بدأ عهد الملك فاروق بداية طيبة، وكان الوفد قد عاد إلي الحكم بمقتضي الانتخابات التي تقررت في نهاية عهد الملك فؤاد والتي استكملت بعد وفاة الملك فؤاد (1936)، وفي ظل حكم هيئة الوصاية علي الملك الشاب فاروق، وتولي فاروق سلطاته الدستورية (أغسطس 1937) في عهد الوفد.
هل كانت عقدة الملك فاروق هي زعامة النحاس باشا
كان التحدي الأكبر (أو المشكل الأكبر) في حياة الملك فاروق هو وجود الزعامة الوطنية الضخمة المتمثلة في مصطفى النحاس باشا الذي كان يكبر الملك في السن بواحد وأربعين عامًا، فلم يكن بمثابة أب فحسب، بل كان أكبر من اب ، ذلك أن الملك فؤاد نفسه رزق بالملك فاروق وهو في الثانية والخمسين من العمر، وهكذا عاش الملك فاروق ( من حيث البنوة ) سنًّا أكبر من سنه كملك منذ نعومة أظافره وعاش أيضا سنا أكبر من سنه وهو يتأمل تاريخ والده، ومن اعتبرهم اكبر مناوئيه.
لم يكن النحاس باشا قد رزق بأولاد ، ومن ثم فإنه كان بحكم الطبيعة البشرية غير قادر على تفهم كثير من تصرفات الملك فاروق التي يمكن وصفها بأنها طائشة ، كما أنه بحكم شخصيته و زعامته وابائه كان غير قادر على مداهنة الملك أو مسايرته، ومن باب أولى فإنه لم يكن قادرًا على نفاقه ، وقد أدى هذا إلى أنه أصبح (دون أن يعيبه هذا) غير قادر على تطويع الملك تماما، كما أن الملك نفسه (من غير شرح) لم يكن ليقدر على تطويع أو إقناع الزعيم الوطني المتمتع بثقة الجماهير.
لم يستفد من احتذاء نموذج الملكية في بريطانيا
ولو أننا تصورنا أن الملك فاروق اقتدى بالملك البريطاني وأبعد نفسه عن الصراع الحزبي لكان قد ضرب مثلاً رائعاً يحفظ له عرشه ، و يحتذيه فيه أبناؤه من بعده ، ويحتذيه من يناظرونه في البلاد الشرقية، وقد كان قادراً على أن يفعل هذا لكن بطانة السوء من زعماء الأقليات كانت السبب في النكسة المبكرة والمزمنة التي أصابته وجعلته بعيداً عن مسلك قويم كان كفيلاً بأن يرفع اسمه في حياته وبعد مماته وأن يجعل من المملكة التي تولى أمرها نموذجاً يُحتذى في الالتزام بالانتخابات وتبادل السلطة واحترام القانون والعمل من أجل الشعب وبذل الجهود الصادقة في التنمية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي ، ولم يكن هذا كله صعباً ولا مستحيلا على الملك فاروق ، ولا على الساسة الذين وجدوا في ذلك العهد وهم ينظرون إلى زعامة الوفد المنعقدة عن حق للنحاس باشا، لكنهم بدلا من أن يقروا باختيار الشعب فضلوا أن يكرروا مقولة أسلافهم : أنى يكون له الملك علينا ؟
تغذية الملك بفكرة الامتلاك
كانت نفسية الملك فاروق الأمارة بالسوء كثيرًا ما تحدثه بما يردده رجال الحاشية في كل عصر من التشكيك في فكرة شرعية هذا الزعيم الذي هو واحد من الشعب ولم يرث البلد عن آبائه وأجداده مثله هو ، وهو الملك سليل الملوك ، وكان هناك من القيادات السياسية والإدارية والتقليدية من يغذون عنده هذا الشعور الآثم في حق الشعب و الديموقراطية كل صباح وكل مساء ، و نحن لا نزعم مهارة ولا موهبة في أن نصف مثل هذا الصراع التقليدي الذي يكاد القراء يتصورونه أفضل منا، لكننا نحب أن نقول أيضا إن الملك فاروق رغم كل شيء كان كثيرًا ما يظهر امتنانه للنحاس باشا ويحاول أن يصلح من شأن سلوكه معه، حدث هذا بالطبع في بداية عهده وحدث في 1936 و1937 وحدث في 1941 في 1942 بالطبع حين أنقذ له العرش ، وحدث في 1949 واستجاب النحاس، لكن هذا حدث في 1939، وفي 1940 و في 1946 ولم يستجب النحاس.
وعلى سبيل المثال فانه فيما قبل 4 فبراير 1942 ظهر التقارب في دعوة للنحاس باشا إلي الاحتفال الرسمي الذي افتتح فيه الملك كوبري سمنود في 2 مايو 1941 وذلك لأن سمنود هي بلد النحاس باشا، وبعد شهور قليلة ألقي النحاس باشا خطبة بالإسكندرية يوم 14 أغسطس، ذكر فيها أن الحكومة تزمع بيع القطن المصري للإنجليز بثمن بخس، وأن الإنجليز لا يساعدون في إمداد مصر بالسماد اللازم للزراعة، وقد عبر الملك وقتها عن سروره العميق بهذا الهجوم الوفدي علي الإنجليز، فقد كان الملك يسعد باي هجوم من الشعب وزعامته الحقيقية على الانجليز.
الملك هو من خسر
وفي نهاية الأمر ، فإن الملك خسر كثيرًا بموقفه من النحاس ، وإن كانت تجربة الوجدان المصري قد كسبت من هذا الصراع العلني كثيرًا من النضج الذي نفعها بعد هذا في 2011 وفي 2013 كما نفعها في 1973.
وليس من السهل على القائلين بالمادية التاريخية ، أن يوافقوا تمامًا على هذا الذي نقول، وليس من السهل عليهم أن يؤمنوا بصوابه ولا منطقه، بيد أن الضمير الجمعي للشعوب يفهم المعنى بوضوح لأنه يحمل من تراكم الخبرات ما يعجز العقل البشري عن تصور أثره على نحو كامل.
الانقلاب الأول في عهده : سبع وزارات ائتلافية
يمتد الانقلاب الفاروقي الأول ما بين 30 ديسمبر 1937 و 4 فبراير 1942 وقد تشكلت فيه 7 وزارات انتهت خامستها بوفاة رئيسها ، واعتمد هذا الائتلاف أولا على الدستوريين باستثناء عدم اشتراكهم في الوزارة الرابعة بسبب إقالة رئيسهم ، و على الهيئة السعدية باستثناء خروجهم في أثناء الوزارة الرابعة ( وهو ما استمر طيلة الوزارة الخامسة التي هي وزارة سري باشا الأولى) بسبب عدم الموافقة لهم على اقتراحهم بدخول الحرب .
محمد محمود باشا يشكل 3 وزارات متعاقبة
لم يلبث الملك الشاب (حديث العهد بالحكم وحديث السن وحديث الخبرة بالسياسة) في حجر الشرعية إلا إلى اليوم قبل الأخير من عام 1937 حيث انقلب علي الوفد وكلف محمد محمود باشا زعيم حزب الأحرار الدستوريين بتشكيل ما سماه وزارة قومية كبيرة ضمت كل الشخصيات الكبيرة الممثلة لكل حزب ما عدا الوفد، وأجرت هذه الوزارة انتخابات (كانت بمثابة أول انتخابات مزورة ) مكنتها من أن تحصل لحزبي الأحرار الدستوريين والسعديين معا علي أغلبية في البرلمان.
مواصلة الانقلاب بثلاثة رؤساء من الأقلية
ومع هذا فإن الملك ورجال القصر ضجروا من حكم محمد محمود وحلفائه، واضطر محمد محمود باشا إلي الاستقالة في 1939 ليخلفه رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت علي ماهر باشا ، الذي شكل رابع وزارت الانقلاب الأول ، و قد تواكب هذا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
مصر في الحرب العالمية الثانية
وقعت الحرب العالمية الثانية بكل فظائعها ما بين 1939 و 1945 ، وقد شهد الملك فاروق من موقع الملك أو من قصور الملكية نذر الحرب ومقدماتها ، كما شهد اندلاعها وبدايتها و لهثت أنفاسه وهو يتابع ذروتها وتطورها ثم شهد نهايتها ووضعها لأوزارها ، وكان له رأيه الشخصي في هذه الحرب، فكان هذا الرأي أقرب أن يكون ضد السلطة البريطانية التي كانت حاكمة لمقدرات الأمور في بلاده ، والتي استبقت بعض حاكميتها السابقة بقوة السلاح وبفرضية ما تبقى من الاحتلال مع استكمال ما بقي من خطوات الاستقلال الذي بدأ في 1922 و تدعم بموجب معاهدة 1936 السابقة على توليه العرش.
وهكذا فإن الملك فاروق منذ بداية الحرب وحتى نهايتها لم يفرط في أي فرصة للتعبير عن هذا التوجه القلبي أو العقلي البارز في الميل للألمان والمحور ومحاولة الخلاص من البريطانيين مهما كانت يدهم ثقيلة.
وكانت الفكرة الغالبة عن علي ماهر باشا بطبعه واتصالاته أنه محوري الهوي، أي مع ألمانيا وإيطاليا وضد الحلفاء ومنهم بريطانيا، وهكذا كان لابد أن يترك الحكم، وهو ما حدث بالفعل ، وخلفه حسن صبري باشا في يونيو 1940 فشكل خامس وزارات الانقلاب الفاروقي الأول ، وكان علي علاقة متميزة بالبريطانيين وبالسفير البريطاني، ولم يلبث حسن صبري نفسه أن توفي وهو يلقي خطاب العرش في البرلمان (نوفمبر 1940)، فخلفه صديق آخر للبريطانيين هو حسين سري باشا الذي انتهى عهد وزارتيه المتتاليتين (سادس وسابع وزارات الانقلاب الفاروقي الأول) بحادث 4 فبراير 1942.
ما قبل 4 فبراير
تحفل الكتب و المذكرات المنشورة بروايات عديدة و متناقضة عن المواقف التي ارتبطت بأصحابها وارتبطوا بها في سياق حادث 4 فبراير و ما سبقه وما تبعه بدءا من موقف وزارة حسين سري من قطع العلاقات مع حكومة فيشي وكيف قاد هذا الموقف إلي حادث 4 فبراير 1942 الذي طلب فيه الإنجليز تشكيل وزارة يرأسها النحاس باشا زعيم الأغلبية وهو ما يعني عودة الوفد للحكم ، ذلك أنه في مطلع 1942 وفي أثناء غياب الملك عن القاهرة في رحلة داخلية استجاب رئيس الوزراء (حسين سرى باشا ) ووزير الخارجية (صليب سامى باشا ) لطلب البريطانيين الخاص باتخاذ قرار بقطع مصر لعلاقتها مع حكومة فيشي، وهي حكومة فرنسية موالية للمحور وعلي خلاف بالطبع مع حكومة فرنسا الحرة في المنفي التي شكلها الجنرال ديجول بدعم من بريطانيا ، و قد روي أن الملك فاروق خلق أزمة شديدة مع حسين سري باشا رئيس الوزراء وصليب سامي باشا ووزير الخارجية بسبب اتخاذهم قرار قطع العلاقات في غيابه ومن دون أن يكون قد وافق على هذا .. وهكذا سوغ البريطانيون لأنفسهم أن يجبروا الملك لا علي إبقاء حسين سري وصليب سامي فحسب بعدما كان من استجابتهما لطلب بريطانيا ، وإنما علي إعادة الوفد إلي الحكم كي يطمئنوا إلي سلامة ظهورهم من مغامرات الملك وميوله المحورية.
جوهر الإشكالية في حادث 4 فبراير 1942
كان حادث 4 فبراير 1942 ولا يزال بمثابة نقطة مفصلية يتكئ عليها العسكريون في تبرير تخطيطهم لحركة 23 يوليو 1952 من منطق وطني، ذلك أنهم على حد وصف الأدبيات التي نقلت وروّجت أقوالهم اكتشفوا في ذلك اليوم أن قرار مصر ليس بيدها، وأن في وسع البريطانيين أن يغيروا حاكم مصر بالقوة العسكرية، ومن تم فالأولى بهم هم أنفسهم أن يغيروه بالطريقة نفسها.
ومع أن الوثائق المختلفة التي تكشفت بعد مرور الزمن قد أبانت عن أن عداء الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات للنحاس باشا و للحركة الوطنية ولحزب الأغلبية لم يكن وليد 4 فبراير 1942 وإنما كان قبلها بسنوات ومنذ أن كانوا طلبة في التعليم الثانوي وقبل أن يدخلا المدرسة (الكلية ) الحربية، وقد نشر الأستاذ محمد الصباغ عدداً من الوثائق الرسمية الدالة بكل وضوح على هذا المعنى فإن المؤرخين الذين ارتبطوا بما أتيح لهم في الستينيات لا يزالون ( وسيظلون) يتحدثون عن أثر حادث 4 فبراير في خلق و تأجيج وطنية جمال عبد الناصر والسادات ضد النحاس باشا و الحركة الوطنية والبريطانيين على حد سواء، مما دفعهم إلى القيام بحركتهم في 1952.
الموقف المبكر للرئيس محمد نجيب
على أن الناقد الأدبي الذي يعنى بتتبع تاريخ الفكرة بجدية و دأب يستطيع بشيء من القراءة أن يدرك حقيقة طريفة وهي أن الضابط المصري الوحيد الذي اعترض على حادث 4 فبراير 1942 اعتراضا قويا ذا دلالة لم يكن جمال عبد الناصر ولا أنور السادات ولا أحداً من الضباط الشبان الذين نالوا الحظ معهم وإنما كان هو الرئيس محمد نجيب نفسه الذي بلغ به الحد أن قدم استقالته من العسكرية التي لم تمكنه على حد تعبيره من حماية ملكه في تلك اللحظة.
الجاذبية الكاذبة في عبارة أحمد ماهر باشا
ومن زاوية أخرى فإن عبارة أحمد ماهر باشا التي وجهها للنحاس باشا في ذلك اليوم بعد أن تحطمت آماله هو وزعماء الأقلية في مشاركة النحاس في الحكم ظلت بمثابة أيقونة للتعبير عن هذا الإحباط الشديد الذي تبلور في هذه العبارة التي يقول فيها أحمد ماهر للنحاس باشا “إنك تأتي لرئاسة الوزارة على حراب الإنجليز”، وكأن النحاس باشا ليس هو زعيم الأغلبية ، وليس هو زعيم الأمة ، وليس هو رئيس الوزراء الشرعي الذي شارك احمد ماهر نفسه في التآمر عليه والانقلاب عليه وعلى شرعيته كي يحل محلّه في 1937 فلم تسعفه الظروف بهذا إلا في أكتوبر 1944 وقبيل أن يتوفى بأقل من خمسة شهور ، ومن العجيب أن وفاة احمد ماهر نفسه جاءت بسبب اندفاعه الشديد إلى ما لم يندفع إليه النحاس باشا في موالاة الإنجليز، فقد أعلن أحمد ماهر الحرب مع الانجليز والحلفاء على المحور بينما رفض مصطفى النحاس [ وهو الذي جاء على حراب الإنجليز على حد تعبير أحمد ماهر] أن يعلنها!.
كشف هذا الحادث وما تبعه عن انتهازية أحزاب الأقلية وزعماء أحزاب الأقلية وتطلعهم المتكرر والملح إلى المشاركة في الحكم مهما كان الأمر ، وهو أمر لا ننتقدهم فيه، فهم أحرار في صورتهم ، كما أنهم أحرار في تصرفاتهم ، لكننا ننتقدهم في تصويرهم الذي يقلب الحقائق على نحو ما قال أحمد ماهر في عبارته ، وهو الذي يعلم أن حزبه خرج من وزارة حسن صبري باشا بسبب رفض رئيس الوزراء الموافقة على ما كان يقترحه السعديون من إعلان الحرب على المحور التزاما بمعاهدة 1936 على نحو ما كان يفهمها هو وحزبه باندفاعهم أو تحمسهم.
وفي جميع الأحوال فقد كانت للوفد وجهات نظره المنطقية جداً في قبول الحكم في 4 فبراير ، وكان هذا تعبيرا ذكيا عن النضج الذي كفل النجاة من قصر النظر، لأن البديل وهو تولية الأمير محمد علي توفيق 1875 ـ 1955 كان يمثل او يفرض وضعا صعبا جداً على الوطن وعلى الحركة الوطنية.
ومن ناحية أخرى فمن الذي كان يضمن لأحمد ماهر وزملائه إذا عُزل الملك فاروق ووسد الأمر إلى الأمير محمد علي توفيق ألا يكون النحاس باشا هو من سيُشكل هذه الوزارة؟
بالطيع فإن قراءة التاريخ من زاويته الدولية أو العالمية بعيداً عن مشاعر الأحزاب المصرية ينبئنا أن الحلفاء لم يكونوا على استعداد لأن يتعاملوا في مصر مع رئيس وزراء غير ذي صفة شعبية حقيقية فضلا عن أنه ضعيف المواقف قليل الحيلة وهذا هو طراز حسين سري باشا 1891- 1960 الذي واجهه عبد الرحمن عزام باشا بأنه خادم للإنجليز وليس صديقا لهم ، وذلك على نحو ما رواه إبراهيم عبد الهادي باشا ، ومن الإنصاف أن نقول إن الحكمة الحقيقية في 4 فبراير تنعقد لثلاثة أولهم هو الملك فاروق الذي لم يركب رأسه وانما انصاع لنصيحة رئيس ديوانه أحمد حسنين باشا ، وثانيهم هو أحمد حسنين باشا الذي أجاد استخدام اللّفظ المعبّر عن حل للمشكلة حين قال للمندوب السامي البريطاني المدجج بالسلاح إنه يطلب فرصة أخرى، وثالثهم هو كل معارض تفهم الامر و لم يزايد على مصلحة الوطن وعلى مصلحة الشعب في مثل هذا الظرف الذي قادت إليه الأحداث التي صنعها معارضو الوفد أو الذين كانوا يتمنون له الخطأ أو التشويه.
محصلة 4 فبراير
هكذا كان الأمر قد وصل بالملك فاروق إلى أنه كاد يفقد عرشه في 4 فبراير 1942 لولا أن القوة الوطنية الكبرى وهي الوفد اختارت الطريق الصائب ولم تجعل ضجرها منه ومن قصور فهمه سببا او مبررا يدفعها إلى أن توقع وطنها في قبضة من هو أسوأ منه حالًا ومآلًا وهو الأمير محمد علي توفيق والذي ظل وليًا للعهد متربصًا بالموقع قادرًا على شغله بكثير من الترهات التي تلقى القبول الشعبوي والبريطاني على حد سواء، بيد أن الأمر كان أمر حرب لا يمكن معها لشخصية مثل شخصيته أن تحفظ نسيجًا ، ولا أن تحافظ على جبهة من جبهات القتال الشرس الذي تتقاتل فيها بريطانيا مع دول المحور بقيادة الألمان و زعامة هتلر بقوته المتنامية وضرباته المتلاحقة.
أثر 4 فبراير في نفسية الملك فاروق
من الإنصاف أن نذكر أولا أن الحديث المبالغ فيه عن أثر 4 فبراير في نفسية الملك فاروق قد أخذ أكثر من حجمه بكثير، ونحن لا ننكر أن الحادث كان مؤلماً وربما كان مؤلما جدا ، لكن الإحساس بالألم (أي ألم) يتناقص مع إدراك المتألم أن أسبابه كانت منطقية ، ومن حسن الحظ أن الملك فاروق نفسه كان قد بدأ يدركها حينما استقبل صليب سامي وزير الخارجية الذي فتّح عينيه على كثير من الحقائق وشرحها له بطريقة المستشارين القانونيين الأمناء، ونحن نثق برواية صليب سامي لأنه على وجه الإجمال صادق وأمين ، ولأن العناصر التي تضمنتها روايته لم تكن تجلب له أية مكاسب بل على العكس كانت تجلب له المتاعب، ولا يجرؤ أحد من سياسيينا حتى يومنا هذا على أن يصارح الرجل الأول في الدولة بمثلها الا اذا كان من طراز صليب سامي ، فما بالك إذا كان هذا الوزير قبطيا ثريا من الذين يحلو لليساريين قبل الإسلاميين أن يصنفوهم و يكرروا تصنيفهم على أنهم فرنسيو الهوى بالفطرة !.
وعلى كل الأحوال فقد أوفينا هذا الموضوع حقه من الدراسة في كتابنا “على مشارف الثورة ، لكننا ونحن نعيش اليوم بعد الحادث بما يقترب من ثمانين عاما نحب أن نذكر مفارقتين طريفتين : أولاهما هي أن الملك انتقد حسين سري وصليب سامي فيما اعتبره مجاملة للبريطانيين فإذا بالبريطانيين بمنطقهم يقولون له بكل وضوح إنهم يملكون أن يأمروه بما هو أكثر مما يعتقد أنه مجاملة، و المفارقة الثانية تهم الوطنية الفرنسية حيث نذّكر بكل وضوح أن مصر بالرأيين المختلفين فيها كانت مخلصة لفرنسا ، و كانت مع إنقاذ فرنسا نفسها من نفسها ، ومن حكومتها العميلة، ولعل فرنسا ترد الجميل لمصر في قابل الأيام بعد التورط القاسي الذي أوقعت الجمهورية الفرنسية نفسها فيه في عصر الثورة المضادة .
كيف بدأ الحديث عما حدث في 4 فبراير
ظل حادث 4 فبراير شبه مجهول أو شبه سري لفترة ليست بالقصيرة ، وذلك في ظل ابتهاج الشعب بعودة الوفد الى الحكم او عودة الحكم نفسه للشعب ، و في رأينا أن أفضل من لخص تعاقب الحديث عن 4 فبراير كان هو حسن يوسف باشا حيث قال :
” وبعد ثلاثة أعوام (يقصد ما يقرب من أربعة ) من وقوع الحادث الذي لم يكن يعلم عنه إلا مَنْ اتصلوا به، وهؤلاء كادوا يتناسونه بحكم حاجات الحياة، وبعد ثلاثة عشر (يقصد 11) شهرا من إقالة الوزارة الوفدية، خطب النحاس باشا في مناسبة عيد الجهاد الوطني 13 نوفمبر 1945 فأورد إشارة عابرة إلي أن خصوم الوفد هم المسئولون أولا وأخيرا عن 4 فبراير، لأنهم زيفوا إرادة الأمة في انتخابات سنة 1938، وأفسدوا الحياة النيابية، وكانوا سببا في اختلال الأمن واضطراب الأحوال المالية “
” كان خطاب النحاس باشا إيذانا بفتح باب المناقشة، فبادر محمود حسن باشا كبير المستشارين الملكيين إلي نشر محاضر الجلستين اللتين عقدتا في قصر عابدين يوم 4 فبراير 1942، وكان محمود حسن باشا حاضرا بوصفه نائبا لرئيس لجنة قضايا الحكومة، وفجرت جريدة الكتلة نقاشا عنيفا حول موقف النحاس باشا، وذهب مكرم عبيد باشا الذي كان قد انفصل عن الوفد، إلي القول بأن النحاس كان علي علم بنوايا الإنجليز في تقديم الإنذار ومحاصرة قصر الملك ومشتركا معهم!.
نتوقف هنا لنشير إلي أن الأستاذ فكري مكرم عبيد شقيق مكرم عبيد قد أشار إشارات واضحة وصريحة في عدد من مقالات ذكرياته التي نشرها في الأهرام (وأشرنا إليها في كتبنا السابقة) إلي أن النحاس باشا لم يكن علي علم بنوايا الإنجليز، ولا مشتركاً معهم في التخطيط لما حدث ، وقد أفاض الأستاذ فكري في رواية ما شهده هو نفسه من أحداث الأيام السابقة علي هذا الحادث بما لا يخلق مجالا للشك في إمكان حدوث الادعاءات التي جاهر بها مكرم عبيد باشا في ذلك الوقت بدافع الخصومة الحزبية فحسب.
أحمد حسنين والثأر من حادث 4 فبراير
وقد أورد حسن يوسف باشا من واقع عمله في الديوان ذكرياته و انطباعاته عن تصرفات و روايات أحمد حسنين فيما يتعلق بحادث 4 فبراير، وما كان يصرح به للبريطانيين :” ….. وكان حسنين يذكر 4 فبراير بالأسي والأسف، ولم يدع فرصة لقائه بأحد من أعضاء مجلس العموم أو من الإنجليز ذوي الحيثية عند زيارتهم لمصر إلا اجتمع معه وحدثه عن الأثر السيء الذي خلفه الحادث في نفوس المصريين، وأفهمه أن السفير تجاوز حدوده، وأخذ حسنين يتلمس المآخذ علي وزارة النحاس باشا ويبلغها للمسئولين في لندن عن طريق سفيرنا في لندن عبد الفتاح عمرو باشا، ويتهم انجلترا بأنها تتستر وراء وزارة الوفد في الحصول علي مآربها من مصر، وأنها تتغاضي عن الفساد والفوضى. وقد آلي حسنين علي نفسه أن يعمل علي إخراج الوفد من الحكم، وقد سعي في هذا الاتجاه في أبريل 1943 ثم في أبريل 1944 ونجح في مسعاه في أكتوبر من نفس السنة”.
انقلاب الملك فاروق الثاني في 1944 (ست وزارات)
استمر الوفد في الحكم منذ فبراير 1942 و حتي وضعت الحرب العالمية أوزارها فتمكن الملك فاروق من تحقيق حلمه الكبير بالنسبة له [و الصغير بالنسبة للتاريخ] فأقال الوزارة الوفدية في أكتوبر 1944، و جاء بائتلاف جديد استمر في الحكم قرابة خمس سنوات من أكتوبر 1944 وحتي فبراير 1946 ثم من ديسمبر 1946 وحتي يوليو 1949، وفي الفترة التي توسطت حكم هذا الائتلاف تشكلت وزارة ائتلافية أيضا ضمت عناصر من هذا الائتلاف ولكن برئاسة إسماعيل صدقي باشا السياسي الداهية 1875- 1950 .
تشكل ائتلاف النصف الثاني من الأربعينيات من السعديين بصفة أساسية ( وإن كانوا قد تركوا الوزارة منذ بداية عهد وزارة صدقي في فبراير 1946 وحتى عودتهم اليها في سبتمبر 1946) والأحرار الدستوريين بصفة أساسية ومتصلة ، ومعهم حزبان صغيران أو رمزيان ، الأول هو حزب الكتلة (من البداية وحتى نهاية وزارة النقراشي الأولى حيث خرج ممثلوه بلا عودة ) ولم يكن نصيب حزب الكتلة الا سدادا لفاتورة جهود مكرم عبيد في انشقاقه الزاعق عن الوفد ، والثاني هو الحزب الوطني الذي كان قد تعود أن يشترك في الوزارات الائتلافية لاستكمال صورتها ، وقد انتهى عهد الحزب الوطني بهذا الائتلاف باستقالة محمد حافظ رمضان باشا من قبل استقالة مكرم عبيد و من دون أن يظهر في خروج الحزبين أن نقضا ذا قيمة حدث لصورة الائتلاف، وإن كان الحزب الوطني نفسه قد عاد .
وقد قاد هذا الائتلاف ثلاثة من زعماء الحزب السعدي علي التعاقب، ومن دون حسبان للمفاجأة التي تكررت بقتل اثنين متعاقبين منهم ، وقد وقعت هذه المفاجأة باغتيال الزعيمين الأولين أحمد ماهر في فبراير 1945 بعد أقل من خمسة شهور في رئاسة الوزارة، وكان اغتياله في البرلمان بينما هو ينتقل من أحد المجلسين إلي المجلس الآخر ليؤكد الموافقة علي قرار إعلان الحرب علي المحور حتي تفيد مصر من دخول هيئة الأمم علي نحو ما اشترط الحلفاء، ثم قتل النقراشي باشا هو الآخر في ديسمبر 1948 علي يد أحد شبان الإخوان المسلمين انتقاما منه بسبب إصداره قراره بحل الجماعة.
وهكذا أصبح الرجل الثالث في الحزب السعدي وهو إبراهيم عبد الهادي رئيسا للحزب و زعيما للائتلاف ورئيسا للوزراء قبل أن ينتهي عام 1948 بيومين، وقد استمر رئيسا للوزارة حتي يوليو 1949 حين بدأ الملك فاروق حلقة جديدة من حلقات التلاعب بالوزارات والأحزاب والزعماء، وهي الحلقة التي ضمت 7 وزارات تناوبت الحكم علي مدي 3 سنوات فقط هي موضوع كتابنا الشهير “على مشارف الثورة” الذي وفقنا الله إلى نشره في نهاية القرن الماضي ، وقد قدمنا فيه مدارسات لمذكرات خمسة وزراء لم تخل من أحدهم هذه الوزارات السبع علي مدي السنوات الثلاث (1949 ـ 1952)، ومع أن وزارة الوفد [وهي ثالث الوزارات السبع التي حكمت فيما بين يوليو 1949 ويوليو 1952]، استمرت في الحكم أكثر من عامين، فإن مدد الوزارات الست الباقية مجتمعة مع بعضها لا تكمل إلا عاما واحدا بالكاد، وهو ما يعطينا فكرة عن مدي التقلب السريع الذي شهدته الدولة في ذلك الوقت.
العودة من الانقلاب الثاني الى حكم الوفد (وزارتان)
تمثلت هذه العودة في وزارتين رأسهما سري باشا ، كانت الأولى ائتلافية قبل الوفد أن يشارك فيها و استمرت من يوليو 1949 إلى نوفمبر 1949 حيث انفض الائتلاف ، و تشكلت وزارة غير حزبية أو إدارية برئاسة حسين سري باشا نفسه لإجراء الانتخابات .
الانقلاب الثالث : أربع وزارات إدارية
كان حريق القاهرة (يناير 1952) بمثابة انطلاق لشرارة الانقلاب الثالث للملك فاروق على حكم الوفد أو بالأحرى على حكم الشعب ، و هو انقلاب أضعف شأنا من الانقلابين السابقين لأنه لم يستند إلى عصبية كعصبية محمد محمود و أحمد ماهر و النقراشي ، وانما تنقلت مسئوليته في الظاهر بين على ماهر و أحمد نجيب الهلالي و حسين سري وفي حقيقة الأمر فإنه كان بمثابة مقدمة موسيقية على الطريقة الأمريكية لدخول العسكر إلى السياسة ، وذلك على نحو ما أوضحناه في الفصل الأخير من كتابنا” القضاء والرياسة في زمن السياسة” .