الرئيسية / المكتبة الصحفية / عباس حلمي الخديو الأخير: 6/6 علاقته المتعقدة بالاحتلال البريطاني

عباس حلمي الخديو الأخير: 6/6 علاقته المتعقدة بالاحتلال البريطاني

نموذج غير معهود من الشخصنة

قبل بداية  هذا الفصل نثبت طرفة لها دلالتها وهي ان البريطانيين طرحوا اسم الخديو عباس حلمي في وقت من الأوقات [وهو منفي] كحاكم لسوريا بعد دخول الفرنسيين اليها.  ونبدأ الحديث  في موضوع هذا الفصل بأن نقول انه يمكن لمن يقلب سيرة حياة الخديو سريعا ان يقول ان علاقاته ببريطانيا كانت صورة من علاقاته بممثلي بريطانيا في مصر ، وليس العكس ، نقصد أن نقول إنها كانت مرآة أكثر من أن تكون سببا ، وذلك على الرغم مما هو مستقر في الوعي السياسي من أن السياسة البريطانية لا تخضع للشخصنة الا في النادر ، وبوسع القارئ فهم كثير من الحوادث والخلافات في هذا الإطار.

المنحنى البياني للعلاقة

من الانصاف ان نعبر عن عقيدتنا في ان الخديو عباس حلمي كان في توجهه السياسي أو المناخ السياسي الذي يواجه مقتضياته واقعا  أو محصورا و محاصرا  بين أكثر من نار، فهو لم يكن يحب الإنجليز وزادت هذه الكراهية مع الزمن ، لكنه كان يعرف حق المعرفة أنه لولا الإنجليز ما بقي والده في العرش ولا أصبح هو نفسه وريثا لعرش والده،.

وقد بدأ الخديو عباس حلمي الثاني عهده مواجها بمناوئة البريطانيين له، و تنبيهيهم له الى انهم هم (و ليس غيرهم) أصحاب الامر و النهي ، وظهر هذا المعنى صريحا في معاملة المعتمد البريطاني العتيد  لورد كرومر . وفيما بعد سنوات من التلاحي المستمر مع لورد كرومر الذي ظل 24 عاما معتمدا بريطانيا من 1883 وحتى 1907  ، فإن الخديو  ارتبط بعلاقة جيدة مع خلفه جورست الذي شغل منصب المعتمد 1907 ـ 1911 ، فلما توفي  جورست وخلفه كتشنر في منصب المعتمد 1911ـ 1914 عادت علاقة الخديو مع البريطانيين إلى السوء .

جدول 5 : المعتمدون البريطانيون في مصر : مولدهم و وفاتهم و ولايتهم

الوفاةالمولدالمعتمد
29/1/191726/6/1841كرومر
12/7/191125/6/1861جورست
5/6/191624/6/1850كتشنر
26/12/194927/11/1862مكماهون
28/1/195325/6/1861وينجت
14/5/193623/4/1861أللنبي
5/2/194119/9/1879لويد
23/5/19615/11/1880لورين
18/9/196424/8/1880كيلرن

 

جدول 6 : أعمار المعتمدين البريطانيين عند توليهم و مدد ولايتهم  

المدةبداية ونهاية توليهالسن عند التوليالعمرالمعتمد
241883-  19074276كرومر
41907 ـ 19114650جورست
31911 ـ 19145166كتشنر
21914 ـ 19165287مكماهون
21917 ـ 19195692وينجت
61919 ـ 19255875أللنبي
41925 ـ 19294662لويد
41929- 19334981لورين
101933 ـ 19435384كيلرن

ضيقه الشديد من لورد كرومر

إذا قيل إن الطابع المسيطر على مذكرات الخديو عباس حلمي أنها حافلة بقصائد هجاء عاقل و متحفظ في لورد كرومر فليس في هذا أية مبالغة فهي كذلك بالفعل وقد كان له الحق في هذا ، وقد أظهر الخديو عباس حلمي أقصى درجات الضيق من كرومر منذ ورود سيرته لأول مرة في مذكراته ، وذلك حيث قال: “.. وكان سوء النية صفة ثابتة لممثل إنجلترا في مصر. لقد كان لورد كرومر متضايقاً مما يسميه تدخلي في شئون الدولة، وكانت الهالة التي يحيط بها نفسه محكمة بالقدر الذي يبرر تعاليه، ولكي يمارس سلطة كان يمكنها أن تدفعه بسهولة حتى الطغيان. وكانت حركات تملق هابطة توجه إليه من جانب النظار، لم يكونوا رجالاً سياسيين، ولكن مجرد موظفين مُستهلكين. وأساء استخدام قوته وهيبته التي حصل عليها نتيجة لعدم وجود [أية] قيمة لأولئك الذين كان من الواجب عليهم أن يحموا مصر وحرياتها، والذين كانوا، في غالب الأحيان، لا يفكرون إلاّ في مصالحهم وفي راحتهم”.

انطباع  كرومر عن اللقاء الأول

تروي كتب التاريخ انه منذ اللقاء الأول بين لورد كرومر والخديو في 21 فبراير 1892 فهم كل واحد منهما الآخر، وكتب كرومر: “أرى أن الخديو الشاب سوف يكون مصريا للغاية ، وإني لأرى في هذا ما ينبئني بما سوف يحدث بعد ذلك”.

تصوير الخديو  للقاء الأول مع لورد كرومر

أما  الخديو عباس حلمي الثاني  فكتب ذكرياته عن هذه المقابلة عند حديثه عن توليه السلطة (بعد أربع صفحات من الفقرة السابقة التي نقلناها عنه ) ، وقد بدأ  الخديو على عادة الروايات الغربية برسم ملامح لورد كرومر مختلطة (على سبيل المثال)  بشعوره المنقبض تجاه هذه الملامح فقال: “.. جاء ممثل إنجلترا لمقابلتي، بمجرد أن بدأت الأحداث التي تلت اجتماع أول مجلس نظار لي تنمحي . وكان لورد كرومر رجلاً متوسط الطول، وله وجه يدل على الطاقة، ونظرة نافذة. وقالوا إنه مثقف، وادعى القريبون منه أنه كان يشغل أوقات فراغه بترجمة “أوديسة” هوميروس إلى الإنجليزية . ورغم ذلك، فلم يكن هناك أي شعر في حديثه، وكان رجلاً عملياً بكل معنى الكلمة. ولم يأت أي سحر طبيعي لكي يصحح هذا المظهر من صفاته. وكان خادماً نشطاً لإنجلترا، ويخضع كل افعاله لمصالح بريطانيا العظمى، ودون أن يشغل نفسه بالمؤثرات التي يمكنها أن تؤثر على ضميره…. وكانت مقابلتنا الأولى عادية. ونظراً لسني الصغير، اعتبر ممثل إنجلترا أن من حقه أن يعطيني توجيهات ونصائح. وقبلتها مع بعض الغضاضة”.

حرصه الدائب على نسبة بعض الإنجازات لنفسه لا للورد كرومر  

مما يستحق الذكر ان نشير الى ان الخديو عباس حلمي كان حريصا على ان يفخر  لنفسه بكثير مما نسب إلى لورد كرومر بينما هو من أفكاره هو وأبرز مثلين على هذا : سد أسوان وإلغاء السخرة والكرباج. ومع أننا نوافق الخديو على كل انتقاداته للورد كرومر فإننا نأخذ عليه أنه في سرده لخلافاته مع ذلك الاستعماري العتيد لم يعن بأن يقرن هذا  بتقديم صورة مشرقة  عن مبرراته الوطنية ، و رأيه هو نفسه في القضايا الخلافية بينه وبين لورد كرومر ، وكأنه يعتمد على ثقتنا في  وطنيته في مقابل امبريالية لورد كرومر، وقد كان في وسع الخديو أن يصور في مذكراته و بتوسع معقول آراءه التفصيلية في عدد من القضايا المهمة التي اشتهر خلافه مع كرومر فيها ، لكنه لم يفعل هذا الا فيما يتعلق ببعض الخطوط العريضة.

كل أفعال لورد كرومر لمصالح بريطانيا ، وله  منها كل الدعم  

من العجيب أن الخديو عباس كان يقول بأن كرومر يوجه كل أفعاله لمصالح بريطانيا، وكأنه كان يتوقع غير هذا من استعماري عتيد مثله ، و كان الخديو يعدد عوامل نجاحه فيذكر أنه كانت تدعمه دبلوماسية لها تاريخ، وفي داخل مصر كان لبريطانيا جيش قوي متعدد القوى ، وكان المعتمد البريطاني يستعين بشبكة  مخابرات وصلت إلى استخدام بعض رجال القصر ،على حد رواية الخديو. وقد حاول الخديو التحالف مع الدولة العثمانية ومع الوطنيين ،  لكنه لم يتمكن حتى من حشد هذه الزعامات في صفه كما نرى من تاريخ علاقاته مع الشيخ محمد عبده وسعد زغلول ومحمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش، ذلك انه من حيث لا يدري جعل صورة  سعيه الوطني تحفل بعدد من التناقضات المكشوفة.

لا يعدم الإنصاف في حكمه على البريطانيين

كان الخديو عباس رغم كراهيته المطلقة للبريطانيين ولورد كرومر يعترف ببعض إيجابيات الاحتلال البريطاني ومنها أن كرومر نظم أوضاع البلاد المالية حتى وإن كان هذا على حساب التنمية البشرية والتعليم.

اللوبي المصري الذي كونه الخديو عباس في لندن

بعد ان واجه الخديو عباس حلمي الإحباط المتكرر الناشئ عما اعتبره بمثابة  الحقيقة المرة بعقد فرنسا اتفاقها الودي مع بريطانيا في 1904 وجد نفسه على حد روايته “وحيدا” في وجه إنجلترا،  ومن المدهش ان نراه وكأنما كانت الوعود المعسولة من فرنسا بمثابة غذاء تعود عليه! فأصبح بحاجة إلى بديل له، وهكذا فإنه رأى بعقلية رد الفعل أن يعمل على تكوين مجموعة تدافع عنه مباشرة وعن  توجهاته في العاصمة البريطانية، بما يناظر ما نعرفه الآن باسم ” اللوبي “، و بالطبع فلم يكن  لفظ “اللوبي” قد عُرف في ذلك الحين، وقد جاء تكوينه لهذه المجموعة بخطوات بسيطة تتناسب مع بساطة عصره ، فقد اعتمد أساسا على قاض بريطاني عمل في مصر و كان على خلاف مع لورد كرومر حتى أنه استقال من وظيفته، وعمل بالمحاماة ، وعرّفه هذا القاضي/ المحامي إلى عضوين في البرلمان وهكذا تكون لوبي الخديو في العاصمة البريطانية من هؤلاء على سبيل الحصر . وقد استعان هذا اللوبي بمصريين كانوا يعملون في بريطانيا ووصلوا فيها إلى مواقع مرموقة كان منهم قرياقص ميخائيل .

يروي  الخديو عباس حلمي  تجربته فيقول : “……..وجدت محامياً من لتدن أتى إلى مصر، لكي يعين قاضياً في المحاكم الأهلية. وبعد تعيينه مباشرة، بدأ في تعلم اللغة العربية مع أحد الطلبة المصريين، ثم بدأ في التردد على المقاهي، لكي يتعرّف جيّداً على عقلية الشعب، ويعرف المخالفات والجرائم التي يمكنها أن تقدم على القضاء. ولكن لورد كرومر رأى ان هذا القاضي لا يمكنه أن يحافظ على كرامة بريطانيا، وقدم له ملاحظات قاسية، وكان ذلك أسلوبه المعتاد مع الموظفين الإنجليز. ولكنه هذه المرة كان يتعامل مع قاض كان قد تزوج امرأة غنية ولم يكن يحتاج أبداً إلى مرتبه الذي يصرف له. فقرر القاضي أن يقدم استقالته، وأن يقيم في القاهرة بشكل دائم. وأصبح هو مركز عملنا الفعال في لندن. وهذا القاضي هو بنيامين موسليBenjamin Moseley وكان له أصدقاء من المحامين في لندن، وكان يعرف جيداً القوانين الإنجليزية، التي كانت تهتم بالمسالة المصرية. ومن بين هؤلاء وجد أحد رجال البرلمان، الذي رغم تأييده لبنيامين موسلي، إلا أنه لم يتمكن من مشاركته في نشاطه، إذ أنه كان له ولدان في وزارة المستعمرات. ولذلك فإن الأمر انتهى بالمستر موسلي إلى أن يجد السيد روبرتسون J. M. Robertson، الذي كرس لذلك نشاطه الكبير وإخلاصه الذي نعجز عن وصفه. ونجح هذان الرجلان تماماً في أن يحدا لنا التأييد المرغوب في لندن. وتعاون الشيخ علي يوسف وإسماعيل اباظة باشا معهما بفاعلية وذكاء. وكانت مبادئ مصطفى كامل باشا قد حرمت عليه، بكل أسف، ان يتعاون مع أحد الإنجليز مهما كان موقفه، حتى وإن كان مصطفى كامل يعتقد في جدوى التعاون. وبدأ المستر روبرتسون في طرح أسئلة في البرلمان، وفي استجواب السير إدوارد جراي، وزير الخارجية. ولم تكن أسئلته تمثل أهمية خاصة، إذ تركزت مثلاً على تنظيم اعمال البر، والرفق بالحيوان، وتعاطي المسكرات، وكان السير إدوارد جراي واثقاً في صدق مستر روبرتسون وإخلاصه، وهو صديقه الشخصي والسياسي، فكان يقترح عليه مقابلات خاصة، حيث يتم التباحث في شئون أكثر أهمية. وفهم السير إدوارد جراي أن رغبتنا كانت تتمثل في جعله يعرف الحقيقة، وجعله يسمع من كل الأطراف”.

تنظيم زيارة وفد برئاسة إسماعيل اباظة باشا لمجلس العموم

يشير الخديو عباس حلمي بكل صراحة إلى أن هذا اللوبي المصري في لندن هو الذي تولى تشجيع زيارة ما عُرف بالوفد المصري الذي رأسه إسماعيل أباظة باشا في 1908 إلى لندن حيث التقوا بأعضاء مجلس العموم البريطاني: “…….وأما فيما يتعلق بمهمة إسماعيل أباظة باشا في لندن، فلقد شهد عام 1908 ازدهار الحركة الوطنية في مصر. وفي المجلس التشريعي، ظهرت حركة عميقة تعبر بصدق عن مشاعر الشعب. وقام أعضاء في مجلس شورى القوانين مثل: حسن عبد الرازق باشا، ومحمود سليمان باشا، وإسماعيل أباظة باشا، وأحمد يحيى باشا، وعلي شعراوي باشا، وغيرهم معهم، مطالبين من منصة المجلس بضرورة منح دستور للبلاد”وقد سافر هذا الوفد المصري في صباح 14 يوليو سنة 1908 إلي بورسعيد باعتباره ممثلا شعبيا للجمعية العمومية، وكان هذا الوفد مؤلفا أسماعيل أباظة رئيسا و من السيد حسين القصبي، وعبد اللطيف الصوفاني ( وقد قدمنا ثلاثة فصول عنهم في كتابنا ” أعيان مصر من الاستقلال للاحتلال”)،  ومحمد الشريعي، وناشد حنا، ومحمود سالم. وقد نشر إسماعيل أباظة باشا  بيانا عن أعمال هذا الوفد علي صفحات الجرائد بعد عودته.

كراهيته المطلقة للورد كتشنر

وكما أن الخديو عباس لم يكن يحب لورد كرومر فإنه لم يكن يحب لورد كتشنر بأية صورة ، و هو يقول صراحة إنه نال شهرة لا يستحقها نتيجة لانتصاره على المهديين بينما فشل في حرب البوير وفي أوائل الحرب العالمية حين كان وزيراً للحربية.

رد فعله المباشر تجاه تعيين كتشنر ممثلاً لبريطانيا في مصر

والحق ان الخديو عباس حلمي قد جاهر في مذكراته بانتقاده الشديد للورد كتشنر، لكنه حاول ان يقنع نفسه بان اعتراضاته على تعيين لورد كتشنر كان لها صدى في بريطانيا نفسها :  “……. وحين تم تعيينه ممثلاً لصاحب الجلالة في مصر، فهمت أن مهمتي سوف تكون أكثر صعوبة. وكتبتُ بسرعة إلى أصدقائي في البرلمان البريطاني. وبدا لي أن الحكومة البريطانية، بتعيينها لورد كتشنر، قد اختارت، بالنسبة لمصر، خطاً جديداً في السلوك. ولكن أصدقائي طمأنوني تماماً، وأكدوا لي أن لورد كتشنر قد تم تعيينه في هذا المنصب، لسبب بسيط، وهو عدم وجود أي منصب آخر شاغر يمكن ان يسند اليه مع ما وصل اليه من رتبة عسكرية متقدمة بحكم الأقدمية فقد كان قد وصل الى رتبة السردار” .

المخالفات البروتوكولية التي صمم عليها كتشنر ورفضها الخديو

“…… وأعلن السير إدوارد جراي وزير الخارجية لأصدقائه في مجلس العموم، أنه قد أعطى تعليمات رسمية للورد كتشنر بأن يقدم أوراق اعتماده مثل كل المفوضين المعتمدين لدى بلاط الخديو، وكان عليه أن يحضر في الكسوة الرسمية للوزير المفوض البريطاني، وليس في كسوة فيلد مارشال، وكان كل من سبقه قد حضر إلى مصر على سفينة ركاب. اما هو فقد ذهب أولاً إلى مالطا على سفينة حربية، وكما هي العادة قامت هذه السفينة الحربية، عند دخولها ميناء الإسكندرية بتقديم تحية من 21 طلقة مدفع، وأجابتها قلعة المدينة بعدد مساوٍ من الطلقات. وحصل لورد كتشنر على كل التشريفات اللازمة له حين نزل إلى الأرض، في كسوة الفيلد مارشال… واعتقدت الكتيبة الإنجليزية التي كانت موضوعة في الإسكندرية كحامية لها أن من واجبها إرسال إحدى سراياها للترحيب به. وطلبوا منا أن نقوم بالمثل. ولكننا امتنعنا، لأن مثل هذه الاحتفالات لم تكن مقبولة، من ناحية البروتوكول، بالنسبة لأي مفوض لدينا. وبعد الظهر، قدم لي أوراق اعتماده، مع الاحتفال المعمول به” .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com