فنانان

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 18]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 18]

حدث ذات مرة أن توجهنا لركوب سيارتي فإذا بجهاز التسجيل يعمل بمجرد تشغيل مفتاح الكونتاكت، وإذا بالشريط الذي في الجهاز لمحمد عبد الوهاب، قال: أرني ماذا تسمع لعبد الوهاب؟

قلت: هل تحب أن تراه أم أن تسمعه؟.

قال: بل أحب أولًا أن أرى ذوقك في عبد الوهاب؟

قلت:إنه شريط لعبد الوهاب وهو يؤدي أغنية من أغاني أم كلثوم قبل أن تؤديها هي.

قال: وما الأغنية؟

قلت: قصيدة «أغدا ألقاك».

قال: وماذا على الوجه الثاني؟

قلت: مقطوعة من مقطوعات عبد الوهاب القديمة.

قال: الآن تأكدت ياولد يا محمد أن ذوقك راقٍ بالفعل.

قلت: منك تعلمنا.

قال: شكرا ولكن هل تعرف يا ولد يا محمد أن عبد الوهاب ده فنان.

قلت: أعرف.

قال: وفلان طبال، وذكر اسم مطرب آخر.

قلت: يبدو ذلك.

قال: حاول أن تختبر هذه القاعدة.

ولم يحدث فيما بعد ذلك اليوم أني استمعت إلى المطرب الآخر إلا وتذكرت قول أستاذي ووصفه له بأنه طبال، حتى أنه يحدث عندما أكون في مجموعة ويأتي صوت المطرب الآخر أن انخرط في الابتسام أو الضحك ، حتى يسألني مَنْ هم معي عن سبب ضحكي المفاجئ، وكثيرا ما رويت هذه القصة.

وقد رويت هذا الحوار لوالدي عليه رحمة الله، وكان كما يقال «وهابيا» صرفا، بل كان له ـ رحمه الله ـ شكل عبد الوهاب واسمه وسمته وهندامه، ولكنه مع هذا كله كان يرى أن أستاذي يتجنى على المطرب الآخر، ومع أن والدي ـ رحمة الله عليه ـ كان أكثر إعجابًا من أستاذي بعبد الوهاب وبكل فنه، بل وبشخصية عبد الوهاب، فإنه لم يكن ميالًا إلى قبول رأي أستاذي في هذه المقارنة، ولم يكن متقبلا أبدًا لما كان يصفه بأنه «التجني» من أستاذي في وصف المطرب الآخر.

في مرة أخرى كانت أستاذة القلب في كلية طب مجاورة في زيارة لقسمنا للمشاركة في الامتحانات ، فأبديت إعجابي بأناقة ملبسها في ذلك اليوم، فإذا بالأستاذ يثني هو الآخر على ذوقها، ويعقب إن الله جميل يحب الجمال، وإذا بهما على غير توقع يفتتحان حوارًا طويلًا حول الفن والجمال ومدى انتشار التجهم في الأجيال الجديدة!! حتى أتت أستاذة القلب في الكلية الشقيقة إلى حديث عن شريط جديد لفنان يعزف بآلة واحدة ألحانًا جميلة معبرة، وأنها تدير هذا الشريط الآن في عيادتها، سألها أستاذي عن اسم الفنان أو اسم الشريط فقالت: إنها لا تذكر.

قلت: هل تقصدين جورج زمفر في شريطه على الفلوت؟

قالت وهي حريصة أيضًا على ألا تخطئ: نعم كأنه هو.

قلت: ذلك الذي يختارون منه أجزاء لبعض الثواني الفاصلة في القناة الأولى في المساء دون الإشارة إليه؟

قالت: نعم هو.. هو.

قال: عندك هذا الشريط يا محمد؟

قلت: نعم وسأحضر لك نسخة منه.

قال: متى؟

قلت: غدا إن شاء الله.

في الغد كنت سأساعد أستاذي في عمله في العيادة، فلما دخلت عليه قدمت إليه الشريط فقال: وما ثمنه؟

قلت: لا شيء.

قال بسرعة بديهة: سحت يعني؟

لم أتمالك نفسي من الابتسام العميق الشديد، ودفعني هذا إلى أن أقول: نعم!!

قال وهو يبتسم: أوترضى لي السحت؟

انفجرت مرة ثانية في الضحك وقلت: نعم.

لم يجد بدًا من أن يبتسم ويقول: مادمت تريده سحتا فليكن سحتا!

***

بعد أيام من الحوار السابق وفي عيادته الخاصة نادى علىّ أستاذي من حجرة الكشف الداخلية وقال: خذ هذا البيه في حجرتك (يقصد الحجرة الأخرى من عيادته، وكان ماهرًا في مثل هذا النوع من المجاملة لمساعديه وتلاميذه إذا كان راضياً) وقل رأيك فيه ولا تسألني عن شيء من التفصيلات.. يعني من غير ليه!

عجبت لهذا الأسلوب ولكني لم أتمالك نفسي أن قلت: ولماذا هذا التنبيه المبكر؟

قال: ألم أقل لك لا تسألني ليه؟

قلت: حاضر.

قال وهو متعجب من غبائي: ألم أقل لك: من غير ليه؟

قلت: وهذا ما سوف أفعل.

قال: ولكني لا أقصد هذا، قلت: وماذا تقصد ياسيدي؟

قال: من غير ليه.

قلت: إني لا أفهم شيئا.

قال: أعرف أنك لا تفهم وقد خانك ذكاؤك.

قلت: وهل تعرض ذكائي لاختبار؟

قال: نعم وفشلت فشلا ذريعا أضاع كل رصيدك المتراكم عندي.

قلت موجها سؤالي هذه المرة إلى المريض: وهل رأيتك يا سيدي قبل هذا أو كشفت عليك؟

كأني كنت أستغيث بالرجل لينفي أن أكون قد أخطأت في الكشف عليه أو معاملته معاملة لا تليق به، فإذا بالرجل يقول في كل بساطة وذوق وأدب: دي أول مرة أتعرف فيها بحضرتك.

طأطأت رأسي وأنا سعيد، ثم قال الأستاذ بعد كل هذا العذاب الذي تصورته قد استغرق دهرا: هل تعرف هذا الرجل؟

قلت: لا.

قال: ياسيدي إنه أخو «من غير ليه»!!

وفي هذه اللحظة فقط أحسست بأنني نجوت أخيرًا من الغرق، فقد كان الشاعر مرسي جميل عزيز كما يعرف الناس جميعا من الزقازيق، وهذا هو شقيقه لا يزال كبعض أفراد الأسرة مقيما في الزقازيق، وكان أستاذي هو طبيبه وصديقه أيضا، بل ربما كان زميله في المدرسة في مقتبل العمر، وفي هذه الفترة كان أستاذي معجبًا كل الإعجاب بمحاولة محمد عبد الوهاب الجريئة في غناء «من غير ليه» وهو في هذه السن المتقدمة، وقد دفعه هذا الإعجاب والحب إلى أن يوقفني هذا الموقف، الذي ضغط فيه هكذا على أعصابي لدقائق خلتها دهراً.

***

كانت لي مع أستاذي بعض حوارات عن الأعمال الفنية، وأحب أن أبدأ بأن أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن أستاذي كان قادرًا تمامًا على أن يفصل بين المكونات المختلفة ويتناول كلًا من هذه المكونات بما ينبغي من نقد أو ثناء دون أن ينعكس هذا على رؤيته للعمل الفني كله.

وبالطبع فقد اكتسب أستاذي هذه القدرة المهمة من نجاحه في ممارسة البحث العلمي الذي لا يقوم ولا يمكن إتمامه بدون القدرة على التحليل وعلى الفصل بين العوامل المختلفة ودراسة كل منها منعزلا وعلى حدة، وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة فيما يتعلق بتأثير العوامل المحددة لكل تطور، بما في ذلك الشفاء نفسه، وبما في ذلك الأمراض نفسها.

وليس شرطًا أن يكون المرء مشتغلا بالعلم أو العمل العلمي حتى يمكن له أن يستمتع بهذا الخلق، فكم من زملاء يفتقدون أولياته، ولكن أستاذي لم يكن من هؤلاء، بل كان قادرًا تمامًا على الفصل بين العوامل المتشابكة أو المختلطة، ولم يكن على استعداد لأي تدجيل فيما يتعلق بالحقائق العلمية، وعلى سبيل المثال فقد دارت مناقشة علمية ذات مرة عن أثر الكحوليات فإذا به يبصرنا بأن العلم الثابت يقتضينا ألا ننكر أن الخمر تساعد على توسيع الشرايين حتى وإن كانت في ذات الوقت تؤذي عضلة القلب، وكان في تلك الجلسة حريصًا على أن يواجه الأمور بوضوح، وأن يقول : إن إيماننا وتديننا ومعرفتنا بحرمة الخمر لا ينبغي لها أن تجعلنا نركز على مضارها بالنسبة للقلب دون أن نذكر فوائدها، وكان يشير أيضًا إلى أن في ضررها على العضلة القلبية ما يكفينا للابتعاد عنها، ولكن هذا لا يمنع من أن نذكر أنها قد تفيد الشرايين المتضيقة بتوسيعها.

على هذا النحو كان أستاذي ينجو تمامًا من خلط الأمور وخلط الأوراق في الأمور العلمية، وكذلك كان يفعل مع الأعمال الفنية، وأقفز هنا لأضرب مثلا بحديثه إلىّ في اليوم التالي لحفل افتتاح الأوبرا (عام 1988) الذي حضره الرئيس مبارك، وقد قدمت فيه فرقة يابانية متميزة عرضا للكابوكي.. قال أستاذي: إنه لم يفهم من العرض شيئًا ولكنه ظل طوال العرض مبهور الأنفاس من متابعة شيء بشري مهم قد لا تكون له علاقة بالفن نفسه.

قلت: وما هو؟

قال محترزًا قبل أن يبدأ حديثه: إنه ليس معنيًا بأن تكون تقاليد اليابانيات تسمح لهن بكشف أجسادهن وإلي أي حد، كما أنه لا يعرف حدود ما تسمح به عقيدتهن الدينية في هذا الصدد، ولكنه كدارس للتشريح البشري فوجئ بالأمس بشيء مدهش في الفتيات المشاركات في العرض المسرحي الياباني، وهو أنهن جميعا، رغم ضآلة أجسادهن، يتمتعن بصورة مذهلة من تكوين مذهل للعضلة الظهرية الكبرى dorsi   latismus بحيث تبدو أوتار وألياف هذه العضلة على صورة تفضل بكثير الصورة التي درسناها لهذه العضلة في كتب التشريح، فكل أليافها وأوتارها قوية ومستقلة وبارزة ومتسقة على نحو مدهش.

وقال أستاذي: إن هذا بالطبع لا يتأتي إلا من تدريب عميق ومتصل على مثل هذا الأداء، ومعني هذا أن الفن الياباني ليس شيئا سطحيًا ولا قريب المنال، ولكنه أداء طويل وتمرين متصل.

وأكد استنتاجاته بأنه حاول أن يبحث بين اللاتي شاركن في العرض عن فتاة واحدة لا تتمتع بهذا «التشريح» المدهش لهذه العضلة الكبيرة فلم يجد، مما يدل على أن هذا الكمال الإنساني في هذا الجانب المرتبط بالتشريح يتلازم مع تعلم الفن ثم مع أداء الفن، وأنه لم يأت مصادفة كأن تكون بعض أو معظم المشاركات في عرض الكابوكي من اللائي يؤدين رياضة أخرى شائعة تضمن تحقيق هذا النمو العضلي المتسق.

وخلص أستاذي من هذا كله إلى أن الفن الياباني المرتبط بالكابوكي (أو بأي اسم آخر أىَّا ما كان) يبدو ناجحًا تمام النجاح فيما نسميه الأداء الحركي أو التعبير التمثيلي، لكنه أيضًا ناجح في التعبير عن معنى إتقان الفن، والعمل من أجل الفن، بل تكوين(!!) الجسم البشري (أو تأهيله)!! من أجل الفن.

ولم يفت أستاذي أن ينبه إلى الفارق بين هذه الجدية المطلقة التي انعكست على أجساد ممارسي الفن، وبين الهزل والتهريج الذي يسيطر على المسرح العربي المعاصر بدون أدنى حاجة إليه لا للإضحاك ولا لغير الإضحاك.

***

من آن لآخر كان أستاذي يسألني عن آخر ما شاهدت أو حضرت من أعمال فنية؟ وأذكر أني لخصت له ذات مرة قصة الفيلم الشهير الذي يحكي قصة حياة الإمبراطور الأخير للصين، وكان يعرض في سينما التحرير القريبة إلى بيت كل منا، فإذا به في وسط حديثي يطلب إلىّ أن أتوقف كي يظل محتفظًا بالشوق إلى رؤية الفيلم، فلربما كان تلخيصي للفيلم وروايتي لأحداثه دافعًا له لكي يتكاسل عن مشاهدته، وكان يقدر حتى من قبل مشاهدة هذا الفيلم مدى ما يمكن لأحداثه ومشاهده أن تثير من مقارنات فورية ولاحقة في أذهان المشاهدين. وفي الحقيقة فإنه من قبل أن يشاهد الفيلم كان قد توصل إلى عدد من الحقائق فيما يتعلق بتكنيك إخراجه وصوره ومشاهده وشخصياته، وهو أمر لا يتأتى بالطبع إلا للذين دربوا ذوقهم الفني مرارًا وتكراراً.

***

ولم يخل الأمر بالطبع من ملاحظات متكررة لأستاذي عن كمية الإسفاف التي تحفل بها إعلانات المسرحيات، وكان له رأي وجيه وهو أن هذا الإسفاف لن يقود في النهاية إلا إلى الانحطاط في أداء الشعب لوظائفه الأساسية جميعاً، وكان يبنى رأيه هذا على كثرة ما تتداوله الإعلانات من مشاهد الحياة بحيث لا يتبقى مشهد من مشاهد النشاط البشري إلا وقد تكونت له صورة هزلية يستغلها المهرجون في التعريض بكل شيء في الحياة.

ولم يكن أستاذي يتجاوز الموضوع من دون أن يسألني: هل يحدث مثل هذا في أي بلد محترم؟ هل يحدث مثل هذا في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو اليابان؟ ولماذا نحن فقط الذين نتميز بهذا الإسفاف؟

ولم يكن أستاذي يتوقف عند هذا الحد، ولكنه كان يضيف أيضًا فقرة من السخرية بالقول الشائع: إن الجمهور عايز كده، ويسأل في رصانة: ولماذا لم يكن الجمهور عايز كده في سنة 1950 وسنة 1940؟ أم أنه الانحطاط الذي فرض على الشعب؟

*****

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com