل عنه، وقد كان، علي سبيل المثال، دائم التنبيه والتوجيه إلي الاهتمام بالإحصاءات العمومية، وكان يعطي الإحصاء دوره في توجيه وصياغة القرارات السياسية والاقتصادية، ولم يكن في هذا نسيج وحده، وإنما كان يعبر عن نهج الوفد وحكومات الحقبة الليبرالية في إدراك وتقرير الأهميات النسبية لكل شيء تبعا للإحصاء، بيد أن النحاس كان بالإضافة إلي ذلك منتبها إلي أهمية تجديد المعلومات والإحصاءات بصفة دائمة، وقد تولت الحكومة في عهوده إجراء تعدادات عامة في جميع بلدان القطر المصري.

(5)

وقد كان النحاس أبرز زعماء مصر علي الإطلاق في الاهتمام بأقاليم مصر بعيدا عن القاهرة، ولم يعهد في أحد من الزعماء دأبه علي زيارة القواعد الشعبية في أنحاء مصر، علي نحو ما كان النحاس يفعل، وقد فاق النحاس في ذلك كل ما نعرفه عن سعد زغلول واهتمامه بزيارة الأقاليم في أثناء عمله وزيرا للمعارف، كما فاق بالطبع، وبمراحل كبيرة، ما كان محمد محمود يقوم به من زيارات مخططة لمعاقل الأحرار الدستوريين في بعض مدن الصعيد، وبعض مدن المنوفية والزقازيق والمنصورة، أما النحاس باشا فإنه كان نموذجا مبكرا للنظام الأمريكي المعاصر الذي يوزع فيه الرؤساء الأمريكيون بؤر الأحداث السياسية، والمفاوضات، واللقاءات علي أماكن متعددة في ولايات متعددة، وعلي سبيل المثال فإن التاريخ يذكر للنحاس خطبته الشهيرة في رأس البر، ويذكر له لقاءاته السياسية في كفر عشما، ويذكر صورته الشهيرة وهو نائم في محطة قطار بني سويف، ويذكر له قرارات اقتصادية واجتماعية مهمة اتخذها في أثناء زيارته لنجع حمادي وقنا وغيرهما، كما يذكر أنه وقع اتفاق جامعة الدول العربية في الإسكندرية لا في القاهرة.. وهكذا.

والحاصل أن هذه الحركة الدائبة كانت في حد ذاتها أبلغ دليل علي الاقتناع القلبي بفكرة الإدارة المحلية، وبفكرة توجيه الاهتمام إلي الأقاليم بالقدر ذاته الذي يوجه إلي القاهرة.

(6)

أما موقف النحاس من الإعلام فهو موقف رفيع القصد والغاية، وقد كان في وسع الوفد علي الدوام أن يؤسس مؤسسته الإعلامية، لكن النحاس كان أذكي وأنقي من مثل هذا الموقف الفج، وكان يكفيه أن يترك الليبرالية الفكرية والاقتصادية في تعبيرها عن منهجها ومقاصدها تأخذ مجراها فإذا ما توافق الوفد مع الصحيفة كان هذا سببا في رفعة قدر الصحيفة، وإذا كان ما أراد الوفد أن يخلي نفسه مما تورط الصحيفة نفسها فيه (سواء في ذلك الشوفونية والسياسات الخاصة) فإنه يستطيع هذا التبرؤ دون اعتقالات أو اتهامات أو تعذيب أو اتهامات بالخيانة العظمي أو الصغري.

وهكذا نأي النحاس في الغالبية العظمي من حياته السياسية بنفسه وبالوفد من أن يكون هو أو الوفد أسيرا لصحيفة واحدة دعك من أن يكون أسيرًا بإرادته لصحفي واحد، ونجا النحاس أيضًا من المسئولية المعنوية والتمويلية علي كيانات يخلقها ويعاني من خلقها ثم من وجودها بينما يدفع ثمن كل ذلك من قوت الشعب وإنفاقه المفترض أن يذهب من أجل البناء والتقدم، ودون أن يدمر إنسانية وحياة عشرات من خيرة أبناء الوطن علي نحو ما حدث بالفعل في العهد التالي له مباشرة.

ونحن نري بين القرارات التي اتخذتها حكومته قرارا بالموافقة علي تشكيل لجنة للنظر فيما تحتاج إليه الصحافة من المعاونة لأداء رسالتها القومية وتمكينها من الاضطلاع بواجباتها علي وجه العموم.

(7)

وقد كان النحاس حريصًا علي تكريم الصحفيين بالرتب والنياشين، ومع أنه لقي العنت من الأمير محمد علي باشا في فترة الوصاية (1936 – 1937) فقد أنجز ما كان قد قرره، وتحدثنا مذكراته عن هذه الواقعة فتقول:

«تجمعت لدي جميع الكشوف المطلوب الإنعام عليها بالرتب بما فيهم كشف الصحافة بعد التعديل وإدخال أسماء مصرية عليه ولما تكلمت مع الأمير محمد علي رئيس مجلس الوصاية فيه اعترض اعتراضًا عنيفًا علي أسماء الصحفيين ورفض رفضًا باتًا أن ينعم عليهم وقال إنهم شرذمة لا يستحقون تكريمًا ولا إنعامًا، ولكنني رددت عليه بأن الوزارة قد بحثت بحثًا دقيقًا وأن الصحفيين هم طائفة من أبناء الأمة يقومون بخدمات جليلة لها ويجب أن ينالوا نصيبهم من التكريم بمناسبة إبرام المعاهدة ولكنه أصر علي الرفض وأبي أن ينعم بأي رتبة علي أي صحفي مصري.

كانت أول أزمة تقع بيني وبينه فأحببت ألا تحتدم وبعد نقاش طويل اقتنع وانتهت الأزمة بسلام».

وقد ظل هذا هو شعور النحاس المسيطر تجاه الصحافة والصحفيين في كل عهوده ونحن نعرف أنه هو الذي انتصر لحرية الصحافة في عهد وزارته الأخيرة بما أرسي من قواعد جوهرية في هذا الصدد لا نزال نبني عليها ونتأسي بها.

ومع هذا فقد كان النحاس بحكم استقامته الشخصية والفكرية والعقلية يسمي الأشياء بأسمائها، ولم يكن في قراراته الإعلامية من المراوغين، ومن ذلك علي سبيل المثال أنه نقل تبعية الإذاعة المصرية في أثناء الحرب العالمية الثانية إلي وزارة الداخلية بدلًا من تبعيتها لوزارة الشئون الاجتماعية.

(8)

ويدلنا موقف الوفد في عهد النحاس من تملك الصحف وتوجيهها علي رحابة فكره، وعلي إيمانه الحق بالديمقراطية، فمن الثابت أن النحاس لم يكن من الساعين إلي أن يمتلك حزب الوفد صحفا بعينها، لكنه كان معنيا في المقام الأول بإخلاص هذه الصحف لتوجهات الوفد وسياساته، وهذا بالطبع هو سر الخلاف الحاد الذي وقع بين النحاس ومكرم عبيد من ناحية، وبين الأستاذ العقاد وروز اليوسف من ناحية أخري!! كما أن هذا هو السر في خلافات أخري متعددة بين النحاس ومجموعة أخري من الصحفيين البارزين.

لكن النحاس في الوقت نفسه لم يمانع في أن ينشأ عدد لا يستهان به من الصحف تحت مظلة الوفد، وتحت حمايته المباشرة، وقد كانت جريدة «المصري» نفسها أبرز هذه الصحف التي نشأت تحت مظلة الوفد، وبدأت وفدية واستمرت حتي نهاية عهدها وفدية، ومع أن كل الشركاء الثلاثة الذين أسسوا المصري (محمود أبو الفتح، ومحمد التابعي، وكريم ثابت) لم يكونوا وفديين تماما فإن الوفد احتفي بالصحيفة وبالشركة كما لو أنه كان صاحبها بالفعل.

وقد أفاد الوفد من هذا الوضع الذكي الذي لم يبتدعه الوفد المصري تماما، وإنما أفاد فيه من تجارب سابقة في بلاد ديمقراطية، وليس أدل علي إفادة الوفد من هذه السياسة الذكية من مقارنته بحال الثورة التي لا تكف، من حين إلي آخر، عن أن تظهر معاناتها من أوزار وأثقال الصحافة التي أسستها أو التي أممتها أو التي استولت عليها!!

(9)

وقد روي الدكتور السيد أبو النجا في كتابه «مذكرات عارية» قصة تولية شئون التحرير في جريدة المصري في أثناء غياب محمود أبو الفتح، ومحاولته تغليب روح الإدارة علي «وفدية» المصري، وهو ما دفعه إلي تصرف كان من المتوقع أن يُغضب الزعامة الوفدية، وكيف التقي بالنحاس باشا، وكيف كان الرجل متفهمًا سريع الصفح، وكيف عبر النحاس في هذه المقابلة السريعة بوضوح وتلقائية عن منهج الوفد في التعامل مع صحفه، وعن خلقه النبيل في سرعة الصفح عمن يغضب عليهم متي استبانت له الحقيقة:

«… كان عنوان المقال الأسبوعي عن صلاة الجمعة ينشر ببنط 52 علي ستة اعمدة، فلا يبقي في الصفحة إلا عمود واحد. وكان لدي صاحبنا (أي السيد أبو النجا نفسه، وكان يعبر عن نفسه بهذه الطريقة مقتديًا بطه حسين) إعلان علي عمودين، فأمر سكرتير التحرير أن ينشر العنوان علي خمسة أعمدة ببنط 36 وكانت الكارثة».

«جاء صاحبنا إلي مكتبه في الصباح، فإذا بالتليفون يدق والعامل يقول: رفعة النحاس باشا. وألصق صاحبنا الساعة بأذنه ليستمع، فإذا صوت هائج يصرخ: أين السيد أبو النجا. أين السيد… فرد صاحبنا: أنا يا رفعة الباشا، فاستمر الصوت يتدفق: يا واد فين بقولك، فين أبو النجا. فقال: أفندم يا رفعة الباشا.. أنا أبو النجا. فقال: أنت بنط 36؟ أنت جابوك منين؟ تاجر يعمل رئيس تحرير؟».

«وأسرع صاحبنا إلي منزل الزعيم في جاردن سيتي».

«كان يجلس مع صبري أبو علم سكرتير الوفد ومع عدد من الشباب، فلما دخل صاحبنا هاج الزعيم مرة أخري قائلًا: أنت دسيسة. فقال: لا، يا رفعة الباشا، أنا رجل فني، انتدبني صاحب المصري من كلية التجارة لإصلاح الجريدة، وأنا أعرف أن صاحب المصري لا يستطيع أن يخالفكم، فكيف أخالفكم أنا؟ فهدأت ثورته علي الفور، وربت علي كتف صاحبنا قائلًا: إذًا أنت أستاذ في كلية التجارة! قالوا لي إنك تاجر! طيب ولماذا جعلت المصري جريدة محايدة (!) فعقب صبري أبو علم قائلًا: يا ريت! إنها جريدة غير محاربة. فضحك النحاس باشا قائلًا: ما دامت لم تعلن الحرب بعد فلا بأس. وتأسف (النحاس) لصاحبنا بأن قبل رأسه في عنف ثم دفعه بعيدًا فلما أراد صاحبنا أن يستأنف كامه قال النحاس باشا: لا خلاص، أنا صالحتك. وقام يودعه حتي السيارة وأصر علي الانتظار حتي انصرف».

(10)

وإذا كنا لا نزال نشكو من قصور رؤي المسئولين في الدول النامية حين لا يلتفتون إلي أهمية إعطاء ميزات مادية معقولة لبعض الوظائف التي تتولي الوظائف المرموقة في المجتمع، وبخاصة تلك الوظائف المرتبطة بالقيم، حين لا يدركون أن فكرة كف حاجة أصحاب هذه الوظائف لا تعود بالفائدة عليهم في المقام الأول وإنما تعود علي المجتمع نفسه حيث يتفرغون بأدائهم المتميز لحل المشكلات الصغيرة والبت في هذه المشكلات في موضعها أو مسرحها وفي وقتها، وبأبدع مما يمكن لأنظمة كاملة أن تبت في هذه المشكلات.

ومن حسن الحظ أن النحاس كان علي النقيض من هؤلاء المتحذلقين الذين ينزلقون إلي المساواة العشوائية بين الوظائف دون الانتباه إلي القيم الاجتماعية والروحية التي يمكن أداؤها وحمايتها من خلال موظفين عموميين، كان النحاس واعيا جدا لهذه المعاني المرتبطة بالمسئولية الأخلاقية والقيمية للجهاز الحكومي، ويكفيني أن أذكر مثلا بسيطًا وهو أنه منح طائفة علماء الدين علاوة تتناسب مع الجهد والوقت الذي بذلوه حتي حصلوا علي مؤهلهم الأعلي من الشهادات العليا، وهو حق لا شك في أنهم يستحقونه في ظل سياسات تسعير الشهادات التي أخذت بها الدولة منذ ذلك الحين، ومع هذا فإن بعض العلمانيين الذين كانوا يظنون أن من مصلحة الدولة العلمانية التخلي عن وجود هؤلاء العلماء بل الإزراء بهم بكل ما أمكن كانوا يعارضون في مثل هذا الإنصاف، بل كانوا يحاولون الخسف بالأوضاع المادية لعلماء الدين المشتغلين بالوظائف الشرعية والفقهية والدعوية، وقد فعلوا هذا بالفعل في عهود تالية، وحين سُئل النحاس في اجتماع عام عن السبب الذي دعاه إلي إنصاف هؤلاء كان ذكيا كالعادة في رده الذي صور به الأمور من زاوية برجماتية يفهمها الجمهور ويتقبلها فأشار لمناقشيه إلي أن للطبيب عيادته، وللمحامي والمهندس والمحاسب مكاتبهم، أما هؤلاء العلماء فيجيبون الناس في شئون دينهم ودنياهم علي قارعة الطريق ويشفون غليلهم إلي الصواب والحق بالمجان دون أن يتقاضوا عن هذه الوظيفة العامة ما يتقاضاه الطبيب أو أمثاله.

وعلي هذا النحو من الذكاء والإنصاف كان النحاس علي الدوام متقد الذهن والقريحة لأنه كان قبل هذا متقد الفـؤاد بحب هذا الوطن وشعبه ومستقبله.

(11)

ومع أننا لسنا في مقام الدفاع عن الاتجاهات الشيوعية أو الفاشية أو الهجوم عليها أو عداوتهما فإننا نستطيع أن نقرر حقيقة تاريخية ومهمة، وهي أن قيادة النحاس للوفد والحركة الوطنية قد مثلت أكبر حاجز طبيعي ضد انتشار الاتجاهات الشيوعية والفاشية علي حد سواء، ذلك أن دأب الوفد بقيادة النحاس علي العمل من أجل الجماهير، ومن أجل التوجهات الوطنية، ومن أجل التقدم قد تمكن من إجهاض كثير من الظروف المهيئة لمثل هذا الانتشار أو ذاك، كما أن موقف الوفد والنحاس من قضية الحرية لم يكن ليسمح لهؤلاء أو أولئك بأن يصوروا أنفسهم ضحايا القبضة الحديدية للدولة، أو إرهابها، ويكفي للتدليل علي ما نقول أن نقارن بين حكم السعديين والدستوريين المؤتلفين معهم برياسة النقراشي باشا (أو صدقي باشا) فيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1944 ـ 1949)، وحكم وزارة الوفد الأخيرة (١٩٥٠ ـ ١٩٥٢)، أو تلك التي قامت في أثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٤٢ ـ 1944) لنكتشف بوضوح أن الوفد قد أتاح هامشا واسعا من الحرية لحركة هذه الاتجاهات وتلك، ولم يمنع نفسه أيضًا من مهاجمة توجهات معينة في وقت محدد، وهكذا انتصر النحاس والوفد للديمقراطية كما انتصر بالديمقراطية، أما الآخرون فقد تنازلوا طوعا عن إتاحة الديمقراطية والحرية للآخرين، وكانت النتيجة أنهم خسروا علي الجبهتين، ثم أتاحوا لهؤلاء انتشارا وتأثيرا فاق حجمهم الطبيعي بسبب ضغطهم علي قوي المقاومة الطبيعية في أصحاب الاتجاهات وتوهينهم في الوقت نفسه لقوي الدفاع الطبيعي التي يمتلكها المجتمع الديمقراطي في مواجهة كل اتجاه متطرف، بل في مواجهة كل اتجاه راديكالي أيضًا.

(12)

كان النحاس زعيما، وكان يؤدي للزعامة الحقيقية حقوقها الكاملة، وقد انتبه المستشار طارق البشري بذكائه إلي بعض ما تميزت به شخصية النحاس من زعامة حقيقية مشيرًا إلي واقعة طريفة هي واقعة «السيسي» الذي أهداه أحد الوفديين في الصعيد إلي ابنه شقيقة كامل البنا وأراد السفير البريطاني أن يستأذن في الحصول عليه لأجل ابنه الوحيد الذي هام إعجابا به:

«… إذ كان النحاس يقضي أيامًا في مشتاه بالصعيد، واتفق وجود السفير البريطاني، وكان أحد رجال الوفد هناك أهدي «كامل البنا» سكرتير النحاس حصانًا صغيرًا لأبنة شقيقه يتيمة الأم وحدث أن ابن مايلز لامبسون السفير البريطاني وكان صبيًا وحيدًا رأي الحصان فتعلق به، وبذلت المحاولات ليتدخل النحاس لإقناع البنا بالتنازل عن الهدية، ولكن إصرار النحاس علي رفض التدخل، ورفضه شفاعة رجال الوفد الأخرين، ورفضه إبداء هذا القدر من المجاملة البسيطة للسفير في ظروف تقارب سياسي وشيك، كل ذلك يلقي ضوء علي السلوك الشخصي للنحاس ومدي استقامته في تعامله، وأهم من ذلك يكشف عن عبء الزعامة الحقة من حيث كونها أمانة وشعورًا عالي المستوي بأن الزعيم أمين علي ما ائتمن عليه بالنسبة لما يتعلق بالمحيطين به ولمن سلموه قيادهم. هذه المراعاة الدقيقة للحق في مسألة محدودة الأهمية لدعم علاقة خطيرة الأهمية، هذه المراعاة تكشف الدرجة العالية من الشعور بالتبعة لدي الزعيم أو القائد تجاه من يقودهم، سواء حقوقهم أو مصائرهم أو مصالحهم».

(13)

كان النحاس يقدر حماس الشباب ونوازع الوطنيين من أجل وطنهم، ومع ما قد ينشأ عن هذا الحماس من تعارض مع النظام والقانون، فإن النحاس كان يعمل بكل ما في وسعه علي الانحياز للروح الوطنية مهما كان من تجاوزاتها.

وقد أشرنا في كتابنا «نحو حكم الفرد» إلي أن عبد المنعم عبد الرءوف قد أورد في مذكراته أن الزعيم مصطفي النحاس باشا استقبله (هو وعزيز المصري وحسين ذو الفقار صبري)، وكان في ذلك الوقت رئيسا للوزراء وأنهي إليهم نبأ الإفراج عنهم في ذلك اليوم بحضور وزير الدفاع ورئيس الأركان والضابط الآمر بالتشكيل، ونحن نعرف بالطبع أنه كان في وسع النحاس باشا الإبقاء علي ثلاثتهم في المعتقل، وكان له عذره الجاهز وهو ظروف الحرب العالمية الثانية، بل إننا نلاحظ أن النحاس أفرج عن هؤلاء الوطنيين قبل أن ينقضي شهر علي توليه رئاسة الوزارة:

«… وفي 5 من مارس عام 1942 استدعانا نحن الثلاثة مصطفي النحاس باشا رئيس [حزب] الوفد المصري ورئيس الوزراء إلي جناحه الخاص بفندق مينا هاوس، وبحضور أحمد حمدي سيف النصر باشا وزير الدفاع ، والفريق إبراهيم عطا الله رئيس هيئة أركان الجيش المصري، والضابط العظيم الآمر بتشكيل المجلس العسكري، الذي تولي محاكمتنا».

«وفي هذا الاجتماع، أبلغنا الرئيس مصطفي النحاس باشا نبأ الإفراج عنا فورا اعتبارا من هذا اليوم علي أن نكون تحت الرقابة العرفية».

(14)

كان النحاس يؤمن بما نسميه الآن الشفافية، وعلي مدي تاريخه كله لا نجد واقعة اتهم فيها بإخفاء شيء عن شعبه، لا في اتفاقية، ولا في مشروع اتفاقية، ولا في معاهدة، ولا في مفاوضات، ومع أن هذا الخلق كلف النحاس كثيرًا من عنت الخصوم الذي كان لا يطاق إلا بشق الأنفس فقد كان أداء الرجل نموذجا بارزا لأداء الزعامة القادرة علي الحفاظ علي الحقوق الأصيلة، والحقوق المشروعة، والحقوق المكتسبة علي حد سواء.

وربما أن النحاس كان واعيا لهذا المعني حين صدر «الكتاب الأسود» فقد وجد من الأسانيد والمستندات الرسمية ما أستطاع أن يدحض به ما جاء في «الكتاب الأسود»، وقد كان «الكتاب الأبيض» وسيلة كافية لدحض ما في «الكتاب الأسود»، لكن ثقة الجماهير بأداء النحاس كانت أقوي بكثير من كل الدفوع والآليات التي استخدمها مكرم عبيد في محاولة القضاء علي صورة النحاس بكل نظافته وطهارته.

(15)

وقد كان إبراهيم فرج في مذكراته وأحاديثه معنيا بأن يذكر بعض الأمثلة التي تؤكد علي الجوانب الإنسانية في فهم النحاس باشا واستيعابه لمعاناة الشعب، وإيمانه بالعمل من أجله، مع أنه كان يعتقد أن كل هذه الأمور مسلمات واضحة في فكر النحاس وأدائه، وفي انطباع الشعب ويقينه، وكان يعرف أن الجماهير تعرفها جيدا وتتناقلها أبًا عن جد حتي الآن، حتي وإن غُيبت في ظل ظلم الثورة للنحاس وعهده.

وقد كانت الجماهير تبادل النحاس حبا بحب لأنها كانت تعرف عن يقين أنه كان يعمل لصالح المجموع، وأن سياساته تؤتي ثمارها للمجموع، وأن خططه التنموية وحلوله المتجددة للمشكلات الآنية تصب في مصلحة المجموع قبل أن تصب في مصلحة هذه الفئة أو تلك!

ولم يكن غريبا بعد هذا أن يتحدث معارضو النحاس عما كانوا يسمونه «دكتاتورية الأغلبية»، وهي دكتاتورية فرضتها المصلحة العامة والإيمان بها، ودافعت عنها هذه الأغلبية ذات المصلحة من دون حاجة، علي سبيل المثال، إلي تخصيص 50٪ من مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين.

(16)

ومن الإنصاف أن نشير إلي ما لم يعن به السابقون، بالقدر الكافي، في شخصية النحاس، وهو أنه كان رجل علاقات دولية من الطراز الأول، وقد بلغ اهتمامه بالعلاقات الدولية حدًا لم يصل إليه أحد غيره من رؤساء الوزارة. ويذكر التاريخ له لقاءاته وتعاملاته الذكية مع تشرشل، وهتلر، وديجول، وبابا الڤاتيكان، وغاندي، ونهرو، ومصدق، ومحمد علي جناح، وستالين، وموسوليني، ودي شيانو… إلخ.

وقد مارس النحاس كل النشاط الممكن وكل الفعاليات المتاحة في العلاقات الدولية منذ رئاسته لوزارته الأولي، وعلي سبيل المثال فإنه عقد معاهدة صداقة ومودة مع أفغانستان (١٩٢٨) في مرحلة مبكرة جدًّا، كما أنه أبرم اتفاقًا تجاريًّا مع سويسرا علي قاعدة معاملة الدولة الأكثر تميزًا، وكان هذا التعبير الذي يظن البعض أنه محدث موجودًا منذ ثلاثة أرباع القرن، وكانت وزارته حريصة علي الدوام وبكل ما هو ممكن من تجديد واهتمام علي استمرار الاشتراك المصري المشرف في المعارض الدولية.. وهكذا.. وهكذا..

(17)

كان النحاس باشا بخبرته ومعاونيه قادرًا علي أن يقود سفينة مصر في بحار السياسة الدولية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وظهور قوة السوڤيت والدول الشرقية، وبدء مرحلة الحرب الباردة.

وقد أشار عبد الفتاح حسن في مذكراته إلي محاولة الوفد الباكرة عقد صفقة من صفقات الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، وهي المحاولة التي لم تكن خافية علي المعسكر الغربي ولا علي الملك فاروق، وقد هدد الوفد (تلميحًا وتصريحًا) بالمضي فيها، ومع هذا فإن رجال الوفد لم يكشفوا أوراقهم، وآثروا لكل هذه المحاولات جوًا من الهدوء والثقة والترتيب المتريث.

وانظر إلي ما يرويه عبد الفتاح حسن عن لقاء مع الملك:

«ثم سكت الملك قليلا ووجه الكلام إلي إبراهيم فرج ـ وكان وزيرا للخارجية بالإنابة ـ «إيه رأي وزير الخارجية في الاتصالات بتاعة صلاح الدين اللي في باريس مع الشيوعية»، وكانت اجتماعات هيئة الأمم منعقدة في ذلك الوقت في باريس، ولم يترك مصطفي النحاس فرصة لأحد للكلام، بل بادر قائلا: الشيوعية إيه يامولانا، هو لما صلاح الدين يقابل السفراء والوزراء في اجتماعات دولية يبقي فيها إيه..».

«ولعل الملك كان قد ترامي إلي سمعه من مصادره ما يجريه د. محمد صلاح الدين بصفة سرية من اتصالات خفية بغية الوصول إلي تفاهم مع تشيكوسلوفاكيا لإمدادنا بالأسلحة اللازمة للجيش بعد أن عوقت إنجلترا مجهودات مصطفي نصرت وزير الحربية الذي كنت أقوم بعمله في أثناء طوافه شهورا بالخارج سعيا لعقد صفقات الأسلحة اللازمة للجيش».

«وكان (قابيل) أحد رجال وزارة الخارجية، هو الذي يمهد خفية للتفاهم مع تشيكوسلوفاكيا».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(18)

كان موقف مصطفي النحاس من قضية فلسطين موقفا مشرفا إلي أبعد الحدود، وليس هذا هو موطن العبرة في الموقف، ولكن الموطن الحقيقي للعبرة هو قدر الوعي والذكاء اللذين تميزت بهما معالجة النحاس للقضية الفلسطينية.

فمن الثابت يقينًا أن النحاس كان منذ مرحلة مبكرة واعيا لخطر نشأة إسرائيل علي أرض فلسطين، وقد نبه إلي هذا الخطر، كما عبر عن هذا المعني صراحة حين التقي بالمسئولين البريطانيين، وقد فعل النحاس هذا في الوقت الذي كان غيره لا يزال يظن الأمر أبسط من أن يستدعي مثل هذا الوعي أو الإحساس بالخطورة.

أما الذكاء الاستراتيجي الذي عالج به النحاس القضية الفلسطينية وتعقيداتها فيتمثل في موقفه غير المسبوق من إصابة الكيان اليهودي بالشلل والحصار نتيجة لموقفه من إيلات، وقد نجح النحاس في أن يحاصر إسرائيل من هذه الناحية مستغلًا التطبيق الذكي لقواعد القانون الدولي والفهم العميق لجيواستراتيجية المنطقة التي يدور حولها النزاع، وقد كانت النتيجة النهائية لتصرف النحاس باشا والحكومة الوفدية الأخيرة أن فقدت إسرائيل كل آمالها في النفاذ إلي البحر الأحمر رغم كل استراتيجيتها لكسر هذا الطوق.

ولو أن السياسات المصرية بنت علي ما أسسه النحاس في هذا المجال، وتمثلت مثل سلوكه في المنافذ الأخري لإسرائيل لكانت قد وصلت من خلال سياسة طويلة النفس إلي فرض حصار مميت علي الكيان الصهيوني الذي قام في غفلة من العرب علي أرض فلسطين.

وهنا تتجلي لنا قدرات النحاس الاستراتيجية التي لم يتحدث عنها أحد بالقدر الكافي حتي الآن، فهذا رجل دولة ذكي تمكن من خلال قواعد القانون الدولي ومن خلال استثمار معطيات متاحة أمامه من أن يخلق أوضاعًا استراتيجية تصب في مصلحة الجانب العربي في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وقد حقق من خلال موقعه كرئيس للوزراء إنجازًا عجزت الحكومات التالية عن أن تنجزه علي الرغم من مميزات نسبية تحققت لهذه الحكومات بغياب الملك، وبخروج البريطانيين من أرض الوطن.

لكن أثر غياب النحاس وشخصيته وذكائه كان أعمق من كل ما صورته الدعايات التي أرادت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن تقلل من حجم إنجازه فإذا الإنجاز يثبُت بالغياب أكثر مما ثبت بالحضور.

وهذا في حد ذاته موطن من مواطن العظمة النادرة..

(19)

لم يكن من الممكن أن تمضي حياة زعيم قاد الأمة ربع قرن من دون مذكرات شخصية تسجل بعض لمحاتها. وبخاصة إذا ما كان هذا الزعيم واعيًا للقيمة العظيمة لمذكرات سلفه العظيم الزعيم سعد زغلول ومطلعا عليها ومحبًا للعودة إليها من آن لآخر. وهذا ما حدث بالفعل.. لكن حظ مذكرات النحاس باشا كان عاثرًا، وكان لسوء الحظ هذا أسباب معروفة، فقد كان من المستحيل أن تنشر في حقبة الثورة الأولي في عهدي الرئيس عبد الناصر والسادات، ولم يكن حتي من الممكن أن تجد فكرة نشرها قبولًا ولا سماحًا، وبعد وفاة الرئيس السادات بدأ التفكير الفعلي في ضرورة نشر هذه المذكرات، لكن الشيخوخة كانت قد أصابت كاتبها الأستاذ محمد كامل البنا، ولم يكن فؤاد سراج الدين باشا بطبعه وتكوينه السياسي من أنصار نشر المذكرات ولا الاحتفاء بها.. وهكذا فقدت المذكرات ميدانها الطبيعي في صحيفة الوفد التي صدرت في 1984، وفي الوقت ذاته فقد كانت هناك قوي خارجية تتلمظ بالمذكرات، وكانت لهذه القوي أذرع قوية لم تفقد تأثيرها بعد في مصر.

وشيئًا فشيئًا بدأت المذكرات تفقد من ذاتها الكثير حتي إن ما نشر منها علي يد الأستاذ أحمد عز الدين في دار العصور الجديدة لا يكاد يبلغ نصف المذكرات وفي الوقت ذاته فقد قطع أحمد عز الدين تواصل المذكرات ليضع إضافاته هو عليها (بما أسماه التحقيق) وبما يفوق حجم المذكرات في بعض الأحيان. وهكذا أصبح العمل الذي نشر علي أنه مذكرات النحاس التي رواها محمد كامل البنا شيئًا آخر غير المذكرات وإن لم يخل بالطبع من فقرات أو أجزاء من المذكرات الأصلية.

(20)

وقد كان من حسن حظ التاريخ أن كتب المستشار طارق البشري تقريرًا تفصيليًا عن هذه المذكرات ومحتوياتها ونشره ضمن فصل مطول عن النحاس باشا في كتابه «شخصيات تاريخية» الذي صدر عن دار الهلال 1996، قبل أن تصدر طبعة (دار العصور بتحقيق أحمد عز الدين) بأربع سنوات، وقد لخص المستشار طارق البشري بأمانته المعهودة طبيعة المذكرات التي عرضت عليه فقال:

«عندما وردت لي المذكرات منسوخة علي الآلة الكاتبة، سألت عن المخطوطة فذكر لي أنها موجودة، وأنني يمكنني أن أطالعها عندما أريد، علي أن أحصل عليها منه يدًا ليد، خوفًا عليها من كثرة تداولها بين الأيدي، وقدرت هذا الحرص، ونحن رجال القانون نعرف معني المخطوطة أو «الوثيقة» بأكثر مما يعرفه رجال التاريخ، وأن المستند إن كان يتعلق عند المؤرخ بذكر خبر قد يمكن معرفته من مصدر آخر، فهو عند رجل القانون يتعلق بـ«حق» يؤول إلي صاحبه أو لا يئول، أو بواقعة تولد حقًا أو لا تولد، والمستند هنا مصدر وحيد في الغالب».

«لكنني من جهة أخري لم أحرص علي سرعة مطالعة المخطوط، أردت أن أترك نفسي للموضوع وأن أقرأ المذكرات كما لو كانت مطبوعة، لأخلو للوقائع، وقائع النحاس، ولأعيش معه أيامه، وأن أعرض هذه الوقائع علي ما أعرفه وما هو متاح لي بمراجعة وقائع التاريخ، ثم أسأل نفسي، هل هذا هو مصطفي النحاس، وذاك حسبما شاهدنا النحاس في التاريخ، وحسبما سمعناه في ذكريات صبانا وشرخ شبابنا الأول، وحسبما قرأناه دارسين لتاريخ هذه الفترة الذي كان واحدًا من صناع التاريخ هذا البلد فيها، وحسبما فهمنا من دراستنا التاريخية لخطبه وأحاديثه وطرائق استجابته أفعالًا وردود أفعال».

«كنت أقرأ وأنا يميل بي الظن ويرجح بالاطمئنان إلي أنه هكذا يمكن أن يفكر النحاس ويكتب، وهكذا يمكن أن يري الأحداث ويتحدث عنها، وهكذا يمكن أن يتخذ مواقفه، وكان هذا وجهًا من وجوه التقدير عندي، وعنصرًا من عناصر الضبط والتحقق من حجية الرواية، ومن عناصر تحديد درجة المصداقية، ثم طلبت أن أطلع علي المخطوطة وفحصتها مقارنًا بينها وبين النسخة المحررة علي الألة الكاتبة..».

(21)

كما يروي المستشار طارق البشري قصة لقائه بالأستاذ محمد كامل البنا، وكيف وجد هذا الرجل علي حالة من الشيخوخة والوهن لم تمكن المستشار من أن يصل إلي مبتغاه في مناقشته في بعض الأحداث والوقائع التي تضمنتها المذكرات:

«بعد ذلك سعيت لرؤية الأستاذ محمد كامل البنا، ومن عاداتي في دراستي التاريخية ألا ألجأ إلي اللقاءات الشخصية مع الأشخاص المتعلقين بالمادة المدروسة ـ حتي لو كانوا هم صانعوها ـ إلا بعد أن استنفد دراسة ما هو مكتوب عن هذه المادة، فتكون اللقاءات الشخصية في أواخر ما ألجأ إليه، وذلك لاستكمل أسئلتي وأدوات تحقيقي وأواجهه بكل ذلك، وليكون لدي من معرفة دقائق الموضوع وتفاصيله ما يعصمني عن الانسياق وراء منطق الشخصية المعنية، ولأن كل المصادر التاريخية المادية مصادر «ليست واعية» مكتملة المادة لا تستطيع أن تقدم إلي من يطالعها أكثر أو أقل مما أعدت له أصلًا، أما المصدر البشري فهو مصدر حي ومتحرك في مادته، وثمة احتمال أن تتعدل المادة المنقولة منه أثناء الحوار معه بالإضافة أو التأويل أو الحذف، لذلك يتعين أن يكون الباحث علي أوثق إلمام ممكن بالموضوع قبل أن يلتقي بالمصدر البشري».

«ذهبت إلي المرحوم محمد كامل البنا، بعد أن قرأت المذكرات وأمعنت النظر فيها وأحضرت معي مجموعة الأسئلة والاستفسارات واستعددت للموضوعات المفتوحة التي يمكن أن يستطرد إليها الحديث أو يتطرق».

«وكان مما أعددته من أسئلة ما يتعلق بسنة مولد البنا وتعلمه ومهنته وبدء معرفته بالنحاس وفترات اتصاله به اتصال ملازمة وطبيعة علاقته به في كل فترة، وعلاقته بغير النحاس من قادة الوفد الذين تردد ذكرهم كثيرًا في المذكرات في صورتها الأصلية، وماذا كان مصير هذه المصادر الأصلية بعد نقلها، ثم كيف نقلت إلي هوامش الكتب وبأي ترتيب وأية كيفية، وأين هي هذه النقول التي دونت علي الهوامش، وهل يمكن الإطلاع عليها الآن أو علي عينة منها».

(22)

ويري المستشار طارق البشري أن المذكرات التي أطلع عليها لم تكن من طابع واحد وإن كان نسيج ذكريات النحاس باشا يضمها جميعًا.

«… المذكرات جرت علي ثلاثة أنواع، النوع الأول في صورة يوميات من 29 أغسطس سنة 1925 إلي فبراير سنة 1942 بمدة تبلغ خمسة عشرة سنة وبعدد صفحات تبلغ نحو ثلثي المذكرات، وهذه هي الأكثر مدعاة للأطمئنان والأفيد من حيث المادة التاريخية، أما النوع الثاني فهو ذكريات عامة عن وقائع جرت خلال المدة من 10 فبراير سنة 1942، إلي قيام الثورة في 23 يوليه سنة 1952 لمدة عشر سنوات وبعدد صفحات يكاد يصل إلي الثلث الأخير من المذكرات وفيها من عدم الدقة في تتبع الأحداث ومن الخطأ أحيانًا في بيانها ما يظهر منه أنها كتبت بعد سنوات [من ذاكرة] كليلة لم تراجع المذكرات علي الأحداث، وهي دفاعية عن مواقف للوفد في هذه الفترة، ولا تحمل إضافات تفصيلية يؤبه بها بالنسبة للمادة التاريخية المتاح معرفتها الآن من المصادر الأخري، والنوع الثالث هو الكراسة الحادية عشرة الأخيرة من كراسات المخطوطة، من الفترة ما بين 23 يوليه 1952 حتي انتقال النحاس باشا إلي رحمة الله، ومنها صفحتان فقط محررتان علي لسان النحاس، والباقي ورد محررًا علي لسان البنا نفسه، وهي قليلة جدًا في وقائعها وتتضمن تعليقات علي وقائع الثورة، ونكاد نري منها كيف كان النحاس يفكر في الفترة من 1952 حتي وفاته في 1965، أقول نكاد نري شيئًا من ذلك».

(23)

ويحدثنا المستشار طارق البشري عن الانطباعات التي خرج بها من لقائه الوحيد بالراوي الذي سجل مذكرات النحاس باشا وذكرياته. وهو يجيد وصف انطباعاته عن الفرصة التي أتيحت له للقاء كاتب المذكرات والاستماع إليه، وما كان يرجوه من هذا اللقاء وما خرج به منه:

«أعددت نفسي لكل ذلك، ولكي أسأل الأستاذ البنا عن الأخبار التي وردت مكررة والتواريخ التي اختلفت… وهل هناك أجزاء ضاعت وهل يتوقع أن يشكك أحد في هذه المذكرات ممن عايشوا النحاس».

«مكثت مع الشيخ الكبير وقتًا طويلًا محاولًا أن استخرج منه الجواب عن أسئلتي كلها أو عن أي منها، وبسطت الحديث وزحمته وتركته لتلقائيات مجراه وركزته، وسألت أسئلة مباشرة حينًا وغير مباشرة حينًا آخر، ولكنني لم أستطع قط أن أضع المحدث علي طريق الجواب الكامل. كان التشتت بالغًا مداه، والكلام يجري علي لسانه سريعًا بالاستطراد وبتداعي المعاني، والذكريات تتزاحم بغير نظام محدد، وعدم القدرة علي التركيز ملحوظة، فلم أستطع أن أتبين وقائع محددة عن كيفية النقل للمذكرات وكيفية النقل من الهوامش، ولا تبينت أمرًا يتعلق بما آلت هذه الكتب المجموع منها وما صارت إليه».

«كان الحديث يعلو ويهبط ويتوزع شعاعًا، إنما ما أمكن لي جمعه من هذا الشتات عن أحاديث الذكريات، أن محمد كامل البنا ولد في سنة 1913، فكان عند لقائنا سنة 1992 قد بلغ الثمانين إلا شهورًا، وقد انتقل إلي رحمة الله بعد لقائي به بشهور قليلة، دخل في صباه مدرسة الشيخ صالح الحديدي وتخرج في كلية الحقوق وقيد محاميًا، وكان من أسرة عرفت بالتشيع للوفد ولمصطفي النحاس، وأخوه الشافعي البنا يكبره بنحو عشر سنين حوكم في قضايا اغتيالات الإنجليز سنة 1922 ومكث في السجن سنين وعمل بعد ذلك في صحافة الوفد موضعًا لثقة النحاس، وأخوه الثاني الشيخ محمد البنا كان من علماء الأزهر قريبًا من النحاس، وتولي وكالة الوزارة للشئون الدينية برئاسة الوزراء في عهد وزارة النحاس الأخيرة في 1950 ـ 1951، وقيل إنه كان مرشحًا لمشيخة الأزهر الشريف».

«ومحمد كامل البنا عرف النحاس صغيرًا من هذا الطريق، كما كان صديقًا لمصطفي شوقي من أولاد أخت النحاس، واتصل به من صدر الشباب في بدايات الثلاثينيات، ثم لازمه، وهذه الملازمة هي الأساس في درجة الحجية التي تتوافر فيما يكتبه البنا الآن وينشره عن مصطفي النحاس. وقد ذكر لي في هذا اللقاء الوحيد الذي جري أنه كان قد أودع الكتب المنقولة من هوامشها منزل صديق له بوزارة الأوقاف وكان يسكن في السبتية، وأن ما سجله عما بعد 10 فبراير سنة 1942 كان إملاء من النحاس عليه وعلي القريبين منه».

(24)

ويلخص المستشار طارق البشري أسانيده في الاعتداد بالمذكرات وما احتوته:

«وأقول في النهاية أن هذه الدرجة من الحجية الآتية من ملازمة البنا للنحاس، هي درجة تسمح لدارس التاريخ أن يعتمد هذه المذكرات بين مراجعه عن مصطفي النحاس، بحسبانها مذكرات محررة بيد سكرتيره وملازمه».

«كما أقول أيضًا أن يوميات تحرر ويرد مع كل منها تاريخها، وذلك من 29 أغسطس سنة 1927 إلي فبراير سنة 1942، وتتفق وقائعها مع الإطار العام التاريخي السياسي، وتنسجم أحداثها وأجزاء أحداثها في الغالب مع وقائع التاريخ العام وأحداثه ومع وجوه نشاط صاحب المذكرات، تكون مذكرات شأنها شأن أي مرجع تاريخي جاد تتضمن ما يلزم الباحث أن يعتمده بين مراجعه وأن يبحثه في الوقت نفسه ويمحصه في ضوء النظر النقدي للوثائق والمستندات».

«وأن القدر المتيقن بالنسبة لهذه المذكرات أنها عن مصطفي النحاس وإنه حررها بخطه سكرتيره محمد كامل البنا، وخرجت إلينا بخط البنا، وأنها حررت قي صورتها الأخيرة منه في مدة تنتهي في سنة 1983. وأنها بهذا تقوم لها من المصداقية ما يتناسب مع مصدرها من محرر ذي اتصال وثيق ومباشر ومستمر بالنحاس، ولها منزلة الشهادة عن النحاس، وأن النظر في متن المذكرات ووقائعها ووجهة النظر المنسوبة إلي النحاس فيها، كل ذلك يثبت لها هذا القدر من المصداقية الذي يضعها بين مراجع هذه الفترة خاضعة لما يخضع له كل مصدر تاريخي من وجوه النقد والتحليل والتحقيق».

(25)

وبطريقة رجل القضاء الفذ يقدم المستشار طارق البشري تقريرًا منضبطًا عن المذكرات التي أطلع عليها:

«إن المذكرات التي تحت أيدينا عبارة عن إحدي عشر كراسة مكتوبة بخط اليد، في كراسات من نوع «البلوك نوت» الكبيرة، وتقلب صفحاتها لأعلي، أولها غير مسطور وباقيها مسطور، والخامس والسادس والسابع منها معظم أوراقها سائبة، وبعض الأوراق يكاد يتماسك».

الكراسة الأولي تتكون من 78 صفحة وتبدأ بسيرة ذاتية عن النحاس علي لسانه، ثم من صفحة 7 تبدأ بلفظ «المذكرات» وفي شكل يوميات من 29/8/1927 وتنتهي في 2 يونيه 1930.

والكراسة الثانية تتكون من 60 صفحة وتبدأ من أول يوليو 1930 وتنتهي في 25 ديسمبر 1933.

والكراسة الثالثة تتكون من 64 صفحة وتبدأ من 2 يناير 1934 وتنتهي في 15 ديسمبر 1935.

والكراسة الرابعة تتكون من 81 صفحة وتبدأ من 18 ديسمبر 1935 وتنتهي في 5 مارس 1938.

والكراسة الخامسة تتكون من 64 صفحة وتبدأ من 7 مارس 1938 وتنتهي في 17 يونيه 1939.

والكراسة السادسة تتكون من 25 صفحة مكتوبة (والباقي غير مكتوب) وتبدأ من 18 يونيه 1939 وتنتهي في 6 نوڤمبر 1939.

والكراسة السابعة تبدأ بترقيم صفحاتها برقم 26 وتنتهي صفحاتها برقم 81، فهي والكراسة السابقة متصلين بترقيم واحد، والصفحة الأولي من هذه الكراسة التي تبدأ برقم 26 تبدأ بتاريخ 14 نوڤمبر 1939، وتنتهي في صفحة 81 بتاريخ 20 أكتوبر 1940.

والكراسة الثامنة تتكون من 87 صفحة وتبدأمن 21 أكتوبر 1940 وتنتهي في 13 يوليو 1941.

والكراسة التاسعة تتكون من 76 صفحة وتبدأ في 14 يوليو وتنتهي اليوميات في الصفحة رقم 61 بتاريخ 10 فبراير 1942.

ومن صفحة 62 تبدأ طريقة أخري في كتابة المذكرات، وهو أن ترد في فقرات طويلة عن موضوعات معينة وليس حسب اليوم.

والكراسة العاشرة تتكون من 76 صفحة وهي كلها ترد بفقرات طويلة بسرد لموضوعات متفرقة علي مدي الفترة من انتهاء «اليوميات» في 10 فبراير 1942 حتي سقوط وزارة نجيب الهلالي قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952. والموضوعات التي عولجت فيها لم يجر ترتيبها ترتيبًا تاريخيًا، ولم تنضبط وقائعها بتواريخ محددة في المتن المكتوب، الأمر الذي يجعل قارئها أكثر فهمًا لها إن كان علي سابقة دراية بوقائع تلك السنوات العشر من فبراير 1942 إلي يوليه 1952.

ويبدو أنها كتبت جميعًا في وقت تراخي كثيرًا عن الأحداث المروية في كل من فقراتها.

والكراسة الحادية عشرة، وهي تتكون من 55 صفحة، وتبدأ في الصفحتين الأولي والثانية بحديث للنحاس عن سماعه عن قيام ثورة 23 يوليو، ثم في صفحة 3 يرد وسط السطر الأول عنوان «كلمة كاتب المذكرات» ولفظ «كاتب» مشطوب ومكتوب في أعلاه لفظ «جامع» فتصير «كلمة جامع المذكرات» ثم يرد في الصفحتين 3، 4 حديث الأستاذ محمد كامل البنا عن جمعه المذكرات بعد وفاة النحاس… ثم مع صفحة 5 يرد وسط السطور الأولي عنوان «انطباعات النحاس عن ثورة 23 يوليه وآراؤه فيها»، وتحته عنوان «كيف علم بثورة 23 يوليه»، ثم بعد ذلك إلي نهاية الكراسة يرد الحديث عن النحاس «بضمير الغائب»، ومن ثم فهو نص ليس منسوبًا إلي النحاس كتابة ولا إملاء، وإن كان كله يتعلق بمواقف وحوادث وآراء للنحاس بعد قيام ثورة 23 يوليه 1952 حتي وفاته وانتقاله إلي رحمة الله تعالي.

(26)

ويبلور المستشار طارق البشري رؤيته بطريقة إجمالية فيقول:

«كانت الكتابة إذًا في صيغة يوميات لمدة خمسة عشر عامًامن 28 أغسطس 1927 إلي 10 فبراير 1942، ثم أتت في صيغة مذكرات تتضمن فقرات مطولة عن أحداث برمتها مكتوبة بعد الحدث بما لا نعرف من زمان، وذلك لمدة عشرة أعوام. ثم ما كتبه الراوي عن النحاس بعد 23 يوليه 1952».

(27)

وقد نقلنا عن النص الذي نشرته دار العصور الجديدة كثيرًا من الفقرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا، والتزمنا بالنص المتاح إلا فيما يصعب معه التواصل، فوضعنا اللفظ الذي يحل مشكلة النص الأصلي بين قوسين، أو أشرنا إلي التصويب اليسير الذي يحتاجه النص فيما بين قوسين أيضًا، ومع هذا فنحن لا ننكر أن ذلك النص المطبوع يفتقد فقرات مهمة يبدو من السياق أنها كانت جزءًا منه ثم طالتها يد الهوي وهي يد قادرة.

لكن روح النحاس مع هذا كانت وظلت أقوي من كل الأهواء. وعلي نحو ما بقيت صورة النحاس في الوجدان المصري رغم مرور السنوات وتكثيف الجهود للتقليل من روعة صورته ونقائها، فقد بقيت في المذكرات روحها التي لم تتأثر بمحاولة تطويعها كي لا تقلل من الصورة المستفزة لسلوك الفراعين الجدد مع أسلافهم العظماء.

وهي، علي كل حال، قصة لم يأن الأوان بعد لروايتها بتفصيلاتها.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com