[حوارات الدين والطب و السياسة/ 1]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 1]
كان المفترض أن تبدأ معرفتي المباشرة بأستاذي في بداية سنة الامتياز؛ حيث كان علينا أن نختار التخصص المفضل لكل خريج لكي يقضي فيه شهري الامتياز المخصصين للتخصصات الدقيقة، وكان النظام القائم في ذلك اليوم هو نفسه النظام الذي لا يزال معمولًا به حتى الآن، والذي يقسم سنة الامتياز إلى ست دورات، لكل دورة شهران، على أن يقضي الخريج أربع دورات في الأقسام العامة الأربعة وهي الباطنة العامة والجراحة العامة، وأمراض النساء والتوليد، والأطفال، ثم يقضي شهرين في تخصص فرعي جراحي أو باطني (كجراحة القلب أو أمراض القلب) ويقضي شهرين سادسين في الطوارئ، وتختلف الكليات في تقسيم شهري الطوارئ ما بين جراحة العظام والتخدير شهرا هنا وشهرا هناك، أو شهرا في إحداهما وشهرا في أقسام الحوادث العمومية في المستشفيات الجامعية التي توجد فيها هذه الأقسام متخصصة ومنفصلة وليست قائمة على مبدأ للتناوب بين الأقسام الموجودة.
***
على كل الأحوال كنت قبل معرفة أستاذي قد قررت اختيار تخصص القلب والأوعية الدموية بصفة نهائية، وكنت أخشى بل أتوجس أن أبدأ هذه المعرفة المباشرة بالأستاذ قبل أن يتم الاختيار النهائي فتثنيني تجربة المعرفة عن الاستقرار النهائي على هذا الاختيار، ذلك أني كنت قد أحببت أن أكون طبيبًا للقلب، أو بالأحرى أن أكون أستاذا للقلب، ولم يعد في وسعي أن أتنازل عن هذا الحب لسبب ربما لا يتعدى كونه سببا شخصياً، وهو شخص الأستاذ، مع أن هذا السبب في واقع الأمر يمثل ارتباطا يفوق في موثوقيته وإلزاميته رابطة الزواج نفسها، وهكذا فإني تعمدت تأخير معرفتي بأستاذي القادم كما تجاهلت كل نصيحة مخلصة قدمت لي بالتريث في هذا الاختيار، وبمحاولة معرفة حقيقة سير الأمور بين هذا الأستاذ وتلميذيه الأولين، والعلاقات المعقدة التي تحكم هذا القسم الصغير الذي سيقدر علىّ أن أكتوي بناره.
***
وعرفت هذا كله، وأعرضت عن هذا كله، وآثرت أن أمضي قدما دون أن أعبأ بحسابات النار التي تنتظرني، بل إني تعمدت أن أؤجل كل علاقة مباشرة بأستاذي إلى حين يتسلمني نائبا جديدا له، ولا يعجبن القارئ من هذا الاعتراف، ولا يعجبن من مثل هذا النمط من التفكير، فهو على كل حال تفكير إنساني طبيعي، وهو أمر معروف في النفس البشرية التي إذا تمكن منها حب الإقبال على شيء فإنها تحاول أن تتجاهل السؤال عن التحقق من صلاحيته لها، ويحدث هذا في أذهان الناس بصفة خاصة عند الزواج القائم على الحب المندفع.
***
لهذا كان اندفاعي إلى هذا التخصص في حد ذاته مؤجِّلا لتعميق العلاقة مع الأستاذ إلى مرحلة تالية لما كان متاحًا منذ بداية سنة الامتياز، ومع هذا فقد كان لابد من التعرف المباشر على هذا الأستاذ، كانت علاقتي السابقة به قد بدأت سطحية أو أعمق قليلًا جدًا من السطح، إذ أنه أعجب بي في أثناء أحد الدروس الإكلينيكية (الراوندات)، وكان قليل الأسئلة لكنه كان إذا استمع إلى إجابة الطالب عصرها عصرا وهكذا فعل بي، وربما أتى إعجابه من أني كنت أجيب بلا أعرف عندما لا أعرف، وكان يحاول أن يزحزحني عن هذه الإجابة إلى ما تعوده زملائي مما نسميه «التطجين» أو القول بغير علم دون جدوى، وفيما بعد عرفت من خبرتي معه أنه كان يعجب كل الإعجاب بهذا الخلق حتى وإن لم يعبر عن إعجابه هذا أبداً، وإنما كان يختزن هذه المواقف في نفسه ليعول عليها عند اختياره لمن يعهد إليه بأمر من الأمور، ولا أعتقد أنه كلف غيري بمثل ما كلفني به على مدى تاريخ علاقتي معه، ويكفيني في هذا الصدد أنه عهد إلىَّ بعد شهرين اثنين من عمل الطبيب المقيم بوظائف لا يقوم بها إلا المدرس ومَنْ هم أعلى منه، وكانت هذه وظيفة قد لا أنالها، فإن نلتها فليس قبل سبع سنوات على الأقل، ويكفيني أنه كان يعهد إلىّ وأنا مدرس مساعد لا بمهام الأستاذ ولا بمهام رئيس القسم فحسب، وإنما بمهام الأستاذ القديم الذي يعهد إليه بتقييم مستوى الأساتذة الجدد.