الرئيسية / المكتبة الصحفية / التربية هي الجبر (3)

التربية هي الجبر (3)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 7]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 7]

قال: إذا عدنا إلى القصص التي رويتها لتوك فإنها كلها تدور حول محور واحد، وبوسعي أن أسألك: ما هو وجه خطئي فيما تظن من انحيازي إلى شخص بعينه حين وجدت مَنْ يحمل عني ما أريد فكفيته قلق مَنْ يحيطون به؟

قلت: لم يكن هناك خطأ بحسابات الحاضر الراهن، لكنك في واقع الأمر تتحدث عن شعورك اليائس من نتيجة لاحقة هي ما تراه اليوم.

قال: وما هو وجه خطئي في الحفاظ على الحاضر في وقته دون شغل للبال بالمستقبل الذي هو غير وقته؟

قلت: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكن الحفاظ على الحاضر في الماضي هو الذي جعلك تشكو الحاضر في المستقبل.

قال: فهمت قولك رغم عبقريته.

قلت: الأولى يا سيدي أن تقول: بفضل عبقريته.

قال: أما كان أولى بك أن تنسب العبقرية إلى نفسك لا إلى قولك؟

قلت: بل وصف القول أجدى.

قال: لماذا؟

قلت: مديح الجزء يضمن مديح الكل، وليس العكس صحيحاً.

قال: فما بالك تؤاخذني بالأجزاء الغائبة قبل الحاضرة؟

قلت: كنت ولازلت أظن أنه كان ينبغي لك أن يكون من تلاميذك الأوائل فلان وفلان ممن تصطفيهم الآن وتختصهم بحبك.

قال: وهل كنت أخطب على خطبة إخواني؟ وآخذهم من أقسامهم؟

قلت: لم أقل ذلك، وفي وسعك أن تتأكد من هؤلاء اليوم عن شعورهم حين اختاروا العمل في تلك التخصصات حين لم يروك تلقى إليهم بنظرة عين حانية ولا حتى مشجعة.

قال: لن أدخل معك في حوار لأنه يبدو لي أنك تملك أسرارا عن كل حالة، لكني أسألك: وهل فعل غيري هذا الذي تطلبه؟

قلت: نعم.

قال: حدثني.

قلت: كان لأستاذ الأشعة ابن، وكان جديرًا به بالمنطق الغبي أن يخلي له الطريق، لكنه ذهب بنفسه إلى أحد النوابغ من زملاء ابنه وألّح عليه إلى درجة الإجبار حتى طلب التخصص في الأشعة.

قال: لم أكن أعرف ذلك قبل اليوم ، ولا أظنك ألفت هذه القصة من فورك، لكني أعترف لك وأشهد له أنه كان مصيبا في هذا الاختيار إلى أبعد حد ممكن، فهذا الذي تتحدث عنه هو أفضل تلاميذه في رأيي، لكني أعجب من قولك إنه أجبره.. هل حدث هذا فعلا؟

قلت: شيء قريب من هذا.

قال: حدثني… هل يمكن مثل هذا بالقانون؟

قلت: نعم.. بالتكليف.

قال: وهل حدث مثل ذلك من قبل؟

قلت: لابد أنه قد حدث في أزمنة كانت تعلي من الشأن العام على الخاص.

قال: وأين مثل هذا التصرف من معنى الحرية؟

قلت: ألم تكن حضرتكم في بداية حديثنا اليوم الذي حولت القضية من قضية تربية واختيار إلى قضية جبر واختبار؟

قال: ماذا تعني؟

قلت: إذا غابت التربية قبل الاختيار، فالأفضل أن يأتي الجبر قبل الاختيار.

قال: كأنك تريد أن تقول: إن الاختيار خطوة تابعة لابد أن تسبقها خطوة أولى هي الجبر أو التربية؟

قلت: نعم.

قال: وهل يمكنك بمواهبك أن تحول قضية الجبر والاختيار في الفكر الإسلامي لتكون قضية الجبر والتربية؟

قلت: لا أظنني مؤهلا لهذا.

قال: لم؟

قلت: لأن أستاذ الفلسفة الإسلامية لم ينجح في إغوائي أو استقطابي لأكون من دارسيها.

قال: هذا من فضل الله.

قلت: علىّ وعلى الفلسفة.

قال: اسمع يا محمد.. لقد وترتني اليوم بما فيه الكفاية، ولم يحدث هذا في أي حوار لي معك من قبل، لقد جعلتني أحس بذنوب لم أكن أتصور أنني اقترفتها، دعك من تأثيرها السلبي علىّ فقد دفعت الثمن، لكني أتصور نفسي الآن عاقا بهؤلاء الذين أحبوني ولم أمد يدي إليهم، وأتصور نفسي عاقا بهؤلاء الذين عرضوا أنفسهم علىّ وخيبت آمالهم، بل إني أتصور نفسي عاقا في حق الذين لم أدافع عنهم بما ينبغي في المعارك الصغيرة (أو الكبيرة) التي خاضوها.

قال أستاذي هذا كله في نغمة حزينة، وقد أوشكت عيناه على البكاء، وصار إلى حالة من حالات الوجد الصوفي، الذي يحس الإنسان فيها بالتسامي بعد أن يعترف بالخطأ.

***

لم يكن من السهل علىَّ أن أتصرف في هذا الموقف الذي دفعته فيه بأستاذي إلى ما لم أكن أظنني أدفعه إليه ، ووازنت بين سعادته بهذا التسامي الصوفي وبين ضيقه من هذه الذكريات المزعجة .. ولم أصل إلى تصور سريع لما ينبغي علىّ أن أقوله في هذه اللحظة لكني مع هذا قلت لأستاذي: لا عليك من هذا كله، إنما هي تمارين منطقية أتأمل بها الحياة، وربما أني أنا المخطئ، وعلى كل حال فلننعم بالأثر الجميل الذي يقول: لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع.

قال: لكني متوتر.

قلت: وعندي لك قصة تزيل هذا التوتر إلى الأبد.

قال: للأبد؟

قلت: للأبد.

قال: لم أسمع بمثل هذا الدواء من قبل، لكني أعدك أن أعترف لك بالعبقرية لو كانت قصتك دواء أبديا.

قلت: لقد تضخم رصيدي من اعترافاتك ومكافآتك ولم يعد بنك مصري قادرا على صرفه، وسأعيش وأموت من دون أن أستوفى حقوقي المشروعة والموعودة عندك.

قال: لا تحزن فستصرفها إن شاء الله متجمدا ضخما.

بدأت في حكاية القصة التي ملخصها أن أستاذا كبيرا عمل في كلية الطب في مدينة قاصية وقاسية في ذلك الوقت وهي أسيوط، وبعد إلحاح منه على مدير الجامعة أعلنت الجامعة عن رغبتها في تعيين معيد في تخصص الأستاذ لكي يتأهل بالدكتوراه فيكون مدرسا يحمل بعض العبء عن الأستاذ الذي كان يرأس أقسام الباطنة كلها في الكلية والمستشفيات.

 واختارت الجامعة من بين المتقدمين للإعلان أفضلهم، وكان قد ناقش رسالة الدكتوراه وينتظر أداء الامتحان للحصول على درجة الدكتوراه، وعين هذا الشاب النابه، وجاء إلى مدينة أسيوط وتعرف بالأستاذ، وطلب منه الأستاذ أن ينقل امتحانه لدرجته العلمية إلى أسيوط مادام قد أصبح معيدا في كليتها، وفعل المعيد ما طلب منه وجاءت ليلة الامتحان وسهر الأستاذ والمعيد معا إلى قرب الفجر.

 وفي الصباح ذهب الأستاذ ليوزع أوراق الامتحان على الفروع المختلفة، فلما وصل إلى حيث ينبغي أن يجد المعيد وجد مقعده خاليا، فسأل عنه أعضاء لجنة الامتحان فأجابوه بأنه حضر مبكرا وترك رسالة مغلقة للأستاذ وانصرف، ولم يشأ أن يوقع في كشوف حضور الامتحان.

 فض الأستاذ الرسالة فوجد المعيد يعتذر له عن سفره لا لشيء إلا لسبب واحد فقط وهو أنه أحس الغدر من الأستاذ الذي اصطفاه وسهر معه حتى الفجر، ومع هذا فإنه لم يشأ أن يحدثه عن الامتحان، ولا عن مضمونه، مع أن الامتحان تحصيل حاصل لحاصل يتمناه الأستاذ بأكثر مما يتمناه الطالب نفسه، ونظر الأستاذ في ساعته فوجد أن موعد تحرك القطار من أسيوط إلى القاهرة قد مر.

قال أستاذي: سواء أكانت قصتك هذه حقيقة أم كانت خيالًا فإني أشهد لك أنها أزالت توتري.

قلت: لكن البطل فيها لا يزال متوتراً.

قال: سأنصحه بأن يأتي لعلاج توتره على يديك.

قلت: لا أظنني قادرًا على هذا.

قال: تعجبني فيك لمحات تواضع نادرة تزيل بها الشك في أنك لا تعرف التواضع.

قلت: وماذا ترى في تواضعي؟

قال: هو نادر الحدوث.. وهو نادر المثال.

قلت: وهل تغفر الخصلة الثانية للأولى؟

قال: وللثانية كذلك.

قلت والعبرة تخنقني : أأنا مذنب في كل الأحوال؟

قال: بل مجرم في جميعها.. لكنه من فضل الله عليك ، وما رأيت فضل الله على أحد يفوق فضله عليك ، لولا أنك محسود ومستحق للحسد ،  على نحو ما أنك مستحق لفضل الله .

ومد أستاذي يده بمنديل يكفكف دمعي الذي سبق منديله.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com