الرئيسية / المكتبة الصحفية / التربية هي الجبر (1)

التربية هي الجبر (1)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 5]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 5]

في لحظة صفاء قال أستاذي : إنه قارب اليأس من اثنين من تلاميذه الأوائل، وقال لي: إنه يحس أن حظه سيئ فيهما، وإنه كان يود لو أن الحظ قد قاده إلى غير ذلك فيهما، أو إلى غيرهما، وسألني أن أعبر له عن رأيي بصراحة فيما إذا كان مسؤولا عما آل إليه حال هذين الأستاذين؟ سواء أكانت هذه المسؤولية كلية أم جزئية، قلت لأستاذي: لعلك تغفر لي إذا قلت لك : إن القضية من حيث التربية لا تتعلق بك لا من قريب ولا من بعيد، لكنها من حيث الاختيار تخصك بدرجة تقترب من المائة في المائة!

أشرق وجه أستاذي فجأة وقال: كأنك تريد أن تقول : إن التربية هي الجبر!

ضحكت وقلت: بل الاختيار هو الجبر.

قال أستاذي: وكيف كان ذلك كذلك؟

قلت: بعض التاريخ الذي سأذكره مصدره أنت، وبعضه الآخر ربما لم يمرّ عليك من قبل.

قال: هات ما عندك.

قلت: كان أول طبيب مقيم في هذا القسم، قد عمل لمدة أسبوعين فقط، وكان مؤهلا لما تتمناه في تلاميذك، لكنه آثر أن يترك تخصصنا ويذهب إلى جراحة العظام.

قال: حدث هذا فعلا.

قلت: أنت مصدري الأول في هذا.

قال: كأني قد حكيت لك عن كل ما كان وما يكون.

قلت: وكان أكبر تلاميذك يهيئ نفسه ليكون جراحا للعظام، فلما فشل في تحقيق هدفه قبل العمل في قسم القلب.

قال: وهذا ما لا أعرفه.

قلت: أعرف.

قال: لكن كيف عرفت أني لا أعرفه؟

قلت: حدثني صاحب الشأن أنه حرص طيلة حياته وحتى الآن على ألا ينهي إلى مسامعك هذه القصة.

قال: وماذا كان في وسعي أن أفعل بها سلبا أو إيجابا؟

قلت: ظل يظن أن في هذا ما يجرح أحاسيسك، ويترتب عليه موقف منه.

قال: هو مخطئ بالفعل في هذا الموقف.

قلت: لكن هناك مَنْ هو أكثر منه؟

قال في انزعاج: تقصدني.. هات ما عندك من أسباب لهذا الظلم اللذيذ .

قلت: بخلت بأبوتك أن تعرف مثل هذا في الوقت المناسب.

قال: أنا في الموضع السلبي وتجعلني مسؤولًا عن معرفة ما لم يبح به صاحب الشأن.

قلت: لكن الأستاذ دائمًا ما ينظر إليه على أنه في الموضع الإيجابي، وعليه إذًا المسؤولية في أن يعرف ما يخفيه تلميذه عن قصد أو عن حياء.

قال: وماذا كان يفيدني أن أعرف؟

قلت: كنت تلعب في مناقشتك له على ميول جراح عظام بدلا من أن تلعب على ميول الباطني أو النسائي.

قال: أتظن أن لهذا التفكير محلا في تربية أول الأبناء الذي هو مهيأ لأن يرث التركة كلها ولابد أن يلم بها كلها.

قلت: لكن أول الأبناء في العادة لا يحب أن يرث المسؤولية الأدبية حتى إن أحب أن يرث التركة كلها، وإنما هو يحب أن يرث ما يناسب ذوقه من ماديات من دون المعنويات.

قال: وماذا كان يناسب «عظامي» في تخصصنا؟ ماذا كان يمكنني أن أقدمه له حتى أجعله يحس بالتعويض؟ هذا إذا كان في حاجة إلى تعويض أصلاً، فأنت تعرف أنه لا ينتظر التعويض، وإنما هو قناص محترف ودائم لا يخفى رغبته ولا قدرته ولا ماضيه في القنص.

قلت: كمرحلة أولى كان يناسبه جهاز صدمات القلب، وكمرحلة ثانية كانت تناسبه القثاطر.

قال: وهل منعت عنه هذا أو ذاك؟

قلت: لكنّك لم تمن عليه بهذا ولا بذاك، والمن في مثل هذه الحالة مكون أساسي للعطاء.

قال: لا أدري إن كان ما تقوله صواباً؟ أم خطأ؟ لكني معجب بالصياغة.

قلت: لكني أود لو أعجبك المضمون.

قال: وماذا كان بوسعي أن فعل؟

قلت: الأمر بسيط بساطة ما يفعله أثرياء الريف حين يفصلون أبناءهم الكبار عنهم بمجرد تزوجهم مخصصين لهم مطحنا أو منحلا أو مشغلا، ويقولون لهم عند إتمام هذا الفصل المادي إنهم إنما فعلوا هذا لأنهم يجدون (هذا الابن الأكبر) أقدر الناس على هذه المهمة الجديدة التي بوسعه أن يتفوق فيها على آبائه.

قال: هذا عن الأول، فما بال الثاني؟ ماذا كنت تظنه يتمنى؟

قلت: أظنه كان يتمني أن يكون نسائيا.

قال: لماذا؟

قلت: لايزال يريد أن يجمع بين راحة الطب وصرامة الجراحة.

قال: وهل هو في رأيك يحب الجمع؟

قلت: بل يحب الطرح.

قال: وأين الطرح في النساء؟

قلت: يستخرج النسائي الوليد فيصبح الرحم خاليا، ويجري الإجهاض فيصبح الفؤاد خاليا، ويطمئن الوالدين على حدوث الحمل فيصبح البال خاليا.

قال: هل يمكنك أن تكرر هذه المقاطع الثلاثة؟

قلت: لا أفعل حتى تعدني بمكافأة.

قال: أعدك بعد أن تجيبني هل جاءتك هذه المقاطع من وحي اللحظة، أم أنك كنت قد رتبتها من قبل؟

قلت: لا أفعل حتى تعدني بمكافأة أخرى.

قال: لك ذلك.

قلت: من وحي اللحظة.

قال: أيمكن هذا؟!

قلت: إنما هو فضل الله يجريه على ألسنتنا.

قال: فما بال لسانك قد اختص بهذا الفضل؟

قلت: قدر الله وما شاء فعل.

قال: وهل تعتقد في هذا في الإبداع؟

قلت: الإبداع أولى بهذا الاعتقاد من الاتباع.

قال أستاذي وقد أشرق وجهه: ولا أحد يعرف قدر إيمانك ؟

قلت: ربما تظن ذلك الآن.. لكن العبرة بالخواتيم.

قال: وهل سمع زميلنا وصفك لما يتمناه في أدائه؟

قلت: هو كما تعلم لا يحب الاستماع أبداً، حتى وإن أجبر أذنه على التسليم لك من باب اللياقة.

قال: لكنك قادر على إسماعه.

قلت: لا أظن.

قال أستاذي في شبه يأس: نعم، وأردف بعد هنيهة: لكن قل لي: كيف عرفت خلقه على هذا النحو الدقيق؟

قلت: بالتأمل لا بالاستماع.

قال: لكنك تظل في حاجة إلى سند يدعم روايتك.

قلت: ليس صعباً.

قال أستاذي في شبه يأس : إنما أريد أن أسألك سؤالًا مباشراً.. فلا تراوغني ، هل حدثك هو الآخر بهذا؟

قلت: بعيونه لا بفمه.

قال: وأنا أقبل فهمك لحديث العيون، لكن ما علاقة هذا كله بما نحن فيه من شكوى؟

قلت: إنما نتحدث فيما بدأت فيه من قلقك من تلميذيك الأولين، وأنا أزعم أن لك يدًا كبيرة في الموضوع.

قال: لكنك أضعت الوقت دون أن تثبت ذلك.

قلت: ألا تحب أن تقارن نفسك بأستاذك الأكبر في قصر العيني محمد بك  إبراهيم ؟

قال: بلي… ولي الشرف.

قلت: هل تعرف كيف اختار رئيس القسم الحالي ليكون تلميذا له؟

قال: لا.. ولكني أعجب لحظ هذا الرجل حين أراه يتولى رئاسة القسم هذه المدة الطويلة بينما لم يكن في حسباننا على الإطلاق حين كنا شبابا؟

قلت: إني أعجب لتفكيركم في شأن هذا الرجل، وأعجب لظنكم أنه لم يكن مرشحًا لما وصل إليه مع أنكم تعلمون أنه كان أول مَنْ نال دكتوراه القلب وعين بعدها مدرسا، ولم يكن هناك مَنْ يسبقه ممن هم أصغر منه، فكان طبيعيا أن يأتي في يوم من الأيام رئيسا للقسم.

قال: نعم.. أفهم هذا الآن.. لكننا في ذلك العصر الذي تربينا فيه لم نكن نحسبها هكذا.. بل لم نكن نحسبها على الإطلاق، فهل ظلمنا أساتذتنا أم ظلمنا أنفسنا أم أن أبناءنا، وأنت منهم، هم الذين ظلمونا؟

قلت: فيما يتعلق بهذه النقطة فقد كان حظ جيلكم أفضل، على الرغم من أن حظه لم يكن ينبئ بهذا الفضل.. ألا ترى إلى الجيل الحالي وقد عذبه أن المندل قد انفتح له، وأنه عرف معظم الحقيقة، وأنه فقد سر غموضها كما فقد جاذبيتها بعد أن عرفها وأصبح ملزمًا بأن يتصرف في حدود معرفته الواسعة، فهو يحسب حساب كل شخص، ويحمل أعصابه بحسابات لا تنتهي إلا أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً.

قال: كأني بك أصبت وجه الحقيقة بقولك: «وقد عذبه أن المندل انفتح له»، لكن قل لي: هل هذا من عندياتك أم أنه من عقيدتك؟

قلت: بل هي عقيدة.

قال: من أين اعتقدتها؟

قلت: من قول الحق جل جلاله: ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمرآن:179] .

قال: كأني أسمع قول الله هذا لأول مرة.

قلت: هذا من فضل الله، فقد نعيش ونموت ونحن معذبون بالبحث عن الغيب.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com