[حوارات الدين والطب و السياسة/ 3]
وكانت هذه أول وآخر مرة يصدر لي فيها أستاذي هذا الأمر.. حتى في المرات التي كنت أقول فيها بعكس ما يريد أن يسمعه.
صمت تماماً، ثم قمت فانصرفت كأني ذاهب إلى دورة المياه لبعض الوقت حتى يخلو أستاذي إلى نفسه كيما يستريح من حالة الضيق التي جعلته يصدر لي أمرًا لم يصدره قبل ذاك ولا بعده، وعدت فوجدت أستاذي متهلل الأسارير، هادئ البال، كأنه تلقى صدمة من الصدمات الكهربية المبدلة للحالة النفسية، وإذا به يقول لي: هل قلت ما قلت رواية أم عن توقع؟
قلت: وما الفارق؟
قال: كبير جداً.
قلت: لا أراه كذلك.. ولا أري فرقا.
قال: بدأت تناور يا محمد.. وتبتعد عن طابعك في الصدق.. أعتقد أنك قلت ما قلت عن توقع لا عن رواية.
قلت: وما قيمة هذا يا سيدي؟
قال: إني أعتبر هروبك اعترافًا بصحة حدسي، وهو صحيح، فليس من الممكن أن تتكشف مثل هذه العلاقات ولا أن تتكشف مثل هذه الخلافات في أسبوعين فحسب.. أليس كذلك.
سكت ولم أجب.
سكت أستاذي هو الآخر ثم قال: هل تعرف يا محمد ما كنت تصلح له لو لم تكن قد فرضت نفسك فيما فرضت من ميادين أثبت عبقرتيك فيها؟
قلت: أنا قد أصبحت الآن أعرف عن يقين أني لا أصلح لشيء على الإطلاق، وكل ما أعرفه عن نفسي أنني مغضوب علىّ من أستاذي، وأن الناس أصبحوا يتقربون إلى أستاذي برجمي.
قال: ولماذا لا تعترف أنك ترجم أستاذك عيانا بيانا في بيته وفي عيادته وفي مكتبه.
قلت: أستغفر الله.
قال: كأنك لا تريد أن تسألني عما أرشحك له لو لم تكن ما أنت.
قلت: اسأل إن شاء الله.
قال: إني أرشحك لتكون وزيرًا للإعلام في دولة اشتراكية من ذوات الحزب الواحد.
قلت: وما الموهبة في هذا؟ وما القيمة؟
قال: القدرة على التبرير المبتكر.
قلت: أهذا جزائي.. أريح أعصابك فتتعب أعصابي.
قال: يا محمد إنما أردت مديحك من حيث لم أحسن المديح.
قلت: وأنا شاكر لك ما انتويته وما قلته على حد سواء.
قال: معنى هذا أنك لم تغفر لي.
قلت: ما أنا إلا عبد ضعيف.
قال: إن كنت أسأت إليك من حيث لا أدري فسامحني.
قلت: يظهر أنه لم يعد لي عيش معك، ولم يعد لي أكل عيش معك إلا ممزوجًا بالإذلال.
قال: لقد أخرجتني من الاكتئاب فلا تدخلني إليه ثانية.. ما أردت إلا مديحك، ولو صبرت علىّ لاستمعت من المديح أقوالًا أخرى.. لكني لست أدري الآن أيسرك أم لا.
قلت: لم أعد لأتأذى من شيء آخر بعد ما قلت.
قال: إذاً، ومادام الأمر كذلك فاسمع مني أني كنت سأقول لك : إنك لو وجدت في عهد عبد الناصر لتضاءل فلان وزملاؤه بجوارك، وذكر أستاذي اسم صحفي كان مقربا من عبد الناصر.
قلت: وهذا أيضا يؤذيني.
قال: ألست من الذين يؤمنون بالتفوق؟
قلت: لكني من الذين يؤمنون بالزمرة.
قال: فأخرجني من هذا اليم الذي تصمم أنني وضعت نفسي فيه، وأخبرني ما بال صديقك وأمثاله كما تقول كثيرون يظنوني مسؤولا عن الوضع الجديد؟ وما بالهم يلومونني ولا يلومون المستفيدين؟
قلت: اكتشف العرب قديما هذا المعنى فقالت ما معناه: إن كل فضيلة من فضائل الغني، تصبح في حق الفقير رذيلة.
قال: أعرف هذه الحكمة لكن قل لي: أتذكر القول المأثور بحذافيره.
قلت: لا أحفظه.. لكني أستطيع أن أستحضره في دقائق.
قال: كيف ذلك.. أتستخدم الجان كما يقولون عنك؟
قلت: أوصلك هذا الخبر؟
قال: وصلني.. وسأغيظك وأقول لك : إني أنا أيضًا أميل إلى تصديقه.
قلت: هذا لا يغيظني.
قال: لا يغيظك أن يقال عنك : إنك توظف الجان ، ويغيظك أن ترشح وزيرًا للإعلام؟
قلت: نعم.. هذه مهارة مظنونة، وهذا أمل منكور.
قال: فخبرني إذًا أو أرني كيف تأتي بالنص في دقيقة.
قلت: إني أعرف موضعه من الكتاب وموضع الكتاب في مكتبتي، وأظن سكرتيري في عيادتي الآن.
قال: فإليك التليفون.
بعد دقيقة قرأت النص لأستاذي كما أملاه علىّ مساعدي حسب ما ورد في كتاب «الأدب الصغير» لابن المقفع وفيه يقول:
«وليس من خلة للغني مدح إلا هي للفقير عيب»:
فإن كان شجاعًا سمي أهوج .
وإن كان جوادًا سمي مفسدا .
وإن كان حليمًا سمي ضعيفًا .
وإن كان وقورًا سمي بلــيدًا .
وإن كان لسنًا سمي مهزارًا .
وإن كان صموتًا سمي عييًا .
قال أستاذي: هل تستطيع الآن أن تنظم لنا قاعدة مثل هذه فيما يتعلق بالفائز في الانتخابات ومَنْ لم يحالفه الحظ فيها؟
قلت: لكن لابد من مقابلة الفائز بكلمة واحدة لا بجملة .
قال: تريد أن تذكرني بأنني أنا الراسب.. قل ما شئت.
قلت لأستاذي: نستطيع أن نؤلف معاً.
قال: وليس عندي مانع.
قلت: أولا فإن الجمل الستة تنطبق على حالتنا تمام الانطباق مع تبديل المقدمة فحسب.
قال: نراجعها.
فراجعناها فكأنما صيغت لحالتنا.
فإن كان شجاعًا سمي أهوج .
وإن كان جوادًا سمي مفسدا .
وإن كان حليمًا سمي ضعيفًا .
وإن كان وقورًا سمي بليدًا .
وإن كان لسنًا سمي مهزارًا .
وإن كان صموتًا سمي عييًا .
قال: لكني أحب لك أو أطلب منك أن تضيف إليها..
قلت: هل تساعدني بأن تكتب ما أمليه .
قال : أفعل إن شاء الله.. لكن عليك التبييض.
فأخذت أملي على أستاذي وأحاول.. وأضع جملا على غرار ابن المقفع:
وإن كان حازمًا سمي أرعن .
وإن كان حاسمًا سمي عجولا .
وإن كان عادلًا سمي قاسيا .
وإن كان لطيفًا سمي خفيفا .
وإن كان عزيزًا سمي متكبرا .
وإن كان مدققًا سمي معقدا .
وإن كان متعقلًا سمي بطيئا .
وإن كان عبقريًا سمي مجنونا .
وإن كان عالمًا سمي مخبولا .
وإن كان مدبرًا سمي متآمرا .
وإن كان ورعًا سمي فاترا .
وإن كان رحيمًا سمي جبانا .
وإن كان حافظًا سمي حرفيا .
وإن كان أوّابًا سمي هوائيا .
وإن كان مهذبًا سمي منافقا .
قال أستاذي: انسخ لي الآن نسخة من أقوال ابن المقفع وإضافاتك، لأضعها هنا في درج عيادتي لأطالعها فتستريح نفسي من نفاق الناس.
فعلت .. ثم أخذنا نتحدث فيما يكون من أمر جامعتنا وأمر كليتنا وأمر تلك الأزمة.