البحث عن أب بمواصفات إلهية

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 10]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 10]

فوجئت عند دخولي عيادة أستاذي به يسألني: هل تذكر إله القلق؟

قلت: نعم.

قال: كان هنا لتوه، وحاولت أن أتذكر لماذا سميته بهذا الاسم فلم أذكر.

قلت: أنت معذور.

قال: لماذا؟

قلت: لأنه إله دائم للقلق.

قال: وهل هناك آلهة غير دائمة؟

قلت: إله الجمال وما نحوه.

قال: وهل قسم اليونان الآلهة على هذا النحو من الدوام وغير الدوام؟

قلت: لا.

قال: فلماذا تفعل في آلهتهم ما لم يفعلوا؟

قلت: إنما هذا من وحي إله القلق.

قال: لكنك لم تذكر لي كيف سميته كذلك.

قلت: كان حموه مريضًا في الرعاية المركزة، وكنتُ أنا الذي استقبلته وأدخلته الرعاية في ذلك اليوم، فلم يترك أستاذًا ولا مدرسًا من أي تخصص إلا وجاء به معه ليطمئن على حميه.. وكأنه كان ينتظرهم على باب المستشفى ويصحبهم رأسا إلى الرعاية.

قال: تذكرت.. هذا ما حدث معي بالضبط.. لكني ظننت يومها أن التسمية قديمة وأنك استدعيت التسمية في تلك المناسبة.

قلت: بل كانت التسمية من وحي اللحظة، وكنت أنتَ بحكم حقوق الأستاذية أول مَنْ سمعها واعتمدها.

قال: لم أعتمدها.

قلت: سكوتك عنها اعتماد، وعدم إنكارك لها تتويج.

قال: أوأنكرها أصحابنا؟

قلت: نعم.

قال: وذهبوا بك إلى الكفر؟

قلت: لم يذهبوا وإنما حذروني.

قال: وماذا فعلت؟

قلت: قدمت لهم خليطا من الميثولوجيا اليونانية والكوميديا المصرية.

قال: وهل تناولت الكوميديا المصرية موضوع آلهة اليونان؟

قلت: طوعتها لهذا.

قال: فارو لي.

قلت: ابتليت في فترة من الفترات بموظف في غاية الغباء كان يعمل مساعدًا لي في إحدى الهيئات التي عملت مستشارًا لها، فلما يئست من إصلاح فكره وطبعه سميته «إله الغباء».

قال: يعجبني أنك تقول يئست من إصلاحه، وكأنه آلة أو أداة.. أو تقصد هذا؟

قلت: نعم.. فقد كان لا يزيد على هذه أو تلك.

قال: وما الفرق بينهما بالمناسبة؟

قلت: الأداة تؤدي عملها دون حاجة إلى طاقة.. والآلة تحتاج إلى الطاقة.

قال: أو عرف العرب الطاقة؟

قلت: إن لم يعرفوها بتعريفاتها فقد عرفوها بذاتها.

قال: أظنك تجاملهم.

قلت: لا تندهش يا سيدي إذا ذكرت لك أن للشاعر العراقي معروف الرصافي قاموسا للآلة والأداة عند العرب.

قال: أعرف بعض شعره لكني لا أتصوره مهتما باللغة إلى هذا الحد.

قلت: يصعب أن تجد شاعرا لا يهتم باللغة.. إنما يخفي بعضهم اهتمامهم.. ولا يمانع آخرون في ظهوره.

قال: لكن هذا لا يعني أن يؤلفوا قواميس متخصصة مثل صاحبك الرصافي.

قلت: لكن هذا حدث بالفعل.

قال: إذًا متى تؤلف لنا عن الآلهة المصريين الكوميديين؟

قلت: هم أكثر من أن يحصرهم كتاب.

قال: لك الحق.. لكن إلى أي حد وصل إله الغباء؟

قلت: فوجئت به ذات يوم في مطعم كبير ضمن أسرته مع والده ووالدته واثنتين من شقيقاته.

قال: وكيف أخبرتهم أنه إله الغباء؟

قلت: وهل تظنني فعلت هذا؟

قال: لا أظنك قد فوت هذه الفرصة.

قلت: لكني كنت حريا بأن أخاف الأبوين.

قال: وقد استطعت بالطبع التغلب على هذا الخوف بصياغة مراوغة.

قلت: أصدقك القول إن هذا لم يحدث.

قال: إذًا فأنا لا أعرفك تماماً.

قلت: بل تعرفني.

قال: إذًا ماذا حدث؟

قلت: خذ نفسا عميقا.

قال: أخذته.

قلت: إن إله الغباء هو الذي قدمني لأسرته وتولى إخبارهم بالوسام الذي وضعته على صدره.

قال: هذا أمر منطقي.. لكن كيف فاتني التفكير فيه؟

قلت: لأنك لم تعرف إله الغباء من قبل.

قال: وماذا كان شعور الوالد؟

قلت: دعني أسألك عن شعور إنسان عادي يجد نفسه فجأة والدًا لإله؟

قال: لم أخبر هذا من قبل.

قلت: لكن في التاريخ بعض ما يشبهه.

قال: هات ما عندك.. ولا تطل.

قلت: الأمر لا يحتاج تطويلا ولا اختصارا، فقد كان الإسكندر الأكبر مولعا بفكرة أن يكون ابنا من أبناء الآلهة، ولم يكن راضيا تماما عن أن يكون مجرد ابن لهذا الأمير العظيم فيليب المقدوني.

قال: لو صح هذا فقد زدت في احترامي للإسكندر.

قلت: هذا صحيح. لكن احترامك هو الغريب.

قال: أتدري لم؟

قلت: لا أدري.

قال: لأنه لم يشأ أن يكون هو الذي ارتفع بقدر نفسه عامدا متعمدا، وإنما صور الأمر كأنما لم يدرك الناس حقيقة معدنه وجوهره، وأنه حري بأن يكون ابنا لإله.

قلت: وما العظمة في هذا؟

قال: هل تذكر قادة الانقلابات العربية الذين منحوا أنفسهم رتب المشير والفريق.. إلخ؟

قلت: أذكرهم.

قال: ليس لي شأن بهم لكني أقارنهم بمَنْ احتفظوا لأنفسهم بعد الزعامة برتب متوسطة… ولا أكذبك القول إني أحترم ثقة أصحاب الرتب المتوسطة في أنفسهم إذ بقوا عقداء مثلًا ولم يرقوا أنفسهم فرقاء أو مشيرين مع أن هذا كان في وسعهم.

قلت: لكنك ربما لا تعرف أن بعض هؤلاء لم يكونوا عقداء ولا قريبين منها، وإنما رفعوا أنفسهم حين تمكنوا من السلطة إلى هذا المستوى البروتوكولي الذي كان بالنسبة لهم كبيرا جدا.

قال: لا أريدك أن تتوهني فيما لا أعرف، لكني أريد أن أقول : إن الإسكندر كان ذكيا فلم يؤله نفسه، وإنما صور الأمر على أنه ابن إله لم يعرف الناس حقيقته، وأن الوقت حان ليعرفوها.

قلت: وترى سيادتكم أن هذا خير من التأله أو التأليه؟

قال: بلا… شك.

قلت: مع أن النتيجة واحدة.

قال: لا.. إن النتيجة مختلفة، لكنها على كل حال تخرج من موضوع آلهتنا المعاصرة، سواء إله القلق وإله الغباء.

قلت: منكم نتعلم، وإن كان الإسكندر صاحب فضل علينا جميعا ينبغي لنا أن نجامله لأجله.

قال: وما هو ؟

قلت: إنشاؤه الإسكندرية.

قال: إنما أنشأها لنفسه.

قلت: لكننا لا نزال نبتهج بها.

قال: وقد أنشأ غيره غيرها.

قلت: لكننا لا نستمتع إلا بالإسكندرية، وبعض حبي لها من صنعك.

قال: صدقت.. ولكن قل لي: هل وجد الإسكندر الأكبر ضالته؟

قلت: نعم.

قال: ومَنْ وجد له أباه الإله؟

قلت: هل تصدقني؟

هنا ابتسم أستاذي وقال :يبدو لي أنك ستقول : إن المصريين هم الذين «وجدوا» له أباه الإله.

قلت: حدسك صادق لكني كنت أريدك أن تقول إنهم «اخترعوا» بدلا من أن تقول «وجدوا».

قال: بالطبع «اخترعوه» لكنهم قالوا له : إنهم «وجدوه».. لكن مَنْ هؤلاء المصريون الأصلاء ، من أجدادنا، الذين فعلوا هذا بالإسكندر؟

قلت: إنهم كهنة معبد سيوة، وقد صوروا له أنه ابن الإله آمون.

قال: ألهذا جاءهم؟

قلت: ولهذا سيظل يعود إليهم.

قال: لأنه إله؟

قلت: بل لأنه ابن إله.

قال: آه.. لقد نسيت، قلت: لكن خبرني هل فعل أحد من الأدباء بنفسه مثل هذا؟

قلت: نعم .. كانت أم موباسان صديقة للكاتب فلوبير، فلم يشأ موباسان أن يفوت الفرصة في أن ينسب نفسه ولو بالإيحاء إلى هذا الأديب النابه.. حتى إنه وضع رواية يتعذب بطلها، لأن أمه ولدته لتاجر بسيط، بينما يفخر بطلها الآخر بأمه لأنها حملت به سفاحًا من أب ذي شأن.

قال: ألهذا الحد وصل؟

قلت: نعم.. ولا تنس أنه فرنسي من الذين يجيدون اللعب بالحرية لكنه في الواقع لم يقل إنها قصته.

قال: وهل كان بحاجة إلى أن يقول؟

قلت: لم يكن بحاجة.. لكنه لم يشأ أن يتخل عن الفكرة.

قال: وهل كتب سيرته الذاتية؟

قلت: وهل كان بحاجة إلى أن يكتبها؟

عند هذا الحد فوجئنا بسكرتير العيادة ينبئنا بقدوم مَنْ أسميناه «إله القلق».

قلت لأستاذي: ألم ينصرف لتوه؟

قال: لكنه إله القلق.

دخل زميلنا بسرعة فاستمع دون قصد إلى أستاذي وهو يذكر « اسمه الحركي » فابتسم واعتذر عن عودته مرة أخرى لأنه لا يزال قلقًا على حالته التي سأل عنها منذ نصف ساعة.. وقال زميلنا العزيز ضمن ما قال من اعتذار: إذا لم تعذروني وأنا «إله القلق».. فمن تعذرون؟

قلنا: بل نحن بك سعداء…

وكانت هذه هي الحقيقة.

فقد كان الرجل .

حبوبا بحبوحا.

 دمث الخلق،

حسن النية.

سليم الطوية..

ولا يزال سعيدًا بهذا اللقب.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com