ثورة الشك (1)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 26]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 26]

خاض أستاذي معارك انتخابية كثيرة طيلة الفترة التي عملت فيها معه عن قرب، منها انتخابات نادي هيئة التدريس في الجامعة، وعضوية مجلس الشعب، ونقابة الأطباء، وعمادة الكلية.. إلخ، وبالجملة فقد كان أستاذي ـ على حد تعبير بعض زملائنا ـ لا يترك انتخابات إلا ودخلها، والواقع أن هذه المشاركة في الانتخابات لم تكن على هوى أستاذي تماما، وإنما كانت نوعا من أنواع الالتزام الحزبي كما يقال في أدبيات السياسة.

ولا شك أن معظم هذه الانتخابات مرت في صورة قريبة من المباريات الرياضية إلا انتخابات عمادة الكلية في مرتها الثانية (بالنسب لأستاذي) فإنها تركت آثارًا سيئة وممتدة في نفسية أستاذي على نحو ما نرى في هذا الكتاب.

أما انتخابات نوادي هيئة التدريس والنقابة وما إليها فقد كانت تمر بسلاسة مهما كانت نتيجتها، ولم يكن الفوز حليفًا دائمًا لأستاذي، لكنه كان كثيرا ما يحقق الاكتساح.

أما انتخابات مجلس الشعب فقد شهدت طرفة تاريخية سنستعرضها في موضع آخر ، وسنكتفي هنا بأن نروي قصة أستاذي مع انتخابات العمادة.

حين اكتمل عدد أساتذة الكلية إلى أكثر من عشرة أساتذة وحل موعد تجديد العمادة في 1985، كان اسم أستاذي من الأسماء المطروحة نظرًا لفوزه بأعلى الأصوات في انتخابات نادي أعضاء هيئة التدريس التي أجريت قبل عام.

سألت أستاذي: هل سيخوض انتخابات العمادة كما يقولون؟

قال بسرعة وهدوء: بالطبع لا.

قلت: والشائعات؟

قال: سرعان ما تتبخر.

قلت: لكنك لم تعلن أنك لن تخوض الانتخابات.

قال: لأني فعلًا لن أخوضها.

قلت: فلماذا لا نعلن؟

قال: لن أعلن، وأرجوك ألا تعلن.

قلت: هل هناك احتمال أن تعدل عن رأيك؟

قال: لا.

قلت: فلماذا لا نوضح هذا؟

قال: إن إعلاني في حد ذاته مناورة، وإن مجاهرتي بعدم الرغبة لن تنم إلا عن رغبة مكبوتة، والأفضل أن نترك الأمور هكذا.

قلت: إلى متى؟

قال: سرعان ما تصحح الأمور نفسها فلا تقلق.

وبالفعل فقد مضت الأمور على أن أصبح أستاذي يمثل أبرز الأساتذة المؤيدين لضرورة استمرار العميد الذي أوشكت مدته الأولى على الانتهاء، بينما رشح وكيلاه نفسيهما في مواجهته، وهكذا أصبح من المنطقي أن يحل أستاذي في محل أحد الوكيلين عندما تجرى الانتخابات ويفوز العميد بالتجديد، وعلى الرغم من أن أحد الوكيلين بذل جهودًا انتحارية من أجل الفوز بالمنصب فقد كنا نحن شباب أعضاء هيئة التدريس نعرف أنه من الصعب عليه وعلى غيره، بمن فيهم أستاذي، أن ينافسوا العميد المتميز العالم الجليل، وهو بلا شك أفضل عمداء كليتنا حتى الآن التزاماً، وأداء، وفهماً، وحزماً، وأمانة، ورقياً، وعلماً، وعطفاً، ويكفيني في هذا الصدد مثل ضربته حين كنت عضوًا في لجنة المكتبات وتوليت حصر أعداد الدوريات العلمية فوجدت فترة هذا العميد العظيم هي الفترة الوحيدة التي استقام فيها توريد كل أعداد الدوريات العلمية دون قطع للاشتراك، أو إهمال في تزويد المكتبة بالأعداد، وهذا مثل عميق للدلالة على انضباط الأداء واهتمامه بالمقومات الأساسية لكلية تشتغل بالعلم.

بعد عام واحد أصبح عميدنا نائبا لرئيس الجامعة لشؤون التعليم والطلاب.

وهكذا كان لابد من انتخابات جديدة كان أستاذنا أبرز المرشحين فيها هو والوكيل السابق الذي لم يفز في الانتخابات الماضية، ولم يكن فوز أستاذنا صعبا ولا كان سهلا، وإنما كان الأمر متوقفًا على مخاض اللحظات الأخيرة أي على مؤامرة كبيرة تستلزم إعادة ترتيب الأوراق، وسرعان ما وجد الوكيل السابق طريقه إلى مناورة ذكية، أو بالأحرى وبالأدق: خبيثة، كانت كفيلة بإعادة ترتيب الأوراق، ومن ثم بفوزه تبعا لترتيبات اللحظات الأخيرة.

في واقع الأمر لم أكن سعيدًا على الإطلاق بفوز هذا الرجل من ناحية، ولا بعدم فوز أستاذي من ناحية أخرى، ولا بالمؤامرة التي تمت من ناحية ثالثة، وذلك لأن أحد الأساتذة الأعزاء علىّ كان طرفًا فيها، وهكذا كانت النتيجة محبطة على ثلاثة محاور، عز علىّ أن يشارك أستاذ طيب أحبه في مؤامرة، وأن يكون أستاذي ضحية لهذه المؤامرة، وأن تكون نتيجة المؤامرة هي وصول المنافس لمنصب العميد، وهكذا وجدتني في حالة من الضيق النفسي الشديد، ووجدتني أقود خطواتي إلى عيادة أستاذي.

وجدته قد سبقني إلى العيادة بدقائق معدودة ولم يبدأ أي كشف بعد.

سألني: هل وراءك شيء مستعجل في القاهرة أو الزقازيق؟

قلت: الطب الروتيني فقط.

قال: هل عندك مرضى كثيرون اليوم في القاهرة؟

قلت: لا أعرف، لكني في الأيام التي آتي فيها إلى الزقازيق لا أبدأ عملي في العيادة مع المرضي قبل التاسعة، وأقلل ما استطعت من الكشوف التي تطلب الحجز مؤجلًا لها إلى اليوم التالي، فإذا وصلت مبكرا فإني أستهلك بعض تلال الأعمال الأخرى التي ورائي.

قال: هل تريد أن تترك خبرًا في القاهرة لشيء وراءك أو ارتباط مسبق غير المرضي؟

قلت: نعم.

قال: تفضل.. التليفون عندك، ريثما أعيد ارتداء ملابس الخروج.

قال هذا، وخلع المعطف الأبيض، و«شوز» العيادة، وارتدى جاكت الخروج وحذاء الشارع، وقال لمساعده: لن نعود إلا بعد ساعتين على الأقل، وقاد خطواتي إلى أفخر مطعم سياحي في الزقازيق حتى نتناقش على الغداء.

قال أستاذي: أراك مبتئسا!.

قلت: أرتب الأسباب حسب باعثيتها على الابتئاس، وذكرت له الأسباب الثلاثة حسب ترتيبها.

قال: بينك وبين الرجل شيء؟ يقصد الأستاذ الذي فاز بالعمادة.

قلت: كل خير.

قال: فلماذا تتخوف منه؟

قلت: سيشيع جوًا من الفوضى يصعب إصلاحه طيلة خمسين عامًا على الأقل ريثما ينتهي الجيلان اللذان سيتأثران برغبته في السيطرة والمظهرة!

قال: لكنه مشهور بقدرته على ضبط الكنترول والطوابير.

قلت: هذا هو النظام المظهري، وبقدر حرصه عليه ونجاحه فيه فإنه سوف يخرب كل شيء بني في هذه الكلية بتشجيعه أخلاقيات الدسائسية، والوصولية، والانتهازية، والشللية، والمظهرية، وهي أخلاق سلبية خمسة نجت منها كليتنا على مدى عهود العمداء الثلاثة الأولين، وستبدأ في التسلل إلى كياننا هذا الذي أحبه.

قال: لعلك تتجنى لأنك تقارنه بالعمداء الثلاثة الأولين، وكلهم أحباؤك.

قلت: لا وجه للمقارنة.

قال: لكننا الآن مؤسسة يصعب على فرد واحد أن يفعل فيها ما تتنبأ به من هذه الأمراض الخمسة.

قلت: كل مؤسسة قابلة للفساد مادامت في طور شبابها.

قال: فإن وصلت إلى الشيخوخة.

قلت: استعصت على الفساد كما تستعصي على الإصلاح.

قال: لا فارق إذاً؟

قلت: بل تحتاج المؤسسات أن تستغل شبابها في الحلال لا في الحرام.

قال: الآن فقط فهمت ما تقصده! ويبدو أنك على حق.. لكن خبرني: هل تتكلم عن عقيدة، أم عن خبرة بالتاريخ، أم عنهما معاً؟

قلت: أكذب عليك إذا أنكرت أن دافعي بل زادي هو الخبرة بالتاريخ فحسب.

قال: نسأل الله النجاة.

قلت مسرعاً: ومع هذا فالزملاء يعولون على بقائك في منصب الوكيل؟

قال: يعولون علىّ ماذا؟ إني أنوي في نهاية هذا الغداء أن أرسل معك باستقالتي من الوكالة لعمك (يقصد: رئيس الجامعة).

قلت: أنا تحت أمرك بالطبع، لكني لا أوافق.

قال: إنك تناقض نفسك، كيف تبدي في الرجل ما أبديت من آراء لا أجرؤ أنا على التلميح بها لأقرب الناس إلىّ، ومع ذلك تطلب مني العمل معه وكيلا؟ هل تظنني أصلح ما أفسده الدهر؟

قلت: ربما.

قال: كيف؟

قلت: قد يغيب فترات طويلة تتولى فيها الأمر.

قال: لن يحدث، فهو يريد أن يستمتع بكل دقيقة من أيام هذه السلطة التي عاش أحلامًا طويلة في الوصول إليها.

قلت: ربما يغيب نهائياً.

قال: المناصب الأعلى منه مشغولة بالطب وليس إليها من سبيل.

قلت: فذلك حق مؤيديك عليك.

قال: ماذا تقصد؟

قلت: أنت سيد العارفين أن بعض مَنْ أيدوك سيدفعون ثمن هذا التأييد من أرزاقهم وجاههم.

قال: أعرف.

قلت: ووجودك في موقع الوكالة ربما يخفف بطش العميد بهم.

قال: ربما.. وربما لا.

قلت: لو مارست صلاحياتك كلها فسيكون من الصعب أن يجور عليهم.

قال: أفهم هذا، لكني ربما لا أكون قادرًا عليه.

قلت: من أجل مَنْ أيدوك؟

قال: إن أيدوني من أجل المبدأ فبها ونعمت، وإن كان من أجل حماية مصالحهم فالله الغني.

قلت: هل تنوي الترشيح مرة أخرى؟

قال: أين نحن من المرة الأخرى.

قلت: الأيام تمر سريعا.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com