الدولة التي وجد الخديو عباس حلمي نفسه أميراً لها
نبدأ الحديث في هذا الفصل بطريقة طبية تقليدية تماماً ، تبدو وكأنها تبتعد عن شكليات التاريخ وعن شكليات البحث العلمي لكنها تعبر عن جوهرهما على أدق ما يكون التعبير، وتتمثل هذه الطريقة في وصف الحالة على نحو ما بدأنا العلاقة معها، أي وصف الدولة التي وجد الخديو عباس حلمي الثاني نفسه أميرا عليها ، وفي رأينا فان الكتابة عن الخديو عباس حلمي لا تستقيم من غير هذه الطريقة ،فقد كانت ظروفه ملتبسة إلى حد لم يوجد مع غيره ، ذلك أن صعود سلفه الذي هو والده الذي هو الخديو توفيق إلى عرش مصر كان آخر احتمال يتصوره الذين عاشوا فترة صعوده لكن هذا حدث فجأة بمبررات مفهومة ، وإذا بهذا الخديو الجديد توفيق يواجه واقعاً مضطرباً على نحو لم يكن من الممكن حتى لمن هو أكفأ منه أن يتعامل معه على نحو أكفأ من النحو غير الموفق الذي تعامل به الخديو توفيق ، لكننا حين نتأمل الأحداث بعد 140 عاماً من وقوعها نستطيع الآن أن نفهم الأثر الجميل الذي يقول لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، ذلك أن الكوارث التي حاقت بمصر بعد تولي الخديو توفيق وطيلة توليه الحكم كانت بلا شك أخف من الكوارث التي كانت تنتظرها وتتربص بها ، إذا ما قدر لمصر أن تتوزع وتتمزق بين الدائنين المبتزين المتآمرين و حكوماتهم ، وينطبق هذا أيضا على الحوادث الكبار التي رسمت معالم تاريخ تلك الفترة الصعبة من حياة مصر، ومن الجدير بالذكر أن الأسباب التي دفعت الأمور إلى مسارها كانت أسباباً سلبية بأكثر منها إيجابية على نحو ما سنرى.
تعداده للعوامل السبعة التي غلت يد والده الخديو توفيق
في وسط مذكرات الخديو عباس حلمي وجدنا هذا النص المعبر بدقة واختصار عن تصوره لمأزق والده وهو المأزق الذي انتقل بالطبع اليه مع وراثته للعرش ، ونحن نلاحظ في هذه الفقرة وفي كل مذكرات الخديو عباس الحرص الشديد على الإغفال التام لذكر المطامع الفرنسية لسبب بسيط و طريف هو أن أعوانه الذين كتبوا له هذه المذكرات كانوا فرنسيين و قد كتبوها أيضا بالفرنسية .
و هذه هي المذكرات تقول على لسان الخديو عباس حلمي الثاني : ” وأثناء كل الوقت الذي حكم فيه، وجد والدي نفسه محصوراً في دائرة مثبطة للعزيمة، وظالمة، ولا يمكن تبرير أفعالها: دائرة من الحقد، والعنف والشكوك. ومنذ فتنة عرابي، التي زاد الاحتلال من نتائجها، أصبحت يده مغلولة، ووجد نفسه مهزوماً في عمله كحاكم. ولقد عمل كل من الباب العالي، ولورد كرومر، والمراقبون الأجانب للدين العام، وكذا عدم مبالاة الأهالي، وإخلاء السودان، وسلبية رجال السياسة، وعقبات أخرى متنوعة لم يتمكن أبداً من أن يخلص نفسه منها ـ عملت كل هذه العناصر على وأد كل مبادرة، أو قرار كان يمكن أن يتخذه في الوقت المناسب”.
تضخم المطامع الفرنسية و البريطانية
نبدأ بتكرار الحديث عن الحقيقة الجوهرية الأولى وهي أن بريطانيا وفرنسا كانتا تتلمظان بمصر سراً وعلنا، وكانت لفرنسا في حكومة مصر والأسرة العلوية عناصر قوة تفوق ما كان لبريطانيا لكن السياسة البريطانية نجحت في أن تحصل لنفسها على الفريسة كلها ، وأن تحرم فرنسا من الفريسة تماما ، وعلى الرغم من مصطلح الفريسة المؤسف الذي استعملناه، فقد كان المفترس البريطاني أرحم بكثير من المفترس الفرنسي لأنه كان أهون أو اقل ظلما، كما كان أقسط أو اقل جوراً، وكان ألطف أو أقل تعصبا، وكان قبل كل شيء متعصباً ضد الإسلام ولكن تعصبه ظل في حدود الظلم ، ولم يصل الى طابع الافتراء على نحو ما تعود الفرنسيون ، وكما فعلوا في ذلك الحين في تعصبهم وعداوتهم للإسلام في شمال إفريقيا وقلب إفريقيا. ويمكن للمتأمل أن يرى من تعاقب الأحداث في نهاية عهد إسماعيل وطيلة عهد توفيق ثم عهد عباس حلمي الثاني أن مصر لم تحصد من سياسة فرنسا إلا الوعود الكاذبة و المؤامرات الخبيثة والتداخلات الضارة.
نحن لا ننكر بالطبع أنه كانت هناك شخصيات فرنسية قليلة جدا متعاطفة مع القضايا المصرية لكن هذا كان استثناء غير ذي أثر مفيد اللهم إلا في إذكاء الحماس في شخصيات من طراز الزعيم مصطفى كامل على يد السيدة جولييت آدم وفيما عدا ذلك فقد كانت السياسة الفرنسية حريصة كل الحرص على استباق بريطانيا إلى استغلال مصر وعصرها لمصلحتها، وهو ما لم يمكنهم منه الإنجليز.. وقد كان هذا (مع ما يتضمنه من الظلم و السوء ) بالطبع من حظ مصر الأقل سوءا من حظ الجزائر على سبيل المثال .
لما بدأت حركة الوعي السياسي في نهاية عهد الخديو إسماعيل كانت الدولة العثمانية بحكم ما ذكرناه في كتابنا ” أخلاق العثمانيين في الاستقطابات الأوربية” غائبة عن كثير من الجزئيات المتفاعلة مع الأحداث وذلك بسبب غيابها عن فضاء القراءة بمعناها الواسع ، وكانت فرنسا تسد هذا الفراغ العثماني باتصالها المباشر والدؤوب بالشخصيات العثمانية التي كانت تعرف الفرنسية وتتصل بالثقافة الفرنسية وكذلك كان الأمر في مصر، وهكذا كانت فرنسا في واقع الامر مساهمة في كثير من التحميس لكل تمرد أو رأي آخر داخل مصر سواء في ذلك تيار الوطنية في الجيش وعلى رأسه البارودي وعرابي وسواء في ذلك تيار الاستقلاليين في البرلمان من قبيل المويلحي ، وفي الحياة العامة من قبيل الأفغاني ومحمد عبده وعبد الله النديم
تعجبه من موقف العثمانيين والفرنسيين من ثورة عرابي
يستدعي استيعاب الخلفيات المباشرة التي كوّنت ملامح الصراع السياسي في الدولة التي ورث الخديو عباس حكمها أن نتملى صورة العناصر الحاكمة في تاريخ مصر و الصراع الأوربي في عهد الخديو توفيق و آلية الصراع وأوراق الضغط التي كانت في يد كل طرف من أطراف الصراع ، مهما كانت حقائق ما حدث مخالفة لتصوراتنا التي كونتها الكتب التاريخية التي توجهت لأغراض أخرى غير الحق و الحقيقة ، وربما نحيل القارئ إلى بعض ما صورناه من قبل في كتابنا قبل مشرق النهضة ، ومن العجيب على سبيل المثال أن فرنسا كانت هي من بدأت تغدية الشعور بالعداء عند الباب العالي تجاه عرابي وحركته في الوقت ذاته الذي كانت تغذي شعور عرابي وحركته بصواب وضرورة ما يفعلون من الاحتجاج المنتهي بالتمرد، وعلى صعيد آخر فمن العجيب أن أبرز عناصر الخيانة التي أدت إلى هزيمة الوطن و الثورة جاءت من فرنسا التي لم تف بتعهداتها بعدم استغلال القناة، وهكذا انتصر الإنجليز على الوطنيين وشاركتهم فرنسا بالتآمر لكنها لم تشاركهم في المعركة، وهكذا اعتبر الإنجليز أنه ليس من حق فرنسا شيء في الغنيمة التي غنموها من مصر و الدولة العثمانية.
ربما يتداعى هنا السؤال عن سبب تخلي الدولة العثمانية عن عرابي حتى إن الأمر وصل الى صدور إعلان من الخليفة العثماني الذي هو السلطان عبد الحميد الثاني عن عصيان عرابي على الرغم من أن أصول السياسة كانت تقول بأن مصلحة الدولة العثمانية كانت تكمن في تقوية حزب عرابي في مواجهة الخديو، والحقيقة أن هذا الخطأ الذي ارتكبته الدولة العثمانية بعد تمسكها بالصواب لفترة طويلة لم يكن له سبب إلا الوقوع ضحية للمؤامرات الفرنسية المكثفة و اللحوحة ، و هي المؤامرات التي كان الإنجليز يجيدون الاستفادة منها و توظيفها بأكثر من الفرنسيين ، ومن الثابت ان الدولة العثمانية و فرنسا كانتا تؤيدان عرابي و ظلتا كذلك الى قرب نهاية المواجهة فتخلتا عن عرابي وعن حركة عرابي ، و بغباء سياسي منقطع النظير فقد صب التخلي الفرنسي في مصلحة الانجليز.
والده أصبح مدينا للإنجليز وحدهم بعرشه
في كل الأحوال فإن الخديو توفيق أصبح مدينا للإنجليز بعرشه، وغير مدين لغيرهم بهذا العرش، وقد بقيّ كذلك عن اقتناع بمبررات حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادله في صحتها، كما أنه ظل كذلك على الرغم من أن الإنجليز كانوا يخالفونه في كثير من آرائه، لكنه كان أعقل من أن يعصي لهم أمراً على نحو ما فعل ابنه الخديو عباس.
لماذا لم ينهج الخديو عباس نهج والده تماما
كان من المفترض إذاً أن يسلم عباس حلمي للإنجليز بنفس المستوى والقدر والإذعان الذي كان والده يسلم لهم به لكن عوامل متعددة جعلت الخديو عباس حلمي لا يمشي على خط ابيه تماماً:
- فقد تولى وهو في الثامنة عشرة من دون أية ممارسة سابقة بينما تولى والده في السابعة والعشرين بعد أن كان قد تولى مسئوليات عدة كان منها رئاسته للوزراء (النظار) في عهد والده ..
- وقد كان متقدما في تعليمه وما تعلمه على ما ناله والده هو من التعليم .
- وقد جاء إلى الحكم والأمر مستتب ولم يكن كوالده في حاجة إلى من يساعده على أن يستتب له الأمر.
موقفه السلبي غير الموفق في الأزمة الليبية
لا يمكن لأحد أن يدافع عن الدور السلبي الذي وقفه الخديو عباس حلمي من الحرب الإيطالية على ليبيا وطرابلس، وعلى حين نتأمل في إيجابية جهود الأمير عمر طوسون وجهود كثيرين من أعيان المصريين في دعم المقاومة الليبية والطرابلسية فإننا نعجب من موقف الخديو عباس الذي فرض على نفسه أن يقف موقف المراقب الناقد والناقم على دور الدولة العثمانية التي كانت في ذلك الوقت خاضعة للاتحاديين من العسكريين الانقلابيين (مع أنه هو نفسه كان يبدي التحالف معهم ) ، وقد كان الخديو عباس حلمي ينتقد الحماس الإسلامي مثلا من دون أن يدعي الموضوعية، و انما كان يبرر انتقاده للحماس بأنه حماس غير مدروس، كما انه كان ينتقد فتح باب تأهيل المحاربين مع أن هذا البديل التركي كان هو كل ما تملكه سلطة عسكرية الطابع كسلطة هؤلاء الاتحاديين في مثل هذه الظروف.
اطلاع الانجليز على خطط تهريب الضباط والاسلحة و لليبيين
فإذا ما أضفنا إلى هذا ما تشي به المذكرات الأوربية بوضوح من أن الخديو لم يكن مع الثوار الليبيين أبدا ، وإنما كان أقرب إلى أن يكون ضدهم فإننا لا نستطيع تقديم أي دفاع عنه ولا عن سياسته ولا سلوكه، ومن المشهور في المصادر الاوربية ان العلاقة بين الخديو و الانقلابيين العسكريين الاتراك كانت قد ساءت بسبب موقفه من الحرب الطرابلسية حيث اطلع الانجليز على خطط تهريب الاسلحة والضباط.
مقدمات عزل الخديو
باختصار شديد فقد انتهز الإنجليز فرصة بوادر الحرب العالمية الأولى وكان عباس خارج مصر فطلبوا منه عدم العودة إلى مصر وفرضوا عليها الحماية رسمياً و أعلن وزير الخارجية البريطاني خلع عباس حلمي الثاني من حكم مصر، في 19 ديسمبر 1914 وقد نشرت صحيفة الوقائع المصرية خبر العزل، وعرض العرش على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي وقبوله للمنصب بلقب سلطان . ونأتي إلى بعض التفصيلات ، ففي صيف 1914 سافر لورد كتشنر وقد ترك الانطباع بانه يسعى لخلع الخديو عباس الثاني الذي طال خلافه معه ، و كان الخديو يعرف بما اعتزمه كتشنر ، فاستحسن أن يمضي الجزء الأكبر من رحلته الصيفية في الآستانة حتى اذا سعت الحكومة البريطانية عند الباب العالي في مسالة خلعه كان قريبا وقادرا على الدفاع عن نفسه ، وفي 23 يوليو 1914 وصل الخديو الى الآستانة بعد أن أمضى بعض الوقت في باريس، وعند نشوب الحرب قرر العودة إلى مصر غير أن الحكومة الانجليزية رفضت عودته، ومع ذلك فإن رئيس الوزراء حسين رشدي تظاهر بانه سيطلب من البريطانيين عودة الخديو، وفي 3 سبتمبر 1914 زار ماليت سفير انجلترا في الآستانة الخديو عباس في مقر اقامته ، وطلب منه السفر لإيطاليا وترك الآستانة، ولكن الخديو رفض لأنه اعتقد أنه سيرسل منفياً إلى مالطة، ثم لقيه مرة أخرى وأخبره ما نمي اليه (أو ما اخترعه ) من أن وجوده في الآستانة يشجع العسكريين الأتراك على تأليف مائة ألف عسكري لإخراج الانجليز من مصر، وقد أخبره بأن دورية خيالة ضمت عشرين شخصا من العرب وصلت رفح فحياها جنود النقطة المصرية على الحدود، و مكثت الدورية يومين في الأراضي المصرية قبل أن تعود . وفي 27 سبتمبر زار ماليت سفير انجلترا في الآستانة الخديو عباس وأفهمه أن عليه السفر إلى نابولي في الحال، فلما ذكر له أنه ليست لديه أية نية في الاقامة بها رد عليه السفير بلهجة مؤكدة : ” إنك لن تعود إلى مصر مرة أخرى”
رواية الزعيم محمد فريد
أشار الزعيم محمد فريد بك في مذكراته إلى هذا اللقاء بقوله: “إن سفير انجلترا قصد الخديو في قصره وطلب منه ان يغادر الآستانة إلى غير مصر، إلى إيطاليا مثلاً أو سويسرا لأنه يشاع بأنه يتفق مع الأتراك على إرسال جيش يطردهم من مصر فأجابه الخديو عباس بالرفض رغما عن تهديد السفير له بان هذا المنع يؤثر على مصالحه المادية والأدبية أيضاً”.وطلب الخديو من الزعيم محمد فريد مقابلة أنور باشا وطلعت بك ليتفق معهما على ما يجيب به السفير الانجليزي اذا طلب منه ذلك، فكانت النصيحة ان يدعي المرض، و في ذلك الوقت وضع الخط التلغرافي المباشر بين رشدي والخديو تحت رقابة رسل بك الحكمدار الانجليزي للجيش المصري. وازدادت رغبة الخديو في استمرار حكمه لمصر في الوقت الذي تأكد فيه من ان الانجليز يواصلون إيحاءهم له أنهم لا يريدون له ان يعود الى مصر، فهددوه بنسف المحروسة كما حدثوه عن حرارة الجو في مصر، وانتهى الامر بإقناعه باستحالة تحقيق رغبته بالعودة الى عرشه.
اتفاقه الذي لم يشر إليه مع الاتراك والألمان
نُسب الى الخديو في ذلك الوقت ما لم يكن ممكنا له أن يعلن الفخر به أبدا بأية صورة (بعد ما حدث في نتيجة الحرب العالمية الأولى من هزيمة الالمان و الدولة العثمانية) وهو انه كان قد بدا يفكر في الاتفاق مع العسكريين الاتراك على استرداد استقلال مصر بالقوة بمساعدتهم وعودة الحالة الى ما كانت عليه قبل الاحتلال البريطاني في 1882، و نسب اليه انه اتفق فعلا مع انور باشا على تنفيذ هذا الراي، ووضعت الخطة على أساس اثارة حماس المصريين الى جانب الدولة صاحبة الخلافة الاسلامية، واعد الخديو منشورا لإرساله الى مصر يتضمن الهجوم على السياسة الانجليزية في مصر، وما اعدته الدولة العثمانية لاسترجاع مصر واعادة العرش للخديو الشرعي، مع منح مصر الدستور الكامل و الحرية والاستقلال. وقد ايد امبراطور المانيا الخطة عن طريق سفيره بالآستانة.
وتروى مصادر متعددة أن الاتراك أعدوا حملتهم بقيادة جمال باشا وبدون علم الخديو عباس ورفضوا حتى ان يصاحبها فقد كان انور باشا يخشى تدخله في القيادة لعدم استعداده العسكري وكان يرى الا يسافر الخديو من الآستانة الى بعد ان يتم النصر للجيش التركي على قناة السويس”. ولما رأى الخديو ان الامر تعقد بالنسبة لقيادة الحملة له رغب في تعيين عمه البرنس ابراهيم حلمي قائمقام له يرافق جمال باشا قائد الحملة ويدخل معه مصر نائبا عنه حتى يعود هو، وكان سفير المانيا قد وافق عندما عرض الخديو عليه ذلك ، وتكلم في ذلك مع الصدر ، ولكن الصدر لم يعطه ردا صريحا بحجة اخذ راي انور باشا ،ثم وصلت برقية من قائد الحملة بمنعه من السفر الا بعد ان يجتاز الجيش العثماني قناة السويس، وارجع جمال باشا رجال الخديو الى الآستانة. و كان هذا دليلا على ان جمال باشا لا يريد الخديو ولا رجاله عند دخول مصر . ولما تعقد الموقف الى هذا الحد أدرك عباس أن وجوده في الآستانة سيكون خطرا حتى على حياته فغادرها إلى فيينا في 15 ديسمبر 1914، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى عزلته انجلترا من حكم مصر.
اتصاله بالألمان في الحرب العالمية الأولى
هكذا كان على الخديو عباس حلمي الثاني ان يرضي المانيا حيث ان انتصارها يثبت دعائم حكمه في مصر، فارسل في اوائل سبتمبر 1914 الى امبراطورها برقية تهنئة يهنئه فيها على سلامة ابنه ونجاته فرد عليها الامبراطور بأخرى يتمنى فيها سعادة مصر، واعقب ذلك ان ذهب عباس الى السفارة الالمانية بالآستانة . وفيما يبدو بعد ذلك من المصادر المتاحة فإن علاقة الخديو بألمانيا في الحرب العالمية الأولى لم تكن خالصة الولاء على حد التعبير العربي ، فقد كان الألمان على سبيل المثال يعرفون أنه ظل يتفاوض مع البريطانيين حول ممتلكاته في مصر ودخله منها، ومحاولة نقل العرش إلى ابنه الأمير محمد عبد المنعم … الخ ، وهكذا فإنه ببساطة شديدة كان يصدق عليه وصف المؤرخين القائل إنه كان يتباعد عن الألمان حين يجد قبولا من البريطانيين ، ويعود إلى الألمان حين يختلف مع البريطانيين.
رأينا في أن عزل الخديو كان البديل الأفضل كختام لتاريخه السياسي
مرة أخرى فإننا لا نجد في تاريخنا الحديث واقعة ينطبق عليها القول الحكيم : “لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع” كواقعة عزل الخديو عباس فلو أنه لم يعزل لأصبح تاريخه كله (وليس تاريخه بعد 1914) منحصرا في خانة لم يكن له فيها نصيب ولم يكن هو نفسه يطيق أن يكون له فيها نصيب، وهي خانة العمالة للإنجليز كموظف انجليزي وان كان غير مطيع في بعض الأحيان ، ولأسدل الستار على كل الأمجاد المتصلة بمحاولته فرض شخصيته والسعي لتحقيق استقلال الوطن ، وبث الحماس الوطني، وتشجيع الحركة الوطنية والعمل من أجل التحرر! وكيف لا يُسدل الستار على هذا كله إذا قبل أن يستمر تحت الحماية وأصبح بموجب هذه الحماية البريطانية التي فرضت على مصر مجرد صنيعة صدر الأمر بتوليته العرش من المحتل البريطاني.
لكنه أيضا كان هو من صنع هذا المصير
لا يتعارض هذا الرأي مع رأينا القائل بأن الخديو هو الذي قاد نفسه إلى هذا المصير باختيار رئيسي الوزراء الأخيرين في عهده اللذين لم يكونا قادرين (معاً أو منفردين) على مفاوضة البريطانيين للحصول على صيغة تحفظ لمصر حقوقاً من حقوق الدول التي تعتز باستقلالها. وقد عرف عنا كثيرا القول بأن الخديو عباس تخطى من كان متاحا لهذا المنصب بحكم حركة التاريخ وهو سعد زغلول باشا ، ولا يقف الأمر عند شخصية كشخصية سعد بقدرتها الحقوقية والسياسية لكننا نتصور أن شخصية كشخصية عبد الخالق ثروت كانت قادرة أيضاً على صيانة حقوق مصر وحقوق الخديو عباس إذا كانت هي من قدر لصاحبها أن يكون هو قائمقام الخديو الذي سيتعامل مع طغيان لورد كتشنر وقرار فرض الحماية البريطانية.
العزل أعفاه من مسئولية قيادة مقاومة مصرية للبريطانيين
وعلى كل الأحوال فإن عزل الخديو عباس اعفاه أيضا من مسئولية قيادة مقاومة مصرية للبريطانيين محكوم عليها بالفشل مسبقاً في ظل الالحاح الحاد المقترن والمرتبط بطغيان الآلة الحربية البريطانية في البر و البحر ، وحرصها على تأمين المنطقة الاستراتيجية المتمثلة في قناة السويس التي تنتقل عبرها الإمدادات من الشرق الأقصى إلى البحر المتوسط ومن ثم إلى أوربا ، ومع ان الحالة السياسية كانت مستقرة في مصر فإن البريطانيين بطبعهم لا ينظرون إلى الأمور هذه النظرة، وإنما هم بطبعهم حريصون على التأمين الحربي الكلي والجزئي، ومن ثم فإنهم لم يكونوا مستعدين لترك مصر بدون تكثيف القوة البريطانية القادرة على السيطرة المسبقة عليها فيما قبل لحظة الأزمة.
تعبيره عن شعوره بمجده في معارضته للإنجليز
نجح الخديو عباس حلمي في أن يعبر عن شعوره الشخصي تجاه بريطانيا عند إعلانها الحماية وأن يمزج هذا الشعور الشخصي إلى حد ما بشعور وطني لكنه لم يبذل جهده في التدليل على هذا الامتزاج بينما كانت الشواهد عليه قائمة، إذ كان يكفيه أن يشير مثلا إلى أن أمين الرافعي عطل إصدار جريدته في ذلك اليوم حتى لا ينشر فيها خبر إعلان الحماية، لكن الخديو كان يعتمد في مذكراته (كما أشرنا كثيراً )على هؤلاء الفرنسيين الذين كانوا يخاطبون فرنسا ولا يخاطبون مصر ،وهو على كل حال يقول في وضوح: “وجاء إعلان حالة الحرب مع تركيا، ليعطي الفرصة لإنجلترا، لكي تعلن بأنها، وهي تمتلك كل سلطات السلطان والحكومة العثمانية وكل حقوق الخديو السابق، مخولة بأن تعمل كل ما ترغب من تغيير في وضعية مصر”.
يرى أن عزله يمثل نهاية حكم أسرة محمد علي
لخص الخديو عباس حلمي الثاني مشاعره تجاه اعلان الحماية فقال ضمن نصوص كثيرة : “…….. لقد تحملت تهديدات، وأوامر جارحة، ولكني أشعر بفخار أن إنجلترا لم تجرؤ على إعلان حمايتها على مصر، إلاّ بعد أن أبعدتني عن السلطة. أما شعار حكمي أي ذلك الميراث المجيد من أسرتنا، فقد احتفظت به بدون أي تلطيخ، أو ضعف. وهكذا، ولكي تقوم إنجلترا بالحكم، وعن طريق سلطان مخلص لها ، حتى وإن كان من الاسرة الخديوية ـ فإنها اختارت الأمير حسين، الذي لم يكن في الواقع أكثر من ستارة”
يستشهد بإعلان الحماية على أن ما قبلها لم يكن حماية
وها هو الخديو عباس حلمي يقول في موضع تال ما نصه : ” …. وما دامت إنجلترا قد وجدت مَن الضروري أن تؤكد وبهذه الطريقة الرسمية، استيلاءها على السلطة المزدوجة الإدارية والتنفيذية في مصر، فإن ذلك يعني اعترافها بأنها لم تكن لها هذه السلطات أثناء حكم توفيق وعباس الثاني ، ……. وبعد شطبي بجرة قلم إنجليزية من حياة مصر، دخلت، وأنا حي، في التاريخ ورفضت أن أخرج منه، لمصلحة ولاستقرار بلادي. ووقع وطني المحبوب من جديد في عبودية أقسى، وأشد ألماً على قلبي. ……. “
يقول بأن عمه مات من الألم وابنه رفض العرش كي لا ينحني
ومما يستحق النظر أن مذكرات الخديو حلت مشكلة رأيه في خلافته المباشرة بعمه باللجوء إلى القول يقول بأن عمه مات من الألم وأن ابنه رفض العرش كي لا ينحني ، و يقول الخديو في هذا المعنى: “………ومن مصر، لم يبق سوى الاسم، والعلم الذي التف حول ذلك الحاكم الذي كتب عليه أن يموت من الألم، والذي رفض ابنه، الأمير كمال الدين حسين أن يأخذ العرش، حتى لا يضطر إلى الانحناء أمام المحتل الأجنبي….. وهكذا انتهى ذلك البنيان السياسي، والاجتماعي، والذي استمر لأكثر من قرن : سيادة الإمبراطورية العثمانية، والفرمانات التي كان الخديو يأخذ منها سلطته” .
إظهاره الاعتزاز بالدولة العثمانية
مما يحسب للخديو عباس حلمي أنه حرص في مذكراته على أن يظهر نوعا من الاعتزاز بالدولة العثمانية على الرغم من أنها كانت قد انتهت ، وزال ملكها وسلطانها، ولم يدفع بنفسه كما فعل مؤرخون مصريون ( اسما) إلى القول بأن إنجلترا حفظت لمصر (وله كحاكم لمصر) حقوقها تجاه الدولة العثمانية في النزاعات التي نشبت حول الفرمانات ، وحول الحدود ، وعلى سبيل المثال فإنه كان يجاهر بأنه استلم فرمان توليه من سلطان تركيا وفقا لحقه الشرعي يوم 9 يناير 1894 أي بعد يومين من وفاة والده حين كان لا يزال في فيينا. وقد ذكر الخديو عباس حلمي بنفسه إشارات عديدة من هذا القبيل في نصوص مذكراته و في مقدمة المذكرات أيضا .
و في هذا الصعيد ، فقد كان من المفترض أن تكون علاقة الخديو عباس حلمي بالدولة العثمانية أقوى مما كانت عليه بكثير ، فقد كان هو الحاكم الوحيد من أسرة محمد علي الذي يرتبط برابطة قرابة الدم بالأسرة العثمانية على نحو ما سنرى في الفصل الثاني من هذا الكتاب ، لكنه مع هذا لم يستطع تنمية هذه العلاقة ولا توظيفها على نحو أفضل مما حدث بل شهدت العلاقة اضطرابات متعددة بسبب تعاقب الظروف السياسية التي كانت تفاجئه دون أن يكون مستعدا لها بالبدائل المتعددة ،فضلا عن أن يكون مستبقا لها ، ولعل هذا يظهر بجلاء في موقفه الغامض من استيلاء الاتحاديين على الحكم 1908 ، وعزل السلطان عبد الحميد الثاني 1909.
تطور علاقته مع الانقلابيين الأتراك
مرّ الخديو عباس حلمي أيضا بعلاقات متبدلة ومتقلبة مع جمعية الاتحاد والترقي التركية وحزبها وانقلابها العسكري بمرحلتيه 1908/1909 ، حتى قيل إن محاولة اغتياله في إسطنبول في 1914 تمت على يد “مخبول” ينتمي إلى هذه الجماعة ، لكن الطريف أن الخديو عباس حلمي مع قيام الحرب العالمية الأولى تصالح مع الاتحاديين في الوقت الذي تصالح فيه أيضا مع عدد من الوطنيين المصريين الذين كانوا قد أقاموا في إسطنبول هاربين من سطوته هو نفسه في مصر.
تخاذل الانقلابيين العسكريين الأتراك
من الانصاف لتاريخنا ان نقول انه في مقابل الطغيان البريطاني المرتبط بوضوح القرار ووضوح الهدف ، فقد كان الانقلابيون العسكريون الأتراك الذين يحكمون الدولة العثمانية منذ الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في 1909 لا يعرفون هدفهم تماماً بل ربما لا يعرفون هدفهم على الإطلاق، و قد ظهر هذا واضحاً في تعاملهم مع السلطان حسين كامل ومن قبله مع الخديو عباس حلمي نفسه، فقد كانوا يعولون على قواتهم التي ستتحرك من تركيا ولا ينظمون جيوشا أو مشروعات جيوش أو بقايا جيوش يمكن لهم أن يعتمدوا عليها في مهام محلية، وفيما يبدو فإن التصور الاستراتيجي عند الانقلابيين الأتراك كان قاصراً إلى حد كبير، فهم لا يحافظون على أرض أو على سيادة ، وإنما هم يعاملون انفسهم كفريق كرة قدم ينتظر الدخول في معركة ينهزمون فيها أو ينتصرون، أوكأنهم طلاب في العسكرية يتوقعون الامتحان ويتمنون النجاح فيه فحسب، وهكذا فإن تفكيرهم في المعركة على أرض مصر انحصر في أن تخرج حملة من تركيا وكأنهم كانوا لا يعرفون أنه من الممكن أن ينقطع بها السبيل في اثناء هذه الرحلة على يد ما يسمى بالثورة العربية التي قادها الشريف حسين، وعلى يد الخيانات المتعددة من جماعات محلية هنا وهناك، ولم يكن الخديو عباس [أو من سيحل محله في مصر] يملك قدرات إقناعية أو تحريكية في الشام بحكم انحصاره التام في داخل مصر كما أنه لم يكن له علاقات حتى مع محور الشريف حسين وهو محور شبيه به من حيث رغبته في تحقيق استقلال ما لدولة عربية ما .
سهولة وضع مصر تحت الحماية البريطانية
وهكذا فإن وضع مصر تحت الحماية البريطانية في 1914 كان أمراً سهلاً على البريطانيين ولم يكن الأوربيون الآخرين المتحالفون مع البريطانيين ليظهروا أدنى قدر من الاعتراض أو التحفظ باعتبار أن هذه الخطوة كانت تصب في مصلحة التحالف الذي يرتبطون به والذي تقوده بريطانيا. وقد أكتمل التفكير في هذا التحالف الاستراتيجي حتى من قبل تبلور تحالف العثمانيين مع الألمان فلما أصبحت ألمانيا مشغولة بتنظيم جيشها مع الجيش العثماني والجيش النمساوي فإنها لم تغير شيئا كثيرا في المعادلة فقد كانت بعيدة إلى حد بعيد عن مصر وظروفها الجيوبولتيكية.
الإطارات الحاكمة لعلاقاته بفرنسا
تبدو علاقة الخديو عباس حلمي بفرنسا ملتبسة بعض الشيء، فهو متأثر تماماً بأساتذته الأربعة الذين اختارهم له راعيه السويسري المسيو لوي روييه الذي تنازل له عنه امبراطور النمسا، وهو متأثر تماماً باعتزازهم الشديد بالحضارة الفرنسية وظنهم التقليدي في تفوقها على الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة البريطانية (دعك من الحضارة الإسلامية التي لم يكن هؤلاء الأساتذة يعرفون عنها الكثير) ، وهو متأثر أيضا بصلاته بالدبلوماسيين الفرنسيين الذين كانوا همزة الوصل بينه وبين العالم وهو متأثر أيضاً بتشجيعه هو نفسه (غير المبرر إلا بحسن النية حيث لا مجال لإحسانها ، بل والقريب من أن يكون في رأينا و على حد وصفنا شيئا مجرّماً ومهيناً) للاستعمار الفرنسي في إفريقيا.
انخداعه في نظرية أبوة فرنسا لنهضة مصر الحديثة
تعود الخديو عباس حلمي الثاني و استسهل أن يصدق ما رواه له أساتذته الفرنسيون ( ومعهم استاذه السويسري ) من أن النهضة المصرية الحديثة ابنة شرعية لفرنسا، وهو حريص في مذكراته على أن يخاطب مشاعر الفرنسيين قبل أي من الأوربيين الآخرين بل قبل المصريين والعرب والأتراك الذين يرتبط بهم.. لكنه مع كل هذا ، وشأنه في هذا شأن رجال الدولة الممارسين، كان يعرف بينه وبين نفسه و يقر فيما بين سطور مذكراته بأن كل هذا خيال بعيد عن الواقع الذي عاشه واكتوى به والذي لم تكن فرنسا قادرة على أن تؤدي فيه هذا الدور الذي بالغ أبناؤها في تصويره، و المثل على ما نذهب إليه واضح جدا لا في رأيه في الاتفاق الودي فحسب، و لكن في كثير من آراء الخديو في مواضع مختلفة من ذكرياته ومن وقائع التاريخ على الأرض ، وهي آراء غطتها و أخفتها الصياغة الفرنسية .
حزنه غير المبرر على فرنسا
تحفل مواضع متفرقة من مذكرات الخديو عباس حلمي بعبارات حزينة تدل على أسف الخديو حين وجد نفسه وحيدا بدون المظلة الفرنسية التي كان يظن أنها ستحميه من غطرسة البريطانيين، وقسوتهم على قراره (واعلى ستقلال وطنه!!) وهو على سبيل المثال يقول : “….. لقد اختلطت الرؤية عليّ، وبقيت وحدي في مواجهة احتلال بلا رقابة، وطموح إنجليزي بلا حدود. ولكني فهمت معنى الدرس. فمن الواجب أن تكون سياسة الدولة أنانية، ومن الواجب ألا تحتل المشاعر أيّ مكان فيها، أما في السياسة الخارجية، فإن الساسة لا يفهمون سوى زواج المصلحة: لم تعد مصر تشغل بال فرنسا، وراحت تولي همها كله للمغرب، وليدها الجديد”.
يلجأ إلى الإنكار وخداع النفس بتمني بقاء الفرنسيين
ومن العجيب أن الخديو عباس حلمي يصور مشاعر نفسية حائرة من نوع غريب، وهي مشاعر البحث عن أي صديق فرنسي بعد هذه الخيانة الفرنسية، ولهذا فإنه يلجأ إلى أن يقنع نفسه مثلا بأن الجالية الفرنسية في مصر لم تكن موافقة تماما على هذه السياسة الفرنسية الودية ، وبهذا التصوير البائس يحاول الخديو أن يخدع نفسه حتى لا يصبح عدواً مباشراً لمن خانوه وتخلوا عنه، بينما هو لا يزال حفيا بأن يقول إنهم تخلوا عنه، وأنه لم يكن هو منْ تخلى عنهم. و ها هو يقول في مذكراته : ” ….. وضعت أحداث 1904 نهاية لسياسة التعاون الفرنسية المصرية. لقد ظللت مخلصاً لأصدقائنا الفرنسيين طويلا، ولم أكن أنا الذي تخلى عن فرنسا، بل كانت هي التي انسحبت”. بل إن الخديو عباس حلمي يقول بكل وضوح : “وعليّ أن أعلن، لكي أكون عادلاً، أن اتفاقيات 1904 لم تقبلها الجالية الفرنسية في مصر، بحماس. فتقاليد الولاء للبلاد المضيفة قد ظلت، لوقت طويل مع بعض الفرنسيين في مصر، والذين كانوا يستندون إلى تقاليد وطنية، والذين وجدوا أن أفضل وسيلة للاحتفاظ بحريتهم تتمثل في احترام حرية الآخرين. ومثل هذا الموقف يحمل شيئاً من العزاء على تخلي فرنسا عنا، ولكنه لا يكفي، بكل أسى، لإصلاح الضرر الذي قد وقع”.
خيبة أمله بسبب فشل الاحتلال الفرنسي للسودان
على أن الخديو عباس حلمي بكل ما عرف عنه من رغبة دائبة في اعلان ميله لاستقلال مصر وصل إلى حدود لا يتصورها عقل وطني حين عبر عن خيبة أمله الشديدة عندما فشلت محاولة الفرنسيين احتلال السودان ، بسبب يقظة البريطانيين، وهو يقول بكل صراحة ما لا نحب (و مالا نستسيغ) أن يكون هو الذي كتبه ولا وافق عليه ، وإنما نرجح أن يكون الفرنسيون الذين كتبوا مذكراته قد دسوه عليه: “…… احتفظت بالكثير من الإعجاب والود لأولئك العاملين والمصممين على عمل كان يمكنه أن يكون ضخماً، والذي كان فشله يمثل، فيما يتعلق بمصر، نهاية حلم جميل. لقد رأيت أبطال هذه الملحمة الكبيرة، وشددت وأنا مضطرب على أيدي الضباط النبلاء، الذين كانوا، لكي يحضروا صوبنا قد حققوا حملة عظيمة عبر إفريقيا، وقدموا مثلاً للتحمل والنشاط، الذي يمكنه وحده أن يطمئن الضمير” .
وصفه لشعوره بالوحدة في مواجهة البريطانيين
وصف الخديو عباس حلمي الموقف الدولي لمصر بعبارات حائرة تدل على قلة الحيلة مع استسهال الاعتماد على ما كان الماضي قد وفره له من جو مريح بسبب صراع العثمانيين و الفرنسيين والروس مع بريطانيا : “….. كانت تركيا قد تخلت، وروسيا قد فقدت الأمل، وها هي ذي فرنسا وقد أغمي عليها، وحولت أنظارها المجهدة إلى مكان آخر. وانتهى الصراع بتنازل كانت مصر هي رهينته. وكانت فرنسا، والتي لم تكن مستعدة إلّا قليلاً لخوض حرب كريهة، خاصة وأنها كانت قد دخلت في مشروعات استعمارية انتقدها الرأي العام كثيراً، قد رأت نفسها مضطرة لأن تقنع بالتخلي. وحاولت أن تحصل على تعويضات في أماكن أخرى، ولما لم يكن في وسعها التخلي عن مصر للإنجليز، فإنها حاولت أن تقلل اهتمامها بها”.
ثم يقول الخديو عباس حلمي الثاني : “….. وإني أعترف بأني وجدت صعوبة في فهم هذا الفتور المفاجئ من جانب دولة صديقة. وكان صعباً عليّ للغاية رؤية إهمال أكبر المجهودات، والإخلاص الكامل، والتخلي عن مصالح شاسعة”.
يصف مستعمرين ظلمة بصفات النبلاء
ثم يتنهد الخديو عباس حلمي أو يأخذ نفسا عميقا و هو يقول : ” باتيير ! ومارشان! كان هذا بالنسبة لي آخر مظاهرة لها قيمتها لاتحاد شديد من أجل سياسة تحررية. وعند رؤيتهم وهم يبتعدون [أي بعد أن طردهم البريطانيون] ، شعرت أن آخر فرصة دولية قد أفلتت من مصر. وكانت إنجلترا هي المنتصرة، لقد كسبت الجولة”.
رأينا القائل بالنعمة الباطنة في فشل الفرنسيين
في رأينا المتواضع فقد كان حظ مصر من انتصار البريطانيين على فرنسا يفوق حظ بريطانيا نفسها ، حتى و ان تحقق هذا النصر ( في واقع الامر) بدون وعي الخديو نفسه . و نحن لا نزال نقول ان الخديو عباس حلمي الثاني كان من الذين عافاهم الله (بعد 12 عاما من الضياع و الضلال ) من استمرار الانخداع الابدي بفرنسا ، و بينما انخدع الزعيم الوطني المولود معه في العام نفسه مصطفى كامل باشا 1874- 1908 وكثير من الزعماء الوطنيين في عهدهما ، فإن الخديو عباس حلمي كان يظهر هذا الانخداع فيما يكتب مع عدم التعويل عليه في ممارسته ، وهذه حقيقة مهمة ، ولا شك في انه كان واسع الأفق فيما يتعلق بمثل هذه العلاقات بما اكتسبه من حكمة النمساويين أو خبرة النمساويين أو تربية النمساويين ، وكان مع شعوره الشخصي الكاره للبريطانيين ( بحكم الاحتكاكات اليومية ) يدرك (من دون تصريح كافٍ) بكل وضوح أن إنجلترا أرحم به و بعرشه وبمصر من فرنسا ( حتى لو نصت مذكراته المكتوبة باللغة والروح الفرنسية على غير ذلك) وربما ساعده ذلك على تحقيق كثير من السلامة من التورط فيما كان كفيلاً أن يضيّع حياته أو أن يضيّع عرشه مبكرا عن الوقت الذي ضاع فيه . وربما كان من المفيد أن نذكر أنه حين قُدر للخديو عباس حلمي أن يعزل عن العرش وأن يفرض عليه النفي الإجباري فإنه لم يتصل بباريس و لم ينتقل إلى باريس كما فعل بعض اقطاب العائلة العثمانية وإنما آثر أن يقيم في سويسرا ، و ذلك بعد أن ضاعت الإمبراطورية النمساوية التي كان قد تربى في بيئتها و معاهدها.
مجمل علاقاته بالأوروبيين
على هذا الصعيد ، فلربما جاز التسرع بالقول بأن والده ، أي الخديو توفيق جنى عليه من حيث لا يدري حين آثر بعد تقليب النظر و المشورة أن يربط تكوينه الثقافي والعلمي والحضاري بدولة مستقلة قُدّر لها أن تزول إمبراطوريتها وهي دولة النمسا، حيث تعلّم الخديو عباس حلمي في فيينا، وبلغة لم تكن من اللغتين المؤثرتين في البلاطات الأوروبية في عصر سيادة اللغتين البريطانية والفرنسية، ولو أن الخديو كان قد درس في لندن أو في باريس لكان له من معرفة الزملاء هناك ، وهنالك ومن معرفة المؤسسات البريطانية والفرنسية ما كان كفيلا بأن يساعده بقدر أكثر في إمضاء سياساته وتحقيق طموحاته ، و بصفة خاصة بعد عزله من الحكم ، لكنه ظل أسير البيئة السياسية شبه المنغلقة التي عاشها في فيينا ، ومن الطريف أن مما يُؤكّد هذا المعنى أن الخديو كان قد أفاد من التقارب الذي حدث بينه وبين أمير ويلز (الملك إدوارد السابع فيما بعد) والذي تولى حكم بريطانيا (1900 ـ 1910) ، حيث قُدّر له أن يتعامل مع البريطانيين بروح أكثر وُدّا في مطلع القرن العشرين.
علاقته مع إيطاليا
ذكر الخديو في مذكراته انه فكر في الالتجاء الى إحلال إيطاليا محل فرنسا في مكان مميز من علاقته بالغرب لكنه سرعان ما اكتشف انه لا جدوى من هذه المحاولة.
وعيه لسطوة الادبيات الفرنسية مع حبه لها
وأخيرا ، قد كان الخديو عباس حلمي يعبر عما كان واعيا له (بطريقة غير مباشرة ) من سطوة الأدبيات الفرنسية على التاريخ المكتوب لمصر الحديثة حتى إن مقدمة كتابه نصت على ان “التحليل التاريخي لفترة حكمه سيظهر بوضوح أنه لم يكن أبداً مردداً لصدى المؤرخين الفرنسيين” ، وهو تعبير من التعبيرات التي جاءت في وصفه هو نفسه في موسوعة لاروس التي نقل عنها كثيرون، وبالطبع فلم يكن في وسع الخديو إلا أن يصر على إنكاره .