[حوارات الدين والطب و السياسة/ 17]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 17]
قال: كنا في الأسبوع الماضي في أسيوط وأنت تعرف أنهما كانا من مؤسسي تلك الجامعة، وفي إحدى المآدب العامرة سألهما أساتذة طب أسيوط سؤالا (بدا لي موجها ومرتبا )عن طبيب شاب يعتقد كل منهما أنه يمكن له أن يرفع شأن جامعتنا في القريب العاجل ، فأجابا كلاهما في تلقائية سريعة : إن المسألة لا تحتاج إلى اعتقاد، ولا إلى تفكير، وإن هذا الطبيب هو حضرتك الذي ترفع شأنها بالفعل وبالقول ، فسألوهما : أهو لا يزال عندكم ولم ينتقل لقصر العيني ؟ فأجاب أحدهما وأمن الثاني على كلامه بأنهما لن يسمحا بهذا بأي ثمن !! .
قلت: وماذا كان موقف سيادتكم؟
قال: لم أكن من الذين سئلوا.
قلت: لكن كان لك حق التعليق.
قال: لم يكن الأمر في حاجة إليه.
قلت: لكن هذا قد يؤذيني.
قال: كيف؟
قلت: حين يجد الأساتذة الشهادة في حقي تأتي من أساتذة آخرين غير أستاذي المباشر الذي أنا صفيه (!!)
قال أستاذي: وهل تعتقد لشهادتي كل هذه الأهمية؟
قلت: أعتقد في أن غيابها أخطر من حضورها.
قال: إذًا فدعني أبتزك ابتزازا من الذي تمارسه على في كل حين !
قلت: ولي الشرف.
قال: ففي أي شيء أبتزك؟
قلت: العفو.. لكني تحت أمرك.
قال أستاذي: لقد خالفت طبيعتي في التهذيب، وعقبت لأساتذة أسيوط علنًا بقولي : إن رئيسنا ونائبه مخطئان.
قلت: العوض على الله.
قال أستاذي: ها قد كشفت نفسك وكشفت سوء ظنك.
قلت: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: لو صبرت!
قلت: أفعل إن شاء الله!
قال: ألست أنت الذي تقول بأني متأثر بالأسلوب الإنجليزي not only but؟
قلت: نعم.
قال: أفهمت إذًا ما قلته بعد «لكن»؟
قلت في تخابث : ومن أين لي أن أفهم بعد كل هذا التعذيب أن هناك «لكن»، وأن هناك «ما بعدها».
قال: ألم يخبرك أحد أني قلت لهم : إنهما يظلمانك إذا صورا مجدك الموعود في حدود جامعتنا فحسب.. وأني أبصره أكبر من ذلك بكثير؟
قلت: لا …. لو أخبراني بهذا لكنت طائرًا من الفرح.
قال: فما بالك لا تطير إذاً؟
قلت: أريد التزود بالوقود.
قال: أما يكفيك هذا كله؟
قلت: إني في حاجة أيضًا إلى طائرة، لا إلى وقود فحسب.
قال: وهذا ليس في وسعنا.
قلت: وما العمل؟
قال: تستعيد مرحلة الإنسان الطائر لتحقق بها مجدك أو سعادتك بمجدك.
قلت: لكن هذه المرحلة لم تعرف في التاريخ البيولوجي للإنسان مع أن أول إنسان حاول الطيران بتركيب أجنحة لنفسه كان طبيبًا .
قال: هذا مثل جديد على ما أسميه أنا العلم النافع والعلم غير النافع، بينما تعتقد أنت أن كل العلوم نافعة.
قلت: ألست أنت المعجب بفكرة التطور على نحو ما صاغها دارون؟
قال: على حد تعبيرك أنت : لا يكون المرء بيولوجيا ما لم يعجب بها .
قلت: فلم تستنكر التفكير في وجود مرحلة من التطور أو عدم وجودها؟
قال: لا أستنكر التفكير.. ولكني أستنكر أن يكون هذا التفكير جزءًا من مقرر دراسي أو علمي.
قلت: فكيف يتعلم الباحثون التفكير؟
قال: أتظن أن هذه الطريقة تعلمهم التفكير؟
قلت: تعلمهم محاولته.
قال: خذ الحكمة من فمي، واعلم يا محمد أنه لا هذه النظرية ولا غيرها من الطرق تعلم الباحث التفكير.
قلت: فما هي الوسيلة إذاً؟
قال: لن تصدقني إذا قلت لك : إن العالم يولد عالماً، وإن الباحث يولد باحثاً، وإن المفكر يولد مفكراً.
قلت: وما جدوى التفلسف؟
قال: هو كما قلت لك ولا تزال تأبى تصديقي: علم غير نافع.
هكذا ظل أستاذي على عقيدته اليقينية في أن هناك علمًا نافعًا وعلمًا غير نافع، وقد زاد إصراره على هذه النظرية رغم أني كنت اعتقدت أنه عدل عنها يوم حوارنا عن تصميم الآلة الكاتبة وجدوى وضع الحروف تبعا لمعدلات تكرارها، لكني اكتشفت أن هذا الاقتناع كان اقتناعًا بجزئية، ولم يكن اقتناعًا بالعدول عن مبدأ أو عقيدة.
وحدث ما هو أطرف من ذلك بكثير، إذ حدثت مناقشة ذات مرة بيني وبين أستاذ متوسط على مسمع من أستاذي وكنت أدافع عن إحدى الزميلات، وأدفع عنها ظلما اشتهر به ذلك الأستاذ الذي لم يكن يمانع في الظلم، وأردت إشراك أستاذي معي في هيئة الدفاع فقلت: إن زميلتنا هذه أكثرنا جميعًا إيمانًا بالأفكار العملية لأستاذنا الكبير.. يكفي أنها تتبنى نظريته في العلم النافع والعلم غير النافع.
تهلل وجه أستاذي وسألني: أحقا هذا الذي تقول؟
قلت: نعم.
قال: ومع هذا تدافع عنها؟
قلت: نعم، فإني محب للموضوعية مهما كانت العقيدة السابقة عليها، ولا أكره مخالفىّ إذا كانوا موضوعيين، بل أحبهم وأسعى إليهم، وأنا الكسبان.
قال أستاذي: لم أكن أعلم أن لها هذا الميل، مع أني أذكر مديحك لها في حفل حصولها هي وزملاؤها على الدكتوراه، وسأبدأ في مراقبتها عن كثب.
ومن حسن الحظ أن المراقبة أسفرت عن إيمان الأستاذ بزميلتنا وتوثق علاقة أستاذيته لها، وثقة مفرطة بها، وعطف أبوي لا نهاية له، مع أنها لم تكن تلميذة مباشرة له فيما مضى من الزمان، وقد قابلت زميلتنا كل هذا بكل ما كان في وسعها من وفاء وولاء ، وشاء الله أن تكون هي الأستاذة التي تولت رعايته في أيامه الأخيرة في العناية المركزة .