قدم محمد عبد الوهاب في أغنيته “ست الحبايب” التي غنتها السيدة فايزة أحمد أقصى ما يمكن للتعبير الحميم أن يعبر عنه من خلال أغنية، حتى أنك تظن بعد مقطع أو مقطعين أن المطربة تتحدث إلى أمها مباشرة ولا تتحدث إلى الجمهور ، وأن هذا الحديث الموجه للأم هو شيء خاص بالأم ، وأن الجمهور متطفل على سماع الحديث الحميمي، ولم يكن الوصول إلى مثل هذا التعبير الموسيقي او الصوتي الذكي ممكنا بدون لحن محمد عبد الوهاب الذي أحال الكلمات إلى نداء ، وأحال النداء إلى اعتراف، وأحال الاعتراف إلى رجاء ، ودمج هذا كله بذكاء عبقري عبر به عن حبه هو نفسه لوالدته، فلو لم يكن هو نفسه عاشقاً أبدياً لوالدته وفضلها عليه ما استطاع أن يصل إلى هذا اللحن العبقري والتقطيع والترتيب ليحدث به تأثيره المبهر في المشاعر الإنسانية سواء عند السماع أو عند الاستعارة التي يمارسها كل من يريد أو كل من تريد أن توجه إلى أمها هذا الاعتراف الشجي الخليّ الجميل.
وانظر إلى الدنيا كلها وقد اختزلها حسين السيد ، ومن بعده محمد عبد الوهاب، في الحنّية والطيبة وكأنهما لا يريدان بعد هاتين الكلمتين تعبيراً آخر ينتقص من قدر هاتين الخصلتين المطلقتين.
وعلى عادة كلمات الشعراء فإن الدخول إلى الزمن كفيل بتعميق المعنى ، وهنا يلجأ حسين السيد إلى الحديث عن الماضي، ويبدأ هذا الحديث بالكلمة الشائعة في العامية المصرية للتعبير عن الماضي وهي “زمان” التي تقابل في الإنجليزية مثلاً أو في الفصحى قولنا: “في الماضي” .. لكن محمد عبد الوهاب بذكاء فريد يأخذ هذه الكلمة ويجعل منها متكئا لبدء الكوبليه التالي، وهو يكررها مع تلوينها في مطلع الكوبليه الثاني وكأنه يقدم الكلمة أولا كعنوان ثم يقدمها كجزء من الجملة الأولى ، بيد أن هذه التقنية لا تستهدف الحديث عن تجربة ماضية فحسب وإنما هي تستهدف تعميق الاعتراف المثالي بأفضال الأم الوالدة فهي التي تتعب وتسهر ، وهي التي تحمل هم الليالي ، وهي لا تزال على هذا الحال من حمل هم الليالي، فبينما ينام ابنها (أو ابنتها) فإنها تسهر، وهي لا تكف في سهرها عن تدبر الأمر، لتحقق و تضمن نجاحاً في العلاج ومواجهة الأزمة سواء من خبرتها أو من خبرة غيرها.
وعلى الرغم من أن السهر يجعل الانسان يتأخر في استيقاظه فإن الأم تجمع بقدرة ربانية نادرة بين السهر والاستيقاظ المبكر مع آذان الفجر، وهي تحرص على أن تذهب إلى ابنها (أو ابنتها) لتطمئن عليه من دون أن تسبب له انزعاجاً ، وهو ما يعبر عنه فعل “التشقير” الذي يناظر فعل التفقد في الفصحى ، ولهذا فإنها لا تستحق أقل من الدعاء لها بالبقاء لأن بقاءها نفسه بقاء للابن (أو للابنة) في ظروف أفضل ، وهو المعنى الذي وجد حسين السيد أن عليه أن يعمد إلى تناوله في الكوبليه الثالث بقدر من التفصيل ، وهو لهذا يتحدث عن الأمل في طول بقاء الوالدة، ودوام رضاها لأنه يعرف كما ذكرنا من قبلها في الكوبليه الثاني أن روحه أي سر حياته من سر حياة الأم، وأن معيشة الابن (أو الابنة) لا تتحقق إلا بفضل دعاء الأم.
ولأن المناسبة التي تعبر عنها الأغنية تستحق قدراً من البهجة والابتهاج فإن حسين السيد يسارع إلى هذا المعنى بجلاء ووضوح ضاربا المثل باستشعار الأم المبكر لفرحة أبناءها ، حتى أنها تحس بهذه الفرحة قبل الهنا بسنة على نحو ما تحس أيضا بالشكوى من قبل أن يحسها ابنها ، وهذا معنى شاعري لم يُسبَق إليه حسين السيد بهذا الوضوح وإن كان بحكم دفء العاطفة المتاحة في كلماته السابقة لم يوظف إنجازه فيه بقدر من التعميق أو التكرار أو التطويل.
ثم يأتي المقطع الأخير الذي يتبلور فيه الاعتراف الصادق على أكثر ما يكون الاعتراف وفاء للحقيقة فيتساءل عبد الوهاب بطريقته الذكية في التلحين التي توحي بالسؤال من أول الجملة لا من آخرها فحسب ، ولهذا فإنه يسأل في الجملة الثانية عما إذا كان عمره يكفي للوفاء بالشكر، كما أنه يسأل سؤالاً حائراً عن المكان الذي يمكن له أن يجد فيه هدية تتوازى في قيمتها مع المعاني التي يريد أن يعبر عنها.
ثم إذا هو يلجا الى عادته المحببة في استخدام نبرات الدراويش حين يوالون الهتاف بالكلمات متتابعة ليعبروا بها عن معاني الشمول وهو يستخدم هذه التقنية بتلحين ذكي : نور عيني ، ومهجتي ، وحياتي ، ودنيني .. لو طلت … يوم دول هما هديتي.
ويختم عبد الوهاب بما بدأ به مع إعادة الترتيب فيقول : يا رب يخليكي يا أمي يا ست الحبايب يا حبيبة.. ويجد أن من الأفضل أن يعيد التركيز على كلمة حبيبة بهدوء وذكاء فيفعل هذا على نحو فريد لم يكن يستطيعه إلا محمد عبد الوهاب.
قلنا ذات مرة إن عيد الأم لا يكتمل في العالم العربي من دون اذاعة أغنية محمد عبد الوهاب “ست الحبايب” كما أن ليلة العيد لا تكتمل إلا بأغنية أم كلثوم يا ليلة العيد أنستينا ، وعلى الرغم من أن “ليلة العيد” وجدت اهتمامات موفقة صعدت بأغانيها إلى مقام متقدم مقتدية بليلة العيد ، فإن “ست الحبايب” لا تزال حتى الآن وبعد ستين عاماً من تقديمها تحتل القمة والمكانة بلا أية منافسة من أي نوع ولا على أي مستوى.