[حوارات الدين والطب و السياسة/ 30]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 30]
حين أصبح أستاذي عضوًا في هيئة التدريس التزم بالاشتراك في دورية علمية كانت في الوقت الذي عين فيه في الجامعة (1972م) كافية لاطلاعه على الاتجاهات الحديثة في العلم والبحث العلمي، والطب والعلاج الطبي، والتقدم الهندسي والتكنولوجيا في مجالات الأجهزة الطبية المساعدة على التشخيص والعلاج، ولم يكن للأجهزة في ذلك الوقت دور كبير في العلاج على نحو ما أصبح لها فيما بعد.
وكان أستاذي حريصًا على الاحتفاظ بأعداد هذه المجلة الدولية في عيادته، ثم إنه وجد بعدما كثرت أعدادها وتعددت الموضوعات المهمة في هذه الأعداد أن الأولى به أن يحتفظ بها في الدولاب الرئيسي في مكتبه في القسم، وفيما بعد فإن القسم توسع توسعات كثيرة، وأصبحت المكتبة التي في حجرة الأستاذ غير قادرة على الاحتفاظ بكثير من الأوراق الإدارية والعلمية في الوقت نفسه، ومن ثم فإن أستاذي سألني الرأي بطريقة موحية، وهكذا كلفني بأن أحصر هذه الأعداد وأسجلها في قوائم، وأن أطلب إلى العميد قبولها كهدية في مكتبة الكلية، وقد تفضل العميد فأشر على هذا الطلب بالعرض على لجنة المكتبات، وكان يرأسها رئيس قسم الأطفال في ذلك الوقت، وقد وافقت اللجنة على قبول أعداد متفرقة من مجلات متعددة كانت مكتبة أستاذي تحتويها، وقد بلغ عدد هذه الأعداد قرابة مائة وخمسين عددا، ولازلت أحتفظ في أوراقي بالقوائم التي سلمت بها هذه الأعداد المتفرقة من المجلات.
وكان لتوجه أستاذي هذا أثر القدوة في أول تلاميذه حصولا على درجة الدكتوراه، وكان ذا أخلاق جيدة، فقد ظل هو الآخر مشتركا في مجلة علمية دولية، لكن تلميذه الثاني الذي تولى رئاسة القسم من بعده مباشرة كان يرى في مثل هذا التصرف سفها لا ينبغي لماله أن يضيع فيه، ولم يكن هذا هو السفه الوحيد في نظره، وإنما كانت هناك تصرفات مفيدة وكريمة كثيرة جدًا لا ينظر إليها ذلك الرئيس إلا على أنها نوع من السفه الذي لا يليق به، وهو الذي تعود على توفير كل مليم، وعلى عدم الإنفاق مطلقاً.
ولما كان أستاذي قد حصل على درجة الدكتوراه من قصر العيني الذي حصل منه أيضا على البكالوريوس وعلى دبلومي الباطنة والقلب، فإنه كان مشتركا في مجلة قصر العيني الطبية، وقد اكتشفت بنفسي من مراجعة قوائم اشتراكات المجلة أنه كان ضمن عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المشتركين في هذه المجلة من خارج قصر العيني، وقد ظل أستاذي يحتفظ باشتراكه في هذه المجلة حتى عهد قريب، بينما دفعه ارتفاع تكاليف الاشتراك في المجلة الدولية (كما دفع غيره) إلى أن يتكاسل عن تجديد هذا الاشتراك.
ومن الإنصاف أن أوضح للقارئ أن قرار الأستاذ بالتوقف عن الاشتراك في المجلة جاء بعد حوار عن تكاليف الاشتراك في مجلة علمية طبية، ولتصوير الأمر بطريقة بسيطة ، فإننا إذا افترضنا أن هذا الاشتراك يكلف مائة دولار في العام (كرقم قياسي) فإن المائة دولار في عام اثنين وسبعين (حين بدأ أستاذي الاشتراك فيها) كانت تكلف أستاذ القلب المصري أربعين جنيها في المتوسط، أما اليوم فإنها تكلف نفس الشخص ستمائة جنيه مصري، أي أن التكلفة تضاعفت 15 ضعفاً، فإذا افترضنا أن التكلفة العالمية (أي تكلفة الاشتراك في المجلة والبريد) تضاعفت ثلاثة أضعاف فإن التكلفة المصرية تضاعفت تسعين ضعفاً، وعلى حين كان أجر كشف المريض في ذلك الوقت المبكر خمسة جنيهات، فإنه اليوم يوازي ثلاثين جنيها في المتوسط، أي ما يعادل ستة أضعاف قيمة الكشف منذ ثلاثين عاما.
وهكذا أصبح الأستاذ مطالبا بأن يدفع ما يكلفه تسعين ضعفا من دخل تضاعف ستة أضعاف فقط!
على هذا النحو كان يدور الحوار بيني وبين أستاذي، فإذا به يستدرك ويقول: لكنك يا محمد نسيت أهم عنصر في الموضوع.
قلت: وما هو ؟
قال: معدل تدفقات المرضى على الأطباء.. ألا تذكر ما رويته لك عن الفارق بين معدلات هذه الأيام ومعدلات الأيام التي بدأت فيها العمل في عيادتي.
***
كان أستاذي محبا للبحث العلمي وقادرا عليه وراغبا فيه، لكن ظروف المؤسسة الجامعية لم تكن لتسمح له بأن ينجز فيها أكثر مما أنجز من بحوث تقليدية متعددة تدور حول ما تدور عليه بحوث الجامعة المصرية في عهدها الحالي، الذي يتميز في المقام الأول بصفة أنها جامعة الأعداد الكبيرة فحسب.
على سبيل المثال، وليس الحصر، لاحظ أستاذي في أثناء عمله في عيادته أن بعض مرضاه المصابين باضطراب في نظم القلب، ضمن أمراض أخرى، يتحسنون بدون سبب منطقي ظاهر، فلما كثّف دراسته على مرضاه وأخذ يفحص الخصائص الخاصة لكل مجموعة منهم، وجد ارتباطا بين تعاطي أحد عقاقير الملاريا وبين التحسن في اضطراب نظم القلب، وهكذا بدأ دراسته على الآثار المحتملة لهذا العقار فيما يتعلق بعلاج اضطراب نظم القلب، لكن هذه الدراسة كانت بحاجة إلى دراسات واسعة المدى وأخرى طويلة الأمد، فضلا عن معامل قياسات دقيقة ثم دراسة أخرى للآثار الجانبية المحتملة لمثل هذا العقار إذا ما استخدم كعلاج لاضطراب نظم القلب.. وكما يعرف معظم القراء فإن هذه الدراسات ينبغي أن تجري في البداية على ما يسمي «حيوانات التجارب»، وبالطرق العلمية الدقيقة لمثل هذه الدراسات. وقد تستمر الدراسة الواحدة أكثر من عشر سنوات حتى تصل إلى نتيجة علمية ذات قيمة، ولكن النظام الجامعي المصري لا يتيح (في المتوسط) للبحث الواحد إلا عاما واحدا فقط، أو عامين على أكثر تقدير، ويطلب عددا مناسبا من البحوث للترقية الأولى إلى أستاذ مساعد، وعددا آخر للترقية الثانية إلى أستاذ.
ولأن أستاذي كان مؤمنا بالبحث العلمي ومدركا لمتاعبه وتكاليفه، فإنه كان على خلاف كثيرين من تلاميذه لا يكلف الباحثين (من طلاب الدكتوراة والماجستير) من أمرهم رهقا، فإذا وجد العدد الذي حدده المشرفون الآخرون لعينة البحث كبيرا اقترح تخفيضه، وإذا وجد القياسات أو المعاملات أو المعدلات التي ستجري كثيرة اقترح الاكتفاء ببعضها دون البعض الآخر، بل إنه كان ممن يشجعون الأخذ بالفكرة التي تجعل الجداول الكبرى الرئيسية للرسالة على هيئة ملاحق، وتكتفي في تسجيل النتائج بجداول المقارنات العمومية.
وأذكر بهذه المناسبة حوارا دار بيني وبين أستاذي حول رسالة لم تحظ بقبوله، فما كان منه إلا أن انسحب من أن يكون عضوا في لجنة مناقشتها، وقد انسحب مبكرا عند تحديد لجنة الحكم، ومال علىّ في مجلس القسم وقال: ليبوء بها غيري.
قلت: أو تظن أحدا سيبوء بها أو بصاحبها؟
قال: وما تظن؟
قلت: سيتفرق دمه بين القبائل.
قال: نعم هو ذاك، أردفت: وسيكون لك نصيب.
قال: لكنه سيكون ضئيلا.
قلت: هل تعرف أن هذا خلاف فقهي قديم.
قال: زدني.
فقصصت عليه (مع مقدمات حافلة بالادعاء) قصة الخلاف الفقهي الذي نشب في خلافة عمر بن الخطاب حول جماعة اشتركوا في قتل طفل صغير لامرأة، وكان منهم المرأة وعشيقها ومَنْ عاونوهما على هذا الإثم، وكان بعض الفقهاء من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يرون أن النفس بالنفس، وأنه لا يجوز قتل جماعة في مقابل قتلهم فردا واحدا، لكن عمر بن الخطاب بما جبل عليه من حاسة العدل والحق، وبما ألهمه الله اعترض على مثل هذا التفسير وقال قولته المشهورة التي لا تزال ترن في آذاننا جميعا: لو أن أهل اليمن كلهم اشتركوا في قتله لقتلتهم جميعا به.
قال أستاذي في حب بالغ: إني أحفظ مقولة عمر ومعناها ودلالتها العبقرية، لكني لم أكن أعرف القصة التي وراءها.
أردفت عائدا إلى موضوعنا الأصلي وقلت: لو أننا أخذنا بروح عمر ما وصل العلم والبحث العلمي في بلادنا إلى ما وصل إليه.
قال أستاذي: أتذكر قول عمر وهو بعيد عنا ولا تذكر قول سعد باشا وهو قريب منا؟ كان أستاذي يريد أن يلفت نظري إلى قول سعد باشا: «مافيش فايدة»، وهو ما تروي بعض الروايات أنه قال يوم حضرته الوفاة فأدرك أنه مقبل على نهايته وقال هذه المقولة لزوجته صفية زغلول، لكن المتشائمين انسحبوا بالقول على مجمل الحياة السياسية في مصر.
قلت: يا سيدي لو كان الأمر أمر قرب وبعد، فالأولى بنا أن نتذكر قول مَنْ مات بعد سعد زغلول بخمس سنوات وشهرين.
قال: ومَنْ هو؟
قلت: أمير الشعراء.
قال: وماذا قال؟
قلت: قال: سلموا لي على محمد (وكان يقصد الموسيقار الأستاذ محمد عبد الوهاب) الذي تبناه وصنع منه ما صنع.
وكان أستاذي يعرف هذه القصة بالطبع وهو المعجب المتيم بكل من عبدالوهاب وشوقي!! فلما انتهيت قال: مادام الأمر أمر قرب وبعد فإني أدلك على قول لمَنْ هو أحدث من هؤلاء جميعا.
قلت: ومَنْ القائل؟ قال: ليس يهمك أن تعرف مَنْ القائل لأنه فولكلور.
قلت: وما القول إذاً؟
قال: أو لم تدركه؟ ألم تسمعهم يقولون: سلم لي على المترو!!
قلت: إن هذا القول قديم من قبل أن يعرف الفلكلور أن هناك مترو.
قال: فليكن، فلن يبلغ القول أبلغ من هذا في الدلالة على العبث!!
وأردف أستاذي مباشرة يسألني: هل كان صديقك توفيق الحكيم يدرك أن هذا السلام على المترو هو المعادل الموضوعي لمسرح العبث؟
وكان أستاذي إذا جاء ذكر توفيق الحكيم لا يتحدث عنه إلا بهذه الصفة، فقد كان في تحليله لأحاديثي المطولة قد استنتج أني متيم بالحكيم إلى أبعد حد، وهو المعنى الذي لا يتحدث عنه العلماء من أمثال أستاذي إلا بأنه «الصداقة».
قلت: أو تستخدم حضرتكم مصطلحات من قبيل المعادل الموضوعي؟
ضحك أستاذي وقال: لا تظنني أستاذك بعيدا تماما عن الأدب، إنما هو يتواضع في حضرتك فحسب.
ألجمتني الإجابة فاعتذرت فقال: لا يهمني أن تعتذر، ولكني أحب أن أعرف هل كان الحكيم يؤمن بمثل هذا؟
قلت: أظنه كان كذلك.
قال: وما دليلك؟
قلت: يا طالع الشجرة؟
قال: أويكفي هذا دليلا؟
قلت: بلي.
قال: فلم؟
قلت: لأنه يدل على اتجاه كبير، ومادام المرء قد فضل الاتجاه الكبير فإنه يعرف طريقه.
قال: وإن لم يفعل؟
قلت: فإنه يكون باحثا عن طريق بعينه، أما الاتجاه أو الطريق الكبير فإنه بكبره دال على نفسه.
قال: أتظن الحكيم فعل هذا في مسرح العبث الذي تظاهر بالانضمام إلى ركابه؟
قلت: نعم.
قال: كنت أنا الآخر أظنه كذلك قبل أن ألقاك.
قلت: أتأذن لي في سؤال خبيث؟
قال: افعل! لكن لا تتهم نفسك مقدما.
قلت: أشكرك شكرين، لكني أحدس أنك كتبت أدبا في وقت من الأوقات.
قال: ما دليلك؟
قلت: لا يسأل عن التقنيات الأدبية بمثل هذا التعمق إلا مَنْ مرّ بالتجربة.
قال: هو ذاك.
قلت: هل لي أن أسألك أن تطلعني على بعض ما أنجزت؟
قال: بل الأولى أن أقص لك طرفة.
قلت: ألها هذه القيمة؟
قال: وأكثر.
قلت: فإني مشوق، فقص علىّ أنه كانت له محاولات شعرية فجاء لفظ «الرفيق» فيها عرضًا على هيئة منادي فتحمس لها زملاؤه اليساريون تحمسا فاق الوصف بسبب كلمة واحدة.
وسرعان ما أردف أستاذي فقال: ومن يومها عرفت المعاني الحقيقية للانتماء والنقد المذهبي.
قلت: لكن يبدو أن الأمر في إبداعك يفوق هذا.
قال: دعك من هذا جميعه، فإني قد حاولت مرة أخرى فلم أفلح.. وحاولت ثالثة فوجدت أني أكون كاذبا لو قلت: فلم أيأس.
*****