[حوارات الدين والطب و السياسة/ 11]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 11]
قال أستاذي : سمعتك بالأمس تثني ثناء جمًا على أخلاق الأستاذ «فلان» وكان هذا الأستاذ هو تلميذه التالي له في الأستاذية .. فعجبت !!.
قلت: أظنك تعتقد أن خلافنا أبدي.
قال: وهل أنا مخطئ؟
قلت: ما أنت مخطئ.. لكني مع خلافي العملي معه مقر له بأخلاقه الكريمة إلى أبعد الحدود.
قال: هل تحدثني كيف بدأ خلافكما؟
قلت: على يديكم الكريمة!
قال: إني في حالة معنوية لا تسمح بقبول الاتهام، ولا بالدفاع ضد الاتهام، فأجل هذا الحديث ولك علىّ حق.
قلت: وماذا أفعل فيما مضى من عمري.
قال: لم يضع هدرًا، وأحمد الله.. لكن خبرني بربك لماذا كنت تتوجس منه الشر على الدوام؟
قلت: سأخبرك بما لم أخبر أحدًا من قبل بحديث الخصال الخفية لهذا الرجل.
قال: أله خصال خفية لا يعرفها الناس؟
قلت: كثيرة جداً، وهذا هو سر تميزه أو تطرفه.
قال: تكفيني واحدة على سبيل العينة.
قلت: لقد أنعم الله عليه بنعمة تذكر دقائق العلم، وحرمه نعمة تذكر دقائق الأسماء.
قال: وماذا كان نتيجة ذلك؟
قلت: كان نتيجة هذا أن أحكامه في العلم صائبة جداً، وأن أحكامه في الحياة خاطئة جداً.
قال: اخرج بي من النظري إلى الأمثلة الدالة.
قلت: بل أروي لك ما هو أطرف من ذلك.. كنا ونحن أطباء مقيمون إذا بدأنا عملنا في الصباح ووصلت الساعة العاشرة توقعنا أن يأتي ويسأل أول ما يسأل عن أحد الزملاء بالذات، وسرعان ما يردف سؤاله بالسؤال عن أي يوم من أيام الأسبوع نحن فيه، ويردف أوتوماتيا بأن هذا اليوم ليس من أيام عيادة النفسية التي له أذن في أن يحضرها من أجل رسالته، كان يقول هذا حتى في أيام عيادة النفسية ونحن نكتم ضحكاتنا من تركيزه على تصوير هذا الزميل غائبا ومهملا.. وبعد فترة كان زميلنا نفسه إذا أحس بأنه قدم إلى باب القسم اختفى عن وجهه حتى لا يراه، فقد أصبحت رؤيته أثقل على نفس زميلنا من أن يسمع هذا الاتهام المتكرر غير المبرر.
قال أستاذي: وهل اشتهرت هذه القصة؟
قلت: إلى حد بعيد.
قال: لكنها لم تصل إلى مسامعي أبداً.
قلت: كنا في زمن كان فيه هذا الرجل مقدسًا من مقدساتكم.
قال: إلى هذا الحد؟
قلت: وأكثر.
قال: وما هو الأكثر؟
قلت: في الأمر تجاوز.
قال: لم يعد هناك تجاوز بعد كل ما مر بنا.
قلت: كان الناس يسمونكما الشيخين ويسمونه الشيخ الكبير ويسمونك الشيخ الصغير.
قال: ما دليلهم؟
قلت: يقولون وعندهم بعض الأدلة (التي لا أوافقهم على حجيتها ) أنه كان يتظاهر دائما بأنه غيّر أو عدل قراركم ، بل إنه (حسب روايتهم ) كان أحيانا ما يدفعكم إلى قرار ثم يدفعكم إلى تعديل للقرار بعد أن يكون قد أبدى لزملاء أنه معترض على قراركم الأول.
رد أستاذي في بساطة شديدة وقال: إذًا فقد كان معهم حق لو كان قد نجح في صناعة الصورة على هذا النحو.
قلت : هل كان عندك فكرة بهذه التسمية.
قال : أحيانا كنت أسمع تعبير الأساتذة بـ «الشيخان» ولا أفهم بالضبط ما يقصدون.
قلت: فماذا كنت تظنهم يتحدثون عنه في الأحيان الأخرى ؟
قال: كنت أظنهم يتحدثون كما أخبرني أحدهم عن كتاب طه حسين الذي كان مقررًا على أبنائهم في الثانوية العامة.
قلت: وكيف كنت تفهم بقية الجملة؟
قال: كانوا يقولون : إن كتاب «الشيخان» صعب جداً، فيرد أحدهم ويقول : إنه اكتشف بالأمس أنه سهل ، ويعود ثالث في يوم ثالث ليلومه.. ويأتي رابع فيقول : إن الكتاب دمه ثقيل، فيرد عليه زميله بأنه ليس كذلك في كل صفحاته.. ثم تدور المناقشات عن الشيخين والفروق بينهما ، وهي في الواقع الذي فتحت عيني عليه الآن ليست إلا الفروق بيننا ، وليست بين خليفتي رسول الله ﷺ ، وكان الحديث يدور هكذا بالفعل ، ولم يدر بخاطري أن هناك شفرة ، ولها حل.
قلت: إذًا فعليك بمكافأتي.
قال: أفعل إن شاء الله .. لكنني ألاحظ أن المثل السابق الذي ذكرته ليست له علاقة بك.
قلت: إن كنت تريد شيئا لصيقا بي فإني أقول لك: إنه في كل أحوال الشر كان لا يتذكر إلا اسمي، فكان على سبيل المثال (وهو مدرس لم تختلط عليه ذاكرته بعد ) إذا تحدث عن انتقاد ناسبًا إياه إلى أحد الزملاء وسُئل عمن فعل هذا الفعل المنتقد لا يستحضر إلا اسمي، حتى إذا كان اسمي قد ورد في الشهادة نفسها على خلاف ما يرويه، أى أن أكون مكتشفا للخطأ أو مصوبا له أو معارضا للتصرف أو ضحية له .
قال: كنت ألاحظ ذلك.. وكنت أظنه يتصيد لك الأخطاء.. وإني أذكر أني قلت له ذات مرة : إن بعض الأخطاء التي ينسبها إليك هي على النقيض من أدائك الذي يصوره، فعاد واعتذر ، وقال: إنه يقصد شخصًا آخر فأخطأ ، وذكر اسمك، بل إني أذكر أنه قال لي ذات مرة: إنه تعود ألا يتذكر من الأطباء المقيمين إلا اسمك.
قلت: وقد تكرر هذا بعدد أيام السنة.
قال: لا تبالغ.
قلت: بل بقيمة عدد أيام السنة الجملة مضروبًا في خمسة على الأقل.. وأكون كاذبا لو أخفيت عنك بقية الصورة فقد نفعني تصرفه المتكرر من حيث شخصه الزملاء كبارًا وصغارًا على أنه غيرة.
ضحك أستاذي وقال: إني كنت أحس أنك محظوظ بهجومه الدائم عليك ، وقد عبرت عن هذا المعنى لأحد محبيك، فقال : إنك واعٍ جدا لهذه الحقيقة ..
لكني أريد أن أقول لك الآن : ما أدقَّ تشخيصك له في عدم تحديده للأسماء، هل ألفت شيئًا يصور هذا التشخيص؟ أو هل خطفت أو حفظت من التراث شيئا يصوره؟
قلت: نعم.
قال: أهو في حدود المسموح بسماعه وروايته.. حدثني.
قلت: يروى أن رجلًا ذهب لعيادة مريض يحتضر، فدعا له الله أن يثبته في مواجهة هاروت وماروت، فعجب الجالسون وقالوا: هؤلاء رجال سحر فما علاقتهم به، قال: إنه يقصد يأجوج ومأجوج، فقال الحاضرون: إنما هؤلاء قوم انتهى عهدهم بالتاريخ منذ زمن بعيد، قال: إنما أقصد جالوت وطاغوت، فقال الحاضرون: إنهم من عهد موسى عليه السلام، وأردف أحدهم: لعلك تقصد ناكر ونكير؟ قال : هو ذاك.
قال أستاذي: ما أروع تشبيهك يا محمدا.. هل هو من اختراعك؟ لا أظنه إلا كذلك.. لكن قل لي: هل هذا هو عيبه الوحيد؟
قلت: هو نموذج لعيوبه العقلية أو الفكرية.
قال: هل تصف لي عيبا آخر.
قلت: إذا كان خلفك في رئاسة القسم لا يتخذ قراره النهائي إلا في منتصف الليل وهو تحت الغطاء وعلى وشك النوم، فإن هذا الأستاذ التالي لك في الأستاذية يتخذ قراره في الصباح الباكر، وهو يخرج من تحت الغطاء أو و هو على وشك الاستيقاظ.
قال: ماذا تقصد؟
قلت: الأول يظل يغير في رأيه حسب المصلحة وحسب مساوماته مع الأطراف المستفيدة من القرار حتى يصل إلى آخر رقم يقدمه آخر مزايد في البورصة، وهو في السرير، فيعطيه القرار المطلوب ويقبض الثمن الأعلى.
قال: وصاحبنا.
قلت: يتمسك بالرأي الأول الذي كونه من أول تليفون يصله في الصباح.
قال أستاذي: هل قلت لك في المثل السابق : ما أروع تشبيهك.. أظنني قلت ذلك.. وأنا الآن : أقول لك: ما أبشع تشبيهك.
قلت: لكنه دقيق.
قال: هو الدقة بعينها.. كيف وصلت إلى هذه الأشياء؟
قلت: اكتويت بنارها.
قال: لا يظهر عليك أثر الكي.
قلت: وقع الكىّ في قلبي.
قال: ولا في قلبك، دعنا منك ومن شكواك التي لا تكف عن تأنيبي بها، وحدثني عن عيب ثالث من هذه العيوب الفكرية.
قلت: يمارس كل خلق معيب إلى نهايته ثم ينسبه إلى مَنْ لم يطاوعه فيه.
قال: بسط لي هذا الأمر بمثل أو قصة.
قلت: كان أحد زملائنا مسؤولًا عن ترتيب بعض التفصيلات في مؤتمرنا السنوي، فجاء يطلب موازنة للصوت، فقال له الأستاذ: إن محلات الفراشة تقدمها هدية، فقال الزميل الشاب: لكنهم لن يفعلوا هذا في هذا العام.. ولم يعد لهم علاقة بأجهزة الصوت فأهمله، لكن زميلنا كان معنيا بأداء مهمته، وكان ضروريا له أن يحصل على مال للإنفاق على الصوت، أو على الأقل على الموافقة على أن يصرف لهم من جيبه ثم يصرف المال منا.. وكلما نبه إلى هذا الموضوع كرر عليه الأستاذ نفس الجملة، وأعاد الزميل نفس الرد، فلما كانت المرة السادسة تصلب الأستاذ ، وقال لزميلنا: إنما أنت نموذج للمثل العامي: نقول لهم «طور» يقولوا : احلبوه، (المقصود ثور) ، لكن المثل بالعامية ، فانفجرنا جميعًا في الضحك؛ لأن القول كان ينطبق عليه هو لا على زميلنا.
قال أستاذي: أحدس أنه لم يفهم لماذا ضحكتم.
قلت: حتى الآن.
قال: وماذا فعلت يومها؟
قلت: أشرت لزميلي أن يتجاوز الأمر على أن نعالجه بطريقتنا وقد كان.
قال أستاذي: هل عندك من مثل على علاقاته بالمرؤوسين.. إني كنت أجد حرجًا في انتقاده في اختياره لمساعديه.
قلت: ما رأيت أحدًا مثله يقرب الفاسدين، ويبعد الصالحين.
قال: وما حكمته؟
قلت: إنه كان يجيد الانخداع.
قال: وهل هذه فضيلة؟
قلت: في زماننا.
قال: أقصد هل هي فضيلة تحتاج إجادة؟
قلت: بل هو موهوب فيها.
قال: وما السبب في هذا؟
قلت: السبب أنه ممن يؤمنون بالغيب.
قال: هل كفرت؟ هل تكفر؟
قلت: لا أقصد الإيمان بالغيب الذي هو جزء أساسي في إيمان المسلم.
قال: ماذا تقصد إذًا لقد صدمتني.
قلت: إنه يؤثر أن يؤمن بما يروى له عن أن يؤمن بما يراه بعينيه.
قال: ومن هذا جاء مصطلحك؟
قلت: نعم، فإنه لا يؤمن بما تراه عيناه قدر ما يؤمن بما تسمعه أذناه.