[حوارات الدين والطب و السياسة/ 14]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 14]
وجدت أستاذي بعد أن قص علىّ ما قص حريصًا على أن يبدو متطلعًا إلى أثر حديثه في نفسيتي.. ولم أكن أجهل هذا بالطبع.. وفي بساطة شديدة قلت لأستاذي: ولكن يا سيدي هذا هو قدرك وليس لك من فرار من أن يسجل التاريخ أنني كنت تلميذك.
فأجاب بابتسامة عذبة ووجه أشرق لأول مرة: ومَنْ أدراك يا ولد أنني لست سعيدًا بهذا القضاء والقدر؟
كانت هذه فرصة ذهبية للتعبير عن ضيقي من بعض ما أتضايق منه في القسم، ولكنني كعادتي كنت مزايدًا أي أكثر انحيازًا إلى الجانب الآخر تمامًا من الموقف، وقلت بمنتهي السرعة: ولكن سعادتك بهذا القدر يا سيدي لا تبلغ عشر معشار سعادتي.
قال: بعد كل هذه المضايقات والإيذاءات التي سببناها لك؟
قلت: إني أستعذبها، وأفتقدها إذا غابت أو تأخرت.
قال: أتغلبني بالفلسفة؟
قلت: بل بالإيمان.
قال: أي نوع من الإيمان هو؟
قلت: إيمان العجائز.
قال: أسكتني، ولكن هل تدري ما هو إيمان العجائز؟
قلت: لا أدري ولكني أفهمها على وجهين.
قال: فما هما؟
قلت: من العجز، مع أن هذا لا يمكن أن يكون لغويا ولكني أفهمه على نحو ما نفهم اللفظ في اللغات الأخرى.
قال: عندك حق، والأخرى؟
قلت: جمع عجوز، أي كإيمان السيدات المسنات.
قال: ولماذا لا يكون كإيمان السادة المسنين؟
قلت: ياسيدي إني أتحرز قبل المضي في المناقشة بأن هذا ليس هو الشرح ولا التفسير ولكنه الفهم.
قال: أعرف ولا ألزمك بشيء ولكن لماذا تصر على التشبه بالسيدات؟
قلت: يا سيدي لا يقال : رجل عجوز ، وإنما إذا قيل عجوز فالمقصود هو المرأة المسنة التي أصابتها الشيخوخة.
قال: ومن أين جئت بهذا المعنى؟
قلت: أنت الذي علمتنا أن النبي ﷺ قال :لا تدخل الجنة عجوز.
قال: أعرف ذلك ، ولكني أسألك هل استبعاد وصف الرجل بالعجوز من فتاويك أو استنتاجاتك أم هو أمر منصوص عليه في كتب اللغة؟
قلت: بل هو منصوص عليه والمعرفة به متداولة.
قال: ولماذا قصر الوصف على السيدة دون الرجل؟
قلت: هو نوع من عنصرية العرب، أو هو نوع من تحيزهم ضد المرأة، إذا أردت أن تكون من دعاة حقوق الإنسان.
قال: وإذا لم أكن؟
قلت: أتحب أن تكون من دعاة الإعجاز اللغوي عند العرب؟
قال: فإذا أحببت فكيف يمكن تفسير هذا؟
قلت: من أبسط ما يكون.
قال: كيف؟
قلت: يا سيدي ، إن هذا يدل على أن العرب اكتشفوا أن المرأة بتقدمها في السن تفقد بعض الوظائف الفسيولوجية بحلول سن اليأس، وبالتالي فهي تعجز عما كانت تفعله من قبل، أما الرجل فإنه لا يعاني مثل هذا العجز في المقابل.
قال: وهل حقا أدرك العرب مثل هذا المعنى؟
قلت: بوسعك أن تثبت أنهم قد أدركوه ، وبخاصة إذا كنت من دعاة الإعجاز اللغوي للعرب.
قال: وهل يعقل أن يوجد شيء مثل هذا؟ إنك تعرف أني رغم انتماءاتي الفكرية والسياسية من المتحفظين بشدة على إطلاق العنان للحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن (وكان هذا حقًا إلى درجة أن أستاذي لم يكن يحضر مؤتمرات نقابة الأطباء في ذلك الوقت بسبب تركيزها الكامل على هذه الفكرة) فكيف بك تمنح العرب هم الآخرين إعجازًا لغوياً؟
قلت: يا سيدي أنا لا أمنح ، ولكني أملك الأدوات ، وأقول لك باعتبارك أستاذي العزيز ما يمكن أن يصاغ بأكثر من طريقة.
قال: شكرا… ولكن قل لي : من أين جئت بتعبير «أملك الأدوات»؟
قلت: تعطيني الأمان أولا.
قال: نعم.
قلت: هو تعبير وصفتني به فتاة أحبها.
قال: هل تسمح لي بأن أصفها، قلت: بالطبع أسمح وأتشرف أنا وهي.
قال: إنها Brain، وكان أستاذي يستخدم هذا اللفظ للتعبير عن وصف الذكاء.
قلت: هي كذلك، لكن حظها عاثر.
قال: لماذا؟
قلت: لأنها حمقاء.
قال: إذًا فقد أخطأت في وصفها بأنها Brain.
قلت: لم تخطئ يا سيدي فكم من صاحب عقل كبير وهو أحمق في تصرف صغير.
قال: أهي كذلك؟
قلت: بل كذلك هي.
قال: الآن عرفت سر رضائك عن الدنيا.
قلت: وما هو؟
قال: تتمرد عليك دنياك الصغرى بأكثر من دنياك الكبرى فترضى بالكبرى.
قلت: لم أفكر في الأمر على هذا النحو.
قال: فإن فكرت؟
قلت: إن فكرت كفرت.
قال: العياذ بالله.. أليس عندك حل آخر؟
قلت: بل عندي.
قال: وما هو؟
قلت: أن أفكر في الأمر بطريقة أخرى، وهي أن أنظر إلى الصغرى في حجمها من الكبرى.
قال: فإن فكرت بهذه الطريقة؟
قلت: إن فكرت آمنت.
قال: ما أشقى محاورك يا محمد.. جعلت جواب الشرط في جملة واحدة شيئين متناقضين.. بل هما الكفر والإيمان.
قلت: إنما جملة الشرط جملة في فقرة.. وليس هذا من إبداعي، وإنما يعرفه كل مَنْ حفظ قصار السور، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ﴾ [الزلزلة] .
قال: ومع هذا فإني متمسك بقولك : إن فكرت آمنت.
قلت: سمى أحد أساتذتنا ابنتيه: أفكار وإيمان.
قال: لابد أن أفكار هي الكبرى.
قلت: ومن أدراك؟
قال: إنه آمن بعد فكر.
قلت: ولم لا يكون العكس؟
قال: لا يحتاج المرء إلى أفكار بعد إيمان.
قلت: لكن العكس صحيح.
قال: في الغالب… إن لم يكن على الدوام.
قلت: الأولى إذًا أن نقول لا يحتاج المرء إلى أفكار بعد إيمان، وإن كان لابد له من أفكار قبل إيمان.
قال: فإذا نشرت هذه العبارة في نص من نصوصك ثم نقلت هذه العبارة عنك واعتبرت من مأثوراتك ، فلا تنس أن تقول للناس: إن أستاذك شاركك في تأليفها.
قلت: أفعل إن شاء الله.
قال: أما الآن فاكتبها لي في هذه الورقة.
قلت: بلا توقيع.
قال: ما الداعي إليه إذا كان الخط خطك.. والأسلوب أسلوبك.
***