الرئيسية / المكتبة الصحفية / عباس حلمي الخديو الأخير: 4/6 رموز الدولة في عصره

عباس حلمي الخديو الأخير: 4/6 رموز الدولة في عصره

جمع الخديو بين التمكن و التقلب

كانت للخديو عباس حلمي اختياراته التي كان يرى أنه يرفع بها أناسا ويخفض بها آخرين وكان بعض هذه الاختيارات يدل على تمكنه ، وبعضها  يدل على تقلبه ، وفي المقابل فإنها في مجملها لم تكن تدل على نضجه بقدر ما كانت تدل على حيرته، وعلى سبيل المثال فسوف نستعرض اختياراته لمشيخة الازهر و رئاسة الوزارة  .

موقفه من الشيخ محمد عبده

من عجائب الدهر أن موقف الخديو عباس حلمي الرمادي (والباهت أحيانا) من الشيخ محمد عبده أصبح هو المحور الأول الحاكم على مكانة الخديو عباس نفسه في التاريخ المصري فأمثالنا من الذين يفهمون ويقدرون دور الشيخ محمد عبده ينظرون إلى الخديو نظرة استعلاء لأنه لم يكن على مستوى الشيخ ودعوته وفكرته وسياسته وإصلاحه، فضلاً عن أنهم يشعرون بالتحفظ و ربما العداء تجاهه نظراً للعراقيل التي كان حريصا على أن يضعها في طريق الشيخ وللعداوات التي كان ينميها في مواجهة الأستاذ الإمام ، ولنذكر أنه كان يبدل ويغيّر في مشايخ الأزهر لأسباب مرتبطة بالشيخ محمد عبده في المقام الأول والأخير، ويكفي أنه لما اختار الشيخ علي الببلاوي للمشيخة اختاره من البعيدين عن العمل في حقل الأزهر فقد كان مديراً لدار الكتب لكن هذا الشيخ العظيم سرعان ما اكتشف أن الشيخ محمد عبده على حق، وهكذا فإنه انحاز إلى آرائه ، وأعلن هذا وكلفه هذا الإعلان منصبه غير باك عليه، وقد كان من المعروف أن اختيار الخديو للمشايخ عبد الرحمن القطب النواوي وسليم البشري وعبد الرحمن الشربيني ( مع فضلهم وعلمهم ) كان في المقام الأول اختياراً لمن هم مخالفون للشيخ محمد عبده، ومع هذا فإن أغلبية الأزهريين لم تعبأ بهذه الرغبة الخديوية التي جعلته يقارن الأستاذ الإمام بمن هم أكبر منه بخمسة عشر عاما (ولد محمد عبده 1849 وولد سليم البشري 1832 وعبد الرحمن الشربيني 1832) وفي هذا الإطار كان ترشيحه الذي أوشك أن يصدر قراره  باختيار الشيخ أحمد محجوب الرفاعي ، ومن حسن الحظ أن مذكرات الخديو عباس حلمي صدرت عاجزة عن أن تقدم نقداً حقيقا أو مصطنعاً أو ضعيفا للشيخ محمد عبده فاكتفت بالإشارة إلى أنه كان من العرابيين ، وإلى أنه كان من المحرضين أو الوطنيين المتطرفين وهما أمران وطنيان مشرفان للأستاذ الإمام.

وعلى كل حال فهذه هي الفقرة الوحيدة التي يخصصها الخديو في مذكراته للحديث عن الشيخ محمد عبده وهي فقرة فرنسية الهوى و الجوى  :

“وفي خلال هذه الاستقبالات كانت لي فرصة رؤية العلاقات الأكثر قبولاً مع الشيخ محمد عبده، ذلك أن الرجل صاحب الذكاء الواضح [معٍ]  الشخصية الخجولة. و مع الإخلاص لإنجلترا، حاولت أن أخلصه من سحر قصر الدوبارة ، ولكن بلا جدوى. ولقد اصطدمت بعناده وإصراره على الخطأ، الأمر غير المتوقع من جانب رجل أعرف أنه طموح، وكنت قد عينته في منصب مفتي مصر، لكي أجعله ينضم إلى القضية الوطنية. وكان رجلاً، رغم اتجاهه التقليدي، يعرف اللغة والحضارة الحديثة، وكان قد ترك نفسه تنجذب إلى آراء أسيء هضمها، وكانت مشاركته في الحركة العرابية قد تركت له بصمات لا تُمحى من الأخطاء المضخمة”.

حديثه غير الموفق عن أعوانه المصريين

وحين نقرأ حديث الخديو عباس حلمي غير الموفق عن أعوانه المصريين، يبدو لنا واضحاً أنه يستقي هذه الآراء من أفكار الفرنسيين المحيطين به، بل ربما أن هؤلاء كانوا هم من حرص على تضمين هذه النصوص التي تلمز المصريين  في مذكرات الخديو ، وهي نصوص أقرب  ما تكون إلى الروح العنصرية التي لا تستحق الإعجاب و لا القبول وبخاصة حين تصدر عن تجربة أمير كان شابا حين تولى المسئولية،  ومن المؤسف أن نجد الخديو عباس وهو يشكو من افتقاده لمن يساعده أو يفهمه من المصريين، لاجئا بنفسه أو بمن كتبوا مذكراته إلى تصوير سوء حظه في المصريين !! الذي عملوا معه على الرغم من امتنانه للفرنسيين في المقابل ، ومن المؤسف مرة أخرى أن تتكرر مثل هذه النصوص منسوبة إلى الخديو عباس الذي كان سلوكه مع الزعامات المصرية المتميزة دليلاً على قصر النظر بأكثر مما كان دليلا على عيوب فيهم ، ودليلا من ناحية أخرى على خضوعه هو نفسه للوساوس والهواجس الفرنسية الطابع .

اختياراته لمنصب شيخ الأزهر

نستطيع أن نتأمل موقف الخديو عباس حلمي من اختيارات شيخ الأزهر وان نجدها اختيارات عظيمة لأنه كان يختار من بين عظماء ، لكنه مارس الاختيار نفسه بطريقة أقل من أن تكون عظيمة و على نحو شبه اضطراري لم يضف إليه  ولا الى صورته وإنما أنقص من الانطباعات المتميزة عن صورته:

  • عند تولي الخديو عباس حلمي في 1892 كان شيخ الأزهر هو الشيخ شمس الدين الأنبابي في فترته الثانية التي بدأت في 1886 لكن هذا الشيخ الجليل لم يستمر في منصبه حتى الوفاة التي كان قريبا منها وإنما مارس الخديو نوعا من تدخل السلطة بتكليف هيئة أو لجنة خماسية  تعاون الشيخ حسونة النواوي ثم اختار الشيخ حسونة نفسه  في 1895  لهذا المنصب.
  • في 1899 اختلف الشيخ حسونة النواوي مع الوزارة فلم يدعمه الخديو مع أن هذا كان واجبا عليه ،  وإنما تركه يستقيل ، وربما كان مستريحا لاستقالته، أو هكذا بدا ، و لو بقي الخديو على اختياره الجيد لبقي حسونة الشيخ النواوي طيلة عهد الحديو  من دون تأرجحات خديوية ، فقد عاش حتى 1925 لكنه قبل استقالته ، وألح رجال الخديو يومها على ابن عمه الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي ليكون شيخا للأزهر فقبل  لكنه توفي بعد شهر واحد.
  • وفي يوليو 1899 بدأ الشيخ سليم البشري مشيخته وهو يومئذ متقدم في السن (ولد 1832) لكنه لم يستطع أن يواصل العمل مع الخديو فاستقال في 1903.
  • ورأى الخديو أن يسند المنصب  1903  إلى شيخ أزهري كان بعيداً عن الأزهر بعض الشيء إذ كان مديراً لدار الكتب ونقيبا للأشراف وهو الشيخ علي الببلاوي ، لكن الشيخ الببلاوي أحس أن الشيخ محمد عبده على حق في خلافاته مع الخديو وأن كل ما يفعله الخديو ليس إلا تعطيلاً للإصلاح الذي ينتهجه الشيخ محمد عبده فآثر الاستقالة في 1905 .
  • ثم رأى الخديو أن يسند المنصب إلى الشيخ أحمد الرفاعي الفيومي وفاتحه في ذلك بالفعل لكن المقربين من الخديو نصحوه بألا يفعل، وأشاروا عليه أن يحاور الشيخ بنفسه حتى يكتشف أن الشيخ لن يحقق مراده ، وهكذا انتقل الخديو في 1905 إلى مرشح آخر هو الشيخ عبد الرحمن الشربيني ، لكن الشيخ الشربيني نفسه لم يستطع البقاء للنهاية مع الخديو فاستقال ،وقبل الخديو استقالته.
  • وعاد الخديو في يناير 1907 لاختيار قديم هو الشيخ حسونة النواوي لكنه استقال للمرة الثانية في 1909 فعاد الخديو إلى اختيار قديم آخر هو الشيخ سليم البشري الذي شهد عهده الثاني عزل الخديو نفسه في ديسمبر 1914 وتولى السلطان حسين كامل عرش مصر.

وقل مثل هذا في كثير من المناصب الوزارية وغير الوزارية بل حتى في مناصب الديوان الخديوي وأقرب المناصب إلى الخديو.

تعاليه الباهت على علماء الأزهر

وقعت نصوص مذكرات الخديو عباس حلمي للأسف الشديد فيما يقع فيه الغربيون و المتغربون ممن تلقوا التعليم الغربي من التعالي غير المبرر على المدرسة الوطنية الأولى في مصر وهي الأزهر الشريف، وقد كان هذا الوقوع بسبب الانزلاق إلى مقارنة الموضوعات التي تدرس هناك بالتي تدرس هنا، وهو أسلوب تقليدي لا يرقى إلى الأساس الفكري الواجب اتباعه في المقارنة، فالعلم لا يُقارن بالموضوعات وإنما يُقارن بالمنهج، ومما يؤسف له ألا ينتبه الخديو عباس حتى وقت كتابة مذكراته إلى حقيقة أن المنهج الأزهري يحظى بكثير من التميز إذا ما قورن بالمناهج الغربية الحديثة على الرغم مما يتصوره هو والغربيون من ضيق أفق المنهج الازهري .

وعلى سبيل المثال فإننا نقرأ إعجاب الخديو عباس بمحمد عثمان جلال1828- 1898  مقرونا بانتقاده للشيخ سليم البشري على نحو يؤذي صورة الخديو نفسه ولا يؤذي صورة الشيخ البشري شيخ الأزهر الذي لجأ إليه الخديو ليتولى هذا المنصب أكثر من مرة.

الفقرة التي ضمنها حديثه عن شيخ الأزهر سليم البشري

نستطيع أن نفهم من حديث الخديو في هذه الفقرة أن الشيخ سليم البشري كان يلجأ للوقار في مواجهة معابثة محمد عثمان جلال في حضرة الخديو :  ” وكانت المناقشات الفلسفية ترتفع فيما بين محمد عثمان بك جلال ، وهو شاعر له سحره، كان قد عرّب قصص  لا فونتين وكتبها شعراً، وبين شيخ الأزهر الذي لم يكن يطل على الفلسفة إلاّ من بين نصوص القرآن. وعليّ أن اذكر أن العالم الديني كان يضطر في أغلب الأحيان إلى الصمت بعد أن تظل علومه المقدسة بدون رد أمام الهجمات الرقيقة والأكثر إنسانية للشاعر”.

تغييراته المبكرة في البلاط الخديوي

بدأ الخديو عباس عهده بتغيير بعض الوجوه التي كانت مقربة من والده وهكذا تخلص من ذو الفقار باشا وثابت باشا وأحمد حمدي باشا الياور الأول للخديو، وهو المنصب الذي أسنده إلى عمه الملك فؤاد الذي عاد إلى مصر مع توليه الحكم .

تفريطه المزعج  في المؤرخ العظيم أحمد شفيق

نعلم أن أحمد شفيق باشا 1860 ـ 1940 كان من كبار موظفي الخديو عباس حلمي وأنه رأس ديوانه ، و كان مرشحا للوزارة أكثر من مرة ، ونعرف أيضا أنه كتب حولياته التاريخية  ومذكراته وكتابات تاريخية كثيرة عن فترة حكم الخديو عباس ( راجع الفصل الخاص بأحمد شفيق باشا في كتابنا ، النجوم اللامعة في كتابة تاريخ مصر الحديث ) لكن الخديو عباس لسبب من الأسباب البسيطة أو التافهة لم يشأ أن يكرم أحمد شفيق في نهاية خدمته له ، ودخل الرجلان في خلاف مادي لم يكن يليق بالخديو عباس حلمي ومكانته.

جدول 3 : رؤساء الوزارات الثمانية في عهده

نظارة مصطفى فهمي باشا الثانية17 يناير 1892 – 15 يناير 1893
نظارة حسين فخري باشا15 يناير 1893 – 18 يناير 1893  
نظارة مصطفى رياض باشا الثالثة19 يناير 1893 – 15 أبريل 1894
نظارة نوبار باشا الثالثة15 ابريل 1894 – 12 نوفمبر 1895
نظارة مصطفى فهمي باشا الثالثة 12 نوفمبر 1895 – 11 نوفمبر 1908
نظارة بطرس غالي باشا12 نوفمبر 1908 – 21 فبراير 1910 
نظارة محمد سعيد باشا الأولى23 فبراير 1910 – 5 أبريل 1914
نظارة حسين رشدي باشا الأولى5 أبريل 1914 – 19 ديسمبر 1914

وزارتا مصطفى فهمي باشا اللتان تألفتا في عهده  

كان مصطفى فهمي رئيسا للنظار حين توفي الخديو توفيق فلما تولى الخديو عباس شكل بحكم بروتوكول الانتقال من عهد إلى أخر وزارته الثانية ، وهي الوزارة التي تربص بها الخديو عباس و حاول أن يحل وزارة حسين فخري باشا بدلا منها قبل مضي يومين على انتهاء عامه الأول في الخديوية ، لكن لورد كرومر أجبره على الرجوع عن هذا الاختيار فتم التوصل الى حل وسط تمثل في تولية رياض باشا طيلة عام وربع عام ثم نوبار باشا طيلة عام ونصف ثم عاد  مصطفى فهمي باشا فالف وزارته الثالثة في 12 نوفمبر 1895  في اليوم التالي لاستقالة نوبار، واحتفظ ببقية الوزراء الذين كانوا مع نوبار، وأضاف إليهم محمد العباني باشا ، فصارت الوزارة مؤلفة منه للرئاسة والداخلية، وحسين فخري باشا للأشغال والمعارف، وبطرس غالي باشا للخارجية، و أحمد مظلوم باشا للمالية، وإبراهيم فؤاد باشا للحقانية، ومحمد العباني باشا للحربية والبحرية

كراهيته لمصطفى فهمي باشا

تجمعت في بناء كراهية الخديو عباس لمصطفى فهمي باشا عدة عوامل  ، في مقدمتها الحساسية المرضية التي كان يشعر بها الخديو عباس حلمي تجاه لورد كرومر ، ومع أن الخديو كان معذوراً ومحقاً في هذه الحساسية فإنه لم يستطع تجاوزها إلى نقاط عملية أو تفاوضية كان يمكن له من خلالها أن يعيد صياغة علاقته بلورد كرومر في اتجاه أكثر إفادة لنفسه  و لمصر ، وهكذا ظل الخديو يعامل “مصطفى فهمي” على أنه “كرومر” فلما مضى الزمن وفقد الخديو عرشه، وقامت ثورة 1919 وتكرست زعامة سعد زغلول زوج ابنة مصطفى فهمي أضيف عامل جديد إلى عوامل كراهية الخديو لمصطفى فهمي فأصبحت هذه الكراهية بارزة و مسيطرة في مذكرات الخديو بل أصبحت وكأنها كانت من المسلمات التي لا تحتمل الإخفاء، ولا تتطلب التبرير. و قد حدث هذا على الرغم من الحقيقة التي قدمناها وجهرنا بها مدعومة  بأسباب موضوعية شديدة (وقد اشرنا الى بعضها في الفصل الذي قدمناه عنه في كتابنا : قبل مشرق النهضة) فقد كان ذلك الرجل المنضبط الهادئ وزيراً و رئيسا ناجحاً قادراً على العمل الجاد وعلى الإنجاز الصامت وعلى الجهد غير المعوق، وهو ما جعل وزارته الثالثة والأخيرة طويلة العمر 1895 ـ 1908 تنجز ما لم تنجزه أية وزارة أخرى في التاريخ المصري حتى الآن ، وذلك بفضل حكمته وكياسته في المقام الأول وبفضل الاستقرار في المقام الثاني.

الرافعي يهاجم مصطفى فهمي بأكثر من مهاجمته للخديو

في رأي استاذنا الرافعي فان وزارة مصطفى فهمي الثالثة 1895- 1908 هي وزارة الاستسلام والولاء المطلق للإنجليز، وأنها كانت خضوعاً وتسليماً للاحتلال البريطاني. ومع أن أستاذنا عبد الرحمن الرافعي ينتقد هذه الوزارة في كثير من قراراتها الاستراتيجية فإنه لا يكاد يوجه لوماً موازياً للخديو عباس الذي هو الحاكم نفسه، ومن حسن الحظ أن التاريخ منتبه تمام الانتباه إلى دوافع الأستاذ عبد الرحمن الرافعي ، ودوافع الخديو، ودوافع الفرنسيين في التقليل من قيمة مصطفى فهمي باشا.

تجنيه الزائد على رياض باشا

كان الخديو عباس حلمي في حكمه على مصطفى رياض باشا متأثراً تمام التأثر بالصورة الفرنسية البغيضة التي رسمها المراقبون الفرنسيون لرياض باشا، وقد رسموا هذه الصورة خدمة لنوبار باشا، ومع هذا فإن رياض باشا صمد للمنافسة مع نوبار باشا طيلة حياتيهما ،  وتولى رئاسة الوزارة ثلاث مرات على نحو ما تولاها نوبار ثلاث مرات، ومما يستحق الذكر أن نوبار باشا تولى رئاسة وزارته الأولى في عهد الخديو إسماعيل ، والثانية في عهد الخديو توفيق والثالثة في عهد الخديو عباس حلمي أي أنه شكل وزارة واحدة في عهد كل خديو من الحكام المتعاقبين  الثلاثة ، أما رياض باشا فشكل وزارتين في عهد الخديو توفيق ووزارة في عهد الخديو عباس حلمي وذلك في مقابل مصطفى فهمي الذي شكل وزارة واحدة في عهد الخديو توفيق ووزارتين في عهد الخديو عباس حلمي ..   ومع أن مسار التاريخ ينبئنا أن رياض باشا لم يكن معوقا  للخديو عباس حلمي (ولا معارضا له في شيء ذي قيمة ، كما أنه لم يخنه ، و لم يدفعه إلى قرار يضره ) فإننا نجد مذكرات الخديو (بما هُندست به  من تشبع بتوجهات غذاها بها الفرنسيون )  و قد حفلت بالنصوص التي تنسب للخديو انه كان يكره رياض باشا على نحو ما كان الفرنسيون يكرهونه، وقد كان هؤلاء يكرهونه لصالح نوبار باشا، ولم يكن من الحكمة أن يكرهه الخديو عباس حلمي اقتداء بهم .

تحامله الشديد في نقده لرياض باشا

يكرر الخديو عباس الحديث عن ان أداء رياض باشا لم يحظ باقتناعه ، وهو على سبيل المثال ينتهز الفرصة عند اضطراره إلى تعيينه  رئيسا للوزراء في 1893 كحل وسط للإشكال الذي وقع بينه وبين لورد كرومر بعد رفض كرومر اختيار حسين فخري باشا لرئاسة الوزراء فيقول : ” ولا شك في أنه [الضمير يعود على رياض باشا ] لم يكن “نسرًا”. وكان قد خدم والدي بلا اهتمام وبأخطاء، وكان له مجرد “نسيج” أحد الموظفين، وكان يتأثر بكل نفوذ، مهما كان مصدره، وكان خجولاً بشكل يمنعه من أخذ أية مبادرة، وكان من كبار محبي الهدوء، وبشكل يمنعه من التفكير في الكفاح ضد شخصية على درجة كبيرة من القوة، مثل شخصية لورد كرومر. وكان خائر العزيمة، طموحاً، وكان يدعي أنه هو الذي يسيّر الأمور، ولم تكن له حتى القوة الضرورية لمقاومة عواطفه الشخصية. حقيقة انهم قد قدموه لي من قبل على أنه المبشر بالاتجاه الوطني المتكامل، وعلى كل حال، فإن اتجاهه الوطني كان غير فعال لدرجة كبيرة،  وكان محصوراً في الكلمات”

كان يعتبر رياض باشا سلطويا

وفي موضع آخر يتجنى الخديو عباس حلمي على رياض باشا  بلا أي مبرر حقيقي فيقول:”…….  أما المبادئ الأفلاطونية التي ادعى رياض انه يؤسس عليها نظامه السياسي فإنها لم تطبق أبداً: ذلك أن الاتجاه الوطني لهذا الرجل ظل دائماً عقليا. وكان متطرفاً، وادعى أنه يحب مصر، لأنه كان يكره كل ما لم يكن مصرياً. وكان قد ظل تركياً قديماً، واعتبر البلاد منطقة نفوذ يتم استغلالها، واستخدام السخرة فيها إلى ما لا نهاية، وفي صالح ارستقراطية جشعة، وكان يرغب في السلطة، دون أن يعرف معناها. ….. وبالاختصار، فإنه كان يضع الاتجاه الوطني خارج نطاق الحرية، اما تضامنه فكان لا يمارسه إلاَ مع ذويه. ولم يكن لدى رياض اية شجاعة، ولا أي شعور سام . ويكفي التلويح له بمنصب، أو مركز يؤمل فيه، او الوعد بميزة من الميزات، لكي تضمن صمت هذا الرجل السياسي، الذي كان مع ذلك ثرثاراً. ولكن الاتجاه الوطني لديه كان لا ينفصل عن مصالح الأسرة، وأفاد طوال حياته من نفوذه ومركزه، لكي يعين أقاربه في المراكز الأكثر ميزة”.

هجومه على موقف رياض باشا في حادث وادي حلفا

وفي الفصل الذي خصصه للحديث عن رؤساء الوزارة في عهده عاد الخديو عباس حلمي إلى الحديث عن رياض باشا بطريقة أشد سوءاً، وكأنه كان حريصا على الانتقام منه، وهو يقول في ذلك الفصل : “…… كان رياض باشا يرغب دائماً في أن يظهر كوطني، ووصل به الأمر، في بعض الحالات، إلى أن يفرض ذلك على المندوب البريطاني. وكان هذا الأخير يتردد في انتقاده، حتى لا يجعله، ومهما كان السبب، يأخذ شكل الشهيد،  ولكنه لم يتردد، ولكي يحافظ على الوظيفة التي عينتُه فيها بدلاً من مصطفى فهمي باشا، في أن يقوم، وبأمر من لورد كرومر، بأن يجبرني على أن أوقع على التصريح العسكري في الفيوم، لكي يرضي بذلك لورد كتشنر، ولورد كرومر. وكما ذكرت من قبل، فإنه كان يكذب. فلقد ادعى أن الماركيز دي ريفرسو، صديقي ومؤازري السياسي، قد غير من اتجاهه حيالي. واتهمه بأنه قد سحب تأييده لي، وتركني بين ايدي لورد كرومر، وذلك في الوقت الذي كان فيه ويلفريد سكاون بلنت Wilfrid Scawen Blunt (وهو إنجليزي) يدافع عني في لندن، في الصحافة الإنجليزية”  وفي وقت حادث وادي حلفا، وعند مجيء رياض من القاهرة لمقابلتي، رفض أن يصحبه  تيجران باشا، ناظر الخارجية المحنك” .

يقول إنه لم تكن له مميزات النظار

و يقول الخديو عباس حلمي : “…….. ولم تكن لرياض مميزات النظار. فكان عديم القدرة، وغير مهذب، ومهينا لمن هم أقل منه، ولم يتمكن أبداً من أن يخلق حوله مناخاً من الود، وكان يجهل كل اللغات الأوربية، وكان يحتفظ دائماً بسلوكيات الأتراك القدماء. وعجز دائماً عن معرفة كيفية تحاشي المصائب، وأن يجد الحلول الخاصة التي تدخر نتائجها بعيداً عني” .

اعتراف الخديو بأن لورد كرومر كان يخشى رياض باشا

على أن المذهل ، بعد هذا كله ، في تقييم الخديو عباس حلمي لرياض باشا هو تكرار إشاراته الصريحة إلى احترام لورد كرومر و الوزراء المصريين لرياض باشا ، و هو أمر يدل على أن الخديو لم يكن يجافى النزاهة على طول الخط في أحكامه المسبقة: “….. وإن كان هذا لم يمنع لورد كرومر من أن يخشاه، ويجعل زملاؤه الوطنيين المصريين يثقون فيه” .

رياض باشا كسب ود الانجليز

و يعترف الخديو عباس حلمي في موضع أخر بهذا النجاح الذي حققه رياض باشا فيقول:  “……..ولكنه عرف كيف يكسب ود لورد كرومر، الذي فرضه عليّ مرة جديدة، في فترة لاحقة، كرئيس للنظار. وكان له جنون خاص تجاه ما كان يسميه “بمرضى مصر”. ويقصد بهم الفرنسيين والسوريين. وانتهى به الأمر إلى أن كرهه الوطنيون وأصحاب الاتجاه الوطني. وعرّضته عدم شعبيته لسخرية رجل الشارع. وكان في مستوى أقل من تحمل المسئولية، ومع ذلك فقد اضطررت لتحمله طبقاً لرغبة “المندوبية البريطانية”.

علاقته بنوبار باشا

يُروى ان الاختلاف العلني  بين الخديو عباس  و نوبار باشا نشأ بسبب موقف نوبار باشا المعارض  لعودة الخديو إسماعيل الأسبق إلى مصر، فقد ساءت حالته الصحية في أوائل سنة 1895 وأرسل إلى حفيده عباس حلمي لكي يأذن له بالعودة إلى مصر إكراما لصحته وشيخوخته، وكان عباس يميل إلى تحقيق هذه الرغبة، ولكن وزارة نوبار رأت أن رجوع إسماعيل من منفاه غير مرغوب فيه من جانب الاحتلال، فرفضت الموافقة على عودته بحجة أنها تخلق لمصر عقبات من جانب الدول التي اشتركت في خلعه،  وتضاعف مرض الخديو إسماعيل حتى توفي يوم 2 مارس 1895. و لم يتمكن الخديو عباس حلمي من التخلص من وزارة نوبار في تلك السنة لأنه كان مدعوما ً من الاحتلال، وأخيراً نجح الخديو عباس  في  تحقيق  أمنيته بان طلب من لورد كرومر إعادة مصطفى فهمي باشا فلما أحس نوبار بهذا الموقف قدم استقالته يوم 11 نوفمبر سنة 1895،وكان هذا آخر عهده بالمناصب الوزارية.

تجربته مع حسين فخري باشا

يروي الخديو عباس حلمي  كيف اقتنع بشخصية حسين فخري باشا ليكون رئيسا للوزراء وهو يعترف بأن زميله تيجران باشا زوج ابنة نوبار باشا هو الذي رشحه له ، وفيما يبدو لنا من النصوص فإن الفرنسيين رشحوا له تيجران ليصعد مثل حميه نوبار لكن لورد كرومر وقف ضد الفكرة تماما ، فقد كان بالطبع يعرف ان نوبار أقرب الى ان يكون عميلا فرنسيا كاملا على حساب مصر ، و كان يعرف أن  عمالته لبريطانيا لا يمكن أن تكون بالقدر ذاته كعمالته لفرنسا  ،  و يصف الخديو عباس حلمي  رئيس الوزراء حسين فخري باشا فيقول : “……وفكرت في حسين فخري باشا، لكي يحل محله (أي محل مصطفى فهمي باشا ) وكان جركسيا ، وكانت سمعته من حيث الأمانة والولاء ثابتة تماماً. وكان يتمتع بثروة ضخمة، وكانت حالته وأخلاقه يضعانه بعيداً عن إغراءات عادية، وتسمح لاستقلاليته بأن تظهر في حرية، واعتقدت أنّه يمكنني أن أجد فيه متعاوناً مخلصًا لبلاده،  معادياً للسيطرة الأجنبية، ويمكنه أخيراً أن يساعدني في مهمتي، بمشاركتي في أعبائي، وبتحمله مسئوليات وظائفه العليا بكل شجاعة”.

مجمل موقفه من حسين فخري باشا

ومع أن حسين فخري باشا كان كما ذكر الخديو عباس حلمي نفسه، بمثابة مرشحه المفضل لرئاسة الوزارة فإنه لم يبذل جهداً كان مطلوبا في الثناء على جهود ذلك الوزير في وزارة  الأشغال العمومية ،وهو جهد كبير ومتصل طيلة عهد الخديو عباس حلمي وهو الجهد الذي أسهم مساهمة واضحة في إنشاء بل في إنشاء سد أسوان وقناطر أسيوط على سبيل المثال .

فقرة ثنائه الجم على بطرس باشا غالي

يقول  الخديو عباس حلمي  : ” …..يمكنني ان أقول إن الرئيس الوحيد لمجلس النظار، والذي عمل بدون توقف، وفي أثناء كل الوقت الذي كان فيه ناظراً، من أجل خدمة بلاده، وأمير البلاد، هو بطرس باشا غالي. وكان إخلاصه للقضية السياسية لا يعادله سوى ذكائه الحاد، وقدرته غير المحدودة في جميع الميادين. وكان رجلاً عالمياً. ولم يرتكب سوى خطأ واحد في حياته: هو دنشواي. وكان تفكيره المبتكر والخلاق في شئون الدولة يعادل أمانته الكبيرة. وكان قبطيا بالديانة، وكان مصرياً عميقاً، ودبلوماسيا متيقظاً. وأمضى هذا الرجل كل حياته في الإدارة، وعرف أماني البلاد. وكانت له ميزة أخرى، فلقد كان والده موظفاً في قصر أسرة السلطان، ولذلك أتيحت له الفرصة لكي يتردد على هذه القصور منذ صباه، وظل مخلصا تجاه الأسرة” .

اعتزازه بتقدير السلطان عبد الحميد لبطرس غالي باشا

و يقول  الخديو عباس حلمي أيضا  :  “……. ولقد أخذته ( الضمير يعود على بطرس غالي ) في صحبتي في اثناء إحدى زياراتي للسلطان عبد الحميد. وأدهشني في قصر هذا السلطان ( الخليفة) بكفاءاته وقدراته على التكيف مع التقاليد التركية، حتى أنه كان من الممكن أن يُقال: إنه من أبناء البلاد”.

“….. والسلطان عبد الحميد، وهو على درجة كبيرة من الصعوبة، خضع لسحر هذا الذكاء المفرط، ومنحه كل ما كان قد طلبه في صالح الطائفة القبطية في القدس. وأراد السلطان أن يمنحه ما يدل على علوّ تميزه، لكن بطرس باشا غالي اقترح أن يعود مثل هذا الشرف على رئيس مجلس النظار، وهو مصطفى باشا فهمي، إذا انه لم يكن في ذلك الوقت سوى ناظر للخارجية. ومنح السلطان الأوسمة لهما، الاثنين، وقال لي: “أتمنى لمصر أن يكون لها الكثير من الرجال من مستوى هذا الناظر، والبعض منهم للباب العالي”.

إدانته لموقف بطرس غالي في دنشواي

مع حرص الخديو عباس حلمي على الثناء الجم والغزير على بطرس غالي باشا فإنه كان أكثر حرصا على إدانة موقف ذلك السياسي المخضرم حين قبل أن يرأس محاكمة دنشواي وأن يصدر أحكامها الفظيعة  القاسية، وهو يقول بكل صراحة : “… ولم يقم بطرس غالي باشا وزملاؤه بأي بادرة، لكي يتهربوا من ذلك الشرف البائس لمحاكمة أبناء بلدهم. ولم تصدر أي كلمة طيبة من أفواههم، وبدون احتجاج، وبدون تردد، ضحوا للأجنبي بهؤلاء البؤساء، والذين كان مصيرهم في أيديهم، والذين كان عليهم أن يستمعوا إليهم قبل أن يحكموا عليهم، ولم يذكر أحد الظروف التي دفعت بالأحداث إلى هذا الحد، والتي دفعت بالأهالي إلى الثأر لكرامتهم. واعترف ان ذلك كان يمثل لي ألماً حقيقياً وكبيراً. واضطربت لياليّ لفترة طويلة. ولم تعطني سرعة تدخل الإنجليز، ولا ضعف الحكومة المصرية الوقت اللازم للتدخل في الوقت المناسب..إن الصحافة الإنجليزية نفسها قد أشارت إلى البؤس الذي كان الفلاحون المصريون يعيشون فيه، وإلى جهلهم وقلة ثقافتهم، وإلى الاستفزاز الذي أثار حفيظتهم، كما نبهت أيضاً على ما تمَّ عند القبض عليهم وتسليمهم للمحاكمة خارج نطاق القانون دون التزام العدالة إلى أن نفذت فيهم الأحكام المختلفة”.

حديثه غير الودي عن محمد سعيد باشا

يتحدث الخديو عن رئيس الوزراء محمد سعيد باشا بطريقة غير ودية لا تتناسب مع ما قدمه له من الخدمات :  ” …. ومارس محمد سعيد باشا سياستين مختلفتين، الواحدة وطنية، لإرضاء أمنيات الأهالي، والثانية شخصية وأوتوقراطية. وهكذا تمكن رئيس مجلس النظار من أن ينظم إدارة للبوليس السري، لمراقبة الآباء، الذين كان أبناؤهم يدرسون في أوربا، ويظهرون كثيراً من الاندفاع”.

تفسيره لما يصفه بأنه تآمر رئيس الوزراء عليه

“……. كان محمد سعيد باشا بكل أسف، أول من شعر، عند وفاة السير إلدون جورست، بأن العلاقات لم تعد كما كانت بين القصر والممثل البريطاني. وبدأ عندئذ في اتباع سياسة قائمة على المؤامرات والدسائس. وكلما شعر بقلة ثقتي به، زاد ارتماؤه بين أذرع الممثل الإنجليزي، لورد كتشنر. وانتهى به الأمر إلى أن طلب حماية الممثل البريطاني ضدي. وأراد لورد كتشنر أن يحميه، ولكن كل مجهوداته ذهبت هباء، واضطر محمد سعيد باشا إلى ترك السلطة”.

نجاح رشدي باشا في دفع العثمانيين الى طرد الشيخ جاويش

يشير الخديو الى الحماس الذي أبداه رشدي باشا في مواجهة الشيخ جاويش وهو الحماس الذي تكفل محمد سعيد باشا بإضاعة نتيجته : “…….. وفي أحد أيام الصيف، وفي الإسكندرية، كان حسين رشدي باشا قد حل محل محمد سعيد باشا، لحين عودته [يقصد أنه عمل رئيسا للوزراء بالنيابة] ، وابلغ تليفونيا بواسطة الجمارك أن أحد الطلبة المصريين، في المدرسة العسكرية التركية قد عاد من إستانبول، ومعه حقائب مليئة بمنشورات موجهة ضد شخص الخديو. وكان حسين رشدي باشا يرغب في إظهار غيرته بكل قوته، ففتح بنفسه تحقيقاً، وأمر بالقبض على الطالب، وطلب إلى الحكومة العثمانية طرد عبد العزيز جاويش، المحرض. وحصل على ذلك” .

الخديو توقع ان لورد كتشنر سيطلب اطلاق سراح الشيخ جاويش

” …… وفي ذلك الوقت، كنت قد ركبت السفينة من أجل الذهاب إلى أوربا، واعطيت موعداً لمحمد سعيد باشا في تريستا ، واستقبلته في صالون الفندق مع سكرتيره، إسماعيل شيرين بك. وأعطيته كل التعليمات اللازمة، والمتعلقة بمصر، وذكرت له مسألة ذلك الطالب. ولفتُّ نظره إلى ان لورد كتشنر سوف يعود من عطلته إلى مصر، في نفس وقت عودته هو، وأنه من المرجح جداً أن يطلب إخلاء السبيل الفوري لعبد العزيز جاويش، حتى يقلل من هيبتنا في البلاد. وعلينا أن نذكر أن عبد العزيز جاويش كان عدواً لإنجلترا، وأن الحكومة البريطانية قد حاولت في مرات عديدة أن تلقي القبض عليه، ولكنها لم تنجح في ذلك. واضفت أن هذا هو الوقت، الذي يمكنه فيه ان يظهر قدراته وطاقته” .

ينتقد استجابة سعيد باشا للورد في إطلاق سراح الشيخ جاويش

“…… وكما كنت قد حذرته، طلب لورد كتشنر، من محمد سعيد الإطلاق الفوري لسراح عبد العزيز جاويش في اليوم التالي لوصوله إلى مصر، ولم يعرف محمد سعيد باشا كيف يتصرف سوى أن يبلغني ذلك برقياً …. “.

شكواه من رشدي باشا مع انه تخطى به سعد زغلول باشا

حين بدت نذر الحرب العالمية والتطورات الدولية كان الذكاء المنطقي أن يلجأ حاكم مصر إلى تعيين سعد زغلول رئيسا للوزراء باعتباره اقوى الوطنيين المتاحين من الوزراء السابقين في ذلك الوقت ، لكنه آثر أن يستبقي حسين رشدي باشا 1863 ـ 1928 في هذا المنصب ثم إذا هو ( منذ أواخر أيامه في ولاية الامر  وبعد عزله ) يشكو مرّ الشكوى من أن حسين رشدي نفسه لم يحافظ له على عرشه مع أنه يعرف حق المعرفة أن شخصية حسين رشدي  لم تكن قادرة على أن تحافظ له على عرشه في مناقشاتها مع البريطانيين، على حين كان من المحتمل أن يكون سعد زغلول قادراً على هذا، ولو أن سعدا كان هو رئيس الوزراء وقائمقام الخديو لاستطاع الوصول الى حلول وسطى تضمن تجنيب  الخديو العزل، وأن يجنب مصر الخضوع التام للحماية و لقرارات  تزويد البريطانيين بالجنود المصريين الذين راحوا ضحية الحملة الاستعمارية على فلسطين والذين مكّنوا البريطانيين من الاستيلاء على القدس تحت قيادة جنود بريطانيين يقودهم أجنبي، فقد كانت طبيعة سعد زغلول كمحام ورجل سياسة متمرس تجعله قادرا على التفاوض  المثمر ، وعلى درجات من التفاوض لا تنتهي الى التسليم التام بمطالب الطرف الآخر بل لا تنظر الي هذه المطالب أصلا على انها  أمر واجب أو بديل مستساغ .

رأينا أن عزل الخديو كان بسبب غياب القدرة على الجدل

وهكذا فإن غياب سعد زغلول أو غياب  من هو بطابع و وزن سعد زغلول عن الأداة التنفيذية (الحكومة أو النظارة) في نهاية عهد الخديو عباس حلمي كان مما ساعد على إنهاء حكم الخديو ،  و لم يكن حسين رشدي باشا بطبعه و دماثة خلقه  وتاريخه وشخصيته قادراً على أن يدخل في مفاوضات أو مجادلات مع القوة الغاشمة بل إنه  لم يكن له يملك من النجاح القديم أو السابق حظا كحظ سعد زغلول الذي كان قد تمرس بالاشتباك مع دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة  المعارف الذي كان صديقا حميما للورد كرومر نفسه ، وهكذا فإن استسهال الخديو في اختيار الشخصيات الأقل ضجيجاً و حضوراً كان من العوامل التي ضيعت عرشه، وبالطبع فإن الخديو لم يعترف بهذا ، ولم يكن مؤهلاً للاعتراف بهذا وكذلك فإن من ساعدوه في كتابة مذكراته وتاريخه لم يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بهذا، ولا لأن يعترفوا به على الرغم من وضوح الحقيقة.

هل كان الخديو عباس قادراً على الحكم بعد 1914

على طريقتنا في التفكير بالسيناريوهات البديلة فإننا إذا ما افترضنا أن لورد كتشنر لم يُحكم ولم يُصعّد مؤامراته التي أدت إلى خلع الخديو عباس ، أو إذا افترضنا أن الخديو عباس قبل بما قيل به خلفه السلطان حسين وأصبح سلطاناً تحت رعاية البريطانيين أو تحت حماية البريطانيين، لوجدنا أنفسنا أمام أسئلة أخرى تتعلق بدينامية علاقاته مع القوى السياسية  (بالإضافة الى الأسئلة المرتبطة بطابع الخديو وتاريخه هو نفسه و التي ناقشناها في الفصل الأول) ولعل أهمها هو السؤال القائل : هل كان الخديو قادراً على الاستمرار في مواجهة تيارات وأجنحة ثورة 1919 وإرهاصاتها التي بدأت منذ 1915 بمحاولات ثورية ومنها محاولة اغتيال السلطان حسين كامل نفسه، و الإجابة تميل ببساطة شديدة إلى أنه كان سيُعاني معاناة شديدة ولم يكن ليستطيع أن يستمر على النحو الذي استمر به في الفترة التي حكم فيها من 1892 ـ 1914 ، وذلك  بسبب مجموعة من الأسباب، فقد  تنامت بالإضافة إلى أغلبية الحركة الوطنية (المتمثلة في الوفد بقيادة سعد زغلول)  ثلاثة اتجاهات أخرى عبرنا عن أقطابها بتعبير الشركاء المتشاكسون في ثورة 1919 ،وعلى الرغم من أن ثلاثتهم كانوا معارضين لسعد وزعامته فإنهم كانوا فيما بينهم وبين بعضهم البعض متشاكسون أيضا ، والغريب أن هذه الاتجاهات كانت أيضا على خلاف كبير مع الخديو عباس حلمي.

تفاقم مشكلته مع الشيخ عبد العزيز جاويش

كان الشيخ عبد العزيز جاويش يمثل أكثر هذه الاتجاهات عداء للخديو ، وكان يظهر عداء واضحاً و سافراً له ، وقد كان هذا الشيخ العبقري (في انطباع الخديو نفسه)  يمثل الجناح المتطرف في الحزب الوطني، فإذا ما تذكرنا أن الخديو كان على خلاف معلن مع الزعيم محمد فريد فلن نعجب إذا وجدناه حريصا على سجن عبد العزيز جاويش وإيذائه في حريته وحركته ، بل إن الخديو يوحي في مذكراته بأنه كان يعتقد اعتقاداً يقترب من اليقين بأن الشيخ عبد العزيز جاويش هو منْ حّرض على اغتياله في المحاولة التي قام بها الطالب الشاب محمود مظهر قبل خلع الخديو بفترة يسيرة.

طبيعة مشكلته مع النخبة المتعلمة الجديدة

ثاني هذه الاتجاهات اختلافا مع الخديو عباس حلمي هو التوجه الذي يتمثل في عبد العزيز فهمي باشا و أقرانه من  طبقة النخبة القانونيين (في القضاء والمحاماة والوظائف العامة) المستندة إلى منطق عقلي [غربي] في تصور الأمور والحكم عليها، وهو توجه لم يكن الخديو يرحب به تماما في ظل خبرته الطويلة بالحكم الشرقي ، فهو يستمد أحكامه على الأمور وعلى الصواب من خبرته بالبشر والقرارات والمعطيات السابقة، ولا تغيب عينه عن الظروف على نحو ما كان عبد العزيز فهمي يريد ان يصور دورا لنفسه و لفكر النخبة التي ينتمي إليها في الحياة ، وكأنهم قضاة معصوبو الأعين.

تجذر مشكلته مع حزب الامة

ثالث هذه الاتجاهات هو اتجاه حزب الأمة ( الذي سبق لنا أن قدمنا بالتفصيل موقفه منه ) و الذي تحول تقريبا الى ما يسمى بحزب الاحرار الدستوريين ،  الذي نشأ بعد اعلان الاستقلال و وضع الدستور وألقى بقيادته إلى عدلي يكن باشا ، والذي كان يضم مجموعة من الزعماء المحليين ذوي المكانة في عهد الخديو عباس حلمي لكنهم لم يكونوا جميعا من المقربين إليه، ولم يكن هو يرتاح إليهم أو الى كثيرين منهم ، بل إنه كان قد أقحم نفسه ( وهو صاحب الامر) فيما بدا و كأنه جفاء معلن و مزمن مع بعضهم  ومن هؤلاء على سبيل المثال محمد محمود باشا رجل الأحرار الدستوريين القوي الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للحزب ورئيسا للوزارة.

ضعف علاقته بوزرائه الجدد في 1914

لم يكن عمل الوزراء المتميزين الثلاثة ( المتزاملين في دخولهم إلى الوزارة الأخيرة لعهد الخديو عباس حلمي : عدلي يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا ) قد أتاح لهم أو للخديو فرصة تنمية علاقة وثيقة على أي مستوى، بل إننا نستطيع أن نلاحظ أن هؤلاء لو خيِّروا في اقتراع علني بين الملك فؤاد والخديو عباس لاختاروا الملك فؤاد.

لم يكن مُقدما فى علاقة الحركة الوطنية بالأسرة العلوية

وحتى في داخل الاسرة الحاكمة نفسها فلم يكن الخديو عباس حلمي هو الشخص الأكثر شعبية بين الجماهير ولا بين المثقفين فقد كان عمر طوسون باشا يسبقه بالشعور الوطني والعمل الحزبي وكان عزيز حسن يسبقه بالحماس وكان الأمير يوسف كمال يسبقه في الثروة والاهتمام بالفنون.. وهكذا.

لكنه لم يعدم أنصارا

ومع هذا فإن الخديو عباس حلمي لم يعدم أنصاراً له، بل إن المؤامرات التي كانت ترتب ضد اشخاص بعينهم في عهد الملك فؤاد كانت تستند في تشويه بعض الرموز الحزبية والعامة إلى أنه ” على علاقة بالخديو عباس حلمي” على نحو ما ذكرنا في كثير من فقرات كتبنا “العمل السري في ثورة 1919” و “القضاء والساسة في عصر السياسة” و “المقامر والمغامر والمكابر”، و “زعيم الأمة النحاس باشا”.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com