نبدأ بالقول بأن الملك فاروق كان أكثر الزعماء العرب إخلاصًا لقضية فلسطين والفلسطينيين، وأنه بسبب هذا الإخلاص تغيرت المعادلة الدولية على الأرض في بدء المعركة، فقد كانت الحسابات تشير إلى أن قادة العرب متخاذلون شأنهم في هذا شأن صورتهم التي عرفتها القوى الغربية عنهم من قبل ، ومن ثم فقد كانت الخطط الغربية تضع في حسبانها ان الزعماء العرب لن يقاوموا تسليم بريطانيا أرض فلسطين لليهود تحت دعوى الانسحاب منها، وأن الأمور ستسير محسومة لصالح احتلال إسرائيلي يحل محل الاحتلال البريطاني، ثم يتحدث عن نفسه عن أنه جيش وطني في أرض وطنية على نحو ما ستفعل الجيوش العربية نفسها، وهي تقوم بانقلاباتها العسكرية بعد حرب 1948 ، وبهذا تتكون في البلاد العربية المحيطة بإسرائيل نظم متعسكرة تدعي الوطنية ، لكنها لا تزيد عن كونها وكلاء للاستعمار على حد التعبير الذي صاغه المفكرون الأجانب من قبل أن يستخدمه مؤخرا الشبان المتحمسون في ثورات الربيع العربي التي عانت من وكلاء الاستعمار .
جهود الملك فاروق من أجل عقد أول مؤتمر قمة عربي
فكر الملك فاروق في 1945 في الاجتماع بالملوك والرؤساء العرب فأبحر علي اليخت الملكي فخر البحار في حراسة الطوافة فوزية إلي البحر الأحمر، ودعا زعماء العرب إلي لقائه، ويبدو أن الوصي علي عرش العراق طلب التأجيل إلي موعد آخر فاكتفي الملك فاروق بزيارة جدة ثم زار جزيرة قمران وعدة جزر صغيرة في البحر الأحمر وعاد إلي العريش يوم 12 أكتوبر سنة 1945. لكن هذا التأجيل لم يثن من عزم الملك علي الالتقاء بزعماء العرب فدعاهم إلي الاجتماع في زهراء أنشاص» في الأسبوع الأخير من مايو 1946، وحضر المؤتمر كل من الملك عبد الله ملك شرق الأردن، والأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، والأمير عبد الإله الوصي علي عرش العراق، والأمير سيف الإسلام عبد الله نجل الإمام يحيي ملك اليمن، وشكري القوتلي رئيس جمهورية سوريا، والشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان، كما حضره عبد الرحمن عزام بك أمين عام الجامعة العربية، ودعي حسن يوسف باشا إلي حضوره ممثلا لديوان الملك .
دام الاجتماع يومي 28 و29 مايو 1946، وجرت مناقشات مطولة ومرتجلة، إذ لم يكن للمؤتمر جدول أعمال، وانتهت المناقشات إلي إصدار بيان من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أكد علي الرغبة في السلام والسعي إلي استقلال ليبيا ، وإلي تحقيق مطالب مصر القومية، وعلى أنهم تداولوا في قضية فلسطين وقرروا رفض أية هجرة جديدة إليها، إذ أن ذلك يعتبر نقضا صريحا للكتاب الأبيض الذي ارتبط به الشرف البريطاني، ثم أعربوا عن أملهم في ألا تساند كل من انجلترا وأمريكا أي قرارات من شأنها المساس بحقوق عرب فلسطين. ويشير حسن يوسف باشا (و رواة آخرون ) إلى أن الملك عبد الله أراد في اللحظة الأخيرة أن يؤجل الموافقة على هذا البيان بدعوي تأخر الوقت، وكان قد جاوز منتصف الليل وانسحب إلي جناحه الخاص، فلحق به الملك فاروق وانتزع منه التوقيع علي البيان!.
لجوء الحاج أمين الحسيني إلي مصر
وقد ذكر حسن يوسف باشا أن هذا الاجتماع ( مؤتمر القمة العربية الأول) كان بمثابة الدافع القوي الذي شجع مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني علي اللجوء إلي مصر بعد أن كان يعيش في ألمانيا التي انحاز إليها من قبل الحرب العالمية الثانية : “ويومئذ قرر الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا، مغادرة برلين حيث كان يقيم، وحضر إلي القاهرة فجأة يوم 21 يونيو 1946 وأعلن أنه لجأ إلي حمي الملك فاروق، وقد اضطرت رياسة مجلس الوزراء إلي إصدار بيان رسمي بأن الحكومة المصرية قبلته لاجئا سياسيا».
نموذج لأمجاده غير المشهورة: استضافته لزعيم ثورة الريف
من الأمجاد غير المشهورة وغير المذكورة للملك فاروق ما قام به عن شجاعة و اقتناع من استضافة الزعيم العربي الكبير محمد عبد الكريم الخطابي ١٨٨٢- ١٩٦٣ زعيم ثورة الريف ، وقد أتم الملك فاروق هذا التصرف الشجاع ببساطة شديدة ، ومن دون بروباجاندا ، ويكفي لإدراك مدى نبل الملك فاروق في هذه الجزئية أن نتصور أن الرئيس جمال عبد الناصر كان هو الذي أتم هذه الخطوة، ومدى ما كان يمكن للشعراء والموسيقيين و المطربين أن يُتَوجوا عمله به مع كثير من الدراما والمفارقات والمبالغات فضلاً عمّا تقنعنا صحافتنا بأنها تنقله عما يرويه الصحفيون والمراسلون في جميع أنحاء العالم من ارتعاش أمريكا واهتزاز الاتحاد السوفييتي من جسارة الزعيم الذي لم يخش سطوة الجمهورية الفرنسية و الإمبراطورية البريطانية. و من الطريف أن الملك فاروق كان يصدر في هذا التصرف عن روح وطنية عارمة، بل ان الشاعر الكبير علي الجارم نظم قصيدته “ضيف كريم” ليُرحّبَ بزعيم ثورة الريف ترحيباً حاداً يذكر بأمجاده.
روح المسئولية
بالإضافة الى مشاركة مصر في حرب فلسطين ، فقد كان موقف الملك فاروق من الكفاح الفلسطيني مشرفا له كانسان وكملك ، و بلا أدنى درجة من الشك فقد كان الملك فاروق مرحبا كل الترحيب بأن تكون القاهرة هي مركز النشاط الفلسطيني، من أجل التحرير ، وما يتطلبه التحرير من النشاط والجهاد و الكفاح ، ومن العجيب أن علاقة مصر بالنشاط السياسي الفلسطيني ما بعد 23 يوليو 1952 أصبحت اقل بكثير من علاقة مصر بهذا النشاط قبل 1952، لكن الذي زاد وازدهر في هذه العلاقة هو تضخم الدعاية المرتبطة بما يسمى “أنا” الزعامة المصرية في القضية الفلسطينية ، ومع هذا فإن أحداً من الفلسطينيين لا يحب التصريح بهذه الحقيقة ، لأن التصريح يؤذي قضيتهم ، في ظل ما هو معروف من حساسية العسكريين المصريين، كان الملك فاروق وحده هو مَنْ نظر إلى الأمر نظرة أقرب في مضمونها إلى نظرة الوفد و جماعة الإخوان المسلمين و نظرة الشباب المصري النقي الذي لم يتلوث بحسابات السياسة ولا بآفاتها الخلقية الخفية، وإنما وجد الملك فاروق كان فيما يسمعه (بالأذن أو بالعين) من الفلسطينيين والمسلمين والمسيحيين كل الصواب و الحق ، ووجد الصواب والحق أيضًا فيما كانوا يطالبون به إخوانهم العرب من الجهاد والمقاومة، وناقش القضية مع رموز بارزة تمثل ما هو لامع في ثقافته الوطنية و السياسية ودرس الأمر مع من يستمع إليهم من رجال الدبلوماسية والحرب ، وقرر بوضوح أنه لا بد أن تشترك مصر في الحفاظ على فلسطين.
لم يتحسب لخيانات مستشاري القيادات الأخرى
لم يكن الملك فاروق يدرك مدى ما يمكن أن تصل إليه خيانات بعض القريبين من القيادات العربية الأخرى من حدود ، ولو أنه أدركها ما زاده هذا إلا يقينًا وصوابًا وإصرارا، ولفكر في أن تكون مساهمة مصر مستقلة القرار و بعيدة عن الوقوع أسيرة في يد مزايدات الإجماع العربي، الذي لا يتحقق ، وعن ثغرات التهوين العربي المعهود الذي يقلل اوتوماتيكيا من كل نصر وإنجاز ممكن ، وهو تهوين مقصود و مبرمج للأسف الشديد ، لم يكن الملك فاروق يتصور أن هذا الموقف الحاسم الذي أتخذه سيكون أقصى درجة من درجات مقاومة العرب لظلم و امبريالية القوى الدولية الجديدة المستترة وراء شعارات براقة وخادعة من قبيل الحفاظ على السيادة، والآمال المشروعة للشعوب ، وعدم الاعتداء ، وحقوق الإنسان.. إلخ. ولو أنه علم ما نعلمه اليوم من الحقائق الدامغة ما كان هذا العلم قد زاده إلا تمسكًا بالحق و انحيازا إلى من يستطيع مساعدته في الحصول عليه، ولترك اعتماده على أحزاب الأقلية في جانب وتوجه إلى الوفد والنحاس باشا فمد يده إليهما لينقذ فلسطين ولينقذ أرض الإسلام والعروبة.
شجاعته في اقتحام الحرب
وعلى كل حال فإن الملك فاروق على الرغم من كل شيء اقتحم حرب فلسطين غير هياب ولا وجل ، و دفع الوزارة (التي كانت مترددة في هذا الاقتحام) برئاسة النقراشي باشا إلى أن توافقه، وقد وصل به الأمر أنه هدد الوزارة أنها إذا لم تعلن الحرب كوزارة فسيعلنها هو نفسه كملك، و انعقد البرلمان بمجلسيه ، وسمح هذا الملك الشاب الذي ابتلي بكل أنواع الظلم في شخصه وسيرته وأسرته للجماعات الإيمانية المسلحة وفي مقدمتها “الإخوان المسلمون” أن تنضوي تحت راية الجيش المصري وأن تحارب تحت هذه الراية، بل إنه بعث بكل ما أمكنه من خبرات وموارد إلى “جيش الإنقاذ العربي” الذي تكون بدافع الإيمان والمسئولية بعيدًا عن أنياب البيروقراطية، ولم يلق عونًا من أحد من الملوك بقدر ما لقي من الملك فاروق.
المؤامرة الدولية
لم تكن معلومات الملك فاروق عن المؤامرة الدولية قد اكتملت ولا تبلورت ولم تكن هذه المعلومات (حتى لو وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من السفور الواضح في العداء ) كفيلة بأن تحول بينه وبين هذا القرار العظيم الذي حفظ لفلسطين قدرًا كبيرًا من أرضها في 1948 ولولا هذا التدخل العسكري لضاعت فلسطين كلها من النهر إلى البحر في مايو 1948، لكن التاريخ ، الذي كُتب فيما بعد 1948 ، صوّر حرب فلسطين من جانبها الإسرائيلي لا من جانبها العربي الذي حافظ على كثير جدا من أرض فلسطين وعلى وجود كيان فلسطين بقدر ما تمكن به الأداء العسكري المحكوم بالجهد المضطرب أو غير المتآزر لأقطاب السياسة العربية ، وما أمكن لهذا الجهد العسكري مهما كان شأنه من الحركة ومن الإنجاز أن يحفظ ما استطاع حفظه . نحن الآن نفهم أن إسرائيل لا تتوقف عن الاستيلاء على الأراضي بقرار أو اتفاق ، وإنما هي تنتهز كل فرصة وكل ثغرة للتوسع والامتداد وفرض للأمر الواقع بالسلاح ، وبالتآمر من بعد السلاح، ولولا أنها واجهت الجيوش العربية التي خاضت ضدها حرب 1948 ما توقفت عن الاستيلاء على كل أرض متاحة لها في ذلك اليوم من النيل إلى الفرات.
العلاقات مع الولايات المتحدة
على الرغم من مناطق الإبهام الشديدة التي لا تزال تنتظر الكشف عن الوثائق فإننا حين نتناول تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية نجد أنفسنا بحكم ما أصبح معلوما للكافة غير قادرين على أن ننظر إليها بمعزل عن هدفها الأول وهو خلق الكيان الصهيوني والتمكين له، ونحن نستطيع أن نرى بعض ملامح مهمة في علاقات مصر الخارجية من زاوية مقابلات الملك فاروق مع الأمريكيين الذين لا تخفي تعبيراتهم و سياساتهم الناطقة انهم كانوا قد وصلوا مبكراً إلى الاقتناع بأن الملك فاروق سيكون حجر عثرة في طريق تنفيذ مخططاتهم وبخاصة مخطط إقامة دولة إسرائيل ، وإحاطتها بالسياجات العازلة الكفيلة بحمايتها من الهجوم ، حتى يشتد أزرها ، وتصبح ذات قدرة على رد أي هجوم محتمل ضدها من الجبهات العربية المختلفة، وقد تبلور هذا الملمح من خلال لقاء الرئيس الأمريكي روزفلت بالملك فاروق وما تناثر من تعليقات وتلميحات وتسريبات بعد هذا اللقاء، وقد تأكد هذا المعنى للدارسين والباحثين بصورة قطعية من خلال الحوار المسجل [المتاح بكثرة الآن على وسائل التواصل الاجتماعي] حيث عقد الأمريكان بعد 1952 ما يشبه جلسة استماع للسفير المصري محمد كامل عبد الرحيم الذي كان حريصا على أن يؤكد للأمريكيين أن حكومة 23 يوليو معنية في الأساس بالتنمية، والمعنى واضح بما يسمى في المنطق نفي مفهوم المخالفة.
لقاء الملك بكيم روزفلت
كان الملك فاروق على وعي معقول ولا نقول كافٍ بأن المخابرات الأمريكية وأذرعها المختلفة تمتد بعلاقات مكثفة وواسعة إلى كثير من الشخصيات و الميادين والمجتمعات القاهرية، لكنه لم يكن معنيا بأن يتعقب نشاط هذه المخابرات بقدر من العناية الفائقة ، ذلك أنه هو نفسه كانسان كان على صلة جيدة بهؤلاء الذين تتصل بهم المخابرات الأمريكية أو بمعظم هؤلاء، وكان فيما يتصور يعرف آفاق تفكيرهم، كما أنه لم يكن عنده ما يُخفيه عن هذه المخابرات، فقد كان موقفه من الاستعمار القديم نفسه مُعلناً وواضحاً ، ولم يكن بينه وبين البريطانيين اتفاقيات سرية من أي نوع، وهكذا فإن علاقته بالأمريكيين مضت و كأنها في طريق سلس ومضت و كأنها قد خلت من التوجس ومن التربص بل بالعكس من هذا فإنه لم يجد مانعاً في أن يكون عنده شعور شخصي إيجابي تجاه شخصيات أمريكية من قبيل السفير كافري أو غيره من الدبلوماسيين أو العسكريين الأمريكيين الذين يترددون على القاهرة ، وقد يزورونه لسبب أو آخر، ومع أن مرتضى المراغي على سبيل المثال لا يتناول علاقته هو نفسه بالأمريكيين إلا في إطار محدود، فإنه يروي قصة لقاء كيم روزفلت بالملك فاروق وما دار بينهما من حوار، وهو يوجه نظرنا إلي أن الأمريكيين عنوا على سبيل المثال في المقام الاول بتوجيه النقد إلي فساد الأحزاب من دون أن يوجهوا أي نقد إلي فساد القصر نفسه، ويصل المراغي إلي أن يوحي بأن الأمريكيين كانوا قد أشاروا علي الملك بالفعل بتشكيل حكومة عسكرية، ويستشهد علي صحة هذا التنبؤ بخطاب الملك فاروق نفسه يوم حريق القاهرة، ومع هذا فإن المراغي ، من ناحية أخرى ، يؤكد على أن الأمريكيين كانوا قد يئسوا من “إصلاح” الملك فاروق أو “تشكيله” بطريقتهم، ولهذا السبب فإنهم تخلوا عنه!!.
حديث مرتضي المراغي عن علاقة القوي الخارجية بالضباط
تطلعنا مذكرات مرتضي المراغي باشا علي طيف واسع من التفصيلات المتعلقة بموقف القوي الخارجية من حكم الملك فاروق في نهاية عهده، وهو يلقي كثيرا من الأضواء السريعة علي نشاط المخابرات الأجنبية في مصر في أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، كما يشير إلي تورط أحد الضباط المصريين في حماية بعض هؤلاء المنتمين للمخابرات الأمريكية، ومن ناحية أخري تصل إيحاءات المراغي إلي القول بأن الإنجليز كانوا يعرفون الكثير عن حركة الضباط الأحرار وأسماء مقاتليهم في منطقة قناة السويس، ويوحي المراغي باشا بأن الإنجليز غضوا البصر عن هذه التحركات والأسماء، وأن الإنجليز أبلغوا رسالتهم أو اقتراحهم للضباط الشبان : قبل أن ترحلونا ألا يحسن بكم أن ترحلوا الملك فاروق؟ وهكذا فإن الإنجليز ـ وليس الأمريكيين فحسب علي نحو ما هو شائع ـ كانوا مشجعين لرجال القوات المسلحة للقيام بحركتهم ضد الملك
وفي ضوء هذا الفهم فقد قدم مرتضي المراغي باشا أكثر التصورات المبكرة تماسكا حول علاقة الملك فاروق بالضباط الشبان في الجيش فيما قبل 23 يوليو ، ومع أن تصويره لهذه العلاقة لا يجعلها تبدو نموذجية ولا مثالية ولا حميمة، فانه يقدمها على انها كانت علي الأقل علاقة دافئة ومفعمة بالثقة، وتبادل المصالح أو المنافع أو الأهواء، وربما خدع الضباط الملك وربما انخدع هو لهم، وربما وجدوه قابلا للانخداع لهم، ولكن النتيجة في كل الأحوال كانت مواتية لهؤلاء الضباط ـ ومن ثم لحركة الجيش ـ علي حساب الملك.
العلاقات مع بريطانيا وعلاقتهم به
وصلت العلاقة بين الملك والبريطانيين إلي مناطق رمادية مرة بعد أخري في الفترة الأخيرة من عهد الملكية، وتجيد الادبيات والمذكرات المنشورة عن هذه الفترة (بأكثر من لغة ) وصف وتوصيف طبيعة علاقة الملك بالإنجليز من منظورات مختلفة و يتفق في هذا من كانوا محل ثقة الإنجليز (مرة بعد أخري) ، ومن تولوا الوصف من منظور الحركة الوطنية والاحتكاك المباشر بالإنجليز أو من منظور رجل الدولة الذي ينفتح علي مندوبي دولة أخري تؤهل نفسها لوراثة الإنجليز أومن منظور من لم يكن ينفي علاقة تقليدية له أو لمؤسسته أو لعائلته بالسفارة البريطانية.
وعلى خلاف الصورة التي رسمتها أدبيات يوليو 1952 فإن الملك فاروق لم يكن يعول بأي درجة في أية جزئية على صداقة البريطانيين ، ولا على أي دعم منهم في أي مواقف تالية يتوقع أن يواجهها ، سواء في الجبهة الداخلية مع الشعب أو مع الوفد ، أو في أي نزاع مع دولة مجاورة حتى لو كانت هي الكيان الصهيوني، ومعنى هذا أن الملك لم يكن معنيا بتوظيف أي نوع من الصراع بين الحركة الوطنية، والإنجليز على نحو ما كان بعض اسلافه يفعلون، ولو أن أقطاب الحركة الوطنية المصرية في الأحزاب الصغيرة كانوا يجيدون التقاط الفرص لاستطاعوا أن يبنوا على معطيات هذه الحقيقة وجوداً أكبر لأحزابهم في مواجهة الوفد.
فرنسا الحرة و ديجول
على الرغم من توتر العلاقات بين الملك فاروق وبين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في اثناء الحرب العالمية الثانية فقد كانت القاهرة مركزا من المراكز المهمة لحكومة فرنسا الحرة بقيادة الرئيس الفرنسي ديجول 1890-1970 لكن الجمهورية الفرنسية نفسها (سواء في ذلك بقايا الجمهورية الرابعة ثم الجمهورية الخامسة ) أصبحت (في عهد الرئيس عبد الناصر ) حريصة على عدم الامتنان لهذا الماضي، وعلى التجاهل المتعمد المتذاكي لحقيقة استضافة القاهرة للزعيم الفرنسي ديجول، و لم يكن هذا رد فعل لدعم ثورة الجزائر كما هو شائع و مقبول، وإنما في ضوء ما كان يجلبه هذا الامتنان الفرنسي من قلق إسرائيلي بل ومن قلق عربي “دفين ” ، و من المؤسف أن هذا السلوك تجدد بكثافة بعد الخضوع الفرنسي التام للإغراء المادي العربي بدعم الانقلاب العسكري المصري، وذلك على الرغم من أن بعض المفكرين المصريين (ومعهم بعض الفرنسيين من ذوي النوايا الحسنة) كانوا يظنون أن باريس ستقف مع الشعب المصري في مواجهة الانقلاب على نحو ما وقفت مصر مع ديجول في وجه استسلام الجنرال بيتان.
حرصه على العلاقة بالملكين السعودي و الأردني
ظل الملك فاروق حريصا على استمالة الملكين عبد العزيز آل سعود وعبد الله بن الحسين (على الرغم من اختلاف منظوريهما) من أجل قضية فلسطين بينما كان موقف النحاس باشا من قضية فلسطين اكثر صراحة و وضوحا إلي الحد الذي جعله يستنكر علنا علي إبراهيم فرج باشا [كوزير للخارجية بالنيابة] دعوته سفير شرق الأردن إلي حفل أقيم بمناسبة اجتماع الجامعة العربية الذي دعا إليه النحاس باشا نفسه من أجل طرد شرق الأردن من الجامعة عقابا علي قرار ملك شرق الأردن بضم الضفة الغربية إلي بلاده، ومع ان الاتصال المصري مع السعوديين كان أقل تكثيفا من الاتصال مع الشام والعراق فإنه كان هو أكثر اتصال للسعوديين بالعالم الخارجي بعيدا عن جزيرة العرب ، ولا ننسي أن سفارة السعودية في القاهرة كانت بمثابة الجزء الفاعل من وزارة الخارجية السعودية بعد أن كانت هي نفسها هي الخارجية السعودية نفسها ، أي أن السعودية كانت توالي كل اتصالها بالعالم من خلال سفارتها في القاهرة، لكن سرعة توثق العلاقات الأمريكية السعودية على يد الملك عبد العزيز وتنامي هذه العلاقة طيلة الفترة المناظرة لعهد الملك فاروق جعلت الولايات المتحدة الأمريكية هي المحور الأول في السياسة الخارجية السعودية وليس لندن أو القاهرة على نحو ما كان الأمر من قبل.
علاقاته مع الشام و قصة الوحدة المبكرة مع سوريا
كانت الاتصالات المصرية (الصباحية والمسائية) بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين و الأردنيين و العراقيين لا تنقطع في يوم من الأيام ، و على عكس ما نتوقع الآن فقد كان الحوار في كل قضايا هذه البلاد متواصلا في القاهرة كما هو متصل بها ، و قد كان هذا أمراً أكثر من طبيعي حيث كان هؤلاء يترددون على القاهرة و يقيمون فيها على نحو ما يترددون على دوائرهم الانتخابية، وذلك على الرغم مما عرف عن توتر العلاقات ذات مرة بين الملك وبين الرئيس اللبناني الشيخ بشارة الخوري.
كان الملك فاروق على استعداد للدخول في أي محور طبيعي من قبيل الوحدة المصرية السورية التي تمت في عشر ساعات بينه وبين حسني الزعيم الذي جاء إلى القاهرة وأعلن قبوله برئاسة الملك فاروق لدولة الوحدة على أن يكون هو نائب الرئيس. وقد تعرضنا لكثير من هذه التفصيلات في كتابينا “سوريا ولبنان قبل الناصرية والنصيرية “، و “على أسوار جزيرة العرب” .
ونحن نستطيع أن نفهم ما دار في اجتماع القمة الثنائي بين الملك فاروق و حسني الزعيم من حديث طويل حول الأوضاع القائمة في سوريا خاصة وفي الشرق الأوسط عامة، وشرح حسني الزعيم المشروعات المعروضة عليه تحقيقا لفكرة الهلال الخصيب، وإقامة سوريا الكبري، و لذلك انتهت الجلسة إلي الموافقة علي المناداة بالملك فاروق ملكا علي سوريا و أن يكون حسني الزعيم نائبا للملك في دمشق» واختيار عبد العزيز بدر بك محافظ القنال، وزيرا مفوضا لمصر في دمشق، ومحسن البرازي وزيرا مفوضا لسوريا في القاهرة! و قد صدر بلاغ من ديوان الملك فاروق جاء فيه: “…. في الساعة الثامنة من صباح اليوم، وصلت إلي مطار ألماظة طائرة خاصة تقل دولة الزعيم حسني الزعيم رئيس الجمهورية السورية، يصحبه الأستاذ نذير فنصة سكرتير دولته الخاص، وكان في استقبال دولته صاحب العزة كريم ثابت بك المستشار الصحفي لديوان جلالة الملك، ثم استقل دولته طائرة ملكية إلي مطار أنشاص، وعند وصول دولته حظي بمقابلة جلالة الملك ولبث في الحضرة الملكية وقتا طويلا، وبعد تناول الغداء علي المائدة الملكية عاد دولته في سلامة الله إلي دمشق مودعا بمثل ما قوبل به من الحفاوة والإكرام”. كانت النتيجة المتوقعة أن صرح الرئيس حسني الزعيم لمندوب الأهرام في دمشق بأنه صرف النظر عن مشروع سوريا الكبري، وأنه يرفض سياسة التكتل لكن حسني الزعيم نفسه سرعان ما فقد رأسه .
تحليل حسن يوسف المحدود للتجربة الوحدوية
من المفيد في حديثنا عن الملك فاروق و تجربته السياسية العربية أن نتأمل في الطبيعة الجامدة التي حفل بها حديث رجل دولة من طبقة حسن يوسف باشا عن الوحدة السورية المصرية المبكرة ، وهو في ظننا ما لا يختلف عن تحليل أي من نظرائه من رجال الدولة في ذلك الوقت ، ونحن نراه وقد حلل الحدث من منطق خبرته الدبلوماسية و القانونية حين كتب مذكراته فقال : ” كان بطلا هذه المغامرة هما نذير فنصة وكريم ثابت، وهي مغامرة تتنافي مع النظام الأساسي لجامعة الدول العربية الذي نص علي استقلال كل دولة من الدول الموقعة علي الميثاق وضمان حدودها الحالية، وفيما يتعلق بمصر فإن مثل هذا الإجراء هو من صميم اختصاص مجلس الوزراء المهيمن بحكم الدستور علي شئون الدولة، فضلا عن أن دستورنا يقضي بألا يجوز للملك أن يتولي مع ملك مصر، أمور دولة أخري بغير رضا البرلمان». هكذا كان حسن يوسف بعقليته القانونية يفهم الأمور علي نحو دقيق وملم بجوانبها وانعكاساتها، ومن الطريف أنه لم يكن من حقه ، فيما يبدو ،أن يعلن عن مثل هذا الفهم في ظل الحماس الذي دفع حسني الزعيم إلي القدوم إلي مصر والوصول إلي صيغة تبدو أكثر توازناً من الصيغة التي تمت بها الوحدة المصرية السورية في 1958!! ولعلنا نعجب من نصوص حسن يوسف ثم نتدارك العجب بأن نذكر أن مثل هذه العقليات القانونية لم تذكر أيا من هذه التحفظات في 1958 بسبب غياب الدستور ، وتغييب روح ونصوص النظام الأساسي لجامعة الدول العربية.
علاقاته المتميزة مع العراق
يمكن لنا على وجه العموم أن نرصد أن أهم المداولات العربية الحية في عهد الملك فاروق كانت هي تلك التي تجرى مع العراق من خلال رغبة نوري السعيد باشا المتجددة في أن يكون له بعض الندية مع النحاس باشا بزعامته الكبرى ، وكان الساسة العراقيون الآخرون يسيرون على هذا الخط أيضا ، و كانت القنوات عديدة أهمها ما كان يمر من خلال السفير العراقي النشط في القاهرة وما يمر من وفود العائلة المالكة و أصهارها وقنوات الثقافة و التعليم والصحافة و الفكر .
تقدير ملك اليمن له
نجد أنفسنا مبهوري الأنفاس ونحن نطالع الصورة البديعة التي حظيت بتسجيل سكرتير الملك حسين حسني باشا مصورا لقائه بملك اليمن موفدا من الملك فاروق برسالة، فإذا بالملك لا يفض الرسالة إلا بعد أن يقف ويضع الرسالة فوق رأسه: “…. نهض واقفا ماداً يده ثم أخذها ووضعها علي رأسه وأعادها إلي طالبا مني قراءتها عليه، ثم أخذ يردد الشكر والثناء وعبارات الترحيب ووعد بالبحث عن الكتاب المطلوب مطنباً في اهتمام مصر بإحياء التراث العربي…”.