[حوارات الدين والطب و السياسة/ 9]
[حوارات الدين والطب و السياسة/ 9]
قلت: ها قد وصلنا.. ما عليك يا سيدي إلا أن تقول لرئيس القسم في حيادية وبراءة إن واحدًا من أساتذة الكلية في قسم غير قسمنا قد قابلك، وشكا لك مني أنا، وقال لك: إنني أقول للطلاب في الدراسات العليا إن في القلب انقباضًا بلا قصر، وانبساطًا بلا طول، وإنك أنت لا تعرف ماذا أقصد بهذه المصطلحات الفلسفية، وهل إقحامها في تدريس الطب يفيد أم يحول الطب إلى مادة أزهرية؟
قال: كأنك لا تزال تعاقبني على قول قلته من أعوام ولم أكن أقصد به إلا إبداء بعض الإعجاب المستتر بك وبطريقتك في التدريس.
قلت: لكنك لم تسبق القول بإبداء الإعجاب، وإنما بما هو أقرب إلى النقيض من هذا، وهكذا استقبله السامعون على أنه نقد وربما سخرية.
قال: وأنت لا تضيع الفرصة في استخلاص حقك.
قلت: وماذا بوسعي أن أفعل؟
قال: تقفز ، وتغفر.
قلت: أستغفر الله.
قال: فما بالك بهذا الذي قلته من أن هناك انقباضًا بلا قصر، وانبساطًا بلا طول؟ الحق أقول لك : إن رئيس القسم معذور في ألا يصدق وجود هذين الطورين في دورة القلب.
قلت: أليس التمهل والتأمل كفيلين له بإدراك الحقيقة؟
قال: الحق أقول لك: في ظل غطرستك ليسا كفيلين..
ولولا أن شعري قد شاب ما أدركت أنك تقول الحق..
ولو كنت أنا المشكو إليه ما أنصفتك..
ولو كنت طالبًا ما صدقتك.
قلت: فما بالك أن الطلاب صدقونني وأصابهم الانتشاء لأنهم فهموا.
قال: سحرتهم كما هي عادتك.
قلت: وما بالك أن زملاءنا في القسم يعبرون عن السعادة القصوى بهذا الوصف لهذين الطورين؟
قال: لأنهم يحبونك، ويحبون أسلوبك فيما مضى، وقد جربوه فوجدوه يسهل عليهم الفهم والحفظ والاستذكار.
قلت: وهل يطلب من الأستاذ غير هذا؟
قال: نعم.. وبالثلث.
قلت: تريد أن تقول إنه يطلب من الأستاذ أن يترك للعلم بعض الغموض الذي لا يجعل طلابه يحسون بأنهم تعلموا وعرفوا كل شيء.
قال: هو ذاك، ولو أني يا محمد أعترف لك أني لا أستطيع أن أعبر عن المعنى بهذا الوضوح الذي عبرت به.
قلت: لك الفهم ولي التعبير.. والفهم أعلى.
قال: بل التعبير أعلى.
قلت: لا يأتي التعبير من غير فهم، ولا يحتاج الفهم إلى تعبير، فمن غيرك لا أكون، ومن غيري تكون.
قال: أشكرك، ولكن قل لي بربك: هل تفعل برئيس القسم بعض ما تفعله بي الآن؟
قلت: في بعض الأحيان.
قال: إذًا فاحمد الله على أنه يحبك في بعض الأحيان، ولو كنت مكانه ما أحببتك لحظة.
قلت: لكنك كنت مكانه أثني عشر عامًا وكنت تحبني بأكثر مما تتوقع، وبأكثر مما أتوقع، وبأكثر مما هو معروف.
قال: لا تنس فارق السن.. إننا نحب الأبناء الذين أنجبناهم ونحن كبار بأكثر مما نحب أولئك الذين أنجبناهم ونحن في فورة الشباب.
قلت: أهي بنوة؟
قال: لا أريد أن أصدمك بالحديث عما يكون بين الأخوة الكبار والصغار.
قلت: لا تتعب نفسك فقد صدمتني بالفعل من قبل، ولولا صدمتك ما عرفت الحقيقة.
قال: متى صدمتك يأيها المفترى؟
قلت: ألم أقل لك في البداية إننا في حاجة إلى العودة إلى المرة الأولى.
قال: أولازلت تريد أن تستوفي حقك مني؟
قلت: إنما أضيء المواقف.
قال: ما فائدة الضوء في وضح النهار؟
قلت: يلون الأشياء.
قال: فإذا لم تكن في حاجة إلى تلوين.
قلت: يثبت نفسه.
قال: فليثبت نفسه لنفسه، أما أنا فإني أقرأ الحقيقة في كتاب مفتوح.
قلت: لكن حضرتك الذي بدأت حوارنا اليوم بالسؤال عما بيني وبين الرجل.
قال: لم أكن أقصد السؤال، وإنما كنت أقصد إظهار التعجب بموقفك الصارم الذي جعله لا ينام ولا يصحو منذ ثلاثة أيام.
قلت: إنك تبالغ.
قال: فاذهب إليه حتى ينام، فإن في ذهابك ثوابًا لو تعلم قدره ما توانيت عنه.
قلت: يكفي ثواب الطاعة.
قال: وهل أهمتك الطاعة من قبل؟
قلت: ربما.
قال: ودع عنك فكرة الانقباض بلا قصر، والانبساط بلا طول.
قلت: فدعني أضبط لك المصادر ليكون النص أجمل: إنها الانقباض بلا تقصر، والانبساط بلا تطول.
قال: سواء أكان الأمر بقصر أم بتقصر أم بطول أم بتطول فإن رئيس القسم لن يصدق حدوث هذا أبدا.
قلت: إنه في كل حياته لا يؤمن بغير الاندفاع، وبغير الاقتناص، وبغير الاستحواذ والوصول إلى كل ما يشتهيه عنوة واقتداراً.
قال: وسوف يجد عقاب هذا كلما تقدمت به السن.
قلت: لكنه يظن نفسه فوق القانون.
قال: وسوف تأتي عليه لحظات يبحث فيها عن القانون لينقذه.
قلت: لكنه سعيد بكل ما استحوذ عليه مما لا ينبغي له.
قال: سوف يتعذب بكل ما استحوذ عليه بحق وبغير حق.
قلت: لكنه أقرب الناس إلى منطق نتشة.
قال: بل إني أقول لك وأنا متأكد: إنه هو النموذج البارز للنتشوي الذي لم يقرأ نتشة على الإطلاق، وهو الدليل على أن نتشة لم يبتدع مذهبه، وإنما عبر عن بعض مَنْ نصادفهم في الحياة من أمثال صاحبك.
قلت: لكن هذا كله ليس مبررًا له لأن يكفر بما انتبه إليه العلماء في شأن دورة القلب على سبيل المثال.
قال: أليس عندك تفسير؟
قلت: إنما غلب علمه بالحياة على علمه بعلم الحياة.
قال: هو ذاك يفتح الله عليك.
قلت: لكن الاعتماد على مثل هذا العلم الفردي أو الظاهري يقود صاحبه إلى الكفر بالعلم الحقيقي.
قال: ومَنْ أدراك أنه يؤمن به؟
قلت: إلى هذا الحد وصل تقييمك له؟
قال: نعم.. ولكني أتقي وأتوقي.
قلت: كأنك لن تفعل ما أشرت به عليك من قصة الأستاذ الذي قابلك، وروى لك ما روى.
قال: إذا كان المتكلم مجنونًا فالسامع عاقل.
قلت: وإذا كان المتكلم عاقلاً.
قال: السامع عاقل في كل الأحوال.
قلت: وما جدوى ما ألفته لك؟
قال: لن تضيع عليك فائدته.. تكتبه لقرائك المعجبين بك حتى يزدادوا إعجاباً.
قلت: فإن لم يزدادوا إعجاباً؟
قال: تزداد أنت إعجابًا بنفسك.
قلت في ابتسامة: وهل تظنني لازلت في حاجة إلى الإعجاب؟
قال: لن تشبع منه حتى تلقى حتفك.