الرئيسية / المكتبة الصحفية / حوارات الامتحانات (2)

حوارات الامتحانات (2)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 35]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 35]

بعد أسبوع واحد من هذا الحوار كنا في أحد مؤتمرات جمعية القلب، وحضر وزير الصحة، وكان أستاذًا لجراحة القلب، وأراد أن يكرم رئيس جمعيتنا بكلام عن كفايته فقال: إنه لا يزال يذكر حتى الآن أن الدكتور على رمزي، وهو مدرس، كان يصمم على التشخيص في مواجهة أستاذه الأكبر الدكتور علي عيسى، وكان يتحدث بأسلوب القصر عن فيلم من الأشعة السينية فيقول: إنه ليس إلا حالة ضيق الصمام الأورطي!! فيقول له أستاذه: فكر في تشخيص آخر فيكرر عبارته.

ما إن انتهينا من جلسة الافتتاح هذه ووقفنا مع بعضنا حتى سألني أكثر من زميل من زملائنا التالين: هل كنت تتعامل مع أستاذنا بهذا الأسلوب الذي تحدث الوزير عن أن الدكتور على كان يفعله مع أستاذه؟!

قلت: في الحقيقة كنت أفعل ما هو أرذل من ذلك وأشق على نفس أي أستاذ.

قالوا: وهل هناك ما هو أرذل من هذا؟

قلت: نعم.. أن يكون هذا في الامتحان، وأن يكون هذا في حالات لا تتحمل هذا الحكم القطعي الباتّ والحاسم.

ووعدت زملائي أن أحكي لهم في المساء بعض الأمثلة من حياتي مع أستاذي.

وآثرت أن أبدأ فأروي لهم قصة أول حالة طويلة امتحنت عليها في امتحانات الدكتوراه المتعددة التي أديتها:

كانت حالة صعبة جدا بكل المقاييس، فقد كانت من حالات تشوه إيبشتين، وهي حالة «خِلْقية» نادرة، وقد صادفها أستاذي في عيادته مصحوبة بالفحوص الصدوية (فوق الصوتية) الحديثة فآثر أن يمتحنني عليها، وكان في مثل هذا القرار قاسيا إلى أبعد الحدود بالمقارنة بظروف الامتحانات في ذلك الوقت، لكني لحسن الحظ لم أكن أتعشم فيما هو أفضل من ذلك.

كانت معنوياتي في ذلك اليوم هائلة، وكان ذهني صافيا إلى أبعد الحدود، وكنت عائدًا من الولايات المتحدة بكل ما يمكن أن يحمله العائد منها من علم حديث، وإلمام جيد، فضلًا عما أتيح لي من وقت للمذاكرة الهادئة على مدى ساعات طويلة مخصصة للمذاكرة وحدها من دون مسؤوليات ولا اتصالات، وكان هناك في حياتي في تلك الفترة ما يسعدني بحيث إنني في نشوة سعادتي لم أكن مأخوذا بامتحان أو بغير امتحان.. كنت كمن يقول عنه التعبير العام «طائرا من الفرحة»، وهكذا كان وقع المصاعب علىّ في مثل هذا اليوم يسيرا، بل إنه يمكنني القول إنه لم يكن لها وقع على الإطلاق، ولست أبالغ في هذا.

أخذت أقلب في حالة المريض التي لا تبدو فيها أية علامة ظاهرة تدل على تضخم في القلب، لا في البطين الأيمن، ولا في البطين الأيسر، لكن الحالة مع هذا كانت تنطق بالشكوى من أعراض الفشل القلبي.. وبشيء من التأمل فإنه كان من النوع الأيمن.. هكذا وفقت إلى أن أحصر تشخيصي في هذه الصيغة، وهي الصيغة التي كنت قد توصلت إليها لتدريس هذا المرض للطلاب، وإذا بأستاذي يفاجأ تمامًا بتشخيصي الدقيق للحالة، وهو ما لا يعني عنده إلا شيئا واحدا وهو أني حصلت على كل الفحوص التي أجريت للحالة، وكان أستاذي يحتفظ بهذه الفحوص التي أجريت بناء على طلبه ومشورته وفي خلال فترة قصيرة قريبة لا تزيد على يومين، ولم يكن أحد قبلها يعرف تشخيص هذه الحالة، وكنت بخبرتي بأستاذي وبالحالات المرضية قد أدركت ما يدور في خاطره فآثرت أن أتريث في “مهاجمة أفكاره ” ريثما تتكشف لي توجهاته من خلال أسئلته، وكان أستاذي كالعهد به رزينا، فبدأ بسؤالي عن بعض العلامات الإكلينيكية التي أثبتها في تقريري Sheet  عن الحالة وأنا أتصنع الرغبة في إثبات أهمية ما سجلت، وأتصنع التريث الذي لم يكن من عادتي في مثل هذه الأحوال.. وإذا بأستاذي فجأة يقطع حبل أفكاره ويهاجمني (ويهاجم نفسه قبلي) بسؤال مباشر كنت أتوقعه منه تماما، وإذا به يقول: ولماذا حصرت نفسك في أن تكون الحالة إيبشتين واستبعدت كل الأسباب الأخرى لهبوط القلب الأيمن؟ وكان هذا بالضبط هو ما أنتظره منذ الصباح على حد تعبيرنا الدارج.

وهنا أجبت أستاذي بثقة شديدة: إن هذه الحالة لا تشخص بالاستبعاد، ولا بالحدس، وإنما باليقين.

فتح أستاذي فمه دهشة من هذا الجنون المطبق على تلميذه، وكان هذا أيضًا هو ما أنتظره منه، فإذا بي في هدوء أقول للأستاذ: هل تعطيني الأمان وأنا أقول لك؟

قال: هل أعطيك الأمان على اعترافك بأنك عرفت الحالة من فحوصها مع أنّ الامتحان أن تعرفها بدون الفحوص؟ هل أعطيك الأمان على اعترافك بالغش الذي لم نعهده فيك قبل هذا أبداً.. هل هذا هو ما تعلمته في أمريكا؟

قلت: وهل تظن تلميذك كذلك؟

قال: لا أظنه، ولكنه هو الذي يظن نفسه أو يصورها.. وإلا فما معنى تشخيصك؟ وما معنى سؤالك؟

قلت: المعنى غير هذا تماما.

قال أستاذي في عصبية شديدة قضت وقتيًا على ما تعود عليه من رزانة ووقار: فما هو المعنى إذاً؟

قلت: فكرة إبداعية.

قال: أوصل إبداعك إلى إينشتين ؟

قلت مع ابتسامة خفيفة: لكنه لم يصل إلى إيبشتين .

ضحك أستاذي ضحكة خفيفة لم يكن منها مفر وقال: إياك أن تقول إنهما أقارب.

قلت: هي من قبيل قرابة أبوقراط وسقراط.

ضحك مرة ثانية وكان ضحكه في هذه المرة من القلب، ثم أعاد القناع الجاد على وجهه وقال: هات ما عندك.

قلت: إذا وجدت حالة فشل قلب أيمن ولم تجد معها أمارة على تضخم في البطين الأيمن فهي إيبشتين.

قال: أعد، فأعدت العبارة مرة بالفصحى، ومرة بالعامية.

قال أستاذي: هل يمكن لهذه العبارة أن تقال بالإنجليزية؟

قلت: نعم.

قال: فقلها.

وكنت أعرف أنه قد يهاجمني من باب قواعد اللغة الإنجليزية فاحتطت لهذا قدر ما استطعت، لكني حرصت على أن تكون الصياغة مصرية حتى تبدو القاعدة من اختراعي لا من اختراع الإنجليز أو الأمريكيين الأصليين.

وهنا قال أستاذي منتبهاً: إنه إنجليزي مصري.

قلت في ابتسامة: بل زقازيقي كذلك.

قال: وما قصة هذه القاعدة المبتكرة؟

قلت: هي من ابتكارات تلميذك.

قال: بلا سند؟

قلت: إلا الحقيقة.

قال: أو تقرّ بأنها بلا سند.

قلت: بل أتجاوز النقاش كله لأقفز إلى ناحية أخرى.

قال: أو يعرف الأدب مثل هذا؟

قلت: بل إن أغاني أم كلثوم تعرفه.

قال: تريد أن تنجح بأم كلثوم …هات ما عندك لكني لن أرحمك لو لم يكن المثل دالا على الفكرة.

قلت: المسألة لا تستأهل رحمة ولا عقابا، فالسيدة أم كلثوم تقول: قالوا المحبة قدر.. أنا قلت جمعنا، ومعنى هذا أنها تقفز من مناقشة فكرة قدرية المحبة لتثبت الحالة الأهم وهي أن القدر (أو غيره) قد جمعها بحبيبها.

قال أستاذي: وتريد تطبيق هذا المبدأ على نقاشي لك في قاعدتك المزعومة؟

قلت: نعم.

قال: فماذا دعاك إليها؟

قلت: ما دعاني إليها داع.

قال: كيف توصلت إليها؟

قلت: أو تريدني أن أتنازل عن سر الصنعة؟

قال أستاذي: أقول لك كما قالت أم كلثوم: … إن كان في الأمر سر.

قلت: فإن لم أتنازل؟

قال: تثبت عليك التهمة المنطقية وهي أنك غششت الحالة.

قلت وقد وصلت إلى ذروة النشوة: لكن هذه ليست مسؤوليتي، فالبينة على من ادعى.

قال: هذا صحيح، لكن الأصح منه أنه على حد علمي أنه لا أنت ولا غيرك ولا أنا نفسي نستطيع الوصول إلى تشخيص مثل هذه الحالة على أنها تشوه إيبشتين إلا بالحصول على فحوصها.

قلت: ولكني قلت لك القاعدة التي ساعدتني.

قال: وما المانع أن تكون أنت قد «ركبت» هذه القاعدة أو «ألفتها» لتوك وأنت على ذلك قدير.

قلت: أو يسمح جو الامتحان بمثل هذا الإبداع؟

قال: في العادة لا يسمح… ولكنه  معك أنت يسمح.

قلت: ألا يكفي هذا للدلالة على إمكان توظيفي للإبداع في مثل هذا التشخيص؟

قال: لا يكفي.. ولا تضيع وقتي ووقتك.

قلت: وما جدوى الوقت للمحكوم عليه بالإعدام؟

قال: وهل عرفت أن الحكم قد صدر؟

قلت: إنه يبدو كذلك (وكنت أشير إلى القرار المعهود في مثل هذه المواقف وهو الرسوب المحكوم علينا به من قبل أداء الامتحان، لكن اللياقة لم تكن تسمح لأي منا أن يصرح بمعرفته من قبل لمثل هذه النوايا، فالتصريح في حد ذاته يزيد من حجم الإيذاء المتوقع).

قال: ألأنك اقترفت ما يستحق الإعدام؟

قلت: بل لأني اقترفت ما يستحق أكثر منه.

قال: أتهين المحكمة؟

قلت: بل أثبت لها رأفتها.

قال أستاذي: والمحكمة تستجيب لطلبك إذًا وتدعوك لأن تبرئ نفسك.

قلت لأستاذي: هل تسمح بقلم وورقة؟

قال: هما معك.

قلت: أقصد أن تسمح لي باستعمالهما.

قال: من حقك.

قلت: فالقصة هكذا، ورسمت في لمح البرق رسوما كروكية تثبت طريقتي في التشخيص.

قال أستاذي: لكن السؤال لا يزال قائما.. ولكن كيف وصلت إلى هذا؟

قلت في هدوء وتواضع كفيلين بتوتير أستاذي: بالتكويد.

قال: أعرف التكويد… لكن ما علاقته بما نحن فيه؟

قلت: المسألة في منتهي البساطة تعتمد على قاعدة معروفة وهي أن الشيء إذا اعتمد في وجوده على أركان كثيرة فإنه يمكن وجوده حتى إذا افتقد بعضها.

قال: هذا صحيح.

قلت: فإذا كانت هذه القاعدة في ذهننا دائما فبوسعنا عندما نكتب عن كل حالة أن نقول في التعريف: إنها تنال هذا التشخيص حتى لو افتقدت ركنا منه، لكن العلم الحديث أو التأليف العلمي الحديث يعطى للمؤلف الفرصة ليقول هذا بالتحديد وليس بالقاعدة المجردة.

قال: هذا صحيح وقد حدثتني أنت عنه.

قلت: ويظل هذا قائما حتى لو لم تكن الحالة التي ينطبق عليها هذا القانون قد وجدت في الأدبيات التي سجلها مَنْ قبلنا.

قال: هذا كله معقول على الرغم من صعوبته على مَنْ لم يدرسوا الفلسفة وعلى مَنْ يكرهونها، ولا تنس أنهم كثيرون.

قلت: أعرف هذا.

قال: لا تتوهني وعد إلى سؤالي واذكر لي ما الذي جعلك تؤلف هذا كله في حالات هبوط القلب الأيمن؟

قلت: إنها رياضة عقلية.

قال: قد فهمت إنها رياضة وتباديل وتوافيق واحتمالات من تلك التي تتحدث عنها كثيرا، ولكن ما الذي جعلك تختص هبوط القلب الأيمن والإبيشتين بالذات بهذه الرياضة؟

قلت: ومَنْ قال ذلك؟

قال: الحالة.

قلت: لا.. إن عندي قوانين مشابهة للفصول الأخرى من كتاب القلب.

قال: هات أحدها.

قلت: تريد قوانين في الكهرباء، أم في الميكانيكا؟

قال: مادمت قد فعلت كأهل البقرة فهات مثلا من هذا ومثلا من ذاك.

قلت: لكن وقت الامتحان لا يسمح.

قال: يسمح.

قلت: سيجور على وقتي في الحالة القادمة.

قال: ليس هذا من شأنك.

قلت: ستعجبك الفكرة وتغبطني عليها.

قال: أو تحتاط بخبثك فتقول تغبطني بدلا من أن تقول اللفظ الذي تقصده وهو تحسدني.

قلت: الفضل لك في تعليمي هذا.

قال: بل الفضل لوالدك وعدّ إلى الموضوع.

قلت: إني ما قصدت إلا الحقيقة حتى لو أن الأسلوب بدا مهذبا.

قال: وهل عندك دلائل على حسدي لك من قبل؟

قلت: أستغفر الله.

قال: فكفر عن ذنبك.

وفيما بعد كان أستاذى إذا شرح فشل (هبوط)  القلب الأيمن ذكر قاعدتي هذه ، وقال للمقربين ذات مرة : إن الذي ألف هذه القاعدة عبقري نصف مجنون في لحظة لا يمكن أن يتم فيها تأليف إلا من شخص حكم عليه  بالإعدام ،  و أراد أن يتحدى قاضيه بلا جدوى.

***

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com