موقع الدكتور محمد الجوادي | أبو التاريخ
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 29]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 29]
قبل أن أروي هذا الحوار أبدأ بالحديث عن إيماني المطلق بأن الأستاذ الحقيقي لا يمكن أن يصل إلى الأستاذية الحقة إلا إذا كان يتمتع ضمن ما يتمتع بكرم حقيقي، وإني أزعم أنه بدون هذا الكرم الحقيقي لا ينال أي عالم أو مدرس متميز إلا ما هو أقل من الأستاذية الحقيقية التي تتطلب كرما وعطاء بلا حدود.
ومن حسن حظي أنني اكتسبت من عشرتي لأستاذي حبا للكرم، وقدوة فيه، وقد كان كرمه يعبر عن نفسه في صور كثيرة، كان يحب أن يهادي تلاميذه المقربين بما يراه أهلا للهدية، كنت في اجتماع ثقافي علمي في القاهرة لمجموعة من الأساتذة فتطرق الحديث في الاستراحة إلى ياميش رمضان، فوجدوني صامتا، فسألني أحدهم: وأنت ماذا فعلت؟ أأنت مضرب عن الياميش لسبب طبي أو غذائي.. ريجيم؟
قلت: لا… ولكن أستاذي كفاني مؤونته واشترى لي كما اشترى لأولاده.
شهقت إحدى الأساتذة الحاضرات وقالت: يا بختك بأستاذك، وأخذت تقص هذه القصة على كل مَنْ تقابل حتى أصبحت القصة حديث الموسم.
***
أعود وأقول: إن أستاذي كان يتمتع بقدرة على العطاء، والحق أن كرمه وعطاءه كانا محصلة تدين وتحضر وتربية وتفكير أيضا.
وكما كان أستاذي لحسن حظي عالمًا حقيقيًا ومحبًا للعلم، فإنه كان ينفق من أجل هذا الحب، وكما كان أستاذي محبًا للأستاذية الحقة، فإنه كان ينفق أيضًا عن سعة من أجل هذا الحب، وكنا نرى فيما يفعله من أجل هذا وذاك أمرًا بديهيًا لابد لنا جميعًا أن نقلده فيه، لكن خيبة أملنا سرعان ما حلت حين وجدنا سلوكًا متناقضًا على طول الخط في عهد زميلنا الذي تولى رئاسة القسم من بعده، فإذا الأستاذية مغنم بل منجم للاسترزاق والتربح الذي لا نهاية له، وإذا كل الواجبات تتحول إلى استثمار يعود عليه وحده بالنفع المضاعف.
كان كرم أستاذي يتجلى بوضوح شديد في معلم مهم من معالم الحياة الجامعية، ذلك أننا حين تُعقد الامتحانات أو تُناقش الرسائل نعتمد في مشاركة زملائنا من الأساتذة في الجامعات على حبهم أو تقبلهم لأداء مثل هذه الوظائف الجامعية الروتينية المرهقة، مع ما قد تتطلبه من السفر ولا نعتمد على مكافآت مجزية ينالها هؤلاء الأساتذة لقاء مشاركاتهم في هذه الأعمال المجهدة المستغرقة للوقت، لكننا في المقام الأول والأخير نعتمد على ذلك المعنى الذي يسمي بالعشم وعلى تبادل المسؤوليات، فكما أن أستاذ القاهرة يذهب ليشارك في امتحانات الإسكندرية، فكذلك يذهب أستاذ الإسكندرية للمشاركة في امتحانات القاهرة.. ويصل الأمر ببعض جامعاتنا إلى أن تبذل جهدا منظما من أجل تيسير السفر والإقامة على الأساتذة الذين يتفضلون بالمشاركة في هذه الأعمال الجامعية المتكررة، وعلى سبيل المثال فإن جامعة أسيوط تكلف شباب أعضاء هيئات التدريس وبعض الموظفين بحجز عربات كاملة من قطار الصعيد كل موسم كي تستوعب الأساتذة المسافرين لامتحانات الدكتوراه، وإذا بعربة القطار تضم على سبيل المثال ستة من أساتذة الجراحة من جامعات مختلفة، وستة من أساتذة الباطنة، وثلاثة من أساتذة النساء، وثلاثة آخرين من أساتذة جراحة العظام، وأربعة من أساتذة القلب، وأربعة من أساتذة التخدير.. وهكذا.
أما فيما يتعلق بنا فقد كان أستاذي مسؤولا لفترة طويلة لا عن امتحانات قسم القلب وحده، وإنما عن امتحانات الباطنة الخاصة بأقسامها الستة (القلب ـ الصدر ـ العصبية ـ النفسية ـ المتوطنة ـ الطب الطبيعي)، وأذكر أنني كنت مساعده في دورتين من دورات هذه الامتحانات، وأن عددا لا يستهان به ممن أدوا الامتحان في هاتين الدورتين قد أصبحوا لا أساتذة فحسب، ولكن رؤساء أقسام وأعضاء في اللجان العلمية الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين.
كان دأب أستاذي في هذه الامتحانات، ينمُّ عن كريم أصله، ونبل طبعه، فقد كان حريصا على أن يستضيف كل الأساتذة المشاركين على أفضل طعام متاح في أفضل مطعم في الزقازيق، وكان يفعل هذا بإخلاص وحبٍّ شديدين مع كل أستاذ من هؤلاء الزملاء الذين كانوا يعتزون به، وكان كثيرون يحاولون الاعتذار بضرورة وجودهم في القاهرة مثلا في ساعة معينة، فيرد عليهم بأن الأمر لن يستغرق إلا أقل من ساعة، فقد رتب كل الأمور بحيث يبدأ الطعام بمجرد وصولهم إلى المطعم.
والحق أن هذا التصرف لم يكن هو التصرف الوحيد في إكرام هؤلاء، فقد كان أستاذي يبذل جهدًا كبيرًا في ضيافتهم طوال وجودهم في لجان الامتحانات، وكان تعبيره المشهور: إنّه لابد من البحث عن أفضل «حاجة حلوة» وأفضل «حاجة حادقة».. وكان كلما افتتح محل جديد لمثل هذه المخبوزات حرص على أن يسأل عنه أو يجربه بنفسه كي يعرف مستواه، وكان يقول: إن المصريين يهتمون بالبدايات اهتماما يفوق اهتمامهم بالسمعة، وهكذا كنا ننتقل بين كبريات المحلات لنستغل مزاياها التي ترتبط بافتتاحها لأول مرة أو بتجديدها لنفسها بعد طول زمان: تسيباس بعد تطويره، ولابوار، ولامندين، وشانتي، ومادييرا، وجروبي .. إلخ، وبالطبع فإن مثل هذه المخبوزات على الرغم من روتينيتها إلا أنها إذا كانت جيدة بعثت السعادة واللذة، وإذا كانت سيئة؛ فإنها لا تسبب الضيق النفسي فحسب، لكنها تسبب نزلات معوية شديدة، والعادة أنه إذا لم يبذل في انتقائها اهتمام مثل اهتمام أستاذي تكون غير طازجة وغير جيدة.
وكان أستاذي ينفق على كل هذه الضيافات من جيبه الخاص، وندر أن ترك لي ولغيري الفرصة كي نقوم ببعض هذا الواجب، بل إنه لولا الحياء منا كان يبحث عن وسيلة ليكافئنا بها مكافأة مباشرة أو ليعوضنا بها تعويضا مباشرا عن استهلاك سياراتنا في استحضار الأساتذة من القاهرة أو غيرها من العواصم.
والواقع أننا لم ندرك حجم هذا الخلق في أستاذنا إلا في عهد خلفه الذي كان حريصًا على ألا يجود بمليم واحد من جيبه الخاص على أية وظيفة يتولاها، وقد كنا نقول: إنه وصل في هذا الأمر إلى حدود لم يتفوق عليه أحد فيها في التاريخ الإنساني كله.
***
وكان أستاذي، رغم معاناته الصحية، حريصا مرة بعد أخرى على أن يرد الفضل لمن يشاركونه عناء الامتحانات في الزقازيق، وأذكر مرة كنت معه في العيادة صدفةً فإذا به يتلقى دعوة للمشاركة في امتحانات طنطا في نهاية الأسبوع، فسألني: هل أتمكن من صحبته؟
قلت: لقد ارتبطت بموعد.
قال: لا عليك.
وطلب أحد تلاميذه ممن يكبرونني وبدأه، فقال له: يا فلان إن «السيد» نادانا ولابد أن نلبي نداءه.. والأستاذ الآخر لا يدرك معنى ما يقوله أستاذي، وأستاذي يعيد «تلحين» المعنى بينما الأستاذ الآخر غير مدرك للمعنى من الأساس لكنه محرج وأستاذي يستلذ بحرج تلميذه إلى أن سأله: ماذا يقصد بالضبط؟
ضحك أستاذي وقال لتلميذه: ألم تشاهد حلقة الأمس من المسلسل المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ؟
قال: بلي.
قال: ألا تذكر أن الحسين نادى زوجة سي السيد فذهبت لزيارته؟
قال: أذكر.
قال: فكذلك نحن مطالبون بزيارة السيد البدوي في طنطا.
قال الأستاذ الآخر: لماذا؟
ضحك أستاذي وقال: ولماذا يذهب الناس لزيارة السيد البدوي؟ ولماذا لا نفعل مثلهم؟ ألم تشتق نفسك لزيارة السيد ونوال نفحاته؟ وظل أستاذي يكرر هذه المعاني وهو يحس بضجر تلميذه على الطرف الآخر من التليفون، فلما بلغ الضجر منتهاه قال أستاذي: حتى نمتحن طلاب الدكتوراه.
قال الأستاذ الآخر: ولِمَ لا تقول هذا سيادتكم من الصباح.
قال أستاذي: قد قلته.
فعجب الأستاذ الآخر وقال: لا أظنني سمعت شيئًا من هذا.
وابتسم أستاذي ابتسامة ذات معنى.
