[حوارات الدين والطب و السياسة/ 4]
بعد 14 عاما من هذه القصة، التي كان أستاذي يستعيدها كلما أراد أن يدلني على اعترافه بقدرتي على قراءة الباطن على حد قوله، ظهر في إحدى الصحف المهمة حديث صحفي طويل أجرى معي، ولم يكن يدور بخلدي أن يكون أول تليفون أتلقاه تعليقًا على هذا الحديث هو اتصال من أستاذي نفسه، وكنت ساعتها في مدينة الإسكندرية بينما كان هو في الساحل الشمالي.
بعد أن هنأني أستاذي بما اعتبره هو توفيقًا كبيرًا في الأداء وفي التحليل طلب مني أن أمرّ عليه لنتناقش في الحديث.
بعد يومين مررت بأستاذي فإذا به يبدؤني بقوله: هل تذكر حوارنا الذي دار عقب انتخابات العمادة في بداية عهد الرئيس الثالث للجامعة؟
قلت: أذكر كل ما فيه.
قال: أتذكر أنك غضبت كما لم تغضب حين رشحتك وزيرًا لإعلام عبد الناصر؟
قلت: كأنك الآن تريد أن تنفي عني ما كنت مصممًا على تعذيبي به من مديح.
قال: بالعكس، إني أرشحك وزيرًا للإعلام في دولة تعاني من مرحلة الانتقال، لا في دولة اشتراكية ذات حزب واحد فحسب.
قلت: ألهذا استدعيتني؟
قال: أكمل الجملة ولا تخف وقل كما كان العرب الأقدمون يقولون: تبا لك.
قلت: لن أقول.
قال: تأدباً.
قلت: لا.. ولكن لأنك لست رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ضحك أستاذي ملء شدقيه وقال: لكن الجملة لم تكن مديحا للرسول وإنما كانت هجوما عليه.
قلت: لكنه هو الرسول عليه صلوات الله وسلامه أيا ما كان الخطاب.
قال: وما يحزنك في مثل هذا الترشيح؟
قلت: ما أحزنني في الأول.
قال: دعني أكن جريئا معك وأسألك: هل جالت مثل هذه الفكرة بخاطر أحد ممن قرؤوا حديثك في اليومين الماضيين؟
قلت: للأسف: نعم.
قال: مَنْ هذا الأريب الأروبة؟
قلت: سوف يسرك أن تعرف أنه كان رئيسا لتحرير صحيفة معارضة، كما كان وكيلا لنقابة الصحفيين.
قال: ومَنْ هو؟
قلت: هو الأستاذ عبد العال الباقوري.
قال: إني أعرف أنه صديق عزيز عليك.. ولعل علاقتكما لم تشهد إلا الحب.. ألا يشفع هذا لفهمي؟
قلت: يشفع لفهمك أولا يشفع.. إني أخشى أن يشفع لفهمي أنا.
قال: تخاف أن تكون وزيرًا لوزارة واحدة وأنت الذي تحدثنا دائما أنك لو أصبحت رئيسا للوزراء لفعلت كذا وكذا.
قلت: الأمر ليس أمر خوف ولا شجاعة، ولا أمر وزارة ولا أمر رئاسة وزارة.
قال: فما الأمر إذاً؟
قلت: إن التوبة لا تؤدي إلى النار، كما أن الإصرار على الذنوب لا يؤدي إلى الجنة.
صمت أستاذي برهة ثم قال: الآن فهمت.
قلت: أنت فاهم من البداية لكن تعذبني.
قال: فما قولك في أني لم أفهم إلا الآن؟
قلت: إذًا … وأنا أيضًا لم أفهم إلا الآن.
قال: دعنا من هذا كله ولنعد إلى أروع ما في حديثنا اليوم.
قلت: تقصد ذكرى إضافاتنا إلى قول ابن المقفع المأثور؟
قال: فتح الله عليك.. كنت سأبتئس إذا لم تدرك أنه أروع ما في حديثنا اليوم من ذكري.
قلت: إني أحبه.
قال: هذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل.. لقد طلبت من سكرتيرك أن يقرأ لك من كتاب صغير حددت موضعه بكل دقة، وحددت الفقرة التي تريدها حتى استطاع الرجل أن يأتيك بها في دقيقة.. لكن قل لي هل يستحق الرجل ذلك المصير السيئ الذي لقيه؟
قلت: برؤيتنا نحن القراء والمثقفين لا يستحق، وبرؤية المكيافيلليين يستحق ما هو أكثر من ذلك من عذاب وتعذيب.
قال: ولهذا فأنت تخشى مصيره.
قلت: ومَنْ أنا حتى ألقى مصيره.
قال: وما الذي جعله يستحق ذلك المصير من وجهة نظر المكيافيلليين؟
قلت: إنه أدرك سر النار المقدسة.
قال: ماذا تقصد؟
قلت: أدرك الحكمة وعبر عنها كما لم يعبر عنها أحد في زمانه.
قال: لكنه في الواقع لم يحتفظ لنفسه بحقوقه في ملكيتها الفكرية.
قلت: نعم كان يؤثر أن يقول عن أقواله: قالوا وقيل.
قال: ومع هذا فإنه لم يسلم من المصير المؤلم.
قلت: يستحيل أن يسلم.
قال: هل في ذاكرتك شيء له يستحق أن يروى؟
قلت: هل تأذن لي بالتليفون؟
قال: دعني، مرة أخرى بعد كل هذه السنوات، أر كيف كنت تستدعي النصوص على البعد، وكيف ترشد مَنْ في مكتبك إلى إتيانك بها كأنه الجان.
قلت: النص في أعلى صفحة من الصفحات الشمال، وعليه علامة حمراء بقلمي، والكتاب في الرف الأيمن الثالث من المكتبة اليسرى.
قال: الآن فهمت.. ماذا يقول النص؟
قلت: يقول ابن المقفع:
« الناس إلا قليلا ممن عصم الله، مدخولون في أمورهم :
فقائلهم باغ ..
وسامعهم عياب ..
وسائلهم متعنت ..
ومجيبهم متكلف ..
وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل ..
وموعوظهم غير سليم (يقصد: غير خالٍ) من الاستحقاق..
والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة..
والصدوق غير محترس من حديث الكذبة..
وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة..
والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر (أي للمصائب المتوقعة) .
يتناقضون البناء..
ويتراقبون الدول..
ويتعايبون بالهمز..
مولعون في الرخاء بالتحاسد.. وفي الشدة بالتخاذل».
قال أستاذي: الآن أقول لك وأنا مطمئن: إن ابن المقفع هذا يستحق أن يجازي بما جوزي به ألف مرة.. يقتل ثم يبعث ليقتل مرة ثانية.. ما رأيت من شرّح الناس بهذه القسوة القاسية مثل تشريحه.
قلت: هل أحببته؟
قال: حذارِ يا محمد أن تفعل مثله إذا انتابك الإخلاص للفكر، وسواء أكنت أنا حيا أم ميتا، فلا تكرر مأساته.
قلت: لو قدر لي ذلك ما نفعني نصحك، ولا أرهبني مصيره.
قال: إذًا فقل إن العوض على الله فيك.
أستودعك الله .