الرئيسية / المكتبة الصحفية / الإنفاق على الصحة (2)

الإنفاق على الصحة (2)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 37]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 37]

وأذكر أن حوارًا آخر دار بيني وبينه حول ما يعنيه إهمال الأساتذة الأكاديميين للفحص الدوري والعناية بصحتهم.

قال أستاذي: أرأيت هذا الأستاذ العظيم كم هو مهمل في نفسه.

قلت: مثل هذا الرجل يموت واقفا في عمله.

قال: قبل أن أتناقش معك في المقصود بهذا المجاز .. هل فكرت مرة كيف يموت الإنسان وهو واقف .

ضحكت ضحكة خفيفة .

فقال أستاذي : أنا أسأل بجدية شديدة .. هل رأيت مثل هذا.

قلت : وأنا سأجيب إجابة من محيط التاريخ.

قال : هاتها.

قلت : أوصى السياسي الفرنسي الكبير كليمنصو ألايدفن إلا واقفا .

قال : وكيف نفذوا وصيته ..هذا المخبول.

قلت : دفنوا تابوته عموديًا ..

ضحك أستاذي وقال : التاريخ يخدمك يا محمد.

ثم قال: هل تظن هذا الموت واقفًا في أثناء العمل شطارة أو مكرمة، إنها جريمة في حق المجتمع، وفي حق النفس.

قلت: مثله يعتقد أنه يتبع الهدي النبوي فلا يترك ما يزرعه حتى لو قامت القيامة.

قال: لكن سلوكه ضد هذا الهدي النبوي على طول الخط، إنه يحرم نفسه من أن يستأنف الزرع، ومن أن يستكمله.

قلت: إنه لا يؤمن بالطب ولا يعرف دوره.

قال : فما بالك بالفلاح البسيط الذي يأتي حافيا، وقد باع بهيمته ليعالج نفسه؟ لأنه يدري أن تحسن صحته كفيل باستعادة ثروته، وأن العكس غير صحيح.

قلت لأستاذي: هذا الفلاح البسيط رجل يمول نفسه، ويدير أمور نفسه، أما هذا الأستاذ فقد ترك الأمر للحكومة تجود عليه بما تجود حين تجود، فترفع أجره، أو تزيد مكافأته، أو تخترع من حين لآخر مكافأة جديدة له ولأمثاله.

قال أستاذي: وأين واجبه نحو نفسه في هذا الحق؟

قلت: قد نزع من نفسه المسؤولية عن تدبير أمورها.

قال: إنك تخدع نفسك بدفاعك عن أمثال هذا الأستاذ.. تجعل السبب نفسيا بينما السبب في نظري جهل لا يليق بالأستاذ.

قلت: كأنك تريد أن تقول إن السبب «معرفي» لا «نفسي».

قال: ها أنت قد فهمت.

قلت: إنما كنت أبلور فكرتك فحسب.

قال: ومتى تتبناها؟

قلت: كيف أتبناها وأجرم هؤلاء الذين تربوا على أنهم أبناء للدولة، وأنزع عنهم بنوة منحتها لهم الدولة.

قال: يا سيدي.. اجعل هؤلاء يدركون أن البنوة قد انتهت.

قلت: النبوة هي التي انتهت أما البنوة فلا تنتهي.

قال: فماذا يحدث عندما يفقد الولد أمه أو أباه.. ألا يفقد معنى تلك البنوة المعتمدة على أبوة أو أمومة أو والدية.

قلت: إنما يفقد هذا الشق من مسؤولية آخر عليه فحسب .. لكنه يظل ابنا لمن توفي أو لمن توفيت أو لمن توفيا.

قال:إذًا هو يفقد شيئًا .. فعليك أن تنصح أساتذتنا بمواجهة الواقع، وهو أن الدولة قد توفيت أو فرطت في والديتها لهم، وعليهم أن ينتبهوا إلى العناية بصحتهم، سواء مولت الدولة لهم هذه العناية، أو شاركوها في تمويلها.

قلت: يساء فهم حديثي، ويتصور القراء أني أروج لطائفة الأطباء التي أنا منها.

قال: ما عهدتك قليل الشجاعة.. إنما أنت لا تزال تعتقد في مسؤولية الدولة عن تمويل الإنفاق على صحة أبنائها.

قلت: أصدقك القول: هذا صدى ما رأيته بعيني رأسي في البلاد التي اتصلت بالطب فيها في أمريكا، وفرنسا، وألمانيا.

قال: يا سيدي وكل الناس رأوا هذا في السعودية والكويت.

قلت: فكيف أقنع الأساتذة بمنطق مستحدث؟

قال: وكيف تتركهم يعانون على نحو ما يعاني هذا الرجل الذي يظهر من رسم قلبه أنه يعاني من الضغط منذ أكثر من عشر سنوات.

قلت: من واجبات الدولة البسيطة أن تجري كشفا دوريا على موظفيها كل 5 سنوات مثلا.

قال: فإن لم تقم الدولة بدورها عاش هؤلاء مع المرض وهم يلقون بالمسؤولية على الدولة، ماذا تفعل الدولة في مضاعفاتهم إذًا ، ومن هو المسؤول عنها ؟

قلت: ليس من شيم النظام أن يكون مسؤولا عن عدم النظام.

قال: النظام لا يعيش في جزيرة منعزلة عن الواقع.

قلت: لكن الواقع يستطيع أن يعيش بعيدًا عن النظام.

قال: إني أخشي عليك أن تتحول إلى نموذج السياسيين الشعبيين الذين يلقون بالمسؤولية على الشعب.

قلت: بالعكس.. فإني ألقي بها على الدولة.

قال: لكنك لم تقل لي ماذا يفعل الشعب إذا لم تقم الدولة بمسؤوليتها؟ هذا هو جوهر الامتحان الحقيقي لفهمك وفهم أمثالك من المصلحين.

قلت: إن الحل الذي تتبناه سيادتكم هو الذي يحمل الشعب المسؤولية.

قال: أنا لا أحمله المسؤولية.. لكني لا أحرمه من أخذ زمام المبادرة في المسؤولية عن نفسه إذا لم تقم الدولة بواجبها.

قلت: النهاية واحدة.

قال: لا.. ليست واحدة عندما أحمله المسؤولية يجيد حملها وينصلح أمره، وعندما أتركه بدونها فإن النتيجة تصبح كارثية.

قلت: ليس في النظريات الاقتصادية والاجتماعية ما ينظم الأمور حسبما نراها من سلوك شعب ذكي.

قال: واجب المنظرين أن ينظروا لما يرون لا أن ينتقدوا ما هو واقع إذا لم يكن متطابقا مع نظرياتهم.

قلت: إني مستوعب لما تقول، لكن تنظيم أمور دولة بأكملها يقتضي وضوحا في الرؤية والهدف والسياسة، ولا ينبغي أن يقوم على مجرد التوفيق بين أنماط مختلفة من السلوك.

قال: أنت قادر على أن تصوغ من هذا الذي تقول ما يحفظ على هذا الشعب صحته.

قلت: إنما أنا داعية.

قال: وكاتب ومؤلف وأنا أعتبرك مسؤولا عن مستقبل هذا الوطن فيما يتعلق بصحته، لأن الله أنعم عليك وحدك بما لم ينعم به على غيرك.. والناس كلها تسرق أفكارك وتكررها بأقلامها فاكتب ووجه وأرشد وثوابك على الله.

قلت: ليست هذه هي المشكلة.. إنما المشكلة في كثرة المدعين.

قال: لا تشغل بالك بهم فإنك قادر على تصويب الأمور في مجال الصحة على نحو ما أرشدت إلى تصويبها في كثير من أمور الجامعات هل نسيت مقالاتك التي صنعت تشريعات وتعديلات وقد أخذوا بكل آرائك  تقريبا .

قلت : إني قد أصبحت لا أعرف أين أجد الصدى.

قال: امض في سبيلك ولا تفكر في الصدى الآن .. فقد قرأت لك مقالات جيدة في هذا الميدان، لكنني أرجو أن تعطي دورا أكبر للشعب لأن الدولة تتآكل.

قلت: (وكأنني أستنكر ) والجماعات الإسلامية والمستوصفات الخاصة بها تنمو.

قال: بل إنها تتآكل.. هذه كلها جزء من نظام الدولة الحالي.

قلت: فالمستشفيات الخاصة والمهنية تنمو.

قال: بل تتآكل.. هذه هي الأخرى جزء من نظام الدولة.

قلت: فما الذي ينمو إذاً؟

قال: أخشى أن يكون الذي ينمو هو الاعتماد على الخارج، لا الخارج الأوروبي المكلف، وإنما الصيني الذكي.

قلت : أتتوقع أم تتنبأ .

قال : بل أنا في هذه النقطة زرقاء اليمامة !

ومما يحسب لأستاذي أن نبوءته قد تحققت قبل أن تمضي سنوات على هذا الحوار على حين لم يكن في الأفق ما يدل على أن الصين ستكون الحل الأول لبعض مشكلاتنا الطبية.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

*****

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com