كان الملك فؤاد من الذين يصدق عليهم الوصف القائل بأنه رجل دولة، كان يقدر مسئوليته ويقدر منصبه ويقدر حساسية منصبه، وكان حريصًا على أن يحتفظ بهذا المنصب لنفسه ولذريته من بعده، وكان في هذا الحرص يستلهم كل ما هو مطلوب منه من إعداد تشريعي ونفسي ومن محافظة على الصورة والانطباع.
ومن الإنصاف أن نقول إن الملك فؤاد نجح في كثير من هذا كله نجاحًا كبيرًا جدًّا، فقد نأى بنفسه عن أن يدخل في صفقات تجارية أو استثمارات، على الرغم من أن سلفه الحقيقي كان متورطًا في هذا التوجه فآذى صورة نجاحاته التنموية التي لا جدال فيها ، ونحن نقصد بسلفه الحقيقي الخديو عباس حلمي، باعتبار أن السلطان حسين كامل لم يلبث في المنصب إلا قليلًا وفي أثناء الحرب. وقد كانت للخديو عباس حلمي مشاركات واسعة في استثمارات متعددة ، منها خط سكة حديدية إقليمي ، ومنها عمارات الخديو الشهيرة وتفاتيش للأراضي الزراعي ، وكان ذلك الخديو يحرص على أن يقنن تصرفاته، حتى لو كان هذا التقنين منحازا لوجهة نظره هو، ومن ثَم فقد حدثت احتكاكاته بمن لم يوافقوا تمامًا على رغباته أو على ما اقترحه من صيغ لتقنين تعامله المالي مع الدولة، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده على سبيل المثال.
أما الملك فؤاد فقد أحرز الاحترام وراحة البال لأنه كان حريصًا جدًّا في هذه النقطة على الرغم مما يقال ويتكرر بشيء من المبالغة من أنه كان قبل توليه الملك مدينًا ومفلسًا أو غير قادر على سداد كثير من ديونه أو على سداد تكلفة كثير من تصرفاته.
نشأة الملك
الملك فؤاد هو الابن الأصغر للخديو إسماعيل 1830- 1895 بينما كان الابن الأكبر هو الخديو محمد توفيق 1852-1892 يليه السلطان حسين كامل 1853- 1917 يليه الأمير حسن 1855- 1888 ثم الأمير إبراهيم حلمي . وقد ولد الملك فؤاد في القاهرة وفيها بدأ تلقي العلم لكنه لم يدرك ما ادركه إخوانه من الابتعاث الطويل الأمد الى باريس .
دراسته المبكرة في سويسرا
تلقى الملك فؤاد جزءا من تعليمه الأولي في معهد التوديكوم في جنيف ، ومن الجدير بالذكر أنه لما زار سويسرا 1929 ، وهو ملك ، فإنه أقام في فندق كان يشغل المبنى الذي كان مخصصا من قبل للمعهد الذي درس فيه وهو صبي ، وهو معهد توديكوم، وقد روى الأستاذ كريم ثابت في كتابه عن الملك فؤاد أنه بحث حتى استطاع أن يقابل البروفيسور جورج توديكوم [نجل البروفيسور شارل توديكوم مؤسس ذلك المعهد] وكان عندئذ شيخا وقوراً في السبعين وأخبره هذا الابن الذي كان يكبر الملك فؤاد بسنوات أنه بحث في سجلات المعهد فوجد أن الملك فؤاد التحق بهذا المعهد في 20 مايو 1878 وبقي فيه طالبا حتى أول أغسطس 1879، وروى أن السبب في اختيار الخديو إسماعيل لهذا المعهد لابنه الملك فؤاد أن الدكتور سالم باشا سالم 1832- 1893 الطبيب الخاص لإسماعيل هو الذي نصح به، وكان قد ألحق ابنه محمود بك سالم ودرس فيه 9 سنوات كاملة، وكانت لمحمود بك سالم سمعة طيبة بين طلبة هذا المعهد. ومعنى هذه الرواية [المقصودة] أن الملك درس في سويسرا قبل عزل والده ! وقبل حياة المنفى في إيطاليا !
حياته المبكرة في المنفى
غاب الملك فؤاد 13 عاما عن أرض مصر منذ صحب والده في رحلة النفي 1879 وهو في الحادية عشرة من عمره وإلى أن عاد 1892 وهو في الرابعة والعشرين من عمره، و كان الخديو قد أعلن عزمه على الرحيل إلى إسطنبول ، لكنه سرعان ما علم أن الملك أمبرتو 1844- 1900 ملك إيطاليا قد قرر استضافته في مقر لائق و كريم في مدينة نابولي فاتجه إليها في آخر شهر يونيو 1879.
من الجدير بالذكر ان الملك أمبرتو هو والد آخر ملوك إيطاليا الملك فكتور عمانويل الثالث 1869- 1947 ( المولود بعد الملك فؤاد بسنة ) و الذي استضافته مصر بعد سقوط الملكية الإيطالية حيث عاش ومات و دفن في الإسكندرية ، وبقي مدفونا فيها حتى 2017.
دراسته و تخرجه ضابطا في إيطاليا
تلقي الملك فؤاد العلم بطريقة نظامية في إيطاليا فدرس في مدارسها ثم في الكلية الحربية في تورينو وفيها تخرج .
ضابطا إيطاليا عاملا
عندما استكمل الملك فؤاد تعليمه في أكاديمية تورينو العسكرية فانه حصل على رتبة ملازم في الجيش الإيطالي وخدم في الفرقة الثالثة عشرة من مدفعية الميدان.
دبلوماسيا عثمانيا
في 1890 أي بعد أكثر من 10 سنوات في إيطاليا انتقل الملك فؤاد بصحبة والده إلى إسطنبول، وعينه السلطان عبد الحميد الثاني 1842- 1918 ملحقا عسكريا بالسفارة العثمانية في فيينا ، وبقي في هذه الوظيفة عامين كانا كافيين لإتقانه الألمانية بالإضافة إلى ما كان يعرفه من التركية والفرنسية والإيطالية.
ياورا في عهد الخديو عباس حلمي
عمل الملك فؤاد في ظل حكم الخديو عباس حلمي في اكثر من وظيفة رسمية وغير رسمية ، فقد بدأ العمل بعد عودته استجابة لابن أخيه الخديو ياورا للخديو نفسه ، وقضى ثلاث سنوات في وظيفة ياور الخديو ، لكنه استقال في 1895 بسبب كثرة الخلافات مع رجال الحاشية وبسبب نظرته إلى الخديو عباس حلمي الثاني على أنه لا يزال قليل الخبرة في المستويات التي كانت تواجهه مع ان الفارق بينهما في العمر 6 سنوات فقط تعوضها خبرة الخديو المبكرة ، ولهذا فقد شهدت أيام الملك فؤاد الأخيرة (في القصر الخديوي) صدامات غير مكتومة مع الخديو عباس نفسه ، لكنه وجد في الحياة المصرية المضطربة والحافلة والثرية بحيويتها وشخصياتها وأحداثها وتوجهاتها السياسية ما كان كفيلا بأن يشغله وأن يضيف إلى شخصيته أبعاداً من التأثير والحضور الطاغي الذي قل أن حظي أمير مثله به إذا كان الحاكم أصغر منه في السن.
أما على المستوى الأهلي فقد كان رئيسا الملك وهو أمير لعدة جمعيات و هيئات بلغ عددها أكثر من خمس عشرة ، لكن أهمها كانت الجامعة المصرية التي رأسها و كان له دور كبير في مرحلة تأسيسها، وكان هو رئيس الجامعة بالمعنى التنفيذي و ليس بالمعنى الاكاديمي ,
زواجه الأول من الأميرة شويكار
تزوج الملك من ابنة ابن عمه ، الاميرة شويكار ابنة الأمير إبراهيم فهمي ابن الأمير أحمد رفعت (أي ابنة الابن الاكبر للعم الأكبر للملك) و لو كتبنا اسمها بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : شويكار /إبراهيم فهمي /أحمد رفعت/ إبراهيم/ محمد علي أي أن والدها ابن عم الملك فؤاد، أي أنها كانت من الجيل الخامس من الأسرة العلوية على حين كان الملك من الجيل الرابع، وذلك على طريقتنا في حساب الأجيال باعتبار رأس العائلة هو الجيل الأول ، وقد ولدت الأميرة شويكار في 25 أكتوبر 1876 أي أنها كانت تصغر الملك بثمانية أعوام فقط، وقد عاشت واحدا وسبعين عاما وتوفيت في 17 فبراير 1947 أي أنها عاشت بعده قرابة أحد عشر عاما .
الأمير أحمد سيف الدين يطلق النار عليه
وقعت حادثة إطلاق الأمير احمد سيف الدين شقيق الاميرة شويكار النار على الملك فؤاد في 7 مايو 1898 في نادي محمد علي إذ أطلق الأمير سيف الدين ثلاث رصاصات على صهره فجاءت واحدة في فخده ،والثانية في كم قميصه ، وأصابت الثالثة بطنه ومرت تحت الكبد ووصلت إلى ما تحت القلب، وقد حاول الملك فؤاد أن يحتمي بوزير الحربية (وزير الحقانية فيما بعد) عباني باشا ، و تجنب عباني باشا المواجهة لكنه أصيب إصابة طفيفة على كل حال.
كان أحد حراس منزل الجنرال البريطاني جرينفل حاكم النوبة 1859- 1929 الذي يسكن قريبا من النادي هو الذي تحرك بعد سماع الرصاص و دخل النادي، وصعد الى الطابق العلوي واستطاع القبض على الأمير سيف الدين بعد أن واجهه ببندقيته.
استخراج رصاصة واستبقاء أخرى
حضر الأطباء إلى النادي واستطاعوا استخراج الرصاصة من فخد الملك فؤاد وآثروا ألا يتعاملوا مع الرصاصة التي استقرت في بطنه. كان هؤلاء الأطباء هم ملتون (أستاذ على باشا إبراهيم الذي لم يكن قد تخرج بعد )، وهس، والد، وكومانوس وكان معهم محمود صدقي باشا.
استنكار زوجته لفعل أخيها
مما يذكره التاريخ أن الأميرة شويكار نفسها استنكرت ما فعله أخوها ، و رجت الملك فؤاد ألا يطلقها ، لكن الملك كان قد استقر على عزمه!
من رسالة اعتذار الاميرة شويكار الى الملك فؤاد
عزيزي فؤاد
أكتب لك هذا وأنا باكية، وقلبي ألف قطعة، بل وأنا في حالة الجنون ولا أصدق أن فؤادي لا يريدني؛ لأني عالمة أنك تحبني شديد الحب. نعم، أنا أعترف بأني مخطئة فيما كنت أقول من الأقوال الفارغة، ولكن أنت تعلم أنني عصبية، فأنا أقبل قدميك وأستحلفك بأمك وبقبر والدك كي تسامحني. فإن لم يكن صفحك نظرًا لخاطري فنظرًا لخاطر بنتنا ، وللجنين الذي سيولد بعد سبعة أشهر. إنني سأعتبر نفسي جارية لك…. ، وأكون مطيعة لأوامرك، ولا أحسب نفسي مطلقًا أنني من عائلة (أحمد) المتهم – وهل تظن أيها العزيز أني قادرة على تحريض أحمد-هذا الأهبل – أن يفعل أمرًا شنيعًا كالذي فعل. هل أحرضه على أن يقتل زوجي والد وَلَدَىَّ. إنني أقسم لك بأن مثل هذا الأمر ما خطر بفكري قط. ارحمني يا فؤادي، اشفق عليَّ وسامح جاريتك؛ إذ لا يمكنني أن أعيش دونك، إن غاية ما كنت أتمناه لك من صميم فؤادي الصحة ، ولله الحمد قد رجعتُ لحبيبي فؤاد. والآن أقبّل قدميك وأبقى في ظلك واسمح لي فقط باللقاء ولو مرة واحدة وأموت بعدها.
شويكار
اضطهاد الأمير سيف الدين
صدر الحكم على الأمير سيف الدين بالسجن ، وبعد عامين كتب التقرير المشهور بعدم سلامة قواه العقلية ، ومن ثم ، فرض الوصاية على أمواله، وقد تمكن الأمير من الهروب من المصحة 1927 ثم ساعده مكتب محاماة النحاس باشا و ويصا واصف باشا وجعفر فخري بك ، أو بالأحرى ساعد والدته في القضية التي رفعتها من اجل تحرير ابنها من الحجر وهي القضية التي ترافع فيها النحاس باشا و كانت سببا من أسباب مؤامرة إقالته في وزارته الأولى.
تلخّيص الأستاذ محمد رشيد رضا للقصة
لخّص الأستاذ محمد رشيد رضا حادثة الاغتيال و ما اعقبها في مقاله ” أمير في قفص العدالة” ونبه الاذهان بتلخيصه إلى عدة حقائق :
- أن هذه أول دعوى وقعت في القطر، سِيقَ فيها أحد من عائلة الملك إلى المحكمة، وأوقف فيها في موقف المجرمين، وحُكم عليه بالعقوبة، وكان من شهودها الوزراء: كعباني باشا ناظر الحربية، ومظلوم باشا ناظر المالية، ويعقوب أرتين باشا وكيل نظارة المعارف.
- حكمت المحكمة على المتهم بثبوت تهمة الشروع في قتل دولة البرنس فؤاد باشا وبسجنه سبع سنين تحسب منها مدة الحبس الاحتياطي وبتعويض للمجني عليه قدره 1845جنيهًا وذلك قيمة ما صرفه على الأطباء والأدوية فقط وبإلزامه بالمصاريف ورفضت طلب الحجر عليه.
- استأنف المحكوم عليه الحكم ، ولم تستأنف النيابة العمومية.
- أُهين المتهم بالدفاع عنه حيث رمي بالعته وضعف العقل
- أُهين المتهم كذلك بما تضمنه نص الحكم عليه.
- كشفت هذه الحادثة الستار عن كثير من الشؤون الداخلية لهذه العائلة العظيمة القدر، تمس مقام غير أمير وأميرة منها، وترميهم بالطمع الشائن مع واسع ثروتهم، وما سبب ذلك إلا [التربية الإفرنجية الخاسرة] على حد تعبير الأستاذ محمد رشيد رضا . … ، وذكر المعاملة القاسية التي كان يعامل بها دولة فؤاد باشا قرينته الأميرة شويكار هانم لأجل توكيله على أمور مالية، حتى كان من تبرمها وشكواها لأخيها سيف الدين بك ما حرَّكه على الانتقام منه، كما شكت لعمها صاحب الدولة أحمد كمال باشا ولغيره.
ثناء الأستاذ محمد رشيد رضا على القاضي احمد فتحي زغلول باشا
“أن انتظام أمر المحاكمة تحقيقًا وتدقيقًا وضبطًا وعدالة أطلق الألسنة بالثناء على حضرة القاضي الفاضل صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية وافتخر به المصريون بحق واحتجوا به على أنهم قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم”.
إهانة القاضي للمتهم
” ذكر الرئيس في تعليلات الحكم وحيثياته أن الذي دفع به إلى الجناية عدم التربية الصحيحة، وهذه هي عبارة الرئيس [أي صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول] في ذلك : ” وحيث إن سيرة المتهم منذ صغره لا تدل على أنه تربى كما يليق بشأنه، وقد تيتم قبل أن تتمكن منه صفات الرجال ووجد نفسه ذا ثروة واسعة مطلق السراح ولم يكن له من معاشريه ومخالطيه من يطلب له السعادة بإهداء رشيد النصح وتمثيل الفضائل له بما يحرضه على اعتناقها، فمال طبعًا إلى ما يميل إليه من خلص من كل القيود” .
الحضور المجتمعي للأميرة شويكار
كان للاميرة شويكار نشاط اجتماعي بارز رغم طلاقها من الملك فؤاد ، وقد ظهر نشاطها بشدة في عهد الملك فاروق ، فكانت رئيسة لمؤسسة مدينة فاروق الأول الجامعية، ومبرة محمد علي ، كما أصدرت صحيفة نسائية باسم المرأة الجديدة 1945 و كانت تقيم صالون الأحد وحفلا في رأس السنة الميلادية وحفلا في عيد ميلاد الملك فاروق ، وعند وفاتها كانت واحدة من ست سيدات يحملن وسام ليجون دو نير من درجة قائد ، كما كانت قد حصلت على الوشاح الأكبر من نيشان الشفيقات العثماني.
قصة ترشيحه لعرش البانيا
روى عبد الرحمن عزام باشا في مذكراته أنه هو الذي اقترح ترشيح الملك فؤاد لعرش ألبانيا، وذلك استجابة لرغبة مسلمي ألبانيا في أن يكون ملكهم مسلماً، وقد كان الألبان يفكرون بالفعل في أن يدخل الأمير فؤاد (أو الأمير المسلم الذي يرشح لشغل هذا العرش) العاصمة تيرانا على رأس عشرين الفا من الألبان الثائرين ويعلن استقلال البلاد معتمداً على تأييد إيطاليا التي كانت أوثق البلاد علاقة بألبانيا في ذلك الوقت، لكن دول التحالف الاوربية غلبت الاعتبارات المتعصبة و البيروقراطية و الحسابات قصيرة النظر التي لم تخل من العداوة الفجة للمسلمين ، و هكذا اختارت أميرا ألمانيا لحكم ألبانيا في مارس 1914 ، و قد ووجه هذا الأمير الألماني بمقاومة شديدة فاضطر إلى الهرب من ألبانيا بعد قيام الحرب العالمية الأولى بستة أشهر.
كيف بدأ التفكير في ترشيح الملك فؤاد لخلافة السلطان حسين كامل
من الطبيعي( ومن الأرجح ) أن يكون هذا التفكير قد بدأ عند أول محاولة لاغتيال السلطان حسين وهي المحاولة الشهيرة في مايو 1915 (التي تناولناها بالتفصيل في كتابنا في ضوء القمر ، والتي كان من المتهمين فيها: محمد نجيب الهلباوي الذي أبلغ فيما بعد عن الوطنيين في حادث مقتل السردار لي ستك 1924) ، وقد كان أبرز المنافسين المحتملين للملك فؤاد بترتيب سنهم هم:
- من الاستقلال للاحتلال).
- من الاستقلال للاحتلال).
- من الاستقلال للاحتلال).
عناصر تميز عمر طوسون حرمت صاحبها من العرش
من الجدير بالذكر أن إيجابيات الأمير عمر طوسون كانت من العوامل التي رآها البريطانيون في غير مصلحتهم ، ومن ثم فقد ساعد الحظ الملك فؤاد على أن يكون مرشح بريطانيا المفضل لمنصب السلطان ، فقد كان الأمير عمر طوسون متميزا إلى أبعد الحدود في شعوره الوطني والقومي والديني، وكان موقفه من الحرب الطرابلسية أكثر من رائع وكذلك كان موقفه من مساندة الإسلاميين والأتراك في معارك الحرب العالمية الأولى ( على نحو ما فصلنا القول في كتابنا أعيان المصريين من الاستقلال للاحتلال ) وكان هذا كله يلعب ضده و لمصلحة الملك فؤاد ، بل إن قيمة عمر طوسون الحضارية والفكرية كانت تفوق قيمة معظم الأمراء الأوربيين المعاصرين له، ولهذا فلم يكن البريطانيون بالدهاء الاستعماري المعروف عنهم على استعداد لأن يختاروا لعرش مصر أميرا بهذه الشخصية الفريدة في تلبيتها لأحلام الوطنيين المصريين.
الأمير فؤاد سلطانا بتنازل الأمير كمال الدين حسين
لم يكن الامير احمد فؤاد يتوقع أن يكون ملكا إذ لم يكن الابن الأكبر أو الابن الثاني لوالده كما أن فرصته في تولى العرش كانت قد تم تجاوزها مرتين اثنتين ، إلا أنه في الأخير كما يقول أهل تونس أصبح ملكا و حين أصبح ملكا فإنه استطاع أن يثبت ذاته ، و أن يحقق كثيرا مما ينسب اليه في المملكة التي أصبح على رأسها. وقد تم ترتيب أمور وراثة العرش بين المندوب السامي السير ونجت 1861- 1953 ورئيس الوزراء حسين رشدي 1863- 1928 على النحو الذي اقتضى الحصول على تنازل من الأمير كمال الدين حسين عن احقيته في عرش والده برسالته الشهيرة الموجهة منه إلى والده ، ومع أننا نذهب إلى أن سبب تنازل الأمير يتمثل في ميله للتصوف كزوجته الأميرة نعمت ابنة الخديو توفيق وأخت الخديو عباس فإننا نثبت رأيين أخرين ترددت الإشارة اليهما : يقول أولهما بأنه رأى تنازله مفيدا لتماسك العائلة ، ويشير ثانيهما إلى أنه كان يعتزم الزواج من فرنسية ، وهو ما يحول بينه وبين العرش .
الوضع المميز للأمير كمال الدين حسين بعد تنازله
وقد كوفئ الأمير كمال الدين حسين على هذا الموقف النبيل في 16 أكتوبر بلقب صاحب السمو السلطاني ، أما السلطانة ملك زوجة والده فأصبح لقبها صاحبة العصمة السلطانة ملك ، أما كريمات السلطان حسين الاميرات كاظمة وقدرية وسميحة فقد أصبحن مع الأميرة فوقية ابنة السلطان فؤاد يحملن لقب أصحاب السمو السلطاني.
من السلطنة للملكية
لم تكن مصر حين تولى احمد فؤاد أمرها مملكة، وإنما كانت مع التجاوز في اشتقاق المصطلح السياسي سلطنة ، إذ أنه بنشوب الحرب العالمية الأولى 1914 فرض الإنجليز سلطتهم العسكرية المباشرة على كيان مصر بوضع هذا الكيان المصري العظيم تحت ما يسمى الحماية الإنجليزية و بذلك انتهت بقوة سلاح البريطانيين مظاهر الانتماء المصري إلى الدولة العثمانية ، وسرعان ما تأكد هذا الوضع القسري حين خسر العثمانيون الحرب العالمية الأولى ومن ثم أصبحت مصر في وضع يتطلب من أهلها أن يؤكدوا كيانها باستقلالها والاعتراف بها دولة ذات وجود مستقل وسيادة و أن يحصلوا على هذا الاستقلال المكون لشخصيتها بين الدول ، وكان هذا بوضوح شديد هو جوهر ثورة الشعب العظيمة في 1919. و في تلك المرحلة القلقة جاء أحمد فؤاد في البداية سلطانا خلفا لأخيه السلطان حسين 1853- 1917 ، ثم أصبح بفضل الشعب وكفاحه في ثورة 1919 ( وليس بفضل أي سبب آخر) ملكا في مارس 1922 و أعلن الدستور في 1923 وأجريت الانتخابات وتشكل البرلمان الأول ، وحكمت وزارة الشعب الأولى برئاسة سعد زغلول باشا منذ مطلع 1924 و استمر الملك يحكم حتى وفاته 1936 أي انه حكم قرابة 19 عاما، و هو وقت ليس بالقليل في ذلك العصر ، ولنا أن نقارنه بالوقت الذي قضاه سلفه السلطان حسين كامل ما بين نهاية 1914 و توليه هو في 1917 .
الملك فؤاد من ناحية النسب وتسلسل العرش
ذكرنا أن الملك أحمد فؤاد (الذي هو تاسع حكام الاسرة العلوية) هو ابن الخديو إسماعيل (الذي هو خامس حكام الاسرة العلوية) الذي هو ابن إبراهيم باشا (ثاني حكام مصر من هذه الأسرة) بعد والده محمد علي، وإذاً فالملك فؤاد حفيد إبراهيم باشا الابن الأول لمحمد على باشا ، وابن الخديو إسماعيل الابن الثاني لإبراهيم باشا 1789- 1948 ، ومع هذا فان شخصيته وسلطته التي ظهرت بفضل ثورة 1919 جعلته يبدو وكانه ندا مقاربا لهؤلاء الآباء ، لكن النقطة الأهم في توليه العرش أنه أكد على انحصار عرش الأسرة في إسماعيل و ذريته وهو ما جعل إسماعيل (الذي هو ابن لإبراهيم بشا ) وفرعه يستأثرون بالعرش سبعين عاما من1863- 1953 (في مقابل 15 عاما فقط لفرعي طوسون و محمد سعيد) و لسنا بحاجة إلى التذكير بأنه بعد خلع الخديو إسماعيل تولى الملك ثلاثة من أبنائه وحفيدان له ، أولهم بالطبع كان اكبر أبنائه وهو الخديو توفيق الذي ولد 1852 و خلف والده في 1879 ، و قد كان كما هو واضح اكبر من الملك فؤاد بستة عشر عاما و توفي في عمر الأربعين 1892 ، و كان السلف المباشر للملك فؤاد هو أخوه السلطان حسين كامل ، أما السلف الذي سبق حسين كامل فهو ابن اخ الملك فؤاد والسلطان حسين ، و هو الخديو عباس حلمي الثاني 1874 ـ 1944 الذي هو الابن الأكبر للخديو توفيق ، وهو الذي حكم ثاني اكبر فترة في تاريخ الأسرة العلوية بعد فتره محمد علي باشا حيث استمرت مدته 22 سنة.
وراثة العرش بعد الملك فؤاد
نجح الملك فؤاد في الاستحواذ لابنه الملك فاروق منذ ولادته على ولاية العهد بموجب إعلان صادر من الاحتلال البريطاني في رسالة مباشرة منهم إلى [السلطان] فؤاد عقب ولادة الأمير فاروق في فبراير 1920. وبهذا المنطق فإن الترتيب المتعلق بخلافة الملك فؤاد كان محسومًا منذ 1920 وليس منذ بدء حكمه في 1917، وكان هذا من حسن حظ الملك فؤاد والملك فاروق و بدرجة ما فقد كان من حسن حظ استقرار مصر أيضًا.
القلق الناشئ عن وجود الخديو السابق حيا
كان وجود الخديو عباس حلمي على قيد الحياة مؤرقاً للملك فؤاد إلى حد كبير ومن الطريف أن الذي خلصه من الأرق والقلق بعقد اتفاق يتنازل فيه الخديو عن دعاواه في العرش بصفة نهائية كان هو إسماعيل صدقي باشا وقد تم هذا الاتفاق في مايو 1931 اثناء تولي صدقي باشا لرئاسة الوزارة، ومن ناحية أخرى فمن الطريف أن كثيرا من الروايات التاريخية تذهب إلى القول بأن مجد حسن نشأت باشا قد بنى على قدرتة على تقديم وتصوير خدماته للملك في محاربة الخديو عباس ومحاولاته لاستعادة العرش في الداخل والخارج ، وقد فصلنا القول في كتابنا ” العمل السري في ثورة 1919″ وفي كتابنا “في ضوء القمر” عن بعض ما يدل على هذا السلوك الدائب من حسن نشأت باشا ، كذلك فقد تناولنا بعض جزئيات هذا الموضوع في كتابينا “المقامر والمغامر والمكابر” و “القضاء والرئاسة في زمن السياسة”.
ترتيب الأمراء الذين عاصروا تولي الملك فؤاد الحكم
بعد اعلان الملكية و نظام العرش و البروتوكول ، كان ترتيب الأمراء تبعا لقرابتهم من الملك فؤاد على النحو التالي:
- الابن: الملك فاروق، وكان ليا للعهد ويحمل لقب صاحب السمو الملكي.
- ابن الأخ الأكبر: أي ابن الخديو توفيق وهو الأمير محمد علي توفيق 1875- 1955. و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : محمد علي /محمد توفيق/اسماعيل/ إبراهيم/ محمد علي
- ابن الأخ الثاني أي ابن السلطان حسين : صاحب السمو السلطاني كمال الدين حسين وكان يحمل لقبا خاصا به لم يحمله غيره هو لقب صاحب السمو السلطاني . و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : كمال الدين /حسين /اسماعيل/ إبراهيم/ محمد علي
- ابن الأخ الثالث أي ابن الأمير حسن: صاحب السمو الأمير محمد علي حسن. و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : محمد علي /حسن/اسماعيل/ إبراهيم/ محمد علي
- حفيد الأخ الأكبر أي ابن الخديو السابق عباس حلمي: صاحب السمو الأمير محمد عبد المنعم، و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : محمد عبد المنعم / عباس حلمي/محمد توفيق/اسماعيل/ إبراهيم/ محمد علي.
- ابن الابن الاكبر للعم الأكبر للملك : صاحب السمو الأمير أحمد سيف الدين ابن الأمير إبراهيم ابن الأمير أحمد رفعت ، و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : أحمد سيف الدين /إبراهيم فهمي /أحمد رفعت/ إبراهيم/ محمد علي.
- ابن الابن الثاني للعم الأكبر للملك : صاحب السمو الأمير يوسف كمال ابن الأمير أحمد كمال ابن الأمير أحمد رفعت ، و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : يوسف كمال /احمد كمال/أحمد رفعت/ إبراهيم/ محمد علي.
- ابن الابن الثالث للعم الأكبر للملك : صاحب السمو الأمير محمد علي إبراهيم ابن الأمير محمد وحيد الدين ابن الأمير أحمد رفعت. و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح : محمد علي إبراهيم /محمد وحيد الدين/أحمد رفعت/ إبراهيم/ محمد علي.
- أبناء عم والد الملك : أي أبناء الأمير محمد عبد الحليم ابن محمد علي باشا الذي هو بمثابة أخ لجد الملك فؤاد (لأنه أخ لإبراهيم باشا) وهم أصحاب السمو الأمراء محمد عباس حليم، ومحمد علي حليم، وإبراهيم حليم و لو كتبنا اسماءهم بالطريقة المعاصرة فإن هذه الاسماء تصبح : محمد عباس حليم/محمد عبد الحليم/ محمد على ، و محمد علي حليم/محمد عبد الحليم/ محمد على، وابراهيم حليم/محمد عبد الحليم/ محمد على .
- حفيد عم والد الملك: أي الأمير عمر طوسون وهو حفيد ( وليس ابن) أخ لجد الملك فؤاد لأنه حفيد محمد سعيد باشا وابن ابنه محمد طوسون، و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح: عمر طوسون /محمد طوسون/ محمد سعيد / محمد علي.
- حفيد عم آخر لوالد الملك : أي الأمير محمد عبد الحليم حليم وهو أيضا حفيد ( وليس ابن) أخ جد الملك فؤاد لأنه حفيد محمد عبد الحليم باشا أصغر أبناء محمد علي ، فأبوه الأمير محمد سعيد حليم ابن المرحوم محمد عبد الحليم باشا، و لو كتبنا اسمه بالطريقة المعاصرة فإنه يصبح: محمد عبد الحليم /محمد سعيد/ محمد عبد الحليم / محمد علي.
ملامحه
كانت أهم ملامح الملك فؤاد البدنية هي القصر مع البدانة وهو ملمح نادر الآن لكنه كان موجودًا بكثرة في زمانه، وكان من الحريصين على طريقة محببة لوجهاء ذلك الزمان في العناية بالشارب، وبرم أطراف هذا الشارب للأعلى مع استخدام مادة كيمياوية في إتمام هذه التقنية، وكانت هذه التقنية التجميلية أو الشكلية معروفة في ذلك الوقت في نطاق الأرستقراطية المصرية وأرستقراطيات شرقية وغربية متعددة.
جدول 1 : مقارنة مدة حكمه بحكام أسرة محمد على
بداية | نهاية | مدة | سن التولي | |
محمد علي باشا | 1805 | 1848 | 43 | 36 |
إبراهيم باشا | 1848 | 1848 | شهور | 59 |
عباس حلمي الأول | 1848 | 1854 | 6 | 36 |
محمد سعيد باشا | 1854 | 1863 | 9 | 32 |
الخديو إسماعيل | 1863 | 1879 | 16 | 33 |
الخديو توفيق | 1879 | 1892 | 13 | 27 |
الخديو عباس حلمي | 1892 | 1914 | 22 | 18 |
السلطان حسين كامل | 1914 | 1917 | 3 | 61 |
الملك فؤاد | 1917 | 1936 | 19 | 49 |
الملك فاروق | 1937 | 1952 | 15 | 17 |
جدول 2: مقارنة حياته بالحكام من أسرة محمد على
مولد | وفاة | عمر | |
محمد علي باشا | 1769 | 2/8/1849 | 80 |
إبراهيم باشا | 1789 | 30/11/1848 | 59 |
عباس باشا | 1/7/1812 | 13/7/1854 | 42 |
محمد سعيد باشا | 17/3/ 1822 | 17/1/1863 | 41 |
إسماعيل | 12/1/1830 | 6/3/1895 | 65 |
توفيق | 30/4/1852 | 7/1/1892 | 40 |
عباس حلمي | 14/8/ 1874 | 21/12/1944 | 70 |
حسين كامل | 21/11/1853 | 9/10/1917 | 64 |
فؤاد | 26/3/1868 | 28/4/1936 | 68 |
الملك فاروق | 11/2/1920 | 18/3/1965 | 45 |
- ونحن نلاحظ أن الملك فؤاد كان الثالث من حيث طول مدة حكمه بعد محمد على باشا وبعد ابن أخيه الخديو عباس حلمي .
- ونلاحظ أن الملك فؤاد كان الثاني من حيث سنه عند التولي بعد أخيه السلطان حسين كامل .
- ونحن نلاحظ أن الملك فؤاد كان الثالث من حيث العمر بعد محمد على باشا وبعد ابن أخيه الخديو عباس حلمي وإن تميز عنهما بوفاته وهو في السلطة .
جدول 3 : الخلفاء العثمانيون الذين عاصرهم الملك فؤاد
حين تولى الملك فؤاد السلطنة (ثم الملك) فإنه لم يدرك السلطان عبد الحميد الثاني ( السلطان العثماني 34) كخليفة وإنما أدركه كخليفة سابق، وقد توفي السلطان عبد الحميد الثاني بينما كان الملك فؤاد سلطانا.
الخليفة | المولد | الوفاة |
عبد الحميد الثاني | 21/9/1942 | 11/2/1918 |
محمد رشاد = محمد الخامس | 2/11/1944 | 3/7/1918 |
محمد وحيد الدين = محمد السادس | 14/1/1861 | 16/5/1926 |
عبد المجيد | 30/5/1868 | 23/8/1944 |
مقارنته بآخر خلفاء المسلمين
كان الخليفة العثماني الأخير عبد المجيد الثاني بن عبد العزيز 1868 ـ 1944 مولوداً في العام الذي ولد فيه الملك فؤاد ، وقد عاش بعد الملك فؤاد حتى توفي في العام الذي توفي فيه الخديو عباس حلمي 1874 ـ 1944 ومع أن ابنه الأمير عمر الفاروق 1898-1969 كان من سن كبرى بنات الملك فؤاد الأميرة فوقية 1898 ـ 1974 فإن بنات هذا الأمير اللائي هن حفيدات هذا الخليفة كن من سن بنات الملك فؤاد من الملكة نازلي. وقد كان هذا الخليفة الأخير عبد المجيد بن عبد العزيز (الذي انتخب للخلافة في 19 نوفمبر 1922 قبل تأسيس الجمهورية التركية بخمسة أيام في 24 نوفمبر 1922) أفضل حظاً من السلطان محمد وحيد الدين ( السلطان العثماني 36) بدرجة طفيفة وقد عاش عشرين عاما بعد إلغاء الخلافة إلى أن توفي في 23 أغسطس 1944 في بيته في مدينة باريس في يوم تحرير باريس من الاحتلال الألماني، وحاولت ابنته الأميرة در الشهوار أن تنقل جثمانه إلى تركيا دون جدوى، لكنها نجحت في النهاية في دفنه في المدينة المنورة.
رثاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
نختار من كلمات الرثاء التي قيلت في الملك فؤاد ما كتبه الأستاذ مصطفي الرافعي 1880- 1937 الذي توفي في العام التالي لوفاة الملك فؤاد ، والذي كان يحمل لقب شاعر الملك عل نحو ما ذكرناه في حديثنا عنه في موضع آخر ، و قد كتب الرافعي هذا الرثاء بطريقة أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر :
مات الملكُ العظيم، فرأى الناسُ من ذهولهم كأنما زيدت في الموت زيادة
وكأن يوماً ليس من الدنيا وقع في الدنيا فترك الحياة في غير معناها
وكأن العيونَ انفتحت فجأةً على شكل محزن من هذا الوجود.
وكأن حادثاً عظيما انتهى من التاريخ المصريّ إلى نقطة انقلاب؛
ورأى الناسُ كأن غيمةً فوق مصر تجتمع من حزن ستة عشر مليون قلب!
مات فؤاد العظيم، فعرفت مصرُ أن معجزةً فارقتها
وأنه لم ينقض رجل؛ ولكن ذهب قَدَرٌ كان في خدمة حوادثها المضطربة
ولم ينته عمر؛ ولكن انتهت سعادةٌ كانت من حظ أيامها؛
ولم ينطو تاريخ؛ ولكن انطوت قوة كانت تعمل في حل مشاكلها
فارقت معجزة، وذهب قدَر، وانتهت سعادة، وانطوت قوة.
عودة التاج لمصر بعد ألفي سنة
ما أفدح خطبك يا مصر!
وكيف لا يكون معجزةً من خُلقت مواهبُه على قدر أمة تنال به التاجَ بعد أن فقدته ألفي سنة؟ وكيف لا يكون قَدَرا من بُعثت عزيمتُه لحل الزمن السياسي المعقَّدِ منذ دهور ودهور؟
وكيف لا يكون سعادةً هذا الذي مرَّت آثاره على فقر التاريخ مرورَ الغنى؟
وكيف لا يكون قوةً ، وإرادتُه الجبارةُ كانت مظهر السر الذي يعمل وينتصر؟
أيتها الحقيقة العظيمة!
هل كانت النبوَّة في شكل سياسي؟
مرض الملك رحمه الله، فكانت أخبارُ مرضه روايةَ أحزان الشعب
وعرف كل مصري أن هذا الملك هو الوطن في صورة رجل،
واتجهت العاطفة الوطنية في البلاد كلها إلى رمزها الحي،
واثبت الشعبُ في سمو أخلاقه أن ملكه العظيم هو الذي ارتقى به إلى هذا السمو
وأُصلحت غلطةٌ كانت السياسة الأجنبية تسميها التفرق. .
موتُه أتم عمَل حياته العظيمة
ومات الملك رحمه الله، فأتم موتُه عمَل حياته العظيمة
جمع الأمة كلها على أسمى أخلاقها من الحب والوفاء والاتحاد؛
وأظهرها حوله كأنها في صلاة تتدفق منها الروحانية العظمى؛
وراع بها العالم السياسي كأنه يقول للدنيا: هذه مصر كما أنشأتُها
وترك لأمته الدرسَ الأخير في هذه الصورة كأنه يقول: هكذا عيشوا
وبكاه الشعبُ من كل عين، حتى لو كان يبكي من نهر ليبس؛
وأصبحت القلوبُ من الحزن كأن كل قلب اجتمعت فيه أمواتُه ذلك اليوم
وبرزت فجأة من النسيان همومٌ وهمومٌ وهموم
ودنت الآخرة حتى لا يذكر الناسُ غيرها،
كأن الخلد يتسلم الراحلَ من أيدي الشعب
وحكم الملكُ يومَ موته حكما آخر كما تحكم على الناس جميعاً طبيعةُ الخير
صوتُ الشعب يوم وفاة الملك
(في ذمة الله يا فؤاد). هذا هو صوتُ الشعب يوم وفاة الملك
صوتُ الفطرة على سجيَّتها مع نفسها؛ لا من سياسةٍ ولا رياء ولا مجاملة
صوت الإيمان على طبيعته مع القلب، لا من غرضٍ ولا تصنّع ولا خديعة
صوت الوطنية على عقيدتها مع الحب، لا من خوفٍ ولا كذب ولا اضطرار
وما عسى أن يقول من فقد أباه العزيز، إلا أن يقول: في ذمة الله يا أبي؟
في ذمة الله ذلك الملكُ الذي كان كالأنبياء محصوراً في واجبه ورسالته
ولم يكن بين فكره وعمله أحلامٌ تفسد الفكر أو تضعف العمل
وكان يقول: (ليس شيئاً يذكر أن يكون المرء أميراً؛
ولكن الشيء الجدير بالذكر أن يكون نافعاً)
كان كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد
ومن أجل ذلك استمر يعمل كأنه مؤتمر ملوك لا ملك واحد؛
وتألفت مدةَ حكمه اثنتان وعشرون وزارة،
فكانت له على مصر بركةُ اثنين وعشرين ملكا
وكان بنشأته واختباره وعلمه ودينه تصحيحاً لأغلاط من سبقوه في الملك
وبذكائه وبصيرته كان يسوس رعيتين في مصر: إحداهما الحقائق
وكان موفقاً بقدر ما هو قوي، فخدم الشعبَ عقله وحظُّه
تراه دائماً بحكمته وحزمه في عمله للحاضر،
ودائماً بصبره وإيمانه في عمله للمستقبل
ملك الصبر والإيمان
هو ملك الصبر والإيمان؛ وبهاتين القوتين كم من مرةٍ جعل ما لا يمكن يمكن
وكان من أكبر همه أن يألف العالم اسمَ مصر
وأن تعرف ممالكُ الدنيا جَدَّتها فحرَّك اسم مصر في كل أمة
لأنه وحده الاسم الذي يخاطب كل تمدن بلغة خياله
إن المجد المصري إذا انبعث كان قوة من قوى الجلال في الدنيا!
إن السحر المصري إذا عرف كان قوة من قوى الحب في العالم!
إن فن الإعجاب بمصر ليخرجُ من درس آثارها
كما يخرج علم الفلك من درس النجوم
في ذمة الله يا فؤاد، وعزاءً يا مصر!
الفاروق أكبر حسناته
لقد أعطاك من الفاروق المحبوب أكبر حسناته:
أعطاك فيه أسرار عظمته تتجلى بادئة بنشاطها
غابت الشمس ليبدأ الفجر الجديد
مات الملك؛ يحيا الملك