الرئيسية / المكتبة الصحفية / أكبر مشكلة في حياتنا الفكرية

أكبر مشكلة في حياتنا الفكرية

قبل أن نلقى الله نود أن نتناول جرعة مكثفة من حبوب الشجاعة على حسب ما يقول التعبير الشائع ، نتناولها لنقول إن أكبر مشكلة حقيقية تواجه حياتنا الفكرية والسياسية هي نقص المذهبية أو ضعف المذهبية، ونحن نعرف أن مثل هذا القول قد يفتح علينا أبواباً من النقد والانتقاد والاتهامات والتمويه، لكننا كما نقول لا نبتغي به إلا وجه الله جلّ جلاله قبل أن نلقاه.

 وربما نأخذ من حياتنا المعاصرة أو الراهنة مثلاً حياً على هذه المشكلة، فمنذ عشر سنوات حين كان يتردد الحديث عن “الأخونة” [أو غيرها من الاتجاهات بما فيها السلفنة و المركسة والرسملة والناصرية] كنا نجاهر صراحة بأمنية واحدة وهي أن يترسّخ الايمان العملي بكل مذهب عند أصحابه، وكنا نضرب مثلاً حيا ورائعاً كان من مظاهر نهضة مصر المعاصرة حين تعرض الزعيم سعد زغلول للهجوم بسبب ميله في شغل المناصب إلى الوفديين المخلصين للوفد ولزعامته ، فكان هذا الرجل العظيم المستنير الذي لم يكن له نسل يقول بكل وضوح وعلانية: لو استطعت أن أجعلها زغلولية لحما ودما لفعلت، وكان يقول “زغلولية” ولا يقول “وفدية”.

ولهذا ولأن ضمائر ذلك الزمان كانت أنقى من ضمائر زماننا فقد فهم معارضوه المعنى ولم يهزموا أنفسهم ويضيعوا وقتهم في ترديد مقولات عقيمة من قبيل من لا يزالون يتحدثون عن أنهم وقفوا ضد الرئيس مرسي لأنهم كانوا ضد الأخونة، وقد راعني أن أستاذ فلسفة قدير ردد في مذكراته هذا المعنى الممسوخ وكأنه لم يستوعب تجارب العالم المعاصر الذي طاف به ، أو التاريخ الذي قرأه، وراعني أيضاً أن يكرر هذا المعنى حتى الآن متحدث نال درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وارتبطت رسالته التي حرّرها في جامعة لندن بطائفة من طوائف المجتمع وبحزب من أحزابه وبشخص من شخصياته المفرطة في معنى الحزبية، ربما يزيد في إزعاجنا من هذا الفهم أن نسمعه من أي أستاذ جامعي يعرف تمام المعرفة أنه يمارس أستاذيته في تخصصه من خلال  مذهب علمي معين وليس من خلال اللامذهبية، ويصل الإزعاج مداه حين نسمعه ضمن أقوال محبي الإسلام الذين لم يتلقوا علوم الدين في مدرسة فقهية محددة المعالم كالأزهر الشريف، ويظن هؤلاء أنهم يحسنون صنعاً حين يقولون إنهم يتصلون بالدين مباشرة بدون أئمة الفقه أو أئمة المذاهب.

 وقد حاولنا في كثير من كتبنا أن نتناول فضل من تصدوا لهذا التوجه الخطر، وعلى سبيل المثال فقد أشرنا في كتابنا “أقطاب الفكر الديني في العصر الحديث” إلى الدور الجبار الذي لعبه الإمام يوسف الدجوي في التصدي المبكر لمثل هذه الفكرة كما اشرنا إلى الدور الذي لعبه الشيخ محمد ماضي الرخاوي في التصدي للمفهوم الواسع الذي فرضه بعض الدعاة على معنى البدعة، وأشرنا في كتابنا عن القامات الباذخة الى ان الدكتور عزيز فهمي جمعة نجح في  انتباهه المبكر لخطورة الفكرة القائلة بنبذ الحزبية، وهي الفكرة التي انخدع فيها إسلاميون كان منهم بعض أبناء جماعة الإخوان المسلمين، وكان انخداعهم من الأسباب التي دعت إلى القبول بالشمولية التي جاءت مع حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، وقد حدث هذا على الرغم من أن الإمام الشهيد حسن البنا نفسه كان قد وجه أبناءه إلى آراء الشيخ الدجوي وأكثر من الحديث عنه في مذكراته ليلفت أنظارهم إلى قيمة أفكاره المتجاوزة لأفكار معاصريه من الذين كانوا يقولون انهم أعداء المذهبية ، وقد انجز لامام الشهيد هذا التوجيه الناعم من دون أن يستدعي  صراعاً أو خلافاً قبل أوانه، ومن قبل أن يهيئ أذهان الإخوان المسلمين بما يجعلهم قادرين على تبين وجه الحق فيه، ومع هذا فان جاذبية فكرة اللامذهبية واللاحزبية دفعت بل أوقعت بعض فصائل الإخوان ومعظم الساسة في الوطن من حيث لا يشعرون في الشمولية المنتهية بنهابتها الطبيعية وهي الهزيمة المتكررة في 1956 و1961 و1962 و1967 وهكذا.

وفي واقع الأمر فإن السياسة لا يمكن ابدا أن تمارس أبداً من باب اللاحزبية ، وكذلك الفقه لا يمكن أن يمارس من باب اللامذهبية ، وكذلك العلم لا يمكن أن يمارس من باب اللامدرسية، وفي هذا المقام نذكر أننا كنا ضيوفا على فضائية مؤثرة في غضون الحديث عن وزارة جديدة في عهد الرئيس محمد مرسي وكان الضيفان الآخران من أهل اليسار الذين مارسوا السياسة قبل 1952 وعاشوا السجون والمعتقلات بعد 1952 وفاجئتنا المذيعة بالسؤال عما قالت إنه يتردد من أن نائب المرشد سيتولى منصب رئيس الوزراء، ولم يكن هذا يتردد يومها لكنها أرادت إشعال الحلقة بما هو مسموح به في علوم السياسة، فما كان منا إلا أن أجبنا في لمح البصر، ليت  وكرنا ” ليت”  عدة مرات على نحو ما تكررها ام كلثوم في احدى اغانيها ، و أردفنا بالقول الصريح : ليت هذا يحدث لتكون هناك حزبية حقيقية ومواجهة حقيقية ! نظرت المذيعة إلى الضيفين اليساريين وهي تظن أنهما سينهالان عليّ بالتقريع بما في شعارات تلك الأيام من عبارة شبيهة بيسقط حكم المرشد ولا للأخونة لكنها فوجئت بهما بكل حماس وهما يؤيدان ما قلناه من التمني الحقيقي لوجود حزبية حقيقية ومواجهة حقيقية ومسئولية حقيقية بدلا من هذا الضباب والضباب المعاكس الذي كان سائداً في تلك الأيام وإذا بالمذيعة تقول لنا في استراحة الفاصل : إنها بدأت الآن فقط تفهم موضع المشكلة بالضبط وإن موضوع المشكلة هو “غياب الأخونة” مثلاً وليس “لا للأخونة” فما دام هناك حزب فاز بالأغلبية فليحكم وليحاسب بعيداً عن الشعارات الكاذبة بالوفاق والتوافق ،  ثم نظرت إلينا وسألت : هل من الممكن أن يفهم الرأي العام ما فهمته هي الآن ؟  .. فكان رد الضيفين الكريمين مبتئساً اما نحن فقلنا إن ساستنا يظنون أن الزمن سيرحمهم، وسيعرفون بعد فوات الأوان أنه لن يرحمهم ، وإنما سيطحنهم ويطحن الشعب معهم وأن هذا سيكون على حساب مستقبل صعب سيكتوي فيه من يعيشه من قبوله بشعارات براقة لا تقود إلا إلى جهنم وبئس المصير.

ونحن نشهد الله سبحانه وتعالى أننا كنا محظوظين بما تعلمناه في هذه الجزئية على مدى حياتنا فقد نشأنا في رحاب بيت عالم ينتمي للمذهب الشافعي ويرى في الامام الشافعي ما يراه كل منصف، ولا يزعم أن من حقه ولا من حق غيره أن يلفق آراء يرضي بها سائلاً أو زميلاً أو سلطة، فنسأل الله الرحمة لوالدنا، ثم اننا قد تعلمنا من أساتذتنا جميعا بلا استثناء هذه المدرسية والمذهبية ولم نصادف أبداً استاذاً في الطب ولا في غير الطب يزعم أن من الممكن أن تتم عملية التعليم أو التدريب أو التأهيل بلا مذهب، وكذلك كانت حياتنا الفكرية حتى مع التحولات التي مرت بها، فقد كانت بفضل الله تحولات ولم تكن تلفيقات ، وكانت انتقالاً من مدرسة إلى أخرى ولم تكن وضعا لرجل هنا ورجل هناك، وقد وفقنا الله سبحانه وتعالى في كل ما كتبنا وهو كثير إلى احترام الآخر من دون نفاق أو تلفيق، وإلى تصحيح ما نرى تصحيحه من دون ادعاء ولا مَنٍ ولا اذى وندعو الله سبحانه أن يديم علينا هذه النعمة.

بقيت جزئية لا بد لنا أن نذكرها بكل وضوح وهي أن سيدة مسنة ذهبت تسأل أحد علماء الدين في العصور الخوالي عن رأي الإمام الشافعي في مسألة فقهية فقال لها هل تريدين رأي الشافعي أم رأي القرآن الكريم، فقالت له بكل وضوح : أريد رأي الشافعي لأنه استمده من القرآن الكريم بفهمه وبصره، أما ما تقول أنت إنه رأي القرآن فهو رأيك أنت الذي لم تبلغ في الفقه مبلغ الإمام الشافعي.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com