الرئيسية / المكتبة الصحفية / الإنفاق على الصحة (1)

الإنفاق على الصحة (1)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 36]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 36]

كان أستاذي يرى بوضوح أن عصر ثراء الأطباء وتربعهم على قمة السلك المادي بين طبقات المجتمع قد انتهى منذ زمن بعيد، هو زمن بداية الانفتاح الاقتصادي ونهاية النظام الاشتراكي، وبعيدًا عن المصطلحات فإن هذا الزمن وبالتحديد منذ ذلك الحين الذي كان الكشف فيه بجنيه واحد فقط، لكن الجنيه نفسه كان يتكرر كثيرا في اليوم الواحد، وكان يشتري ما لا تشتريه المائة جنيه الآن.

كذلك كان أستاذي ينبهني إلى أن معدل تدفق المرضى في الماضي على طبيب واحد كان عشرة أضعاف معدل تدفقهم الآن بلا مبالغة، وهكذا فإن الثروة القابلة للتكون في أيدي الأطباء تضاءلت إلى حد لا يمكن حسابه.

كان أستاذي يتمنى لجماهير الشعب قدرة على الإنفاق، وكان يرى أن الشعب واعٍ لمصارف إنفاقه، وليس كما تصوره بعض الأقلام وبعض الأفلام سفيها، وكان ينسحب بهذا الحكم على كثير من صور إنفاق الأطباء أنفسهم، فكان يقول : إن العيادة الراقية في أساسياتها وكمالياتها تشجع صاحبها على تحديث الأجهزة الأساسية فيها والعكس صحيح.

أكثر من هذا فإن أستاذي بخبرة أو حساسية رفيعة القدر كان قادرًا قبل غيره على أن يتنبأ بتدهور معدلات الإقبال على العلاج الخاص نتيجة لأزمة المواطنين مع الحكومة فيما سمي بأزمة شركات توظيف الأموال.

وكان أستاذي يقول لي: إن هذه العوائد الكبيرة التي يتلقاها المودعون تشجعهم على حياة أفضل بما في ذلك نشدان للرعاية الاجتماعية والصحية والرياضية بل الفنية أيضا.

وكنت أرد عليه: إن هذا قد يكون خصمًا من الأصول المملوكة لهؤلاء.

فكان يقول: وفي غياب هذه العوائد الكبيرة ألن يلجأ هؤلاء إلى أصولهم ليخصموا منها إذا أرادوا حياة أفضل؟

وكنت أقول: إن هذا قد يدفعهم إلى التريث بعض الشيء مما يجعلهم ينفقون في الاتجاه الصحيح.

فكان يرد علىّ بقوله: إن هذا الإحجام عن الإنفاق يؤذي الحالة الصحية لهذه الطبقات، فيؤخر اكتشاف المرض، ويؤخر بدء العلاج، وبالتالي تتعقد المشكلات الطبية التي كانت قابلة للحل مبكراً.

قلت: لكن الحكومة تزعم أن هذا الرواج رواج زائف.

قال: ربما كانت للحكومة بعض أسبابها الخاصة في مثل هذه الدعوى.. لكن خبرني هل نجحت الحكومة اليوم في خلق أية حالة من الرواج الزائف أو غير الزائف؟

قلت: لم تنجح، ولكن ليس هذا مبررا لأن تقف مكتوفة الأيدي أمام ضياع أموال المودعين.

قال: ستضيعها الحكومة لمصلحة نفسها، وستتحول هذه الأموال إلى أموال منقوصة وسوف ترى.

قلت: إن أخي أحمد يقول : إن الحكومة ستضيف إلى الأسعار الأربعة للدولار سعرًا خامسًا هو سعر دولار الريان.

قال: ماذا يقصد؟

قلت: إنه يقول إن الحكومة بعدما تستولي على دولارات الريان ستعطى للناس ما يقابلها بعد فترة، ولكن بسعر مختلف عن السعر الرسمي، والسعر التشجيعي، والسعر الجمركي، والسعر الحقيقي للدولار.

قال أستاذي: بل أخشى أن يصبح هناك سعر لدولار الشريف، وسعر لدولار الريان، وسعر لدولار السعد، وسعر لدولار الهلال، وقل مثل هذا بعدد شركات توظيف الأموال.

قلت: ألا ترى أن سكوت الإخوان المسلمين عن الهجوم على هذه الشركات وعلى أسلوبها في الأداء الاقتصادي يمكن الحكومة ويساعدها من أن تلصق بالإخوان مسؤولية مباشرة عن مثل هذه الشركات؟!

قال: وإذا أدان الإخوان هذه الشركات وهاجموها فستقول الحكومة : إن هذه تقية وتمثيلية!!

قلت: لكنهم بمثل هذا الهجوم قد يبرئون نفسهم أمام الشارع السياسي.

قال: مم يبرئون أنفسهم؟ من شيء يحبه هذا الشارع السياسي؟ ولا يخرق التشريع الإسلامي.

قلت: يبرئونها من محاولة السعي إلى خلق كيان رأسمالي كبير يكون سندًا لهم في طموحاتهم السياسية.

قال: وهل يصل الإخوان مهما أنجزوا في هذا المجال إلى الرأسمالية المصرية قبل الثورة؟

قلت: بالطبع لا.

قال: فقد رأى الإخوان بعيني رأسهم كيف ابتلعت عهود الثورة كل هذا الزخم الرأسمالي في التجارة، وفي الصناعة، وفي المعمار، بل وفي الزراعة، وحولوا مصر إلى شيء قريب من الصومال أو تشاد.

قلت: هل معني هذا أنك تتوقع ألا يسهم الإخوان في التنمية الاقتصادية؟

قال: لا الإخوان ولا غيرهم، إنما ينخدع في شعارات الدولة بعض الطيبين قليلو الخبرة من ذوي النوايا الساذجة مثل الريان، والسعد، والشريف، وقد يكون من هؤلاء إخوان مسلمون، وقد لا يكون، وقد يكون منهم أقباط، وقد لا يكون، لكنك إذا أردت الحكم للحكومة ومهارتها في الحديث عن مناخ الاستثمار فابحث عن يهود انخدعوا في كلامها.

قلت: أتعتقد أن أصحاب شركات توظيف الأموال قليلو الخبرة وسذج؟

قال: لو لم يكونوا كذلك ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

قلت: إنما أوصلهم إلى الأزمة مضاربتهم بأموالهم في بورصات عالمية.

قال: إن صح ما تزعمه الحكومة من هذا فلن يتبقى لهؤلاء من مال إلا ذلك الذي ضاربوا به في بورصات عالمية.

قلت: وأموالهم التي أنشأت ما أنشأت في مصر من أصول، ومن تجارات واسعة؟

قال: هذه هي المضاربة الخاسرة تماماً: ستذهب كل هذه الأصول سدى.

قلت: ألهذا الحد أنت متشائم؟

قال: بل واقعي.

قلت: لكنك بدأت الحديث بإثبات فضلهم على سوق الطب، وسوق العلاج.

قال: كنت أيضًا أتحدث عن حقيقة، وهي أن وجود المال في يد الطبقات الجماهيرية يشجع أفرادها على طلب الخدمة الطبية مبكراً، مما يرشد ويقلل من إنفاقهم اللاحق على مشكلات الصحة، ويحقق نتائج أفيد للمجتمع.

قلت: وقد فهمت من حديثك أن هذا الاهتمام بالرعاية الطبية سيغيب مع غياب عوائد الريان وإخوانه.

قال: هذا حقيقي، وستفشل الحكومات لمدة عشرين عاما على الأقل في أن تخلق حالة رواج مشابهة.

قلت: وهل تعتقد أن هذا النموذج كفيل بالاستقرار لو كفت الحكومة يدها عن شركات توظيف الأموال؟

قال: أنت تحتاج في أفضل الأحوال إلى عشر سنوات حتى يتربى لدى الجماهير معنى الاهتمام بالصحة وبالكشف المبكر وبأهمية تحاليل الفحص الدوري! ولن يمكنك ذلك من دون حالة رواج.

على هذا النحو كان أستاذي يفيض في شرح هذا المعني وتأصيله بأفضل مما يشرحه أساتذة الاقتصاد الذين يشرحون نموذج «مازلو» ويقولون : إن زيادة الاستهلاك تشجع على زيادة الإنتاج، وترفع من المستوى الاقتصادي على وجه العموم.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com