[حوارات الدين والطب و السياسة/ 6]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 6]
قال: لا تأخذني إلى البعيد، ودعني في القريب، ما الذي جعل أستاذنا يختار ذلك الرجل ويختصه بما اختصه به؟
قلت: كان يدرك ببعد نظره أن لابد من وجود شخصية ذات نفس هادئ (وهذا هو نص تعبيره تقريبا) فيما بين الأنفاس اللاهثة بحماسها واجتهادها وإيمانها، وهكذا حرص على أن يكون هذا الابن موجودا بين أعضاء هيئة تدريس القلب في قصر العيني.
قال: ولم لا تقول : إن هذا قد حدث بالمصادفة؟
قلت: لا أظن ذلك أبدًا .. إذ كيف تكون المصادفة هي السائدة في نجاحه في أول امتحان يعقد لمنح درجة علمية جديدة لم تكن موجودة من قبل؟ وكيف تكون المصادفة هي السائدة في الإعلان له عن وظيفة محددة في ذلك الوقت الذي حصل فيه على الدرجة؟!!
قال: ذكرتني.. لقد كان هذا الأستاذ قد غير مساره وعمل معيدا في قسم الطب الطبيعي والعلاج بالإشعاع والكهرباء بعد حصوله على دبلومي الباطنة والقلب وانتهاء نيابته.
قلت: وهذا أيضًا مما أستغرب له فيما استقر عليه وجدانكم من قصة الرجل، وإني ما أظنه غىّر مساره بقبوله هذه الوظيفة في قسم العلاج بالإشعاع، وإنما كان يؤكد على استمرار مساره في أمراض القلب.
قال: كيف ذلك؟
قلت: لأنه أراد أن يبقى في قصر العيني قريبا من قسمه الأصلي حتى ينال الشهادة أو الوظيفة أو ينالهما معا، ولا أظنه فعل ذلك بدون مشورة أستاذكم الأكبر، وإن لم يكن هو مجبرا على أن يخبركم بالحقيقة، لا هو ولا أستاذكم الأكبر.
قال أستاذي: كلامك منطقي جدًا لكن قل لي: هل تتحدث عن علم أم عن استنتاج؟
قلت: الأمران يستويان.
قال : أعفيك من الحرج، فلابد أنك حصلت على سر لم نحصل عليه في زماننا، وما أظن استنتاجاتك مهما كانت ذكية تصل إلى لب الحقيقة على هذا النحو الدقيق، ومع هذا فإني لست أفهم من هذا المثل الذي قصصته ما يؤيد وجهة نظرك في مسؤوليتي عن اختياري تلاميذي.
قلت: أعرف أنك تفهمني لكنك لا تريد أن توافقني.
قال: وما العمل في نظرك؟
قلت: أعطيك مثلا ثانيا بسلف الرئيس الحالي، أي الرئيس الذي انتهى من رئاسة القسم منذ ثلاث سنوات وهو أستاذك الحبيب.
قال: وما شأن هذا هو الآخر؟
قلت: أحبه أستاذك الأكبر وهو يقضي شهرين من الامتياز في قسم القلب، فلما وجده (عند الإعلان عن النيابات) اختار التخصص في النساء، استدعاه وبدأ إقناعه بقبول التخصص في القلب، فلما يئس من إقناعه بالمنطق الأرسطي أقنعه بالمنطق الاجتماعي.
قال: وما هو ذلك المنطق الاجتماعي؟
قلت: قال : له تزوج مَنْ تحبك لا مَنْ تحبها، لأن مَنْ تحبك تسعدك حتى لو أخطأت، أما مَنْ تحبها فقد تشقيك مهما فعلت من أجلها.
قال أستاذي: أهكذا قال له بالتحديد؟
قلت: المعنى شائع، والصياغة لي، ولأستاذك الفضل في توظيف المعنى.
قال: أو حدث هذا على نحو ما تقول؟
قلت: هو ذاك.
قال: لقد كان أستاذنا ذلك مهيأ لأن يكون أنجح طبيب نساء.
قلت: تقصد بمنطق المهنة والممارسة؟
قال: نعم.
قلت: وبهذا المنطق فإنه أنجح أساتذة القلب.
سكت أستاذي بعض الوقت ثم قال: إنه فعلًا كذلك، ولكننا مشغولون بتقييم بعضنا بما في ضمائرنا، وبما في أيدينا، والمهنة لا تحكم بما في ضمائرنا، ولا بما في أيدينا، وإنما بما في ضمائر الناس، وبما تتطلبه نفوسهم.
قلت: ولولا أن أستاذكم الأكبر كان يعرف هذا كله ما كان قد رسخ أستاذيته على نحو ما فعل.
قال: نعم.. إني لا أظن أستاذًا في جيله حقق ما حققه من سطوة الأستاذية.. هل تذكر شيئًا عنه هو نفسه؟ هل رأيت أستاذنا الأكبر أم أنك لم تدركه؟
قلت: بل أدركته في عامه الأخير.
قال متسائلاً: في عامه الأخير؟
قلت: وربما في كشفه الأخير.
قال: وهل ظل يكشف حتى عامه الأخير؟
قلت: كانت حالة استثنائية لا ينبغي له أن يعتذر عنها.
قال: ومَنْ كان صاحب الحالة؟ إذا لم يكن الأمر سرا.
قلت: ما في الأمر سر.. إنما هي زوجة زميله السابق عليه، والذي كانت له في المجتمع العلمي والطبي مكانة لا تقل عن مكانة أستاذك بأي حال، وكانت الزوجة فرنسية أرستقراطية تعودت على مشورة أستاذك الأكبر ونصيحته وسماعته على مدى عشرات السنين، ولم يكن من اللائق أن يبخل عليها بزيارة منزلية مهما كان سنه.
قال: وكيف جاءتك الفرصة لتشهد ما تقول : إنه آخر كشف في حياة أستاذنا الأكبر؟
قلت: ذهب كلانا في وقت واحد.
قال: وهل كان كلاكما يعرف أن الآخر قادم للمهمة ذاتها؟
قلت: إنما يصدق على هذا الموقف قول محور من قول نبوي جميل.
قال: وما هو القول المحور؟
قلت: لو اطلعتم على الغيب لأفسدتم الواقع.
قال أستاذي: أبلغت بك الجرأة أن تشتق أقوالًا جميلة من مثل هذه الأقوال المقدسة؟
قلت: لا أشتق منها، وإنما أقتدي بها، وأظن القول الأصلي يتضمن المعنى الذي أتحدث عنه.
قال: مناقشتك ممتعة لكنها مرهقة.
قلت: إنما هي مبهجة.
قال: كأنك بحر من الأسرار، هل عندك مثل ثالث؟
قلت: المثل الثاني لم ينته بعد.
قال: كيف؟
قلت: تذكر أن الأستاذ الذي تحبه انصرف في مرحلة من حياته إلى الذرة وما سمي بالطب النووي، وأعطى نفسه لهذا الاهتمام أو التخصص الدقيق حتى أوشك أن يكون نوويا، لكن أستاذك الأكبر أعاد إغراءه بالعودة ليكون قلبيا، مع أن كلا الأمرين جوهري: نواة وقلب.. ولكن شتان بين ذاك وهذا.
قال: أعرف أن هذا حدث لكني لم أكن أعرف أن لأستاذنا الأكبر الفضل في هذا، وإنما كنت أظن صاحب الشأن هو الذي اختار.
قلت: مَنْ كان في مثل سنه لا يوقف طيش عشقه إلا قرار الأب.
قال: معك حق.. لكن مَنْ حدثك بهذا.. أم أنك تستنتج؟
قلت: إنما حدثني العاشق.
قال: العاشق الولهان؟ أم العاشق التائب؟
قلت: بل العاشق العاقل الذي استمع إلى كلام أبيه وورث حكمته.
قال: هو ذاك.. لكنني لا أظن أنه كان بوسعي أن أجد مثل هذا ولا مثل ذلك، وإنما أنت تزيدني من أمري رهقا، فهل عندك مثل ثالث؟
قلت: عندي ثلاثة أمثلة لا مثل ثالث فحسب.
وأخذت أقص على أستاذي، فإذا به بعد حديثي الطويل يطرق في أسي ويقول: كأني المسؤول عن هذا الوضع الذي أنا فيه والذي أظن أنه لا يد لي فيه.
قلت: نعم.
قال: وهل أنا مذنب في حق هؤلاء وفي حق نفسي؟
قلت: ليس هذا بالذنب الواضح، إنما هو ذنب خفي.
قال: تقصد أنه كالشرك الخفي، فماذا عن الشرك الصريح؟ هل وقعت فيه؟
قلت: نعم.
قال: متى حدث هذا؟
قلت: أكثر من مرة جاءتك الفرصة فيمن يخطبون ودك فصددتهم.
قال: أتعرف بعضهم أم أنك تتحدث حديثا نظريا؟
قلت: بل أعرف فلانا وفلانا وفلانة.
قال بعد تفكير: إنما كانت رغبات هؤلاء الثلاثة تعريضا عابرا فحسب.
قلت: وماذا تنتظر أكثر من هذا؟
قال: يجاهدون.
قلت: كيف يجاهدون وهم يرونك تنتصر للشيطان أو للملاك أو للإنسان من قبل أن تراهم.
قال: أحدث هذا أم أنك تفتري؟
قلت: حدث… وأخذت أقص عليه بعض المواقف.
قال: إنك صادق فيما تروي لكن هذا لا يعني أنهم على حق، لو كانوا على حق لفعلوا مثلك وصمدوا وقاموا وانتصروا.
قلت: إنهم كانوا يبحثون عن وظيفة لا عن معركة.
قال: كأنك كنت تبحث عن معركة لا عن وظيفة؟
قلت: بل كنت أبحث عن وظيفة بلا معركة.
قال: لكنك لم تهرب من المعركة حين فرضت عليك.
قلت: مكره أخاك لا بطل.