[حوارات الدين والطب و السياسة/ 32]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 32]
عنّ لي في إحدى المناسبات أن أسأل أستاذي عن جدوى الغموض في التصرفات السياسية والإدارية، وقد توسلت إلى هذا السؤال بحيلة طريفة وسهلة فقد شخصت السبب في فشل أحد السياسيين البارزين، وأرجعته إلى الوضوح الزائد، وأردفت ذلك بسؤال أستاذي: هل تعتقد أنني على صواب؟
قال: بل الصواب ما قلت، ولقد كان في حاجة إلى درجات كثيرة من الغموض.
قلت: لكن السياسة تتطلب قدرًا كبيرًا من وضوح الرؤية.
قال: هذا في حالة الزعامة، أما في الحالات التي نراها الآن والتي لا تصل السياسة فيها إلى أكثر من مجرد تسيير الأمور، فالغموض مطلوب.
قلت: لكن الوضوح الزائد يجلب مشاركات شعبية إيجابية لا غنى للسياسي عن فائدتها.
قال: لكن هذا المكسب الذي تتحدث عنه لا يساوي شيئا الآن، إذا ما قورن بالقدرة على الاستمرار في الموقع ذاته.
قلت: وهل هذه قيمة في حد ذاتها؟
قال: نعم.. حين ينخفض مستوى وجوه السياسة من زعماء إلى مسيرين للأمور فحسب، تصبح القدرة على تسيير الأمور لزمن أطول أفضل المعايير المتاحة لتقييم كفاءة السياسيين.
قلت: لكن هذا لا يقود إلى التقدم.
قال: لم يعد التقدم مطلوبا، ولم يعد إيقاف التخلف مطلوبا، وإنما أصبح المطلوب هو الاستمرار والاستقرار.
باغت أستاذي وسألته: أيمكن أن يكون هذا مثلا مذهب جماعة راديكالية بطبعها .
قال: أنا لا أتحدث عن جماعة راديكالية أو معتدلة ، لكن إذا أردت مني الدفاع عن مشروع هذه التهمة التي وجهتها لتوك فإن بوسعي أن أقول لك : إنهم جزء من المجتمع ولن يضمنوا النجاح في سياساتهم إذا لم يراعوا إستراتيجيات المنافسين والمحاربين لهم.
قلت: لكن هذا يجعلهم جزءا من النسيج الذي هو بحاجة إلى تغيير.
قال: سواء جعلتهم جزءا من النسيج أم من الصياغة فليس أمامهم من سبيل غير هذا التكيف.
قلت: وهل الغموض جزء من التكيف؟
قال: هو أهم الأجزاء.
قلت: وماذا يحدث لو أنهم أعلنوا بيانهم السياسي صريحا؟
قال: سيكون هذا البيان هو نسيج مواد الاتهام التي توجه إليهم؟
قلت: كيف يمكن لييان سياسي أن يكون دليلا على اتهام؟
قال: أراهنك أنك لو أتيتني بأي سطر من أي برنامج سياسي لأي حزب في العالم (بما في ذلك الحزب الجمهوري الأمريكي والحزب الديمقراطي الأمريكي) وأعطيته لمعاوني أجهزة الأمن المصرية لنجحوا في تحويله إلى دليل اتهام قاس يقدم صاحبه إلى محكمة أمن الدولة العليا.
قلت: أفهم من هذا أن هذه الأجهزة تغلبت على ثقة الجماعات الراديكالية في نفسها؟
قال: إذا كنت تريد إثبات ذلك فلا مانع عندي.
قلت: لكننا بهذا نظلم الفكرة الراديكالية.
قال: هذا هو الواقع.
قلت: ومع هذا فإن الإخوان لا يكفون عن كسب أرض هنا وهناك.
قال: يكسبون بالغموض، وتضيع منهم الأراضي الأخرى إذا ما اتبعوا السياسات التي تصفها أنت بالوضوح.
قلت: أيدركون هذا؟
قال: كما يدركون الشمس والقمر.
قلت: ما بال هؤلاء الإصلاحيين من زملائنا الأطباء الذين وصلوا إلى مواقع متقدمة في الإخوان والذين لا يكفون عن مخاطبة العلمانيين بما يرضيهم، بل مخاطبة اللادينيين بما يطمئنهم.
قال: لهم أجر ومثوبة.
قلت: ربما يصلون إلى مقاعد القيادة في الجماعة.
قال: ربما.
قلت: وساعتها؟
قال: دع ساعتها لساعتها، فلكل حال حالة، ولكل مقام مقال.
قلت: هذه هي أكثر المقولات التي تحظى بهجوم أعداء الإخوان.
قال: أعرف ذلك، وأعرف أن أصحابها معذورون لكنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولو صدرت إليهم الأوامر بمديح الإخوان لمدحوهم.
قلت: أهذا ممكن؟
قال: ربما.
قلت: فهل من أسباب أو حيثيات؟
قال: كأنك تريد مني التخلي عن الغموض.. وتريد منهم التخلي عن الغموض.
قلت: وماذا في هذا؟
قال: دعني أسألك سؤالًا مباشراً: هل يمكنك التخلي عن حب الاستطلاع؟
قلت: لا.
قال: وهم كذلك لا يمكنهم التخلي عن حب الغموض.
قلت: لكن حب الاستطلاع هو أساس المعرفة.
قال: ويبدو أنك لم تفهم بعد أن حب الغموض هو أساس السلطة.
***