[حوارات الدين والطب و السياسة/ 23]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 23]
كان أستاذي مهذبا بطبعه، وكنت ولازلت أقل منه تهذيبا، وكان يتعجب في رقة شديدة وبطريقة غير مباشرة كيف أكون أقل منه تهذيبا بينما المعطيات تدل على العكس من ذلك، وكنت أقول له: إن هذا الاختلاف اختلاف جيل من ناحية، واختلاف مسؤوليات مبكرة من ناحية أخرى، ولم يكن أستاذي يوافقني على السبب الأول وإن وافقني إلى حد ما على السبب الثاني.
وأذكر في هذا الصدد أكثر من قصة طريفة، كان قسمنا في الدور الرابع، وبينما كنت في مكتب رئيس القسم وأنا مدرس مساعد جاءني عامل من طرف أحد أساتذة الجراحة الخاصة طالبًا مني أن أستمع إلى بعض ما يريد أن ينهيه إلىّ وذلك من شباك مكتب رئيس القسم، بينما هو في فناء الكلية، ذلك أن التليفونات كانت معطلة، وكذلك المصاعد، وبينما أنا أستمع من خلال الشباك إلى ما يريد هذا الأستاذ إذا بيد أستاذي تربت على كتفي حين دخل مكتبه ووجدني أتحادث من خلال الشباك.
وإذا بأستاذي يسألني: ماذا اضطرك لهذا؟
قلت: كما ترى أرسل إلىّ الساعي ووقف تحت الشباك.
قال: ما كان أحراك أن تقول للساعي بمنتهى اللطف إنك تدعوه للتفضل بمقابلتك.
قلت: نعم، ولكن وقتي ضيق، فالحوار الذي يدور من خلال الشباك في دقيقتين سيأخذ ربع ساعة إذا صعد وجلس.
تعجب أستاذي واشمأزّ وكأنه يريد أن يقول إن هذا هو العذر الذي هو أقبح من الذنب، ونظر إلىّ بعطف فوجدني أقول: إني أعرف أنه عذر أقبح من الذنب، وأنك لا تتوقع مني أن أكون عاجزا إلى هذا الحد، ولكن ماذا أفعل؟
قال: كن كالسيف.
قلت: ولكن هؤلاء جميعا أكبر مني.
قال: لو اعتقدت ذلك لأكلوك.
قلت: فإنك لا تحميني.
قال: ولن أحميك.
قلت: فما العمل؟
قال: ما دمت في وضع سابق عليهم أدبيًا ومعنويًا فصمم على أخذ حقوقك البروتوكولية كاملة حتى ولو خسرت اليوم وغدا.. وحتى لو اضطرك هذا إلى التسول المادي.
قلت: هل تستقيم الكرامة والعزة مع التسول المادي؟
قال: لن يحدث التسول المادي لمعتز بنفسه، لكني أصور لك ما يغري النفس البشرية حين تريد أن تقنع نفسها بقبول الدنية فتتنازل عن كل شيء تدريجياً.. ولا أراك تصلح للتنازل، وإنما أراك تصلح رمزًا لعزة النفس في سلاسة.
قلت: أشكرك.
قال: شكري أن تلتزم بنصيحتي، وسعادتي أن أراك وقد كسبت من وراء اتباع النصيحة.
قلت: سأفعل إن شاء الله.
وظني أني فعلت هذا حتى مع أقرب الناس إلى أستاذي نفسه.
***