ثورة الشك (2)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 27]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 27]

قال: لكنك يا محمد تريد أن تضعني في دائرة السياسيين الذين يمارسون العمل على الدوام، فهم إما في المعارضة، وإما في الحكم.

قلت متخابثاً: وأنت، فيما يبدو، تريد أن تعيش دور الزعيم الفرنسي ديجول وتتمني أن يستدعيك «الشعب» حين يرى ألا صلاح للأمر إلا بعودتك.

قال: كان عملاقا.

قلت: أرأيت؟

قال: رأيت ماذا؟

قلت: أنت متمثله.

قال: ألم يكن عملاقا؟

قلت: بلي.

قال: فما الضرر في استحضار ذكره الحسن؟

قلت: هذا ما قصدته.. لكن الظروف مختلفة.

قال: فيم؟

قلت: بعد سنوات سيقفز إلى مقاعد المصوتين في انتخابات العمادة والصالحين لها أفراد كثر من جيل جديد يرى نفسه أحق باللعب وأقدر عليه.

قال: أمامهم وقت.

قلت: قد بدؤوا وستكون السنوات الخمس القادمة كافية لوصول عدد منهم إلى مقاعد الأستاذية يفوق عدد الأساتذة الموجودين حاليا.

قال: ما لي ولهذه الحسابات الصارمة؟

قلت: هذه هي الحقيقة.

قال: وهل تغير موعد الانتخابات لتكون كل خمس سنوات بدلا من كل ثلاث؟

قلت: في حالتنا يمكن القول بأنه تغير.

قال: كيف؟

قلت: لأنك نفسك لن تقبل أن تدخل الانتخابات مع العميد الحالي حين يكون في التاسعة والخمسين بعد ثلاث سنوات.

قال: ومن أين تأتي السنة الخامسة؟

قلت: هو من مواليد ديسمبر، وبذلك يمتد عمله إلى نهاية العام الدراسي التالي.

قال: ومن أين جئت بالرقم الذي تزعم فيه أن العدد سيتضاعف؟

قلت: بل أزعم أنه سيفوق الضعف.

قال: ما دليلك؟

قلت: من الطبيعي أن أغلب مَنْ وصلوا الآن إلى أستاذ مساعد سيكونون أساتذة بعد أربع سنوات.

قال: وما عدد هؤلاء؟

قلت: يفوق عدد الأساتذة الحاليين، بل إن بعض قدامى المدرسين الحاليين سيكونون أساتذة في الانتخابات القادمة.

قال: كيف؟

قلت: يصلون إلى أستاذ مساعد خلال هذا العام، ثم يصلون بعد أربعة أعوام إلى درجة أستاذ.

قال: لكن هؤلاء منتخبون لا مرشحون.

قلت: ما لم تتحمل الظروف السيئة فسوف يكون العميد القادم من هؤلاء الذين لم يمروا حتى بتجربة التصويت من قبل!!

قال: أتظنهم يلعبون دورا ً مؤثرًا إلى هذا الحد في الانتخابات القادمة؟

قلت: أكرر لك زعمي أن العميد سيكون منهم إذا لم تحافظ على موقعك في الوكالة، وإذا لم تثبت لمريديك أنك مكافح من أجلهم.

قال: لكن هذا ليس من طبعي.

قلت: من أجل مثالياتك التي تتقدم من أجلها لمثل هذه المواقع تستطيع أن تتحمل بعض الأذى النفسي.

وظللنا نتجادل في هذا الأمر طيلة ساعة وصلنا في نهايتها إلى أن يستمر وإلى أن يؤجل رفع استقالته.

لكنني فوجئت بعد شهرين بأستاذي رئيس الجامعة وهو يشير إلىّ أن انفرد به بعد خروج ضيوفه، وينهي إلىّ أن أستاذي بعث إليه باستقالة، ويؤسفني بالطبع أن أشير إلى أن الرسول الذي جاء بالرسالة كان يلعب ضد أستاذي وأستاذه، مع أنه كان من تلامذته الأولين، وقد طلبت إلى أستاذي رئيس الجامعة أن يؤجل قبول الاستقالة فصادف ذلك هوى في نفسه، وكأنه كان يخبرني لأطلب منه ذلك الطلب، وقد أنهي إلىّ أنه يعتزم ذلك وأنه يعول علىّ في إقناع أستاذي بالرجوع عن هذا القرار.

وبعد حوار طويل مع أستاذي على غداء آخر تمكنت من إقناعه بسحب استقالته، وبالانتباه إلى انتقاء الرسل الذين يبعث معهم بمثل هذه القرارات.

وفي أثناء سفرة قصيرة إلى الخارج تقدم أستاذي باستقالته الثالثة، وقد ذهب بها إلى رئيس الجامعة مباشرة…  لكن الرئيس أعطانيها عند عودتي ، وعدت بها إليه مباشرة.

ثم حدث موقف من مواقف الخلافات أيقنت بعده أن من الظلم لصحة أستاذي أن ألح عليه في البقاء، فلم ألح عليه في تأجيل استقالته الأخيرة التي قبلت بعد قرابة عام عمل فيه وكيلًا لمنافسه.

بعد أربع سنوات من استقالة أستاذي حلت انتخابات عمادة جديدة وكنت لظروف سفري إلى أمريكا بعيدًا بعض الشيء عنه، لكن جاءت النتيجة مخيبة لكل الآمال والتوقعات التي بناها أستاذي على هذه الانتخابات، وليس هذا موضع رواية تفصيلات ما حدث في هذه الانتخابات، فهو مما يخرج عن موضوعات هذه الحوارات، لكني أذكر أن أستاذي طلب مني ذات يوم أن أمر عليه في العيادة قبل أن أعود إلى القاهرة، وما إن وصلت حتى دعاني إلى الغداء كالمعتاد، وعلى الغداء سألني: ما هي قصة أبي موسى الأشعري؟ إني أريد أن أسمعها منك أنت وبألفاظك أنت.

قلت: باختصار شديد وجدت الكلية كلها عقب الانتخابات مباشرة تتحدث عن أن مساعدك الأول اتفق، مع إحدى الجبهات المناوئة في انتخابات العمادة، اتفاقا كانت نتيجته أن ضاعت نتيجة انتخابات العمادة التي كانت مضمونة لكم فانتقلت من سيادتكم في اتجاه آخر لم يكن متوقعًا بحسابات السياسة، ووجدت الهجوم عليه شديداً، ومع أني أكثر الناس تعرضا لظلمه ، ومع أنه لا يكفّ عن إيذائي والعمل ضدي وتشويه سمعتي ، فإن انتماءنا لقسم واحد ولأستاذ واحد جعلني أبحث له عن مخرج يعترف بالخطأ لكنه لا يستلزم الإدانة، هكذا أردت تصوير الأمر من وجهة نظر منصفة له فقلت بعد تفكير: إن تصرفه كان في إطار تصرف أبي موسى الأشعري.

قال: ومن الذي شبهه إذًا بيهوذا الأسخربوطي؟

قلت: بعد أكثر من أسبوع من هذه الواقعة استدعاني أستاذ المسالك الثالث بالتليفون كي أقابله في مكتب صديقه وكيل الكلية العزيز على لأمر مهم، وقال لي على ملأ من الأساتذة بمجرد دخولي: يا محمد… كن أمينا، ولا تجامل أصدقاءك وأساتذة قسمك على حساب التاريخ، إن زميلك الذي أتم التحالفات على حساب أستاذك لم يتصرف تصرف أبي موسى الأشعري، وإنما تصرف تصرف يهوذا الأسخربوطي.

قال: وكان هذا على مشهد من كثيرين.

قلت: أستطيع أن أتذكر منهم فلانًا وفلانًا وفلاناً، وعددت سبعة أساتذة ثم استعدت صورة تلك الجلسة التي لم يكن قد مضى عليها كثير من الوقت وتذكرت ثلاثة آخرين كانوا في ذلك المكتب الذي كان يعج بأعضاء هيئة التدريس يتبادلون التحيات والآراء والحكايات.

قال أستاذي: وأنت لازلت على رأيك في أنه أبو موسى وليس يهوذا؟

قلت: نعم لا أزال على رأيي.

قال أستاذي: وهل تدخل غيركما في تأليف هذه التشبيهات الموحية؟

قلت: مبلغ علمي أن «الإبداع» فيها اقتصر على شخصي، وعلى أستاذ المسالك الثالث، وبقية الأدوار أدوار رواة أو محبذين لهذا الرأي أو ذاك.

قال أستاذي: لكنك لا تزال على رأيك في أنه أبو موسى وليس يهوذا.

قلت: يظهر من سؤال حضرتك أنك تستريب فيما وصلك من روايات.

قال: وما هي الروايات التي وصلتني؟

قلت: أحدس أن يقول بعضها بأني غيرت رأيي.

قال: والبعض الآخر؟

قلت: أحدس أن ينسب إلىّ تشبيه زميلنا الكبير بيهوذا بدلا من أبي موسى.

قال أستاذي: حدساك صائبان.

قلت: وأنت ماذا ترى؟

قال: ماذا ترى أنت أنني أرى؟

قلت: تعطيني الأمان.

قال: أعطيتك.

قلت: يبدو أنك بدأت تقتنع بأن زميلنا لعب دور يهوذا.

قال: لماذا؟

قلت: من هذا الذي نراه من طبيعة علاقته بالمجموعة التي وصلت إلى السلطة.

قال: ولماذا أيضا؟

قلت: إن ساعدني حدسي من مجرد سؤالك فلربما أن علاقته بك قد تأثرت.. وأصبح يتباعد عنك في ظل قربه من السلطة.

أطرق أستاذي بأسف وقال: هو ذاك.

هنا فاجأت أستاذي وقلت: وما العمل؟

قال: ما العمل في ماذا … أنت تتحدث عن رأي لا عن موضوع.

قلت: لا.. ما العمل إذا سُئلت حضرتكم عن اعتقادكم في هذا الموقف.

قال: وهل السؤال مطروح؟

قلت: إذا كانت الروايات قد وصلتك أنت نفسك على نحو ما تحدثنا فيها الآن فهذا يعني أن السؤال قد أصبح مطروحًا وبشدة، وسيكون الحدث التالي في سلسلة الشائعات أن يوجه السؤال إليك أنت نفسك باعتبارك صاحب الشأن.

قال: وكيف سيسأله الناس؟

ققلت: أقصى ما فيه من صراحة أن يقابلك الآن أحدهم فيسألك هل تعتقد أن فلانا أبو موسى أو يهوذا؟

قال: وماذا تفعل لو كنت مكاني؟

قلت: أقول كما قال الرئيس مبارك عندما سئل عن تفضيله لسياسات السادات أو عبد الناصر؟

قال: ماذا قال؟

قلت: قال: إن اسمه حسني مبارك… وهكذا تقول إن اسمه: فلان، وتذكر اسمه الأصلي.

قلت: هذه إجابة نموذجية يا محمد.. وإني أشكرك عليها.

قلت: بل اشكر رئيسنا.

قال: إنما تعترف الوقائع بالفضل للمؤرخين من أمثالك، فكم من أقوال حكيمة ضاعت بعد أن صرح بها أصحابها، وأراهنك أن مبارك نفسه نسى .

قلت: لكن هذا لن يغني عنك إلحاح المتطفلين.

قال: وما أكثرهم!! وما أكثرهم!!

قلت: فماذا سوف تقول لهم؟؟

قال أستاذي بعد تفكير استغرق منه دقيقتين أو أكثر: سوف أسألهم هل هو مسلم أو يهودي؟ وبالطبع يجيبون أنه مسلم فأقول لهم : إذًا هو أبو موسي.

قلت: فماذا تفعل إذا تخابث أحدهم وقال : إنه يهودي؟

قلت: أقول إذًا فهو يهوذا.

وكان في هذا القول دليل قاطع على أن أستاذي قد بدأ يشك!! وكانت كل الظواهر تدل على أن له الحق في كل ذلك الشك. وظلت ثورة الشك تتأجج في نفس أستاذي.

*****

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com