الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية

مصطفى النحاس/ هذا الكتاب

هذا كتاب عن زعيم الأمة، بدأت كتابته منذ أكثر من ربع قرن، وظللت أتهيب

الانتهاء منه وما زلت متهيبا، وليس هناك ما يشجعني على أن أصدره اليوم إلا خوفي

من ألا يصل بي العمر إلى اليوم الذي أرى كتابي فيه كائنا حيا، ولست أعرف هل

يكون هذا من حظي أم لا؟

ولتهيبي هذا عدة أسباب:

أما السبب الأول فهو محاولتي الدائبة من أجل الوصول إلى الحق في قضايا

خلافية كثيرة تتعلق بإنجازات النحاس، ومسيرته، وأسلوبه في الزعامة والعطاء،

ذلك أن الثورة وأحزاب الأقلية والجماعات الصغيرة على حد سواء، قد بذلوا جهودا

ضخمة في تصوير إنجازات الوفد على غير حقيقتها حتى بدا لكل قارئ أن لحديث

كل من هؤلاء وجها من صواب.

وأما السبب الثاني فهو أعمق من الأول، وربما أنه هو سببه، وهو أن النحاس

بكل عظمته لم يهيئ نفسه ليكون موضوعا للكتابة عنه، فقد كان مشغولا بما هو

أكبر من ذلك، وكان يرى الكتابة عنه تتمثل في الأعمال لا في السطور، ولهذا فإنه

لم يكن حريصا ولا منتبها إلى أهمية التسجيل والتوثيق إلا أن يكون هذا التوثيق

جزءًا من خدمة القضية التي يدافع عنها في وقتها، وهو ما نفذته آليات الوفد في حالة

واحدة هي معاهدة 1936 حين أصدرت القانون الخاص بالتصديق على المعاهدة

)وهو المعروف بالقانون 80 ( في كتاب ألحقت به تفصيلات قيمة عن المباحثات

والمفاوضات المصرية  البريطانية التي سبقت توقيع معاهدة 1936 ، وفيما عدا ذلك

فإننا لا نرى عناية نحاسية بالتسجيل والتوثيق توازي حجم إنجازه الوطني.

وأما السبب الثالث فهو أن النحاس عاش نمطا متميزا من الارتقاء الوجداني

والعقلي الذي جعل ضميره الوطني يرتقي من نقاء إلى نقاء أعمق منه، وأصبحت

خبراته السياسية تصوغ فهمه للأمور، واتسم أسلوبه في التعامل معها بصياغة ذكية

لا تتأتى إلا للذين رزقوا القدرة على تنمية مهاراتهم العقلية، والتعبير عن مشاعرهم

الصادقة، وعقائدهم السامية بقدر أكبر، ولهذا فإن الكتابة عن مواقف النحاس المتطورة

ينبغي أن تفهم الارتقاء الفكري وتثمنه، وتفسر في ضوء هذا الارتقاء ما تراه من مرونة

فكرية، ومهارة سياسية قد يعدهما البعض اختلافا في المواقف، أو حتى في المبادئ.

أما السبب الرابع فهو أن نهر الكتابة عن سياسات النحاس، وعن ممارساته، وعن

زعامته للوفد، وعن أداء الوفد تحت رياسته لم يزل ساريا جاريا يغري بالاغتراف

منه، أو بالارتشاف من بعض رحيقه، كما يغري في الوقت ذاته بتنقيته من قليل من

الأكاذيب والضلالات والسخافات والرؤى المتحاملة، وإن كان حظ النحاس من

هذه السخافات أقل بكثير من حظ أي من زعماء مصر جميعا، ذلك أن الإجماع عليه

يفوق ما يحظى به الزعماء الآخرون جميعا من أغلبيات ساحقة! حتى ربما تصور هذه

الأغلبيات على أنها بعيدة عن الإجماع الذي يحظى به النحاس.

هكذا مضت هذه السنوات التي تعدت خمسا وعشرين سنة دون أن يخرج هذا

الكتاب إلى النور، وكانت العلة في هذا هي هذه الأسباب الأربعة وسبب آخر يتعلق

بما عهدته في نفسي من كثرة تقليب الأمور على وجوهها، والإفراط في إعادة الصياغة

وإعادة الكتابة والتنقيح، ووضع الكلمة مكان الأخرى، ووضع الثالثة مكان الثانية.

لكني اليوم بكل ما يملكه الإنسان من ثقة أو من غرور أقدم هذا الكتاب، آملا أن

يكون فيه تصوير دقيق لنمط من الزعامة المخلصة الوفية، والقيادة القادرة الذكية التي

نجحت حين كان النجاح ممكنا، ونجحت أيضًا حين كان النجاح مستحيلا، والتي لم

تتنازل ولم تضعف حين أريد منها أن تتنازل بفعل عوامل أقوى بكثير منها.

أقدم كتابا يصور الإرادة الشعبية متمثلة في رجل كان هو الشعب، وكان الشعب

هو.

أقدم كتابا يصور، بقدر ما أستطيع، كيف نجح مواطن مصري بسيط من الطبقة

الوسطى أن يضيء صفحات من تاريخ أمته المضيء، ولم تكن وسائله في هذا النجاح

الساحق إلا إيمانا عميقا، ويقينا ثابتا، وحبا جارفا، وإخلاصا متصلا، وعملا دائبا.

* * *

وأحب أن اعترف للقارئ أني حذفت من هذا الكتاب ثلاثة أضعاف ما أثبته فيه،

ولعل في هذا الاعتراف ما يصور للقارئ السبب في بعض ما يحس به عندما يتوقع

تفصي فلا يجده، أو تعقيبًا فيفتقده، أو تنويهًا فيستنتجه هو من تلقاء نفسه، من دون

أن يراه بحروف مطبوعة في النص الذي بين يديه.

وقد آثرت لهذا الكتاب هذا التبويب الذي خرج به، وقد رأيت أنه أنسب التبويبات

لفهم دور الرجل الذي قدر له أن يقوم بالدور الأكبر في بناء الدولة المصرية في عصر

الليبرالية، حين كان على أبناء هذا الشعب أن يخططوا لدولة تعبر عن أمنيات شعبهم

في حياة حرة كريمة، يشتركون في صياغتها على نحو ما اشتركوا في الثورة من أجلها

قبل هذا، ثم حين كان عليهم أن يحولوا خططهم وتصوراتهم إلي واقع قادر على

مواكبة العصر وتحقيق المنى في الوقت نفسه، وعلى الاستجابة لتطورات الزمن

وتعاقب الأحداث وتحولات القوة في عصر اتسم بالحيوية الفائقة وبالقدرة على

بلورة الصراع.

وقد نجح زعيم الأمة نجاحًا باهًرا في أن يضرب المثل في قيادة العمل الجاد من

أجل بناء دولة ليبرالية حقيقية بصرف النظر عن نظام الحكم ملكيًا كان أم جمهورىًا،

وبصرف النظر عن العلاقة بدولة u1575 احتلال كانت لا تزال حريصة على أن تستبقي ظل

سيطرتها وسطوتها في بلاد كانت لها فيها الكلمة الأولى، وبصرف النظر عن دعاوى

بعض أفراد النخب السياسية الذين تصوروا أن بإمكانهم أن يستحوذوا لأنفسهم على

مكان الصدارة بحكم الوجاهة.. وإذا بعصا النحاس الساحرة تلتقف كل ما تصور

السحرة في عهده أنه كفيل بإقناع الجماهير أو بإقناع التاريخ، وإذا بالزمن يمضي فتظل

عصا النحاس الساحرة قادرة على أن تلتقف كل ما أضفى من جاذبية على الإصلاحات

المبتورة التي لم تصل في مستوى إنجازها إلى عظمة النحاس في إنجازه لدوره البارز

في بناء الدولة المصرية في الحقبة الليبرالية.

وفي هذا الإطار فإن في كتابنا هذا الذي بين أيدينا ما يأتي في سياق ما آمنت به

وعبرت عنه من قبل في ثلاثة كتب تناولت أعلامًا مؤثرين في عصر النحاس، فقد

كتبت عن عثمان محرم تحت عنوان مهندس الحقبة الليبرالية، وكتبت عن علي ماهر

ونهاية عصر الليبرالية ومن قبل هذا كتبت عن إسماعيل صدقي ملقيًا الضوء على

إيجابياته التي كانت في الواقع إيجابيات عصر صدرت عن شخص كفء لم يؤمن

بالديمقراطية ولا بحقوق الشعب.

وإني لأحس اليوم، وأنا أختم مقدمة هذا الكتاب الذي بدأت فيه منذ أكثر من ربع

قرن، أني وفيت قد أخيرًا بحق أبناء شعبي الذين أحبوا النحاس وأحبهم النحاس،

وكانوا لا يفتأون يطلبون إليَّ أن يقرأوا هذا الكتاب، وإذا كنت أحس ببعض الألم حين

أتذكر بعض من انتقلوا إلى رحمة الله قبل أن يهيئ الله لي أن انتهي من هذا الكتاب

فإني أدعو الله عز وجل أن يرزقني من العمر ما أرى فيه سعادة الناس بما كتبت،

وتقديرهم له، ورضاهم عنه.

وقد قدر لي أن أحضر، مرة بعد أخرى، بعض اجتماعات المجلس الأعلى للشئون

الإسلامية في البيت )أو القصر( الذي سكنه النحاس حتى أخر أيام حياته، فكنت

أحس أن جدران البيت تستحثني أن أسرع بإنجاز ما شرعت فيه، وكنت إذا تأهبت

لمغادرة ذلك البيت أحس كأن روحي تستبقيني فيه حتى انتهي سريعًا مما أنا في

رحابه، وكنت إذا عدت إلى اجتماع لاحق أحس وكأن أبواب البيت تتجهمني لأني

لم أوف بما وعدت.. ولست أدري هل يمد الله في عمري حتى أرى أثر كتابي عن

النحاس على نحو ما كان العقاد يرى أثر كتابه عن سعد زغلول، وحتى أعيش عصرًا

ينتصر للنحاس كما انتصر عصر العقاد لسعد، وحتى أرى ساسة وطني وقد تمثلوا

النحاس في كفاحه، ونقاءه، ورحابة فكره، وشرف غايته.

ولست أحب أن انتهي من هذا التقديم من دون أن أسدي الشكر مضاعفًا لمن قاما

على نسخ هذا المتن الكبير، وتحملا ما تنوء به طاقة البشر u1605 من أجل أن يخرج على هذا

النحو الجميل، فللأستاذين مجدي سمير وچيهان جابر مني كل الشكر والامتنان،

والله سبحانه وتعالي أسأل أن يثيبهما عني خير الثواب وأن يمتعهما بالصحة والعافية

والقدرة.

أما إدارة دار الشروق التي تبنت هذا الكتاب على أفضل ما يكون التبني فلا أظن

شكري لها يضيف إليها، لكني أحب أن يتضمن هذا التقديم تقديري لها متمثلة في

رئيس مجلس إدارتها المهندس إبراهيم المعلم، وفي مديرها العام المهندس أحمد

الزيادي، وفي أسرة النشر فادي عوض، ومصطفى بكير، و……

* * *

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، مع أني

أعلم أني لا أخلو من الرياء والعجب فيما أنجز، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يذهب

عني ما أشكو من ألم ووصب وقلق، وأن يحسن ختامي، وأن يجعل خير عمري آخره،

وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاه.

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يهديني سواء السبيل، وأن يرزقني العفاف والغنى،

والبر والتقى، والفضل والهدى، والسعد والرضا، وأن ينعم عليّ بروح طالب العلم،

وقلب الطفل الكبير، وإيمان العجائز، ويقين الموحدين، وشك الأطباء، وتساؤلات

الباحثين.

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يمتعني بسمعي وبصري وقوتي ما حييت، وأن

يحفظ عليّ عقلي وذاكرتي، وأن يجعل كل ذلك الوارث مني.

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يعينني على نفسي وأن يكفيني شرها، وشر الناس، وأن

يوفقني لأن أتم ما بدأت،وأن ينفعني بما علمني، وأن يعلمني ما ينفعني، وأن يمكنني من

القيام بحق شكره وحمده وعبادته فهو وحده الذي منحني العقل، والمعرفة، والمنطق،

والفكر، والذاكرة، والصحة، والوقت، والقدرة، والجهد، والمال، والقبول. وهو جلّ

جلاله الذي هداني، ووفقني، وأكرمني، ونعّمني، وحبب فيّ خلقَه، وهو وحده القادر

على أن يتجاوز عن سيئاتي وهي  بالطبع وبالتأكيد  كثيرة ومتواترة ومتنامية. فله

سبحانه وتعالى وحده  الحمد، والشكر، والثناء الحسن الجميل.

د. محمد الجوادي

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com